تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ميزة جديدة من واتساب ستمنعك من مشاركة رقم هاتفك المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          كيف يجنب الآباء أطفالهم من اضطراب fomo ويقللون الاعتماد على وسائل التواصل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          لاحظها على طفلك.. علامات خطيرة لاضطراب متعلق باستخدام السوشيال ميديا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          خطوات بسيطة يجب اتباعها لضمان تجربة إنترنت آمنة وتعليمية لطفلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كل ما تحتاج معرفته عن تطبيق Essentials الجديد من جوجل.. وأبرز مميزاته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          واتساب يتيح ميزة نسخ الملاحظات الصوتية.. اعرف كيفية استخدامها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          تطبيق Google Keep يحصل على مميزات الذكاء الاصطناعى.. كيف تستفيد منها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          احم طفلك من الإنترنت.. توصيات رسمية خلى بالك منها وابنك ماسك الموبايل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          لو خايف على أطفالك من فيس بوك.. 5 مميزات لتطبيق ماسنجر كيدز (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          كيف تحدد وقت استخدام طفلك للإنترنت على فيس بوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-01-2023, 09:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(357)
الحلقة (371)
صــ 421 إلى صــ 440


[ ص: 421 ] القول في تأويل قوله ( فقد استمسك بالعروة الوثقى )

قال أبو جعفر : " والعروة " في هذا المكان ، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن ، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها ، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته .

وجعل - تعالى ذكره - الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله من أوثق عرى الأشياء بقوله : " الوثقى "

" والوثقى " " فعلى " من " الوثاقة " . يقال في الذكر : " هو الأوثق " وفي الأنثى : " هي الوثقى " كما يقال : " فلان الأفضل ، وفلانة الفضلى " .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5847 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " بالعروة الوثقى " قال : الإيمان .

5848 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5849 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : " العروة الوثقى " هو الإسلام .

5850 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبي السوداء ، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير قوله : " فقد استمسك بالعروة الوثقى " قال : لا إله إلا الله . [ ص: 422 ]

5851 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي السوداء النهدي ، عن سعيد بن جبير مثله .

5852 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " فقد استمسك بالعروة الوثقى " مثله .
القول في تأويل قوله ( لا انفصام لها )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " لا انفصام لها " لا انكسار لها . " والهاء والألف " في قوله : " لها " عائد على " العروة " .

ومعنى الكلام : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه ، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة ، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها .

وأصل " الفصم " الكسر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :


ومبسمها عن شتيت النبات غير أكس ولا منفصم
[ ص: 423 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5853 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا انفصام لها " قال : لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

5854 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5855 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا انفصام لها " قال : لا انقطاع لها .
القول في تأويل قوله ( والله سميع عليم ( 256 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - : " والله سميع إيمان المؤمن بالله وحده الكافر بالطاغوت عند إقراره بوحدانية الله ، وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد [ ص: 424 ] من دون الله . " عليم " بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه ، وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره ، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه ، لا ينكتم عنه سر ، ولا يخفى عليه أمر ، حتى يجازي كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه ، وأضمرته نفسه ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .
القول في تأويل قوله : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " الله ولي الذين آمنوا " نصيرهم وظهيرهم ، يتولاهم بعونه وتوفيقه " يخرجهم من الظلمات " يعني بذلك :

يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . وإنما عنى ب " الظلمات " في هذا الموضع الكفر . وإنما جعل " الظلمات " للكفر مثلا ؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها ، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه . فأخبر - تعالى ذكره - عباده أنه ولي المؤمنين ، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه ، وهاديهم ، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك ، بكشفه عنهم دواعي الكفر ، وظلم سواتره [ عن ] أبصار القلوب . [ ص: 425 ]

ثم أخبر - تعالى ذكره - عن أهل الكفر به ، فقال : " والذين كفروا " يعني الجاحدين وحدانيته " أولياؤهم " يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم " الطاغوت " يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يعني ب " النور " الإيمان ، على نحو ما بينا " إلى الظلمات "ويعني ب " الظلمات " ظلمات الكفر وشكوكه الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :

ذكر من قال ذلك :

5856 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " يقول : من الضلالة إلى الهدى " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " الشيطان : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يقول : من الهدى إلى الضلالة .

5857 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " الظلمات : الكفر ، والنور : الإيمان " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر .

5858 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله - تعالى ذكره - : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " يقول : من الكفر إلى الإيمان " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يقول : من الإيمان إلى الكفر . [ ص: 426 ]

5859 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد أو مقسم في قول الله : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " قال : كان قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - آمن به الذين كفروا بعيسى ، وكفر به الذين آمنوا بعيسى أي : يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " .

5860 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت منصورا ، عن رجل ، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية : " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " إلى " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " قال : هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم ، فلما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كفروا به ، وأنزلت فيهم هذه الآية .

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة [ ص: 427 ] يدل على أن الآية معناها الخصوص ، وأنها - إذ كان الأمر كما وصفنا - نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وفيمن آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى ، وسائر الملل التي كان أهلها يكذب بعيسى .

فإن قال قائل : أوكانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فكذبوا به ؟

قيل : من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - فكان على حق ، وإياهم عنى الله - تعالى ذكره - بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) [ النساء : 136 ] .

فإن قال قائل : فهل يحتمل أن يكون قوله : " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة : أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى ، أو غير أهل الردة والإسلام ؟ .

قيل : نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان ، ويضلونهم فيكفرون ، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان ، يعني صدهم إياهم عنه ، وحرمانهم إياهم خيره ، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل ، كقول الرجل : " أخرجني والدي من ميراثه " إذا ملك ذلك في حياته غيره ، فحرمه منه حظه ولم يملك ذلك القائل هذا [ ص: 428 ] الميراث قط فيخرج منه ، ولكنه لما حرمه ، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه ، قيل : " أخرجه منه " وكقول القائل : " أخرجني فلان من كتيبته " يعني لم يجعلني من أهلها ، ولم يكن فيها قط قبل ذلك . فكذلك قوله : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى ، وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية .

فإن قال لنا قائل : وكيف قال : " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور " فجمع خبر " الطاغوت " بقوله : " يخرجونهم " " والطاغوت " واحد ؟

قيل : إن " الطاغوت " اسم لجماع وواحد ، وقد يجمع " طواغيت " . وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد ، كان نظير قولهم : " رجل عدل ، وقوم عدل " " ورجل فطر وقوم فطر " وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها ، وكما قال العباس بن مرداس :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور

[ ص: 429 ] القول في تأويل قوله : ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 257 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : هؤلاء الذين كفروا " أصحاب النار " أهل النار الذين يخلدون فيها - يعني في نار جهنم - دون غيرهم من أهل الإيمان ، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا .
القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " ألم تر يا محمد بقلبك .

" الذي حاج إبراهيم " يعني الذي خاصم [ ص: 430 ] " إبراهيم " يعني : إبراهيم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - " في ربه أن آتاه الله الملك " يعني بذلك : حاجه فخاصمه في ربه ؛ لأن الله آتاه الملك .

وهذا تعجيب من الله - تعالى ذكره - نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الذي حاج إبراهيم في ربه . ولذلك أدخلت " إلى " في قوله : " ألم تر إلى الذي حاج " وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا : " ما ترى إلى هذا " ؟ ! والمعنى : هل رأيت مثل هذا ، أو كهذا ؟ ! .

وقيل : إن " الذي حاج إبراهيم في ربه " جبار كان ببابل يقال له : نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل : إنه نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح .

ذكر من قال ذلك :

5861 - حدثني محمد بن عمرو ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك " قال : هو نمروذ بن كنعان .

5862 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5863 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد مثله .

5864 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد مثله . [ ص: 431 ]

5865 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " قال : كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ ، وهو أول ملك تجبر في الأرض ، وهو صاحب الصرح ببابل .

5866 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : هو اسمه نمروذ ، وهو أول ملك تجبر في الأرض ، حاج إبراهيم في ربه .

5867 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك " قال : ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ ، وهو أول جبار تجبر في الأرض ، وهو صاحب الصرح ببابل .

5868 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هو نمروذ بن كنعان .

5869 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : هو نمروذ .

5870 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق مثله .

5871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : أخبرني زيد بن أسلم بمثله .

5872 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمروذ . قال ابن جريج : هو نمروذ ، ويقال إنه أول ملك في الأرض .
[ ص: 432 ] القول في تأويل قوله ( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( 258 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : " ربي الذي يحيي ويميت " يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت ، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء . قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له وذلك عند العرب يسمى " إحياء " كما قال - تعالى ذكره - : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) [ سورة المائدة : 32 ] وأقتل آخر ، فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها - إن كنت صادقا أنك إله - من مغربها ! قال الله - تعالى ذكره - : " فبهت الذي كفر " يعني انقطع وبطلت حجته .

يقال منه : " بهت يبهت بهتا " . وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : " بهت " . ويقال : " بهت الرجل " إذا افتريت عليه كذبا " بهتا وبهتانا وبهاتة " .

وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ : " فبهت الذي كفر " بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر . [ ص: 433 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5873 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت " وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحيا الآخر ، فقال : أنا أحيي هذا ! أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ! قال إبراهيم عند ذلك : " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .

5874 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : " أنا أحيي وأميت " أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين ، والكافران : بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .

5875 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مر به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت ! حتى مر إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ؟ قال : أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر . قال : فرده بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله .

فمر على كثيب أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به [ ص: 434 ] أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ! فأخذ منه فأتى أهله . قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه ، فقربته إليه ، وكان عهد أهله ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ! فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل رب غيري ؟ ! فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، وأماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) [ النحل : 26 ] .

5876 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ! [ ص: 435 ] فيقول : أميروهم . فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده . قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ! فيقول : أميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرتين ، فقال : من ربك ! ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ! قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " . قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا ، وجوالقا إبراهيم يصطفقان . حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله قال : ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء ، فذهبت بهما ، قرت عينا صبيتي ، حتى إذا كان الليل أهرقته ! قال : فملأهما ، ثم خيطهما ، ثم جاء بهما . فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها ، فإذا حوارى من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فعجنته وخبزته ، فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أي شيء هذا [ ص: 436 ] يا سارة ؟ قالت : من جوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .

5877 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت قال هو - يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين ، فاستحيا أحدهما ، وقتل الآخر ، قال : أنا أحيي وأميت قال : أي أستحيي من شئت . فقال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " .

5878 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ! أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا . فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك ، قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر . وقال : إن هذا إنسان مجنون ! فأخرجوه ، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ! وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله - تعالى ذكره - : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) [ سورة الأنعام : 83 ] ، فكان يزعم أنه رب وأمر بإبراهيم فأخرج .

5879 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت قال ابن جريج ، كان أتى [ ص: 437 ] برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الآخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي قال : استحيي فلا أقتل .

5880 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : ذكر لنا - والله أعلم - أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت ! فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته ! فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب أعرف أنه كما تقول ، فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول - تعالى ذكره - : " فبهت الذي كفر " يعني وقعت عليه الحجة يعني نمروذ .

قال أبو جعفر : وقوله : " والله لا يهدي القوم الظالمين " يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ؛ لأن أهل الباطل حججهم داحضة .

وقد بينا أن معنى " الظلم " وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق . [ ص: 438 ]

5881 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق : " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي : لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .
القول في تأويل قوله ( أو كالذي مر على قرية )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " أو كالذي مر على قرية " نظير الذي عنى بقوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " من تعجيب محمد - صلى الله عليه وسلم - منه .

وقوله : " أو كالذي مر على قرية " عطف على قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " وإنما عطف قوله : " أو كالذي " على قوله : " إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " وإن اختلف لفظاهما لتشابه معنييهما ؛ لأن قوله : " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " بمعنى : هل رأيت يا محمد كالذي حاج إبراهيم في ربه ؟ ثم عطف عليه بقوله : " أو كالذي مر على قرية " ؛ لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه ، وإن خالف لفظه لفظه .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " الكاف " في قوله ، " أو كالذي مر على قرية " زائدة ، وأن المعنى : ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم ، أو الذي مر على قرية .

وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . [ ص: 439 ]

واختلف أهل التأويل في " الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " .

فقال بعضهم : هو عزير .

ذكر من قال ذلك :

5882 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب . " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : عزير .

5883 - حدثنا ابن حميد . قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا أبو خزيمة ، قال : سمعت سليمان بن بريدة في قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : هو عزير .

5884 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : ذكر لنا أنه عزير .

5885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة [ مثله ] .

5886 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أن الذي أتى على القرية هو عزير .

5887 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : عزير . [ ص: 440 ]

5888 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " أو كالذي مر على قرية " قال : عزير .

5889 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " إنه هو عزير .

5890 - حدثني يونس قال : قال لنا سلم الخواص : كان ابن عباس يقول : هو عزير .

وقال آخرون : هو أورميا بن حلقيا ، وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر .

5891 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - أورميا بن حلقيا ، وكان من سبط هارون بن عمران .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-01-2023, 09:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(358)
الحلقة (372)
صــ 441 إلى صــ 460


ذكر من قال ذلك :

5892 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها [ ص: 441 ] " أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .

5893 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قال : هو أورميا .

5894 - حدثني محمد بن عسكر قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : سمعت عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه مثله .

5895 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " قال : كان نبيا وكان اسمه أورميا .

5896 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن عبد الله بن عبيد مثله .

5897 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني بكر بن [ مضر ] قال : يقولون - والله أعلم - : إنه أورميا .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها - " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء ، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال : أنى يحييها الله بعد موتها . ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قبله البيان على اسم قائل ذلك . وجائز أن يكون ذلك [ ص: 442 ] عزيرا ، وجائز أن يكون أورميا ، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه ، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك ، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله - على إحيائه خلقه بعد مماتهم ، وإعادتهم بعد فنائهم ، وأنه الذي بيده الحياة والموت - من قريش ، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - على ما يزيل شكهم في نبوته ، ويقطع عذرهم في رسالته ، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه ، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب ، ولم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه منهم ، بل كان أميا وقومه أميون ، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه . ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك ، ولكن القصد كان إلى ذم قيله ، فأبان - تعالى ذكره - ذلك لخلقه .

واختلف أهل التأويل في " القرية " التي مر عليها القائل : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .

فقال بعضهم : هي بيت المقدس .

ذكر من قال ذلك :

5898 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك ، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن [ ص: 443 ] منبه قال : لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .

5899 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه قال : هي بيت المقدس .

5900 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك .

5901 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه بيت المقدس أتى عليه عزير بعد ما خربه بختنصر البابلي .

5902 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " أنه مر على الأرض المقدسة .

5903 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : " أو كالذي مر على قرية " قال : القرية : بيت المقدس ، مر بها عزير بعد إذ خربها بختنصر .

5904 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أو كالذي مر على قرية " قال : القرية بيت المقدس ، مر عليها عزير وقد خربها بختنصر .

وقال آخرون : بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، فقال لهم الله موتوا .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 444 ]

5905 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله - تعالى ذكره - : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ) قال : قرية كان نزل بها الطاعون ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه ، إلى أن بلغ ( فقال لهم الله موتوا ) في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة ، فماتوا ثم أحياهم الله ، ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) [ سورة البقرة : 243 ] . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف ينظر ، فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه " إلى قوله " لم يتسنه " .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " سواء لا يختلفان .
القول في تأويل قوله ( وهي خاوية على عروشها )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " وهي خاوية " وهي خالية من أهلها وسكانها .

يقال من ذلك : " خوت الدار تخوي خواء وخويا " وقد يقال للقرية : " خويت " والأول أعرب وأفصح . وأما في المرأة إذا كانت نفساء فإنه يقال : " خويت تخوى خوى " منقوصا ، وقد يقال فيها : " خوت تخوي ، كما يقال في [ ص: 445 ] الدار . وكذلك : " خوي الجوف يخوى خوى شديدا " ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابا ، غير أن الفصيح ما ذكرت .

وأما " العروش " فإنها الأبنية والبيوت ، واحدها " عرش " وجمع قليله " أعرش " .

وكل بناء فإنه " عرش " . ويقال : " عرش فلان دارا يعرش ويعرش عرشا " ومنه قول الله - تعالى ذكره - : ( وما كانوا يعرشون ) [ سورة الأعراف : 137 ] يعني يبنون ، ومنه قيل : " عريش مكة " يعني به : خيامها وأبنيتها .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك .

5906 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : " خاوية " خراب قال ابن جريج : بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خربه بختنصر ، فوقف [ ص: 446 ] فقال : أبعد ما كان لك من القدس والمقاتلة والمال ما كان ! فحزن .

5907 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وهي خاوية على عروشها " قال : هي خراب .

5908 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : مر عليها عزير وقد خربها بختنصر .

5909 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وهي خاوية على عروشها " يقول : ساقطة على سقفها .
القول في تأويل قوله ( قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام )

قال أبو جعفر : ومعنى ذلك فيما ذكر لنا : .

أن قائله لما مر ببيت المقدس أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مر به خرابا بعد ما عهده عامرا قال : أنى يحيي هذه الله بعد خرابها ؟ .

فقال بعضهم : . كان قيله ما قال من ذلك شكا في قدرة الله على إحيائه . [ ص: 447 ] فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه ، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه ، أحيا ما رآه قبل خرابه ، وأعمر ما كان قبل خرابه .

وذلك أن قائل ذلك كان - فيما ذكر لنا - عهده عامرا بأهله وسكانه ، ثم رآه خاويا على عروشه ، قد باد أهله ، وشتتهم القتل والسباء ، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد ، وخربت منازلهم ودورهم ، فلم يبق إلا الأثر . فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها ، قال : على أي وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها ، استنكارا - فيما قاله بعض أهل التأويل - فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه ، وفيما كان في إدواته وفي طعامه ، . ثم عرفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبا عنده في قدرة الله إحياؤه رأي عينه حتى أبصره ببصره ، فلما رأى ذلك قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

وكان سبب قيله ذلك كالذي : -

5910 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول : قال الله لأرميا حين بعثه نبيا إلى [ ص: 448 ] بني إسرائيل : . " يا أرميا ، من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ، ولأمر عظيم اجتبيتك ، فبعث الله - تعالى ذكره - أرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده ، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه ; قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم ، ونسوا ما كان الله صنع بهم ، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب ، فأوحى الله إلى أورميا : . أن ائت قومك من بني إسرائيل ، فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم ثم ذكر ما أرسل الله به أورميا إلى قومه من بني سرائيل . قال : ثم أوحى الله إلى أورميا : إني مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافث أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح - فلما سمع أورميا وحي ربه ، صاح وبكى وشق ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال : ملعون يوم ولدت فيه ، ويوم لقيت فيه التوراة ، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه ، [ ص: 449 ] فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي ! لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل ! فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك ! فلما سمع الله تضرع الخضر وبكاءه وكيف يقول ناداه : أورميا ! أشق عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا رب ، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به ، فقال الله : وعزتي العزيزة ، لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق ، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا . ثم أتى ملك بني إسرائيل ، وأخبره بما أوحى الله إليه ، ففرح واستبشر وقال : إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنا فبقدرته .

ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية ، وتمادوا في الشر ، وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقل الوحي ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة ، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها ، فقال ملكهم : يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس من الله ، وقبل أن يبعث عليكم ملوك لا رحمة لهم بكم ، فإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم بمن [ ص: 450 ] تاب إليه . فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه ، وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوذراذان [ بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر ونمروذ صاحب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - الذي حاجه في ربه ] أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله ، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ; فلما فصل سائرا ، أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر أقبل هو وجنوده يريدكم . فأرسل الملك إلى أرميا ، فجاءه فقال : يا أرميا ، أين ما زعمت لنا أن ربنا أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك ؟ .

. فقال أرميا للملك : إن ربي لا يخلف الميعاد ، وأنا به واثق .

فلما اقترب الأجل ، ودنا انقطاع ملكهم ، وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله ملكا من عنده ، فقال له : اذهب إلى أرميا فاستفته ، وأمره بالذي يستفتيه فيه .

فأقبل الملك إلى أرميا ، وقد تمثل له رجلا من بني إسرائيل ، فقال له أرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري ، فأذن له ، فقال الملك : يا نبي الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسنا ، ولم آلهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي ، فأفتني فيهم يا نبي الله ؟ فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ، [ ص: 451 ] وصل ما أمرك الله به أن تصل ، وأبشر بخير . فانصرف عنه الملك ، فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له أرميا : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي . فقال له نبي الله : أوما طهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الذي تحب ؟ فقال : يا نبي الله ، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ! فقال النبي : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنبكم سخطه ! فقام الملك من عنده ، فلبث أياما ، وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ، ففزع بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا أرميا ، فقال : يا نبي الله ، أين ما وعدك الله ؟ فقال : إني بربي واثق .

ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه ، فقال له أرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين ، فقال له النبي : أولم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبي الله ، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أن ما بهم في ذلك سخطي ، فلما [ ص: 452 ] أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، ولا يحبه الله ، فقال النبي : على أي عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتد عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله - الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم . فقال أرميا : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم ! فلما خرجت الكلمة من في أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه ، فقال يا ملك السماء ، ويا أرحم الراحمين ، أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي أرميا : إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا ، فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات ، وأنه رسول ربه ، فطار أرميا حتى خالط الوحوش . ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ، فوطئ الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه ، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار [ ص: 453 ] منهم سبعين ألف صبي ، فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمهم فيهم ، قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك ، لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ! ففعل ، فأصاب كل واحد منهم أربعة غلمة ، وكان من أولئك الغلمان : " دانيال " " وعزاريا " " وميشايل " " وحنانيا " . وجعلهم بختنصر ثلاث فرق : فثلثا أقر بالشام ، وثلثا سبى ، وثلثا قتل . وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الوقعة الأولى التي ذكر الله - تعالى ذكره - ببني إسرائيل ، بإحداثهم وظلمهم .

فلما ولى بختنصر عنه راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل أرميا على حمار له معه عصير من عنب في زكرة وسلة تين ، حتى أتى إيليا ، فلما وقف عليها ، ورأى ما بها من الخراب دخله شك ، فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته [ ص: 454 ] الله ، وأمات حماره معه . فأعمى الله عنه العيون ، فلم يره أحد ، ثم بعثه الله تعالى ، فقال له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " يقول : لم يتغير " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما " فنظر إلى حماره ياتصل بعض إلى بعض - وقد كان مات معه - بالعروق والعصب ، ثم كيف كسي ذلك منه اللحم حتى استوى ، ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق ، ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير . فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . ثم عمر الله أرميا بعد ذلك ، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان .

5911 - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه قالا : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر : أن الحق بأرض إيليا ، فإن هذه ليست لك بأرض مقام ، فركب حماره ، حتى إذا كان ببعض الطريق ، ومعه سلة من عنب وتين ، وكان معه سقاء جديد فملأه ماء . فلما بدا له شخص بيت المقدس وما [ ص: 455 ] حوله من القرى والمساجد ، ونظر إلى خراب لا يوصف ، ورأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ، قال : . أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وسار حتى تبوأ منها منزلا فربط حماره بحبل جديد . وعلق سقاءه ، وألقى الله عليه السبات ، فلما نام نزع الله روحه مائة عام ، فلما مرت من المائة سبعون عاما ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له : يوسك " فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها ، حتى تعود أعمر ما كانت ، فقال الملك : أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل ، فأنظره ثلاثة أيام ، فانتدب ثلاثمائة قهرمان ، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل ، فسار إليها قهارمته ، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل ، فلما وقعوا في العمل ، رد الله روح الحياة في عين أرميا ، وآخر جسده ميت ، فنظر إلى إيليا وما حولها من القرى والمساجد والأنهار والحروث تعمل وتعمر وتتجدد ، حتى صارت كما كانت . وبعد ثلاثين سنة تمام المائة رد إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة ، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام ، [ ص: 456 ] وبرد مائة عام ، وحر مائة عام ، لم تتغير ولم تنتقض شيئا ، وقد نحل جسم أرميا من البلى ، فأنبت الله له لحما جديدا ، ونشز عظامه وهو ينظر ، فقال له الله : ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5912 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) : أن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب ، وقف في ناحية الجبل ، فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ) ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة ، فلما ذهبت المائة رد الله روحه وقد عمرت على حالها الأولى ، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض ، ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبا ولحما . فلما تبين له ذلك قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) فقال الله - تعالى ذكره - : ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) قال : فكان طعامه تينا [ ص: 457 ] في مكتل ، وقلة فيها ماء . .

5913 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) وذلك أن عزيرا مر جائيا من الشام على حمار له معه عصير وعنب وتين ، فلما مر بالقرية فرآها ، وقف عليها وقلب يده وقال : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ليس تكذيبا منه وشكا فأماته الله وأمات حماره فهلكا ، ومر عليهما مائة سنة . ثم إن الله أحيا عزيرا فقال له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ! قيل له : بل لبثت مائة عام ! فانظر إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير ( لم يتسنه ) الآية .
القول في تأويل قوله ( ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( ثم بعثه ) ، ثم أثاره حيا من بعد مماته .

وقد دللنا على معنى " البعث " فيما مضى قبل .

وأما معنى قوله ( كم لبثت ) فإن " كم " استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد ، وهو في هذا الموضع نصب ب " لبثت " وتأويله : قال الله له : [ ص: 458 ] كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا ؟ قال المبعوث بعد مماته : لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم .

وذكر أن المبعوث هو أرميا ، أو عزير ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر .

وإنما قال : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) ؛ لأن الله - تعالى ذكره - كان قبض روحه أول النهار ، ثم رد روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له : ( كم لبثت ) ؟ قال : لبثت يوما ، وهو يرى أن الشمس قد غربت . فكان ذلك عنده يوما ؛ لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار ، وهو يرى أن الشمس قد غربت . فقال : ( لبثت يوما ) ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب ، فقال : ( أو بعض يوم ) بمعنى : بل بعض يوم ، كما قال - تعالى ذكره - : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ، بمعنى : بل يزيدون . فكان قوله : ( أو بعض يوم ) رجوعا منه عن قوله : ( لبثت يوما ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5914 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ) قال : ذكر لنا أنه مات ضحى ، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس ، فقال : ( لبثت يوما ) ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : ( أو بعض يوم ) ، فقال : ( بل لبثت مائة عام ) .

5915 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، [ ص: 459 ] عن قتادة : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قال : مر على قرية فتعجب ، فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) فأماته الله أول النهار ، فلبث مائة عام ، ثم بعثه في آخر النهار ، فقال : ( كم لبثت ) ؟ قال : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) ، قال : ( بل لبثت مائة عام ) .

5916 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال الربيع : أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، قال : ( كم لبثت ) ؟ قال : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) . قال : ( بل لبثت مائة عام ) .

5917 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : لما وقف على بيت المقدس وقد خربه بختنصر قال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ! كيف يعيدها كما كانت ؟ فأماته الله . قال : وذكر لنا أنه مات ضحى ، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام ، فقال : ( كم لبثت ) ؟ قال : ( يوما ) ، فلما رأى الشمس قال : ( أو بعض يوم ) .
القول في تأويل قوله ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) لم تغيره السنون التي أتت عليه .

وكان طعامه - فيما ذكر بعضهم - سلة تين وعنب ، وشرابه قلة ماء .

وقال بعضهم : بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين ، وشرابه زقا من عصير .

وقال آخرون : بل كان طعامه سلة تين ، وشرابه دن خمر - أو زكرة خمر . [ ص: 460 ]

وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك ، ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله .

وأما قوله : ( لم يتسنه ) ففيه وجهان من القراءة :

أحدهما : " لم يتسن " بحذف " الهاء " في الوصل ، وإثباتها في الوقف . ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في " يتسنه " زائدة صلة ، كقوله : ( فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وجعل " تفعلت " منه : . " تسنيت تسنيا " واعتل في ذلك بأن " السنة " تجمع سنوات ، فيكون " تفعلت " على صحة .

ومن قال في " السنة " " سنينة " فجائز على ذلك وإن كان قليلا أن يكون " تسنيت " . " تفعلت " بدلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا : " تظنيت " وأصله " الظن " ; وقد قال قوم : هو مأخوذ من قوله : ( من حمإ مسنون ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] وهو المتغير . وذلك أيضا إذا كان كذلك ، فهو أيضا مما بدلت نونه ياء .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30-01-2023, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(359)
الحلقة (373)
صــ 461 إلى صــ 480





وهو قراءة عامة قرأة الكوفة . [ ص: 461 ]

والآخر منهما : إثبات " الهاء " في الوصل والوقف . ومن قرأه كذلك ، فإنه يجعل " الهاء " في " يتسنه " لام الفعل ، ويجعلها مجزومة ب " لم " ويجعل " فعلت " منه : " تسنهت " " ويفعل " : " أتسنه تسنها " وقال في تصغير " السنة " : " سنيهة " " وسنية " " أسنيت عند القوم " " وأسنهت عندهم " إذا أقمت سنة .

وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندي في ذلك إثبات " الهاء " في الوصل والوقف ، لأنها مثبتة في مصحف المسلمين ، ولإثباتها وجه صحيح في كلتا الحالتين في ذلك .

ومعنى قوله : ( لم يتسنه ) ، لم يأت عليه السنون فيتغير على لغة من قال : " أسنهت عندكم أسنه " : إذا أقام سنة ، وكما قال الشاعر : .


وليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
[ ص: 462 ]

فجعل " الهاء " في " السنة " أصلا وهي اللغة الفصحى .

وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها .

فإن اعتل معتل بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هن زوائد على نية الوقف ، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهن ، وذلك كقوله : ( فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] وقوله : ( يا ليتني لم أوت كتابيه ) [ الحاقة : 25 ] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد ، وأنه ألحق على نية الوقف . فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غير زائد ، فغير جائز وهو في مصحف المسلمين مثبت صرفه إلى أنه من الزوائد والصلات . [ ص: 463 ]

على أن ذلك ، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد ، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد ، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع ، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء . وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات " الهاء " في الوصل والوقف . غير أن ذلك - وإن كان كذلك - فلقوله : ( لم يتسنه ) حكم مفارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه .

ومما يدل على صحة ما قلنا من أن " الهاء " في " يتسنه " من لغة من قال : " قد أسنهت " " والمسانهة " ما : -

5918 - حدثت به عن القاسم بن سلام قال : حدثنا ابن مهدي ، عن أبي الجراح ، عن سليمان بن عمير قال : حدثني هانئ مولى عثمان قال : كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت ، فقال زيد : سله عن قوله : " لم يتسن " أو " لم يتسنه " فقال عثمان : اجعلوا فيها " هاء " .

5919 - حدثت عن القاسم وحدثنا محمد بن محمد العطار ، عن القاسم ، وحدثنا أحمد والعطار جميعا ، عن القاسم قال : حدثنا ابن مهدي ، عن ابن المبارك قال : حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري قال : كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف ، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها : " لم يتسن " " وفأمهل الكافرين " [ الطارق : 17 ] " ولا تبديل للخلق " [ الروم : 30 ] . [ ص: 464 ] قال : فدعا بالدواة ، فمحا إحدى اللامين وكتب ( لا تبديل لخلق الله ) ومحا " فأمهل " وكتب ( فمهل الكافرين ) وكتب : ( لم يتسنه ) ألحق فيها الهاء . .

قال أبو جعفر : ولو كان ذلك من " يتسنى " أو " يتسنن " لما ألحق فيه أبي " هاء " لا موضع لها فيه ، ولا أمر عثمان بإلحاقها فيها .

وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبي بن كعب .

قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لم يتسنه ) .

فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه : لم يتغير .

ذكر من قال ذلك :

5920 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن المفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5921 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5922 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

5923 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، [ ص: 465 ] عن السدي : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : " فانظر إلى طعامك " من التين والعنب " وشرابك " من العصير " لم يتسنه " يقول : لم يتغير فيحمض التين والعنب ، ولم يختمر العصير ، هما حلوان كما هما . وذلك أنه مر جائيا من الشام على حمار له ، معه عصير وعنب وتين ، فأماته الله ، وأمات حماره ، ومر عليهما مائة سنة .

5924 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول : لم يتغير ، وقد أتى عليه مائة عام .

5925 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك بنحوه .

5926 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5927 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن النضر ، عن عكرمة : ( لم يتسنه ) لم يتغير .

5928 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( لم يتسنه ) لم يتغير في مائة سنة .

5929 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني بكر بن مضر قال : يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خربها بختنصر ، فخرج منها إلى مصر فكان بها . فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس . فأتاها فإذا هي خربة ، فنظر إليها فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " ؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فإذا حماره حي قائم على رباطه ، وإذا طعامه سل عنب [ ص: 466 ] وسل تين ، لم يتغير عن حاله .

قال يونس : قال لنا سلم الخواص : كان طعامه وشرابه سل عنب ، وسل تين ، وزق عصير .

وقال آخرون : معنى ذلك : لم ينتن .

ذكر من قال ذلك :

5930 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( لم يتسنه ) لم ينتن .

5931 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5932 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسن قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد قوله : ( إلى طعامك ) قال : سل تين ( وشرابك ) ، دن خمر ( لم يتسنه ) يقول : لم ينتن .

قال أبو جعفر : وأحسب أن مجاهدا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما رأوا أن قوله : ( لم يتسنه ) من قول الله - تعالى ذكره - : ( من حمإ مسنون ) [ الحجر : 26 ، 28 ، 33 ] بمعنى المتغير الريح بالنتن ، من قول القائل : " تسنن " . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أن ذلك ليس كذلك .

فإن ظن ظان أنه من " الأسن " من قول القائل : " أسن هذا الماء يأسن أسنا ، [ ص: 467 ] كما قال الله - تعالى ذكره - : ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) [ محمد : 15 ] ، فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسن ، ولم يكن " يتسنه " .

[ فإن قيل ] : فإنه منه غير أنه ترك همزه ،

قيل : فإنه وإن ترك همزه ، فغير جائز تشديد نونه ، لأن " النون " غير مشددة ، وهي في " يتسنه " مشددة ، ولو نطق من " يتأسن " بترك الهمزة لقيل : " يتسن " بتخفيف نونه بغير " هاء " تلحق فيه . ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من " الأسن " .
القول في تأويل قوله ( وانظر إلى حمارك )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( وانظر إلى حمارك ) .

فقال بعضهم : معنى ذلك : وانظر إلى إحيائي حمارك ، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما .

ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويل .

فقال بعضهم : قال الله - تعالى ذكره - ذلك له بعد أن أحياه خلقا سويا ، ثم أراد أن يحيي حماره تعريفا منه - تعالى ذكره - له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها ، فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ مستنكرا إحياء الله إياها .

ذكر من قال ذلك :

5933 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، [ ص: 468 ] عن وهب بن منبه قال : بعثه الله فقال : ( كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ) إلى قوله : ( ثم نكسوها لحما ) قال : فنظر إلى حماره ياتصل بعض إلى بعض . وقد كان مات معه بالعروق والعصب ، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح ، فقام ينهق . ونظر إلى عصيره وتينه ، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير . فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5934 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثم إن الله أحيا عزيرا ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام ! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، وانظر إلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما .

فبعث الله ريحا ، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع ، فاجتمعت ، فركب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حمارا من عظام ليس له لحم ولا دم . ثم إن الله كسا العظام لحما ودما ، فقام حمارا من لحم ودم وليس فيه روح . ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار ، فنفخ فيه فنهق الحمار ، فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول : وانظر إلى إحيائنا حمارك ، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ، ولنجعلك آية للناس فيكون في قوله : ( وانظر إلى حمارك ) ، متروك من الكلام ، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره ، وتكون الألف واللام في قوله : ( وانظر إلى العظام ) بدلا من " الهاء " المرادة في المعنى ؛ لأن معناه : وانظر إلى عظامه - يعني : إلى عظام الحمار . [ ص: 469 ]

وقال آخرون منهم : بل قال الله - تعالى ذكره - ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه . قالوا : وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح ، وذلك بعد أن سواه خلقا سويا ، وقبل أن يحيي حماره .

ذكر من قال ذلك :

5935 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان هذا رجلا من بني إسرائيل نفخ الروح في عينيه ، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله ، وإلى حماره حين يحييه الله .

5936 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5937 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح ، ثم بعظامه فأنشزها ، ثم وصل بعضها إلى بعض ، ثم كساها العصب ، ثم العروق ، ثم اللحم . ثم نظر إلى حماره ، فإذا حماره قد بلي وابيضت عظامه في المكان الذي ربطه فيه ، فنودي : " يا عظام اجتمعي ، فإن الله منزل عليك روحا " فسعى كل عظم إلى صاحبه ، فوصل العظام ، ثم العصب ، ثم العروق ثم اللحم ، ثم الجلد ، ثم الشعر ، وكان حماره جذعا ، فأحياه الله كبيرا قد تشنن ، فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن . وكان طعامه سل عنب ، وشرابه دن خمر . قال ابن جريج عن مجاهد : نفخ الروح في عينيه ، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله ، وإلى حماره حين يحييه الله . [ ص: 470 ]

وقال آخرون : بل جعل الله الروح في رأسه وبصره ، وجسده ميت ، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه ، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حل البقعة . ثم قال الله له : انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها .

ذكر من قال ذلك :

5938 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : رد الله روح الحياة في عين أرميا وآخر جسده ميت ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه ، ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه ، لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير ، جديدة .

5940 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) ، فنظر إلى حماره قائما قد مكث مائة عام ، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) فكان أول شيء أحيا الله منه رأسه ، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يخلق .

5941 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) فنظر إلى حماره قائما ، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير ، فكان أول شيء خلق منه رأسه ، فجعل ينظر [ ص: 471 ] إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض . فلما تبين له قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5942 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه : أول ما خلق الله منه رأسه ، ثم ركبت فيه عيناه ، ثم قيل له : انظر ! فجعل ينظر ، فجعلت عظامه تواصل بعضها إلى بعض ، وبعين نبي الله - عليه السلام - كان ذلك فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5943 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ) وكان حماره عنده كما هو ( ولنجعلك آية للناس ) ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) . قال الربيع : ذكر لنا - والله أعلم - أنه : أول ما خلق منه عيناه ، ثم قيل انظر ! فجعل ينظر إلى العظام يتواصل بعضها إلى بعض ، وذلك بعينيه فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

4644 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرنا ابن زيد قال قوله : ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ) واقفا عليك منذ مائة سنة ( ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام ) يقول : وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا : " كيف نحيي هذه " ؟ . قال : فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه ، ثم قال : ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح ، وانظر ببصرك . قال : فكان ينظر إلى الجمجمة . قال فنادى : ليلحق كل عظم بأليفه . قال : فجاء كل عظم إلى صاحبه ، حتى اتصلت وهو يراها ، حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه ، فتلصق به حتى وصل إلى جمجمته ، [ ص: 472 ] وهو يرى ذلك . فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق ، وأجرى عليها اللحم والجلد ، ثم نفخ فيها الروح ، ثم قال : ( انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) فلما تبين له ذلك ( قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . قال : ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) كما نادى عظام نفسه ، ثم أحياها الله كما أحياه .

5945 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني بكر بن مضر قال : يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام ، ثم بعثه ، فإذا حماره حي قائم على رباطه . قال : ورد الله إليه بصره ، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة ، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله . قال : فيقولون - والله أعلم - : إنه الذي قال الله - تعالى ذكره - : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية ) الآية .

ومعنى الآية على تأويل هؤلاء : وانظر إلى حمارك ، ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها ، ثم نكسوها لحما ، فنحييها بحياتك فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها . [ ص: 473 ]

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال : إن الله - تعالى ذكره - بعث قائل : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) من مماته ، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مر بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره . فجعل - تعالى ذكره - ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مر بها خاوية على عروشها ، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها . وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل .

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن قوله : ( وانظر إلى العظام ) إنما هو بمعنى : وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها ، ثم نكسوها لحما .

وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب ، فلم يمكن صرف معنى قوله : ( وانظر إلى العظام ) إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها ، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار - وإذ كان ذلك كذلك - وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره ، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه ؛ لأن الله - تعالى ذكره - جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة .
القول في تأويل قوله ( ولنجعلك آية للناس )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ( ولنجعلك آية للناس ) أمتناك مائة عام ثم بعثناك .

وإنما أدخلت " الواو " مع اللام التي في قوله : ( ولنجعلك آية للناس ) وهو [ ص: 474 ] بمعنى " كي " لأن في دخولها في كي وأخواتها دلالة على أنها شرط لفعل بعدها بمعنى : ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك . ولو لم تكن قبل " اللام " أعني " لام " كي " واو " كانت " اللام " شرطا للفعل الذي قبلها ، وكان يكون معناه : وانظر إلى حمارك ، لنجعلك آية للناس .

وإنما عنى بقوله : ( ولنجعلك آية ) ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي ، وشك في عظمتي ، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء ، وإنشاء ، وإنعام وإذلال ، وإقتار وإغناء ، بيدي ذلك كله ، لا يملكه أحد دوني ، ولا يقدر عليه غيري .

وكان بعض أهل التأويل يقول : كان آية للناس ؛ بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده ، شابا وهم شيوخ .

ذكر من قال ذلك :

5946 - حدثني المثنى قال : أخبرنا إسحاق قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان قال : سمعت الأعمش يقول : ( ولنجعلك آية للناس ) قال : جاء شابا وولده شيوخ .

وقال آخرون : معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه ، فكان آية لمن قدم عليه من قومه .

ذكر من قال ذلك :

5947 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : رجع إلى أهله ، فوجد داره قد بيعت وبنيت ، وهلك من كان يعرفه ، [ ص: 475 ] فقال : اخرجوا من داري قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عزير ! قالوا : أليس قد هلك عزير منذ كذا وكذا ! ! قال : فإن عزيرا أنا هو ، كان من حالي وكان ، فلما عرفوا ذلك ، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية من القول أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس ، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته ، وإحياء الله إياه بعد مماته ، وعلى من بعث إليه منهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها )

قال أبو جعفر : دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره ، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك ، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : ( كيف ننشزها ) فإن القرأة اختلفت في قراءته .

فقرأ بعضهم : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) بضم النون وبالزاي ، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين ، بمعنى : وانظر كيف نركب بعضها على بعض ، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم .

وأصل " النشوز " : الارتفاع ، ومنه قيل : " قد نشز الغلام " إذا ارتفع [ ص: 476 ] طوله وشب ، ومنه " نشوز المرأة " على زوجها . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض : " نشز ونشز ونشاز " فإذا أردت أنك رفعته ، قلت : " أنشزته إنشازا " و " نشز هو " إذا ارتفع .

فمعنى قوله : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي : كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد .

وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5948 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( كيف ننشزها ) كيف نخرجها .

5949 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كيف ننشزها ) قال : نحركها .

وقرأ ذلك آخرون : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " بضم النون . قالوا : من قول القائل : " أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا " وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة ، بمعنى : وانظر إلى العظام كيف نحييها ، ثم نكسوها لحما .

ذكر من قال ذلك :

5950 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " كيف ننشرها " قال : انظر إليها حين يحييها الله . [ ص: 477 ]

5951 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

5952 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .

5953 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " قال : كيف نحييها .

واحتج بعض قرأة ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله : ( ثم إذا شاء أنشره ) [ عبس : 22 ] ، فرأى أن من الصواب إلحاق قوله : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " به .

وقرأ ذلك بعضهم : " وانظر إلى العظام كيف ننشرها " بفتح النون من أوله وبالراء . كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيه . وذلك قراءة غير محمودة ؛ لأن العرب لا تقول : نشر الموتى ، وإنما تقول : " أنشر الله الموتى " فنشروا هم " بمعنى : أحياهم فحيوا هم . ويدل على ذلك قوله : ( ثم إذا شاء أنشره ) وقوله : ( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ) [ الأنبياء : 21 ] وعلى أنه إذا أريد به حيي الميت وعاش بعد مماته قيل : " نشر " ومنه قول أعشى بني ثعلبة : .


حتى يقول الناس مما رأوا : يا عجبا للميت الناشر
[ ص: 478 ]

وروي سماعا من العرب : " كان به جرب فنشر " إذا عاد وحيي .

قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أن معنى " الإنشاز " ومعنى " الإنشار " متقاربان ؛ لأن معنى " الإنشاز " : التركيب والإثبات ورد العظام إلى العظام ، ومعنى " الإنشار " إعادة الحياة إلى العظام . وإعادتها لا شك أنه ردها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها . فهما - وإن اختلفا في اللفظ - فمتقاربا المعنى . وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة ، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب ؛ لانقياد معنييهما ، ولا حجة توجب لإحداهما القضاء بالصواب على الأخرى . [ ص: 479 ]

فإن ظن ظان أن " الإنشار " إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى ؛ لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ [ فقد أخطأ ] . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عني به ردها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه ، وهو يحيى ؛ لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات . والذي يدل على ذلك قوله : ( ثم نكسوها لحما ) . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم .

وإذ كان ذلك كذلك وكان معنى " الإنشاز " تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد ، وكان ذلك معنى " الإنشار " ، وكان معلوما استواء معنييهما ، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه ، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه .

وأما القراءة الثالثة ، فغير جائزة القراءة بها عندي ، وهي قراءة من قرأ : " كيف ننشرها " بفتح النون وبالراء ؛ لشذوذها عن قراءة المسلمين ، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب .
[ ص: 480 ] القول في تأويل قوله ( ثم نكسوها لحما )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : . ( ثم نكسوها ) أي العظام ( لحما ) " والهاء " التي في قوله : ( ثم نكسوها لحما ) من ذكر العظام .

ومعنى " نكسوها " : نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها . وكذلك تفعل العرب ، تجعل كل شيء غطى شيئا وواراه ، لباسا له وكسوة ، ومنه قول النابغة الجعدي : .


فالحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 30-01-2023, 09:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(360)
الحلقة (374)
صــ 481 إلى صــ 500





فجعل الإسلام - إذ غطى الذي كان عليه فواراه وأذهبه - كسوة له وسربالا .
[ ص: 481 ] القول في تأويل قوله ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ( 259 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( فلما تبين له ) فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك . ( قال : أعلم ) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان . ( أن الله على كل شيء قدير ) .

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( قال أعلم أن الله ) .

فقرأه بعضهم : " قال اعلم " على معنى الأمر بوصل " الألف " من " اعلم " وجزم " الميم " منها . وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة . ويذكرون أنها في قراءة عبد الله : " قيل اعلم " على وجه الأمر من الله للذي أحيي بعد مماته ، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته . وكذلك روي عن ابن عباس .

5954 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثني حجاج ، عن هارون قال : هي في قراءة عبد الله : " قيل اعلم أن الله " على وجه الأمر . [ ص: 482 ]

5955 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه - أحسبه شك أبو جعفر الطبري - سمعت ابن عباس يقرأ : " فلما تبين له قال اعلم " قال : إنما قيل ذلك له .

5956 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا - والله أعلم - أنه قيل له : " انظر " فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصل بعضها إلى بعض ، وذلك بعينيه ، فقيل : " اعلم أن الله على كل شيء قدير " .

قال أبو جعفر : فعلى هذا القول تأويل ذلك : فلما تبين من أمر الله وقدرته ، قال الله له : اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير . ولو صرف متأول قوله : " قال اعلم " - وقد قرأه على وجه الأمر - إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتص في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا ، وكان ذلك كما يقول القائل : " اعلم أن قد كان كذا وكذا " على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه .

وقرأ ذلك آخرون : ( قال أعلم ) على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به ، بهمز ألف " أعلم " وقطعها ، ورفع الميم ، بمعنى : فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه ، قال المتبين ذلك :

أعلم الآن أنا أن الله على كل شيء قدير .

وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة ، . وبعض قرأة أهل العراق . وبذلك من [ ص: 483 ] التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5957 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه قال : لما عاين من قدرة الله ما عاين ، قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5958 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول : ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5959 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : بعين نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يعني إنشاز العظام - فقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5960 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال عزير عند ذلك - يعني عند معاينة إحياء الله حماره - ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5961 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض ، ( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

5962 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، نحوه .

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " اعلم " بوصل [ ص: 484 ] " الألف " وجزم " الميم " على وجه الأمر من الله - تعالى ذكره - للذي قد أحياه بعد مماته ، بالأمر بأن يعلم أن الله - الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما ، وحفظه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى رده عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير - على كل شيء قادر كذلك .

وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره ; لأن ما قبله من الكلام أمر من الله - تعالى ذكره - : قولا للذي أحياه الله بعد مماته ، وخطابا له به ، وذلك قوله : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) ، فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) قال الله له : " اعلم أن الله " الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله ، كما قال - تعالى ذكره - لخليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) . فأمر إبراهيم بأن يعلم ، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى ، أنه عزيز حكيم . فكذلك أمر الذي سأل فقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير .
[ ص: 485 ] القول في تأويل قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ألم تر إذ قال إبراهيم : رب أرني . وإنما صلح أن يعطف بقوله : ( وإذ قال إبراهيم ) على قوله : ( أو كالذي مر على قرية ) ، وقوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) ؛ لأن قوله : ( ألم تر ) ليس معناه : ألم تر بعينيك ، وإنما معناه : ألم تر بقلبك ، فمعناه : ألم تعلم فتذكر ، فهو وإن كان لفظه لفظ " الرؤية " فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام ، وأحيانا بما يوافق معناه .

واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى . فقال بعضهم : كانت مسألته ذلك ربه أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها ، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانا فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا ، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به .

ذكر من قال ذلك :

5963 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .

5964 - حدثنا عن الحسن قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ، [ ص: 486 ] قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) قال : مر إبراهيم على دابة ميت قد بلي وتقسمته الرياح والسباع ، فقام ينظر ، فقال : . سبحان الله ! كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك ، فذلك قوله : ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) .

5965 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق ، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير ، قد تمزعت لحمها ، وبقي عظامها . فلما ذهبت السباع ، وطارت الطير على الجبال والآكام ، فوقف وتعجب ، ثم قال : رب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير ! رب أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ، قال : بلى ! ولكن ليس الخبر كالمعاينة .

5966 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : مر إبراهيم بحوت نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله ، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله ، فقال له الخبيث : . يا إبراهيم ، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال : يا رب ، أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي .

وقال آخرون : بل كان سبب مسألته ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمروذ في ذلك .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 487 ]

5967 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في " سورة الأنبياء " قال نمروذ - فيما يذكرون - لإبراهيم : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : أنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه . قال : فقال إبراهيم عند ذلك : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي . من غير شك في الله - تعالى ذكره - ولا في قدرته ، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال : " ليطمئن قلبي " أي : ما تاق إليه إذا هو علمه .

قال أبو جعفر : وهذان القولان - أعني الأول وهذا الآخر - متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا .

وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا .

ذكر من قال ذلك :

5968 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك ، فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس في البيت ، فدخل داره وكان إبراهيم أغير الناس ، إن خرج أغلق الباب فلما جاء ووجد في داره رجلا [ ص: 488 ] ثار إليه ليأخذه . قال : من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت : أذن لي رب هذه الدار ، قال إبراهيم : صدقت ! وعرف أنه ملك الموت . قال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا ! فحمد الله وقال : يا ملك الموت ، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار . قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك . قال : بلى . قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ثم نظر إليه ، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار . فغشي على إبراهيم ، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يلق الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ؟ قال : فأعرض ! فأعرض إبراهيم ، ثم التفت ، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، في ثياب بيض ، فقال : يا ملك الموت ، لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه ، لكان يكفيه .

فانطلق ملك الموت ، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك . قال : أولم تؤمن بأني خليلك ؟ يقول : تصدق . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بخلولتك . [ ص: 489 ]

5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : بالخلة .

وقال آخرون : قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى .

ذكر من قال ذلك :

5970 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها .

5971 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا . قال : ونحن يومئذ شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) . [ الزمر : 53 ] حتى ختم الآية . فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول إنها ، وإن أرجى منها لهذه [ ص: 490 ] الأمة قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .

5972 - حدثنا القاسم قال : حدثني الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله : ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ، فقال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) قال : ( فخذ أربعة من الطير ) ؛ ليريه .

5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال حدثنا سعيد بن تليد قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال : حدثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم ، قال : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " . [ ص: 491 ]

5974 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فذكر نحوه .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وهو قوله : " نحن أحق بالشك من إبراهيم قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن " وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه ، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر ، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ؛ ليعاين ذلك عيانا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى [ ص: 492 ] فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك . فقال له ربه : ( أولم تؤمن ) ؟ يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا رب ! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت .

5975 - حدثني بذلك يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد .

ومعنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه .

وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) إلى أنه : ليزداد إيمانا أو إلى أنه : ليوقن .

ذكر من قال ذلك : ليوقن أو ليزداد يقينا أو إيمانا .

5976 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليوقن .

5977 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان . وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني .

5978 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( ولكن ليطمئن قلبي ) يقول : ليزداد يقينا .

5979 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه .

5980 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : قال معمر وقال قتادة : ليزداد يقينا . [ ص: 493 ]

5981 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينا .

5982 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن كثير البصري قال : حدثنا إسرائيل قال : حدثنا أبو الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقيني .

5983 - حدثني المثنى قال : حدثنا الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال : ليزداد يقينا .

5984 - حدثنا صالح بن مسمار قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا خلف بن خليفة قال : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد وإبراهيم في قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .

5985 - حدثنا صالح قال : حدثنا زيد قال : أخبرنا زياد ، عن عبد الله العامري قال : حدثنا ليث ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير في قول الله : ( ليطمئن قلبي ) قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .

وقد ذكرنا فيما مضى قول من قال : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) بأني خليلك .

وقال آخرون : معنى قوله : ( ليطمئن قلبي ) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 494 ]

5986 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( ليطمئن قلبي ) قال : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .

وأما تأويل قوله : ( قال أولم تؤمن ) فإنه : أولم تصدق ؟ كما : -

5987 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .

5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن بأني خليلك ؟

5989 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولم تؤمن ) قال : أولم توقن .
القول في تأويل قوله : ( قال فخذ أربعة من الطير )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : قال الله له : ( فخذ أربعة من الطير ) ، فذكر أن الأربعة من الطير : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام .

ذكر من قال ذلك :

5990 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا ، وديكا ، وغرابا ، وحماما .

5991 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 495 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الأربعة من الطير : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام .

5992 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج : ( قال فخذ أربعة من الطير ) قال ابن جريج : زعموا أنه ديك ، وغراب ، وطاووس ، وحمامة .

5993 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( قال فخذ أربعة من الطير ) قال : فأخذ طاووسا ، وحماما ، وغرابا ، وديكا مخالفة أجناسها وألوانها .
القول في تأويل قوله : ( فصرهن إليك )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة : ( فصرهن إليك ) بضم الصاد من قول القائل : " صرت إلى هذا الأمر " . إذا ملت إليه " أصور صورا " ويقال : " إني إليكم لأصور " أي : مشتاق مائل ، ومنه قول الشاعر :


الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى أحبابنا صور


وهو جمع " أصور ، وصوراء ، وصور " مثل أسود وسوداء وسود " . ومنه قول الطرماح :

[ ص: 496 ]
عفائف إلا ذاك أو أن يصورها هوى ، والهوى للعاشقين صروع


يعني بقوله : " أو أن يصورها هوى " يميلها .

فمعنى قوله : ( فصرهن إليك ) اضممهن إليك ووجههن نحوك ، كما يقال : " صر وجهك إلي " أي أقبل به إلي . ومن وجه قوله : ( فصرهن إليك ) إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه . ويكون معناه حينئذ عنده : قال : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، ثم قطعهن ، ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) .

وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم " الصاد " : قطعهن ، كما قال توبة بن الحمير :


فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد أسورها
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها


[ ص: 497 ] يعني : يقطعها . وإذا كان ذلك تأويل قوله : ( فصرهن ) ، كان في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون معناه : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن ويكون " إليك " من صلة " خذ " .

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : " فصرهن إليك " بالكسر ، بمعنى قطعهن .

وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون : " فصرهن " ولا " فصرهن " بمعنى قطعهن في كلام العرب ، وأنهم لا يعرفون كسر " الصاد " وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد ، وأنهما جميعا لغتان بمعنى " الإمالة " وأن كسر " الصاد " منها لغة في هذيل وسليم ; وأنشدوا لبعض بني سليم : .


وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح
[ ص: 498 ]

يعني بقوله : " يصير " يميل وأن أهل هذه اللغة يقولون : " صاره وهو يصيره صيرا " " وصر وجهك إلي " أي أمله ، كما تقول : " صره " .

وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله : ( فصرهن ) ولا لقراءة من قرأ : " فصرهن " بضم " الصاد " وكسرها ، وجها في التقطيع ، إلا أن يكون " فصرهن إليك " في قراءة من قرأه بكسر " الصاد " من المقلوب ، وذلك أن تكون " لام " فعله جعلت مكان عينه ، وعينه مكان لامه ، فيكون من " صرى يصري صريا " فإن العرب تقول : " بات يصري في حوضه " : إذا استقى ، ثم قطع واستقى ، ومن ذلك قول الشاعر : .


صرت نطرة لو صادفت جوز دارع غدا والعواصي من دم الجوف تنعر


" صرت " قطعت نظرة ، ومنه قول الآخر :


يقولون إن الشأم يقتل أهله فمن لي إذا لم آته بخلود
تعرب آبائي ، فهلا صراهم من الموت أن لم يذهبوا وجدودي ! ؟
[ ص: 499 ]

يعني : قطعهم ، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل ، وحولت عينها فجعلت لامها ، فقيل : " صار يصير " كما قيل : " عثي يعثى عثا " ثم حولت لامها ، فجعلت عينها ، فقيل : " عاث يعيث .

فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا : ( فصرهن إليك ) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معني به في هذا الموضع التقطيع . قالوا : وهما لغتان : إحداهما : " صار يصور " والأخرى : " صار يصير " واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل . وببيت المعلى بن جمال العبدي .


وجاءت خلعة دهس صفايا يصور عنوقها أحوى زنيم
[ ص: 500 ]

بمعنى : يفرق عنوقها ويقطعها . وببيت خنساء :


لظلت الشم منها وهي تنصار


يعني بالشم : الجبال ، أنها تتصدع وتتفرق . وببيت أبي ذؤيب :


فانصرن من فزع وسد فروجه غبر ضوار : وافيان وأجدع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30-01-2023, 09:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(361)
الحلقة (375)
صــ 501 إلى صــ 520




قالوا : فلقول القائل : " صرت الشيء " معنيان : أملته ، وقطعته . وحكوا سماعا : " صرنا به الحكم " : فصلنا به الحكم . [ ص: 501 ]

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين : من أن معنى الضم في " الصاد " من قوله : ( فصرهن إليك ) والكسر سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان ، معناهما في هذا الموضع : فقطعهن - وأن معنى " إليك " تقديمها قبل " فصرهن " من أجل أنها صلة قوله : " فخذ " أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين ، الذين أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله : ( فصرهن ) غير خارج من أحد معنيين : إما " قطعهن " وإما " اضممهن إليك " بالكسر قرئ ذلك أو بالضم . ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها ، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين - أعني الكسر والضم - أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول ، وخطأ قول نحويي الكوفيين ; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله : ( فصرهن ) بمعنى فقطعهن ، على أن أصل الكلام " فاصرهن " ثم قلبت فقيل : " فصرهن " بكسر " الصاد " لتحول " ياء " " فاصرهن " مكان رائه ، وانتقال رائه مكان يائه ، لكان لا شك - مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم - قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده ، وبينه إذا قرئ بضمها ، إذ كان غير جائز لمن قلب " فاصرهن " إلى " فصرهن " أن يقرأه " فصرهن " بضم " الصاد " وهم - مع اختلاف قراءتهم ذلك - قد تأولوه تأويلا واحدا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا . ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال : إن ذلك إذا قرئ بكسر " الصاد " بتأويل التقطيع ، مقلوب من : " صري يصرى " إلى " صار يصير " وجهل من زعم أن قول القائل : " صار يصور " و " صار يصير " غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع . [ ص: 502 ]

ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله - تعالى ذكره - : ( فصرهن ) أنه بمعنى : فقطعهن .

5994 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال : حدثنا محمد بن الصلت قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( فصرهن ) قال : هي نبطية ، فشققهن .

5995 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، قال : إنما هو مثل . قال : قطعهن ، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا .

5996 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فصرهن ) قال : قطعهن .

5997 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : ( فصرهن إليك ) يقول : قطعهن .

5998 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك مثله .

5999 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن [ ص: 503 ] جعفر ، عن سعيد : ( فصرهن ) قال : قال : جناح ذه عند رأس ذه ، ورأس ذه عند جناح ذه .

6000 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم أبو عمرو ، عن عكرمة في قوله : ( فصرهن إليك ) قال : قال عكرمة بالنبطية : قطعهن .

6001 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن يحيى ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) قال : قطعهن .

6002 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا ، ثم اخلط لحومهن بريشهن .

6003 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فصرهن إليك ) قال : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا .

6004 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فصرهن إليك ) أمر نبي الله - عليه السلام - أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن .

6005 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فصرهن إليك ) قال : فمزقهن . قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء ، والريش بالريش ، " ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا " .

6006 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا [ ص: 504 ] عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك : ( فصرهن إليك ) يقول : فشققهن ، وهو بالنبطية " صرى " وهو التشقيق .

6007 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فصرهن إليك ) يقول قطعهن .

6008 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( فصرهن إليك ) يقول : قطعهن إليك ومزقهن تمزيقا .

6009 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( فصرهن إليك ) أي قطعهن ، وهو " الصور " في كلام العرب .

قال أبو جعفر : ففيما ذكرنا من أقوال - من روينا قوله في تأويل قوله : ( فصرهن إليك ) أنه بمعنى : فقطعهن إليك - دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك ، وفساد قول من خالفنا فيه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارئ ذلك بضم " الصاد " : " فصرهن " إليك أو كسرها " فصرهن " إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد . غير أن الأمر - وإن كان كذلك - فإن أحبهما إلي أن أقرأ به " فصرهن إليك " بضم " الصاد " ؛ لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما في أحياء العرب .

[ وأما قول من تأول قوله : ( فصرهن إليك ) بمعنى : اضممهن إليك ووجهن نحوك واجمعهن ، فهو قول قال به من أهل التأويل نفر قليل ] . [ ص: 505 ]

ذكر من قال ذلك :

6010 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فصرهن إليك ) " صرهن " : أوثقهن .

6011 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء قوله : ( فصرهن إليك ) قال : اضممهن إليك .

6012 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( فصرهن إليك ) قال : اجمعهن .
القول في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) .

فقال بعضهم : يعني بذلك : على كل ربع من أرباع الدنيا جزءا منهن .

ذكر من قال ذلك :

6013 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) قال : اجعلهن في أرباع الدنيا : ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ( ثم ادعهن يأتينك سعيا ) . [ ص: 506 ]

6014 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) قال : لما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا .

6015 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ، ثم يجزئهن على أربعة أجبل ، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن ، وأمسك برءوسهن بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - . ثم دعاهن فأتينه سعيا على أرجلهن ، ويلقي إلى كل طير برأسه . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم ، يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .

6016 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذبحهن ، ثم قطعهن ، ثم خلط بين لحومهن وريشهن ، ثم قسمهن على أربعة أجزاء ، فجعل على كل جبل منهن جزءا ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم . ثم دعاهن فأتينه سعيا ، يقول : شدا على أرجلهن . وهذا مثل أراه الله إبراهيم ، يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .

6017 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة ، ثم قطع [ ص: 507 ] كل طير بأربعة أجزاء ، ثم عمد إلى أربعة أجبال ، فجعل على كل جبل ربعا من كل طائر ، فكان على كل جبل ربع من الطاووس ، وربع من الديك ، وربع من الغراب وربع من الحمام . ثم دعاهن فقال : " تعالين بإذن الله كما كنتن " فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن ، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه . ثم أقبلن إليه سعيا ، كما قال الله . وقيل : يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد ، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها ، وشامها ويمنها . فأراه الله إحياء الموتى بقدرته ، حتى عرف ذلك - يعني ما قال نمروذ من الكذب والباطل - .

6018 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) قال : فأخذ طاووسا ، وحمامة ، وغرابا ، وديكا ، ثم قال : فرقهن ، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه . فقطعهن وفرقهن أرباعا على الجبال ، ثم دعاهن فجئنه جميعا ، فقال الله : كما ناديتهن فجئنك ، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا ، فكذلك أجمع هؤلاء - أيضا يعني - الموتى .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة ، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها . وقالوا : كانت سبعة أجبال .

ذكر من قال ذلك :

6019 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : لما قال إبراهيم ما قال - عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطير [ ص: 508 ] والسباع عنها حين دنا منها ، وسأل ربه ما سأل - قال : ( فخذ أربعة من الطير ) - قال ابن جريج : فذبحها - ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسباع . قال : فجعلهن سبعة أجزاء ، وأمسك رءوسهن عنده ، ثم دعاهن بإذن الله ، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رءوس الجبال ، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في السماء ، ثم أقبلن يسعين ، حتى وصلت رأسها .

6020 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، ثم اجعل على سبعة أجبال ، فاجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير ، فقطعهن أعضاء ، لم يجعل عضوا من طير مع صاحبه . ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا ، وصدر هذا مع جناح هذا ، وقسمهن على سبعة أجبال ، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه ، ثم أقبلن إليه جميعا .

وقال آخرون : بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل .

ذكر من قال ذلك :

6021 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ، قال : ثم بددهن على كل جبل يأتينك سعيا ، وكذلك يحيي الله الموتى .

6022 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، كذلك يحيي الله الموتى . هو مثل ضربه الله لإبراهيم . [ ص: 509 ]

6023 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ثم بددهن أجزاء على كل جبل ثم ( ادعهن ) تعالين بإذن الله . فكذلك يحيي الله الموتى . مثل ضربه اللهلإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .

6024 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : أمره أن يخالف بين قوائمهن ورءوسهن وأجنحتهن ، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا .

6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد ، وهو أن الله - تعالى ذكره - أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء ؛ لأن الله - تعالى ذكره - قال له : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) " والكل " حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه ، لفظه واحد ومعناه الجمع .

فإذا كان ذلك كذلك ، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليها خارجة من أحد معنيين : إما أن تكون بعضا ، أو جميعا .

فإن كانت " بعضا " فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم [ ص: 510 ] السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه .

أو يكون " جميعا " فيكون أيضا كذلك .

وقد أخبر الله - تعالى ذكره - أنه أمره بأن يجعل ذلك على " كل جبل " وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن ، وإما ما في الأرض من الجبال .

فأما قول من قال : " إن ذلك أربعة أجبل " وقول من قال : " هن سبعة " فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به ، وإنما أمر الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل ؛ ليرى إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهن متفرقات متبددات في أماكن مختلفة شتى ، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض ، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارا أحياء يطرن فيطمئن قلب إبراهيم ، ويعلم أن كذلك جمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة ، وتأليفه أجزاءهم بعد البلى ورد كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردى .

قال أبو جعفر : " والجزء " من كل شيء هو البعض منه ، كان منقسما جميعه عليه على صحة أو غير منقسم . فهو بذلك من معناه مخالف معنى " السهم " ؛ لأن " السهم " من الشيء هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة . ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءهم من المواريث : " السهام " دون " الأجزاء " . [ ص: 511 ]

وأما قوله : ( ثم ادعهن ) فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد أنه قال : هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل : " تعالين بإذن الله " .

فإن قال قائل : أمر إبراهيم أن يدعوهن وهن ممزقات أجزاء على رءوس الجبال أمواتا ، أم بعدما أحيين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزقات لا أرواح فيهن ، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعدما أحيين ، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن ، وقد أبصرهن ينشرن على رءوس الجبال ؟ قيل : إن أمر الله - تعالى ذكره - إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بدعائهن وهن أجزاء متفرقات ، إنما هو أمر تكوين كقول الله للذين مسخهم قردة بعدما كانوا إنسا : ( كونوا قردة خاسئين ) [ البقرة : 65 ] لا أمر عبادة ، فيكون محالا إلا بعد وجود المأمور المتعبد .
القول في تأويل قوله : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ( 260 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ( واعلم ) يا إبراهيم ، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن ، وتفريقك أجزاءهن على الجبال ، فجمعهن ورد إليهن الروح ، حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقكهن ( عزيز ) في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره ، وعصوا رسله ، وعبدوا غيره ، وفي نقمته حتى ينتقم منهم ( حكيم ) في أمره .

6026 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) قال : عزيز في بطشه ، حكيم في أمره . [ ص: 512 ]

6027 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( واعلم أن الله عزيز ) في نقمته ( حكيم ) في أمره .
القول في تأويل قوله ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة )

قال أبو جعفر : وهذه الآية مردودة إلى قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) [ البقرة : 245 ] والآيات التي بعدها إلى قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) ، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت ، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاج إبراهيم مع إبراهيم ، وأمر الذي مر على القرية الخاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم ومسألته ربه ما سأل ، مما قد ذكرناه قبل - اعتراض من الله - تعالى ذكره - بما اعترض به من قصصهم بين ذلك ، احتجاجا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة وحضا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله : ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ) [ البقرة : 244 ] يعرفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدد عدوهم ، ويعدهم النصرة عليهم ، ويعلمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم ، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرق جمعهم وموهن كيدهم وقطعا منه ببعض عذر اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أطلع نبيه عليه من خفي أمورهم ، [ ص: 513 ] ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم ؛ ليعلموا أن ما آتاهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله ، وأنه ليس بتخرص ولا اختلاق ، وإعذارا منه به إلى أهل النفاق منهم ؛ ليحذروا بشكهم في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحل بهم من بأسه وسطوته مثل الذي أحلهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها ، فتركها خاوية على عروشها .

ثم عاد - تعالى ذكره - إلى الخبر عن ( الذي يقرض الله قرضا حسنا ) وما عنده له من الثواب على قرضه فقال : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) يعني بذلك مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم ( كمثل حبة ) من حبات الحنطة أو الشعير ، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تسنبل ريعها بذرها زارع . " فأنبتت " يعني : فأخرجت ( سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) يقول : فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله ، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته . كما : -

6028 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) فهذا لمن أنفق في سبيل الله ، فله أجره سبعمائة . .

6029 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ) قال : هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرج . [ ص: 514 ]

6030 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) الآية ، فكان من بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة ، ورابط مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، ولم يلق وجها إلا بإذنه ، كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف ، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتك فضرب بها مثل المنفق في سبيل الله ماله ؟ .

قيل : إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك ، وإلا فجائز أن يكون معناه : كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، إن جعل الله ذلك فيها .

ويحتمل أن يكون معناه : في كل سنبلة مائة حبة ، يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة ، مضافا إليها ، [ ص: 515 ] لأنه كان عنها . وقد تأول ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6031 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) ، قال : كل سنبلة أنبتت مائة حبة ، فهذا لمن أنفق في سبيل الله : ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) .
القول في تأويل قوله ( والله يضاعف لمن يشاء )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء ) . فقال بعضهم : الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته . يعد الذي أعطى غير منفق في سبيله دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة . فأما المنفق في سبيله فلا ينقصه عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة .

ذكر من قال ذلك :

6032 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله - يعني السبعمائة - [ ص: 516 ] ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) ، يعني لغير المنفق في سبيله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف . وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده ، فتركت ذكره .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء ) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف لمن يشاء من المنفقين في سبيله ؛ لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله ، فيجوز لنا توجيه ما وعد - تعالى ذكره - في هذه الآية من التضعيف إلى أنه عدة منه على [ العمل في غير سبيله أو ] على غير النفقة في سبيل الله .
القول في تأويل قوله ( والله واسع عليم ( 261 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ( والله واسع ) أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده . ( عليم ) من يستحق منهم الزيادة كما : -

6033 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) قال : ( واسع ) : أن يزيد من سعته ( عليم ) : عالم بمن يزيده . [ ص: 517 ]

وقال آخرون : معنى ذلك : ( والله واسع ) لتلك الأضعاف ( عليم ) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله .
القول في تأويل قوله ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 262 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : المعطي ماله المجاهدين في سبيل الله معونة لهم على جهاد أعداء الله . يقول - تعالى ذكره - : الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حمولاتهم ، وغير ذلك من مؤنهم ، ثم لم يتبع نفقته التي أنفقها عليهم منا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ، ولا أذى لهم . فامتنانه به عليهم بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم - بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم - معروفا ، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل . وأما " الأذى " فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقواهم من النفقة في سبيل الله ، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد ، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفق عليه .

وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله ، وأوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله ؛ لأن النفقة التي هي في سبيل الله : ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه ؛ لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها [ ص: 518 ] عليه - إن لم يكافئه - عليها المن والأذى ، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته ، وعلى الله مثوبته ، دون من أنفق ذلك عليه .

وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6034 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ) ، علم الله أن أناسا يمنون بعطيتهم ، فكره ذلك وقدم فيه فقال : ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ) .

6035 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : قال للآخرين يعني : قال الله للآخرين ، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) قال : فشرط عليهم . قال : والخارج لم يشرط عليه قليلا ولا كثيرا - يعني بالخارج : الخارج في الجهاد الذي ذكر الله في قوله : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة ) الآية . قال ابن زيد : وكان أبي يقول : إن آذاك من يعطي من هذا شيئا أو يقوي في سبيل الله ، فظننت أنه يثقل عليه سلامك ، فكف سلامك عنه . قال ابن زيد : فنهى عن خير الإسلام . قال : وقالت امرأة لأبي : يا أبا أسامة تدلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم لا يخرجون إلا [ ص: 519 ] ليأكلوا الفواكه ! ! عندي جعبة وأسهم فيها . فقال لها : لا بارك الله لك في جعبتك ، ولا في أسهمك ، فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم ! قال : وكان رجل يقول لهم : اخرجوا وكلوا الفواكه !

6036 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : ( لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) قال : أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى .

وأما قوله : ( لهم أجرهم عند ربهم ) ، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بين . " والهاء والميم " في " لهم " عائدة على " الذين " .

ومعنى قوله : ( لهم أجرهم عند ربهم ) ، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله ، ثم لم يتبعوها منا ولا أذى .

وقوله : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، يقول : وهم مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا ( لا خوف عليهم ) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا ، ولا في أهوال القيامة ، وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله ( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا .

[ ص: 520 ] القول في تأويل قوله ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ( 263 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : ( قول معروف ) قول جميل ، ودعاء الرجل لأخيه المسلم ( ومغفرة ) يعني : وستر منه عليه لما علم من خلته وسوء حالته . ( خير ) عند الله ( من صدقة ) يتصدقها عليه ( يتبعها أذى ) يعني يشتكيه عليها ، ويؤذيه بسببها كما : -





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30-01-2023, 09:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(362)
الحلقة (376)
صــ 521 إلى صــ 560


6037 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن [ ص: 521 ] جويبر ، عن الضحاك : ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) يقول : أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منا وأذى .

وأما قوله : ( غني حليم ) فإنه يعني : " والله غني " عما يتصدقون به ( حليم ) حين لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته منكم ، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه .

وروي عن ابن عباس في ذلك ما : -

6038 - حدثنا به المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( الغني ) الذي كمل في غناه ، ( والحليم ) ، الذي قد كمل في حلمه .
القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ( يا أيها الذين آمنوا ) صدقوا الله ورسوله ( لا تبطلوا صدقاتكم ) يقول : لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمن والأذى كما أبطل كفر الذي ينفق ماله ( رئاء الناس ) ، وهو مراءاته إياهم بعمله ، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله - تعالى ذكره - فيحمدونه عليه ، وهو غير مريد به الله ولا طالب منه الثواب ، وإنما ينفقه كذلك ظاهرا [ ص: 522 ] ليحمده الناس عليه فيقولوا : هو سخي كريم ، وهو رجل صالح " فيحسنوا عليه به الثناء ، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق ، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله - تعالى ذكره - واليوم الآخر .

وأما قوله : ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، فإن معناه : ولا يصدق بوحدانية الله وربوبيته ، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازى على عمله ، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده . وهذه صفة المنافق . وإنما قلنا إنه منافق ؛ لأن المظهر كفره والمعلن شركه ، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيا ؛ لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله ، وفي الباطن مريبة سريرة عامله ، مراده به حمد الناس عليه . والكافر لا يخيل على أحد أمره أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان - إذا كان معلنا كفره - لا لله . ومن كان كذلك ، فغير كائن مرائيا بأعماله .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6039 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال أبو هانئ الخولاني ، عن عمرو بن حريث قال : إن الرجل يغزو لا يسرق ولا يزني ولا يغل ، لا يرجع بالكفاف ! فقيل له : لم ذاك ؟ قال : إن الرجل ليخرج ، فإذا أصابه من [ ص: 523 ] بلاء الله الذي قد حكم عليه ، سب ولعن إمامه ولعن ساعة غزا ، وقال : لا أعود لغزوة معه أبدا ! فهذا عليه ، وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها من وأذى . فقد ضرب الله مثلها في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) ، حتى ختم الآية .
القول في تأويل قوله تعالى ( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ( 264 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر " والهاء " في قوله : ( فمثله ) عائدة على " الذي " ( كمثل صفوان ) " والصفوان " واحد وجمع ، فمن جعله جمعا فالواحدة " صفوانة " بمنزلة " تمرة وتمر " و " نخلة ونخل " . ومن جعله واحدا ، جمعه " صفوان ، وصفي ، وصفي " كما قال الشاعر : .


مواقع الطير على الصفي


[ ص: 524 ]

و " الصفوان " هو " الصفا " وهي الحجارة الملس .

وقوله : ( عليه تراب ) يعني : على الصفوان تراب ( فأصابه ) يعني : أصاب الصفوان ( وابل ) وهو المطر الشديد العظيم ، كما قال امرؤ القيس :


ساعة ثم انتحاها وابل ساقط الأكناف واه منهمر


يقال منه : " وبلت السماء فهي تبل وبلا " وقد : " وبلت الأرض فهي توبل " .

وقوله : ( فتركه صلدا ) يقول : فترك الوابل الصفوان صلدا .

و " الصلد " من الحجارة : الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره ، وهو من الأرضين ما لا ينبت فيه شيء ، وكذلك من الرءوس ، كما قال رؤبة :


لما رأتني خلق المموه براق أصلاد الجبين الأجله
[ ص: 525 ]

ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي : " قدر صلود " " وقد صلدت تصلد صلودا ، ومنه قول تأبط شرا :


ولست بجلب جلب رعد وقرة ولا بصفا صلد عن الخير أعزل


ثم رجع - تعالى ذكره - إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثل لأعمالهم ، فقال : فكذلك أعمالهم بمنزلة الصفوان الذي كان عليه تراب ، فأصابه الوابل من المطر ، فذهب بما عليه من التراب ، فتركه نقيا لا تراب عليه ولا شيء يراهم المسلمون في الظاهر أن لهم أعمالا - كما يرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به ، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله ، اضمحل ذلك كله ؛ لأنه لم يكن لله ، [ ص: 526 ] كما ذهب الوابل من المطر بما كان على الصفوان من التراب ، فتركه أملس لا شيء عليه

فذلك قوله : ( لا يقدرون ) يعني به : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يقول : لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا ؛ لأنهم لم يعملوا لمعادهم ، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة ، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم ، وإنما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها .

ثم أخبر - تعالى ذكره - أنه ( لا يهدي القوم الكافرين ) ، يقول : لا يسددهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها فيوفقهم لها ، وهم للباطل عليها مؤثرون ، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون .

فقال - تعالى ذكره - للمؤمنين : لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفة أعمالهم ، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم ، كما بطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس ، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر عند الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6040 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فقرأ حتى بلغ : ( على شيء مما كسبوا ) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ ، كما ترك هذا المطر الصفاة الحجر ليس [ ص: 527 ] عليه شيء ، أنقى ما كان عليه .

6041 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن ) إلى قوله : ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيا لا شيء عليه .

6042 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) إلى قوله : ( على شيء مما كسبوا ) أما الصفوان الذي عليه تراب فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدا . فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ، ذهب الرياء بنفقته ، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيا ، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم . فقال للمؤمنين : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فتبطل كما بطلت صدقة الرياء .

6043 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى . فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، فضرب الله مثلهما جميعا : ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منا وأذى .

6044 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) إلى ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) ليس عليه شيء ، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب .

6045 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : [ ص: 528 ] قال ابن جريج في قوله : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) قال : يمن بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها .

6046 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) ، فقرأ : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) حتى بلغ : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ثم قال : أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئا ؟ فكذلك منك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئا . وقرأ قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) ، وقرأ : ( وما أنفقتم من نفقة ) ، فقرأ حتى بلغ : ( وأنتم لا تظلمون ) . [ البقرة : 270 - 272 ] .
القول في تأويل قوله عز وجل ( صفوان )

قد بينا معنى " الصفوان " بما فيه الكفاية ، غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل .

6047 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( كمثل صفوان ) كمثل الصفاة .

6048 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( كمثل صفوان ) والصفوان : الصفا .

6049 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله . [ ص: 529 ]

6050 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما ( صفوان ) ، فهو الحجر الذي يسمى : " الصفاة " .

6051 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .

6052 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( صفوان ) يعني الحجر .
القول في تأويل قوله عز وجل ( فأصابه وابل )

قد مضى البيان عنه . وهذا ذكر من قال قولنا فيه :

6053 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما وابل : فمطر شديد .

6054 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فأصابه وابل ) والوابل : المطر الشديد .

6055 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .

6056 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
القول في تأويل قوله عز وجل ( فتركه صلدا )

ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك :

6057 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 530 ] السدي : ( فتركه صلدا ) يقول نقيا .

6058 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فتركه صلدا ) قال : تركها نقية ليس عليها شيء .

6059 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس قوله : ( فتركه صلدا ) قال : ليس عليه شيء .

6060 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال حدثنا ، أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( صلدا ) فتركه جردا .

6061 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( فتركه صلدا ) ليس عليه شيء .

6062 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( فتركه صلدا ) ليس عليه شيء .
القول في تأويل قوله عز وجل ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ) فيصدقون بها ، ويحملون عليها في سبيل الله ، ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله ، وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته . [ ص: 531 ] ( وتثبيتا من أنفسهم ) يعني بذلك : وتثبيتا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا من قول القائل : " ثبت فلانا في هذا الأمر " - إذا صححت عزمه ، وحققته ، وقويت فيه رأيه - " أثبته تثبيتا " كما قال ابن رواحة :


فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا


وإنما عنى الله - جل وعز - بذلك أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير من ولا أذى ، فثبتتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وصححت عزمهم وآراءهم ، يقينا منها بذلك ، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها . ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله : ( وتثبيتا ) وتصديقا ، ومن قال منهم : ويقينا ؛ لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله .

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :

6063 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : تصديقا ويقينا . [ ص: 532 ]

6064 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : وتصديقا من أنفسهم : ثبات ونصرة .

6065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : يقينا من أنفسهم . قال : التثبيت اليقين .

6066 - حدثني يونس قال : حدثنا علي بن معبد ، عن أبي معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) يقول : يقينا من عند أنفسهم .

وقال آخرون : معنى قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم .

ذكر من قال ذلك :

6067 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .

6068 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( وتثبيتا من أنفسهم ) فقلت له : ما ذلك التثبيت ؟ قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .

6069 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : كانوا يتثبتون أين يضعونها .

6070 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن علي بن علي بن رفاعة ، عن الحسن في قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم - يعني زكاتهم . [ ص: 533 ]

6071 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن علي بن علي قال : سمعت الحسن قرأ : ( ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم ) قال : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان لله مضى ، وإن خالطه شك أمسك .

قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن ، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة ، وذلك أنهم تأولوا قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) بمعنى : " وتثبتا " فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك ؛ لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم . ولو كان التأويل كذلك ، لكان : " وتثبتا من أنفسهم " ; لأن المصدر من الكلام إن كان على " تفعلت " " التفعل " فيقال : " تكرمت تكرما " " وتكلمت تكلما " وكما قال جل ثناؤه : ( أو يأخذهم على تخوف ) [ النحل : 47 ] من قول القائل : " تخوف فلان هذا الأمر تخوفا " . فكذلك قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) لو كان من " تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها " لكان الكلام : " وتثبتا من أنفسهم " لا " وتثبيتا " . ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه : وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله - تعالى ذكره - .

فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عز وجل : ( وتبتل إليه تبتيلا ) [ المزمل : 8 ] ، ولم يقل : " تبتلا " .

قيل : إن هذا مخالف لذلك . وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه : " تبتيلا " لظهور " وتبتل إليه " فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه [ ص: 534 ] قيل : " تبتيلا " . وذلك أن المتروك هو : " تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا " . وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا ، تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها ، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه ، كما قال جل وعز : ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) [ نوح : 17 ] . وقال : ( وأنبتها نباتا حسنا ) [ آل عمران : 37 ] . " والنبات " : مصدر " نبت " . وإنما جاز ذلك لمجيء " أنبت " قبله ، فدل على المتروك الذي منه قيل " نباتا " والمعنى : " والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتا " . وليس [ في ] قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه ، ومعنى الكلام : " ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها " فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله : ( وتبتل إليه تبتيلا ) ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها .

وقال آخرون : معنى قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) احتسابا من أنفسهم .

ذكر من قال ذلك :

6073 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وتثبيتا من أنفسهم ) يقول : احتسابا من أنفسهم .

قال أبو جعفر : وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى " التثبيت " لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى " الاحتساب " إلا أن يكون أراد مفسره كذلك : أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها . فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام ، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت ، فيترجم عنه به .
[ ص: 535 ] القول في تأويل قوله تعالى ( كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل وعز : ومثل الذين ينفقون أموالهم ، فيتصدقون بها ، ويسبلونها في طاعة الله بغير من على من تصدقوا بها عليه ، ولا أذى منهم لهم بها ، ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده ( كمثل جنة ) .

" والجنة " : البستان . وقد دللنا فيما مضى على أن " الجنة " البستان ، بما فيه الكفاية من إعادته .

( بربوة ) والربوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل . وإنما وصفها بذلك - جل ثناؤه - لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ ، وجنان ما غلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رق منها ، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة :


ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
[ ص: 536 ]

فوصفها بأنها من رياض الحزن ؛ لأن الحزون : غروسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها .

وفي " الربوة " لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل لغة منهن جماعة من القرأة ، وهي " ربوة " بضم الراء ، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق .

و " ربوة " بفتح الراء ، وبها قرأ بعض أهل الشام ، وبعض أهل الكوفة ، ويقال إنها لغة لتميم . " وربوة " بكسر الراء ، وبها قرأ - فيما ذكر - ابن عباس .

قال أبو جعفر : وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح " الراء " وإما بضمها ؛ لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما . وأنا لقراءتها بضمها أشد إيثارا مني بفتحها ؛ لأنها أشهر اللغتين في العرب . فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة .

وإنما سميت " الربوة " لأنها " ربت " فغلظت وعلت ، من قول القائل : " ربا هذا الشيء يربو " إذا انتفخ فعظم .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6074 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) ، قال : الربوة المكان الظاهر المستوي . [ ص: 537 ]

6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة .

6076 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( كمثل جنة بربوة ) يقول بنشز من الأرض .

6077 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( كمثل جنة بربوة ) والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ، والذي فيه الجنان .

6078 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( بربوة ) برابية من الأرض .

6079 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( كمثل جنة بربوة ) ، والربوة النشز من الأرض .

6080 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : ( كمثل جنة بربوة ) قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .

وكان آخرون يقولون : هي المستوية .
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 30-01-2023, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(363)
الحلقة (377)
صــ 521 إلى صــ 557

ذكر من قال ذلك :

6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : ( كمثل جنة بربوة ) قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه .

قال أبو جعفر : وأما قوله : ( أصابها وابل ) فإنه يعني جل ثناؤه : أصاب [ ص: 538 ] الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر ، وهو الشديد العظيم القطر منه .

وقوله : ( فآتت أكلها ضعفين ) ، فإنه يعني الجنة : أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر .

" والأكل " : هو الشيء المأكول ، وهو مثل " الرعب والهزء " وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على " فعل " . وأما " الأكل " بفتح " الألف " وتسكين " الكاف " فهو فعل الآكل ، يقال منه : " أكلت أكلا وأكلت أكلة واحدة " كما قال الشاعر :


وما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام


ففتح " الألف " لأنها بمعنى الفعل . ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : " ولا جوعة " . وإن ضمت الألف من " الأكلة " كان معناه : الطعام الذي أكلته ، فيكون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة . [ ص: 539 ]

وأما قوله : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) فإن " الطل " هو الندى واللين من المطر كما : -

6082 - حدثنا عباس بن محمد قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج : ( فطل ) ندى عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس .

6083 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما " الطل " فالندى .

6084 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) ، أي طش .

6085 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فطل ) قال : الطل : الرذاذ من المطر ، يعني : اللين منه .

6086 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فطل ) أي طش .

قال أبو جعفر : وإنما يعني - تعالى ذكره - بهذا المثل : كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل ، فإن أخطأ هذا الوابل فالطل كذلك يضعف الله صدقة المتصدق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير من ولا أذى ، قلت نفقته أو كثرت ، لا تخيب ولا تخلف نفقته ، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها ، قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6087 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) يقول : كما أضعفت [ ص: 540 ] ثمرة تلك الجنة ، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين .

6088 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أي حال ، إما وابل ، وإما طل .

6089 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله .

6090 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ) . الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟

قيل : يراد فيه " كان " ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يكن الوابل أصابها ، أصابها طل . وذلك في الكلام نحو قول القائل : " حبست فرسين ، فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته " بمعنى : " إلا أكن " - لا بد من إضمار " كان " لأنه خبر . ومنه قول الشاعر : .


إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا

[ ص: 541 ] القول في تأويل قوله : ( والله بما تعملون بصير

قال أبو جعفر : يعني بذلك : ( 265 ) ( والله بما تعملون ) أيها الناس في نفقاتكم التي تنفقونها ( بصير ) لا يخفى عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء ، يعلم من المنفق منكم بالمن والأذى ، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه ، فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .

وإنما يعني بهذا القول - جل ذكره - التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه ، أو يفرط فيما قد أمر به ؛ لأن ذلك بمرأى من الله ومسمع ، يعلمه ويحصيه عليهم ، وهو لخلقه بالمرصاد .
القول في تأويل قوله : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت

قال أبو جعفر : ومعنى ذلك : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر [ ص: 542 ] ) الآية .

ومعنى قوله : ( أيود أحدكم ) أيحب أحدكم ، أن تكون له جنة - يعني بستانا . ( من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ) يعني : من تحت الجنة ( وله فيها من كل الثمرات ) ، " والهاء " في قوله : ( له ) عائدة على " أحد " و " الهاء " و " الألف " في : ( فيها ) على الجنة ، ( وأصابه ) يعني : وأصاب أحدكم ( الكبر وله ذرية ضعفاء ) .

وإنما جعل - جل ثناؤه - البستان من النخيل والأعناب الذي قال - جل ثناؤه - لعباده المؤمنين : أيود أحدكم أن تكون له مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس ، لا ابتغاء مرضاة الله ، فالناس - بما يظهر لهم من صدقته ، وإعطائه لما يعطي وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا من نخيل وأعناب ، له فيها من كل الثمرات ؛ لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا ، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا ، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته ، ويكتسب به المحمدة وحسن الثناء عند الناس ، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها ، فله في ذلك من كل خير في الدنيا ، كما وصف - جل ثناؤه - الجنة التي وصف مثلا لعمله ، بأن فيها من كل الثمرات . [ ص: 543 ]

ثم قال جل ثناؤه : ( وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ) يعني أن صاحب الجنة أصابه الكبر ( وله ذرية ضعفاء ) صغار أطفال . ( فأصابها ) يعني : فأصاب الجنة - ( إعصار فيه نار فاحترقت ) ، يعني بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار ، في حال حاجته إليها ، وضرورته إلى ثمرتها بكبره ، وضعفه عن عمارتها ، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها . فبقي لا شيء له ، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها ، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار .

يقول : فكذلك المنفق ماله رياء الناس ، أطفأ الله نوره ، وأذهب بهاء عمله ، وأحبط أجره حتى لقيه ، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله ، حين لا مستعتب له ، ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة ، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف - جل ثناؤه - صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه .

وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله : ( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) .

قال أبو جعفر : وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، إلا أن معاني قولهم في ذلك - وإن اختلفت تصاريفهم فيها - عائدة إلى المعنى الذي قلنا في ذلك ، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي . [ ص: 544 ]

6091 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) هذا مثل آخر لنفقة الرياء . إنه ينفق ماله يرائي الناس به ، فيذهب ماله منه وهو يرائي ، فلا يأجره الله فيه . فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته ، وجدها قد أحرقها الرياء ، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته ، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سموم فأحرقت جنته ، فلم يجد منها شيئا . فكذلك المنفق رياء .

6092 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ) كمثل المفرط في طاعة الله حتى يموت . قال : يقول : أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله ، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار ، ( له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير ، لا يغني عنها شيئا ، وولده صغار لا يغنون عنها شيئا ، وكذلك المفرط بعد الموت كل شيء عليه حسرة .

6093 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6094 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : سأل عمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدا يشفيه ، حتى قال ابن عباس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين ، إني أجد في نفسي منها شيئا ، قال : فتلفت إليه ، فقال : تحول ههنا ، لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عز وجل [ ص: 545 ] فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة ، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره ، واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه .

6095 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن محمد بن سليم ، عن ابن أبي مليكة : أن عمر تلا هذه الآية : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " قال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا ، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمل عمل السوء .

6096 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قال : سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول : سأل عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : فيم ترون أنزلت : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " ؟ فقالوا : الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا : " نعلم " أو " لا نعلم " . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، يا أمير المؤمنين . فقال عمر : قل يا ابن أخي ، ولا تحقر نفسك ! قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . قال عمر : أي عمل ؟ قال : لعمل . فقال عمر : رجل غني يعمل الحسنات ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها قال : وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس ، سمعه منه . [ ص: 546 ]

6097 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير قال : ابن جريج : وسمعت عبد الله بن أبي مليكة قال : سمعت ابن عباس قالا جميعا : إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه ، إلا أنه قال عمر : للرجل يعمل بالحسنات ، ثم يبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي .

6098 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عنها ثم قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قالا ضربت مثلا للأعمال . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ضربت مثلا للعمل يبدأ فيعمل عملا صالحا ، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره ، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك ، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة مثلا لإساءته التي مات وهو عليها . قال ابن عباس : الجنة عيشه وعيش ولده فاحترقت ، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره ، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت .

يقول : هذا مثله ، يلقاني وهو أفقر ما كان إلي ، فلا يجد له عندي شيئا ، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا ، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة ، كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات . قال [ ص: 547 ] ابن جريج ، عن مجاهد : سمعت ابن عباس قال : هو مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت . قال ابن جريج ، وقال مجاهد : أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله كمثل هذا الذي له جنة فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئا ، وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئا . وكذلك المفرط بعد الموت ، كل شيء عليه حسرة .

6099 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار " الآية . يقول : أصابها ريح فيها سموم شديدة " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " : فهذا مثل ، فاعقلوا عن الله - جل وعز - أمثاله ، فإنه قال : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ سورة العنكبوت : 43 ] . هذا رجل كبرت سنه ، ورق عظمه ، وكثر عياله ، ثم احترقت جنته على بقية ذلك ، كأحوج ما يكون إليه ، يقول : أيحب أحدكم أن يضل عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه ؟

6100 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " أيود أحدكم أن تكون له جنة " إلى قوله : " فاحترقت " يقول : فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سنه وضعف عن الكسب " وله ذرية ضعفاء " لا ينفعونه . قال : وكان الحسن يقول : " فاحترقت " فذهبت أحوج ما كان إليها ، فذلك قوله : أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوج [ ص: 548 ] ما كان إليه ؟

6101 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ضرب الله مثلا حسنا ، وكل أمثاله حسن - تبارك وتعالى - وقال قال : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل " إلى قوله : " فيها من كل الثمرات " يقول : صنعه في شبيبته ، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه . وكذلك الكافر يوم القيامة ، إذا رد إلى الله - تعالى - ليس له خير فيستعتب ، كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجد خيرا قدم لنفسه يعود عليه ، كما لم يغن عن هذا ولده ، وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته . وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا : كيف نجى المؤمن في الآخرة ، وذخر له من الكرامة والنعيم ، وخزن عنه المال في الدنيا ، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطع ، وخزن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدا ، ويخلد فيها مهانا ، من أجل أنه [ فخر على صاحبه ] ووثق بما عنده ، ولم يستيقن أنه ملاق ربه . [ ص: 549 ]

6102 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع أيود أحدكم أن تكون له جنة " الآية ، قال : [ هذا مثل ضربه الله ] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [ له فيها من كل الثمرات ] ، والرجل [ قد كبر سنه وضعف ] ، وله أولاد صغار [ وابتلاهم الله ] في جنتهم ، فبعث الله عليها إعصارا فيه نار فاحترقت ، فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر ، ولا ولده لصغرهم ، فذهبت جنته أحوج ما كان إليها . يقول : أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت ، فيجيء يوم القيامة قد ضل عنه عمله أحوج ما كان إليه ؟ فيقول : ابن آدم ، أتيتني أحوج ما كنت قط إلى خير ، فأين ما قدمت لنفسك ؟

6103 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : وقرأ قول الله - عز وجل - يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ثم ضرب ذلك مثلا فقال : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " حتى بلغ " فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " . قال : جرت أنهارها وثمارها ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت . أيود أحدكم هذا ؟ كما يتجمل أحدكم إذ يخرج من صدقته ونفقته ، حتى إذا كان له عندي جنة وجرت أنهارها وثمارها ، [ ص: 550 ] وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها .

6104 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار " رجل غرس بستانا فيه من كل الثمرات ، فأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره ، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه ، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته . فهذا مثل ضربه الله للكافر ، يقول : يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه ، فلا يجد له عندي خيرا ، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا .

قال أبو جعفر : وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه ؛ لأن الله - جل ثناؤه - تقدم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المن والأذى في صدقاتهم ، ثم ضرب مثلا لمن من وآذى من تصدق عليه بصدقة ، فمثله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس . وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل نظيرة ما ضرب لهم من المثل قبلها ، فكان إلحاقها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثل ما لم يجر له ذكر قبلها ولا معها .

فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " وأصابه الكبر " وهو فعل ماض ، فعطف به على قوله : " أيود أحدكم " ؟

قيل : إن ذلك كذلك ؛ لأن قوله : " أيود " يصح أن يوضع فيه " لو " مكان " أن " فلما صلحت ب " لو " " وأن " ومعناهما جميعا الاستقبال ، استجازت العرب أن [ ص: 551 ] يردوا " فعل " بتأويل " لو " على " يفعل " مع " أن " فلذلك قال : " فأصابها " وهو في مذهبه بمنزلة " لو " إذ ضارعت " أن " في معنى الجزاء ، فوضعت في مواضعها ، وأجيبت " أن " بجواب " لو " " ولو " بجواب " أن " فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب ، تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ؟ .

فإن قال : وكيف قيل ههنا : " وله ذرية ضعفاء " وقال في [ النساء : 9 ] ، ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ) ؟

قيل : لأن " فعيلا " يجمع على " فعلاء " و " فعال " فيقال : " رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف .

وأما " الإعصار " فإنه الريح العاصف ، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود ، تجمع " أعاصير " ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري :


أناس أجارونا فكان جوارهم أعاصير من فسو العراق المبذر
[ ص: 552 ]

قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " إعصار فيه نار فاحترقت " .

فقال بعضهم : معنى ذلك : ريح فيها سموم شديدة .

ذكر من قال ذلك :

6105 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " إعصار فيه نار " ريح فيها سموم شديدة .

6106 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عطية قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في : " إعصار فيه نار " قال : السموم الحارة التي خلق منها الجان ، التي تحرق . [ ص: 553 ]

6107 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " قال : هي السموم الحارة التي لا تبقي أحدا .

6108 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " إعصار فيه نار فاحترقت " التي تقتل .

6109 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عمن ذكره ، عن ابن عباس قال : إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار .

6110 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إعصار فيه نار فاحترقت " هي ريح فيها سموم شديد .

6111 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " إعصار فيه نار " قال : سموم شديد .

6112 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إعصار فيه نار " يقول : أصابها ريح فيها سموم شديدة .

6113 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة نحوه .

6114 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 554 ] السدي : " إعصار فيه نار فاحترقت " أما الإعصار فالريح ، وأما النار فالسموم .

6115 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " إعصار فيه نار " يقول : ريح فيها سموم شديد .

وقال آخرون : هي ريح فيها برد شديد .

ذكر من قال ذلك :

6116 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : كان الحسن يقول في قوله : " إعصار فيه نار فاحترقت " فيها صر وبرد .

6117 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " إعصار فيه نار فاحترقت " يعني بالإعصار : ريح فيها برد .
القول في تأويل قوله : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ( 266 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : كما بين لكم ربكم - تبارك وتعالى - أمر النفقة في سبيله ، وكيف وجهها ، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك ، فيعرفكم أحكامها وحلالها وحرامها ، ويوضح لكم حججها ، إنعاما منه بذلك عليكم " لعلكم تتفكرون " يقول : لتتفكروا بعقولكم ، فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله فيها ، وتعملوا بما فيها من أحكامها ، فتطيعوا الله به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 555 ]

ذكر من قال ذلك :

6118 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري قال : قال مجاهد : " لعلكم تتفكرون " قال : تطيعون .

6119 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .
القول في تأويل قوله : ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه .

ويعني بقوله : " أنفقوا " زكوا وتصدقوا كما : -

6120 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " يقول : تصدقوا .
القول في تأويل قوله : ( من طيبات ما كسبتم )

يعني بذلك - جل ثناؤه - : زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم إما بتجارة ، وإما بصناعة من الذهب والفضة .

ويعني ب " الطيبات " الجياد ، يقول : زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة الجياد منها دون الرديء ، كما : - [ ص: 556 ]

6121 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : من التجارة .

6122 - حدثني موسى بن عبد الرحمن قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : وأخبرني شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد مثله .

6123 - حدثني حاتم بن بكر الضبي قال : حدثنا وهب ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد مثله .

6124 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في قوله : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : التجارة الحلال .

6125 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن معقل : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : ليس في مال المؤمن من خبيث ، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون .

6126 - حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - عن قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : من الذهب والفضة .

6127 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " من طيبات ما كسبتم " قال : التجارة .

6128 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6129 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " يقول : من [ ص: 557 ] أطيب أموالكم وأنفسه .

6130 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : من هذا الذهب والفضة .
القول في تأويل قوله - جل وعز - ( ومما أخرجنا لكم من الأرض )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض ، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير ، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض . كما : -

6131 - حدثني عصام بن رواد قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت عليا - صلوات الله عليه - عن قول الله عز وجل : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " قال : يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة .

6132 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " قال : النخل .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-01-2023, 10:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(364)
الحلقة (378)
صــ 558 إلى صــ 575



6133 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " قال : من ثمر النخل . [ ص: 558 ]

6134 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " قال : من التجارة " ومما أخرجنا لكم من الأرض " من الثمار .

6135 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومما أخرجنا لكم من الأرض " قال : هذا في التمر والحب .
القول في تأويل قوله - جل وعز - ( ولا تيمموا الخبيث )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - " ولا تيمموا الخبيث " ولا تعمدوا ، ولا تقصدوا .

وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( ولا تؤموا ) من " أممت " وهذه من " يممت " والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ .

يقال : " تأممت فلانا " " وتيممته " " وأممته " بمعنى : قصدته وتعمدته ، كما قال ميمون بن قيس الأعشى :


تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن


وكما : - [ ص: 559 ]

6136 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تيمموا الخبيث " ولا تعمدوا .

6137 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ولا تيمموا " لا تعمدوا .

6138 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة مثله .
القول في تأويل قوله : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - ب " الخبيث " : الرديء ، غير الجيد ، يقول : لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه ، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد .

وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف - في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم - صدقة من تمره .

ذكر من قال ذلك :

6139 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض [ ص: 560 ] " إلى قوله : " والله غني حميد " قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز .

فأنزل الله - عز وجل - فيمن فعل ذلك : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون .

6140 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، زعم السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب بنحوه ، إلا أنه قال : فكان يعمد بعضهم ، فيدخل قنو الحشف ويظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء ، فنزل فيمن فعل ذلك : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " القنو الذي قد حشف ، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه .

6141 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء بن عازب قال : كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ [ ص: 561 ] تمرهم وأردإ طعامهم ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " الآية .

6142 - حدثني عصام بن رواد قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني قال : سألت عليا عن قول الله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : فقال علي : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه ، فيعزل الجيد ناحية . فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء ، فقال عز وجل : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " .

6143 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي ، أن ابن شهاب حدثه ، قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله - عز وجل - : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : هو الجعرور ، ولون حبيق ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخذ في الصدقة . [ ص: 562 ]

6144 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : كانوا يتصدقون - يعني من النخل - بحشفه وشراره ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه .

6145 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " إلى قوله : " واعلموا أن الله غني حميد " ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به ، ويخلط فيه من الحشف ، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه .

6146 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به ، ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه .

6147 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن الحسن قال : كان الرجل يتصدق برذالة ماله ، فنزلت : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " .

6148 - حدثنا المثنى قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرنا عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدا يقول : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : في الأقناء التي تعلق ، فرأى فيها حشفا ، فقال : [ ص: 563 ] ما هذا ؟ . قال ابن جريج : سمعت عطاء يقول : علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما هذا ؟ بئسما علق هذا ! ! فنزلت : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب .

ذكر من قال ذلك :

6149 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد - وسألته عن قول الله عز وجل : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " - قال : الخبيث : الحرام ، لا تتيممه تنفق منه ، فإن الله عز وجل لا يقبله .

قال أبو جعفر : وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [ عنه ] من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ لصحة إسناده ] ، واتفاق أهل التأويل في ذلك دون الذي قاله ابن زيد .
القول في تأويل قوله : ( ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم ، " والهاء " في قوله : " بآخذيه " من ذكر الخبيث " إلا أن تغمضوا فيه " يعني : إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم ، فترخصوا فيه لأنفسكم . [ ص: 564 ]

يقال منه : " أغمض فلان لفلان عن بعض حقه ، فهو يغمض ، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم :


لم يفتنا بالوتر قوم وللضي م رجال يرضون بالإغماض


قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم ، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم .

ذكر من قال ذلك :

6150 - حدثنا عصام بن رواد قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت عليا عنه فقال : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له .

6151 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء بن عازب : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه . [ ص: 565 ]

6152 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم ، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه ، فذلك قوله : " إلا أن تغمضوا فيه " فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها ؟ .

وهو قوله : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) . [ سورة آل عمران : 92 ] .

6153 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل .

6154 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر ، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة ، فقال : لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه ، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه .

6155 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه ، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره ؟

6156 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " [ ص: 566 ] إلى قوله : " إلا أن تغمضوا فيه " قال : كانوا - حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة - يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره ، فكره الله ذلك وقال : " أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض " يقول : " لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه ، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم فيأخذ شيئا وهو مغمض عليه أنقص من حقه .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله - بسعر الجيد ، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه .

ذكر من قال ذلك :

6157 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن الحسن : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لو وجدتموه في السوق يباع ، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه .

6158 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه .

وقال آخرون : معناه : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم ، إلا أن تغمضوا فيه ، فتأخذوه وأنتم له كارهون ، على استحياء منكم ممن أهداه لكم .

ذكر من قال ذلك :

6159 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه ، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة . [ ص: 567 ]

6160 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط قال : زعم السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء نحوه ، إلا أنه قال : إلا على استحياء من صاحبه ، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم .

ذكر من قال ذلك :

6161 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن معقل : " ولستم بآخذيه " يقول : ولستم بآخذيه من حق هو لكم " إلا أن تغمضوا فيه " يقول : أغمض لك من حقي .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه .

ذكر من قال ذلك :

6162 - حدثني يونس قال : حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : وسألته عن قوله : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : يقول : لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم . قال : وفي كلام العرب : أما والله لقد أخذه ، ولقد أغمض على ما فيه ، وهو يعلم أنه حرام باطل .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال : إن الله - عز وجل - حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم ، وفرضها عليهم فيها ، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة . ثم أمرهم - تعالى ذكره - أن [ ص: 568 ] يخرجوا من الطيب - وهو الجيد من أموالهم - الطيب . وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم ، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها .

فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه ، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه ، بإعطائه - بمقدار حقه منه - من غيره مما هو أردأ منه أو أخس . فكذلك المزكي ماله حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان - مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق فصاروا فيه شركاء - من الخبيث الرديء غيره ، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد ، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد ، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم .

فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال : زكوا من جيد أموالكم الجيد ، ولا تيمموا الخبيث الرديء تعطونه أهل سهمان الصدقة ، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم ، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم ، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه . يقول : ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق ، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم .

فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة ، فإني - وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه ، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال [ ص: 569 ] وأطيبها ، والصدقة قربان المؤمن - فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد ؛ لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته ، أو لعظم خطره - وأحسن موقعا من المسكين ، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل - من الجيد ؛ لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم .

ذكر من قال ذلك :

6163 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : ذلك في الزكاة ، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة .

6164 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : سألت عبيدة عن ذلك ، فقال : إنما ذلك في الزكاة ، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة .

6165 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه " فقال عبيدة : إنما هذا في الواجب ، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة ، والدرهم الزائف خير من التمرة . [ ص: 570 ]

6166 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين في قوله : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : إنما هذا في الزكاة المفروضة ، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف ، والدرهم الزائف خير من التمرة .
القول في تأويل قوله : ( واعلموا أن الله غني حميد ( 267 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : واعلموا أيها الناس أن الله - عز وجل - غني عن صدقاتكم وعن غيرها ، وإنما أمركم بها ، وفرضها في أموالكم ؛ رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم ،

ويقوي بها ضعيفكم ، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم ، لا من حاجة به فيها إليكم .

ويعني بقوله : " حميد " أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه ، وبسط لهم من فضله ، كما : -

6167 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قوله والله غني حميد " عن صدقاتكم .
[ ص: 571 ] القول في تأويل قوله : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - تعالى ذكره - : " الشيطان يعدكم " أيها الناس - بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم - أن تفتقروا " ويأمركم بالفحشاء " يعني : ويأمركم بمعاصي الله - عز وجل - وترك طاعته " والله يعدكم مغفرة منه " يعني أن الله - عز وجل - يعدكم أيها المؤمنون أن يستر عليكم فحشاءكم بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها ، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون " وفضلا " يعني : ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم ، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم .

كما : -

6168 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : اثنان من الله ، واثنان من الشيطان : " الشيطان يعدكم الفقر " يقول : لا تنفق مالك ، وأمسكه عليك ، فإنك تحتاج إليه ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه " على هذه المعاصي " وفضلا " في الرزق .

6169 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " يقول : مغفرة لفحشائكم ، وفضلا لفقركم .

6170 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، [ ص: 572 ] عن مرة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة : فأما لمة الشيطان ، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق . وأما لمة الملك ، فإيعاد بالخير ، وتصديق بالحق . فمن وجد ذلك ، فليعلم أنه من الله وليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " . [ ص: 573 ]

6171 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان قال : حدثنا عمرو ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة ، عن عبد الله قال : إن للإنسان من الملك لمة ، ومن الشيطان لمة . فاللمة من الملك إيعاد بالخير ، وتصديق بالحق ، واللمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق . وتلا عبد الله : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " . قال عمرو : وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال : إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله ، وليسأله من فضله ، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا ، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان .

6172 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص أو عن مرة قال : قال عبد الله : ألا إن للملك لمة وللشيطان لمة . فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وذلكم بأن الله يقول :

" الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه ، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان . [ ص: 574 ]

6173 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " قال : إن للملك لمة ، وللشيطان لمة . فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجدها فليحمد الله . ولمة الشيطان : إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجدها فليستعذ بالله .

6174 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال : إن للملك لمة ، وللشيطان لمة . فلمة الملك : إيعاده بالخير وتصديق بالحق . ولمة الشيطان : إيعاد بالشر وتكذيب بالحق . فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه ، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه . ثم تلا هذه الآية الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " . .

6175 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن فطر ، عن المسيب بن رافع ، عن عامر بن عبدة ، عن عبد الله بنحوه . [ ص: 575 ]

6176 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن للشيطان لمة ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر ، وأما لمة الملك : فإيعاد بالخير وتصديق بالحق . فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه . ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان . ثم قرأ : " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " . .
القول في تأويل قوله : ( والله واسع عليم ( 268 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - : والله واسع الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه " عليم " بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها ، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30-01-2023, 10:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(365)
الحلقة (379)
صــ 576 إلى صــ 602




[ ص: 576 ] القول في تأويل قوله : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم ، فقد أوتي خيرا كثيرا .

واختلف أهل التأويل في ذلك .

فقال بعضهم ، " الحكمة " التي ذكرها الله في هذا الموضع ، هي : القرآن والفقه به .

ذكر من قال ذلك :

6177 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .

6178 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء " قال : الحكمة : القرآن ، والفقه في القرآن .

6179 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " والحكمة : الفقه في القرآن .

6180 - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا مهدي بن ميمون قال : حدثنا شعيب بن الحبحاب ، عن أبي العالية : [ ص: 577 ] " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " قال : الكتاب والفهم به .

6181 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء " الآية ، قال : ليست بالنبوة ، ولكنه القرآن والعلم والفقه .

6182 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : الفقه في القرآن .

وقال آخرون : معنى " الحكمة " الإصابة في القول والفعل .

ذكر من قال ذلك :

6183 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت مجاهدا قال : " ومن يؤت الحكمة " قال : الإصابة .

6184 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " يؤتي الحكمة من يشاء " قال : يؤتي الإصابة من يشاء .

6185 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يؤتي الحكمة من يشاء " قال : الكتاب ، يؤتي إصابته من يشاء . [ ص: 578 ]

وقال آخرون : هو العلم بالدين .

ذكر من قال ذلك :

6186 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد يؤتي الحكمة من يشاء " : العقل في الدين ، وقرأ : " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " .

6187 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : الحكمة : العقل .

6188 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قلت لمالك : وما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه فيه ، والاتباع له .

وقال آخرون : " الحكمة " الفهم .

ذكر من قال ذلك :

6190 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم قال : الحكمة : هي الفهم .

وقال آخرون : هي الخشية .

ذكر من قال ذلك :

6191 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة " الآية ، قال : " الحكمة " الخشية ؛ لأن رأس كل شيء خشية الله . وقرأ : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . [ سورة فاطر : 28 ] . [ ص: 579 ]

وقال آخرون : هي النبوة .

ذكر من قال ذلك :

6192 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة " الآية ، قال : الحكمة : هي النبوة .

وقد بينا فيما مضى معنى " الحكمة " - وأنها مأخوذة من " الحكم " وفصل القضاء ، وأنها الإصابة - بما دل على صحته ، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع .

وإذا كان ذلك كذلك معناه ، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك ؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة . وإذا كان ذلك كذلك ، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما وكانت النبوة من أقسامه . لأن الأنبياء مسددون مفهمون ، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور ، " والنبوة " بعض معاني " الحكمة " .

فتأويل الكلام : يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء ، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا .
[ ص: 580 ] القول في تأويل قوله : ( وما يذكر إلا أولو الألباب ( 269 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به وغيرهم فيها وفي غيرها من آي كتابه - فيذكر وعده ووعيده فيها ، فينزجر عما زجره عنه ربه ، ويطيعه فيما أمره به - " إلا أولو الألباب " يعني : إلا أولو العقول ، الذين عقلوا عن الله - عز وجل - أمره ونهيه .

فأخبر - جل ثناؤه - أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم ، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهى والعقول .
القول في تأويل قوله : ( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار ( 270 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وأي نفقة أنفقتم - يعني : أي صدقة تصدقتم - أو أي نذر نذرتم - يعني " بالنذر " ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله ، وتقربا به إليه - من صدقة أو عمل خير " فإن الله يعلمه " [ ص: 581 ] أي إن جميع ذلك بعلم الله ، لا يعزب عنه منه شيء ، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير ، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك .

فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه ، جازاه بالذي وعده من التضعيف ، ومن كانت نفقته وصدقته رئاء الناس ونذوره للشيطان ، جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب كالذي : -

6193 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه " ويحصيه .

6194 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

ثم أوعد - جل ثناؤه - من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال : " وما للظالمين من أنصار " يعني : وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله ، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته " من أنصار " وهم جمع " نصير" كما " الأشراف " جمع " شريف " . ويعني بقوله : " من أنصار " من ينصرهم من الله يوم القيامة ، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش ، ولا بفدية .

وقد دللنا على أن " الظالم " هو الواضع للشيء في غير موضعه .

وإنما سمى الله المنفق رياء الناس ، والناذر في غير طاعته ظالما ؛ لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ، ونذره في غير ما له وضعه فيه ، فكان ذلك ظلمه . [ ص: 582 ]

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال : " فإن الله يعلمه " ولم يقل : " يعلمهما " وقد ذكر النذر والنفقة .

قيل : إنما قال : " فإن الله يعلمه " لأنه أراد : فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم ، فلذلك وحد الكناية .
القول في تأويل قوله ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " إن تبدوا الصدقات " إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه " فنعما هي " يقول : فنعم الشيء هي " وإن تخفوها " يقول : وإن تستروها فلم تعلنوها " وتؤتوها الفقراء " يعني : وتعطوها الفقراء في السر " فهو خير لكم " يقول : فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها . وذلك في صدقة التطوع كما : -

6195 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " كل مقبول إذا كانت النية صادقة ، وصدقة السر أفضل . وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار .

6196 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " قال : كل مقبول إذا كانت النية صادقة ، [ ص: 583 ] والصدقة في السر أفضل . وكان يقول : إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار .

6197 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة : علانيتها أفضل من سرها ، يقال بخمسة وعشرين ضعفا ، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها .

6198 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال : حدثنا عبد الله بن عثمان قال : حدثنا عبد الله بن المبارك قال : سمعت سفيان يقول في قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " قال : يقول : هو سوى الزكاة . .

وقال آخرون : إنما عنى الله - عز وجل - بقوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي ، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم . قالوا : وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع فإخفاؤه أفضل من علانيته .

ذكر من قال ذلك :

6199 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني عبد الرحمن بن شريح ، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول : إنما نزلت هذه الآية : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " في الصدقة على اليهود والنصارى . [ ص: 584 ]

6200 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال : أخبرنا عبد الله بن عثمان قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر قال عبد الله : أحب أن تعطى في العلانية يعني الزكاة .

قال أبو جعفر : ولم يخصص الله من قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " [ شيئا دون شيء ] ، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة ، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة ، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية ، حكم سائر الفرائض غيرها .
القول في تأويل قوله ( ويكفر عنكم من سيئاتكم )

قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك .

فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه : " وتكفر عنكم " بالتاء .

ومن قرأه كذلك ، فإنه يعني به : وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم .

وقرأ آخرون : ( ويكفر عنكم ) بالياء ، بمعنى : ويكفر الله عنكم بصدقاتكم - على ما ذكر في الآية - من سيئاتكم . [ ص: 585 ]

وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة ، " ونكفر عنكم " بالنون وجزم الحرف ، يعني : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم بمعنى : مجازاة الله - عز وجل - مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها .

قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ : " ونكفر عنكم " بالنون وجزم الحرف ، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته بتكفير سيئاته . وإذا قرئ كذلك فهو مجزوم على موضع " الفاء " في قوله : " فهو خير لكم " ؛ لأن " الفاء " هنالك حلت محل جواب الجزاء .

فإن قال لنا قائل : وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع " الفاء " وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء ، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع ، وإنما الجزم تجويزه ؟ .

قيل : اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير - أعني تكفير الله من سيئات المصدق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته ؛ لأن ذلك إذا جزم مؤذن بما قلنا لا محالة ، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به ، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين ، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم ؛ لأن ما بعد " الفاء " في جواب الجزاء استئناف ، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه في أنه غير داخل في الجزاء ، ولذلك من العلة ، اخترنا جزم " نكفر " عطفا به على موضع [ ص: 586 ] الفاء من قوله : " فهو خير لكم " وقراءته بالنون .

فإن قال قائل : وما وجه دخول " من " في قوله : " ونكفر عنكم من سيئاتكم " قيل : وجه دخولها في ذلك بمعنى : ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها ؛ ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه .

وقال بعض نحويي البصرة : معنى " من " الإسقاط من هذا الموضع ، ويتأول معنى ذلك : ونكفر عنكم سيئاتكم .
القول في تأويل قوله ( والله بما تعملون خبير ( 271 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " والله بما تعملون " في صدقاتكم - من إخفائها ، وإعلان وإسرار بها وجهار ، وفي غير ذلك من أعمالكم - " خبير " يعني بذلك ذو خبرة وعلم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فهو بجميعه محيط ، ولكله محص على أهله ، حتى يوفيهم ثواب جميعه ، وجزاء قليله وكثيره .
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 30-01-2023, 10:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(366)
الحلقة (380)
صــ 576 إلى صــ 602



[ ص: 587 ] القول في تأويل قوله - عز وجل - ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( 272 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام فتمنعهم صدقة التطوع ، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها ، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له ، فلا تمنعهم الصدقة كما : -

6201 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن شعبة قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتصدق على المشركين ، فنزلت : " وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " فتصدق عليهم .

6202 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو داود ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين ، فنزلت : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " . .

6203 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، [ ص: 588 ] عن سعيد بن جبير قال : كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين ، حتى نزلت : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " .

6204 - حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق قالا : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين ، فنزلت : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " فرخص لهم .

6205 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير ، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ، ويريدونهم أن يسلموا ، فنزلت : " ليس عليك هداهم . . . " الآية .

6206 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا : أنتصدق على من ليس من أهل ديننا ؟ فأنزل الله في ذلك القرآن : " ليس عليك هداهم " .

6207 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " قال : كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج ، فلا يتصدق عليه ، يقول : ليس من أهل ديني ! ! فأنزل الله - عز وجل - : " ليس عليك هداهم " الآية .

6208 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 589 ] السدي قوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " أما " ليس عليك هداهم " فيعني المشركين ، وأما " النفقة " فبين أهلها .

6209 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : كانوا يتصدقون [ على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم . فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام ] .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كما : -

6210 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " قال : هو مردود عليك ، فما لك ولهذا تؤذيه وتمن عليه ؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله ، والله يجزيك .
[ ص: 590 ] القول في تأويل قوله ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ( 273 ) )

قال أبو جعفر : أما قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " فبيان من الله - عز وجل - عن سبيل النفقة ووجهها . ومعنى الكلام : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله .

" واللام " التي في " الفقراء " مردودة على موضع " اللام " في " فلأنفسكم " كأنه قال : " وما تنفقوا من خير " - يعني به : وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . فلما اعترض في الكلام بقوله : " فلأنفسكم " فأدخل " الفاء " التي هي جواب الجزاء فيه ، تركت إعادتها في قوله : " للفقراء " إذ كان الكلام مفهوما معناه كما : -

6211 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " أما : " ليس عليك هداهم " فيعني المشركين . وأما " النفقة " فبين أهلها ، فقال : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " . .

وقيل : إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 591 ]

6212 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " مهاجري قريش بالمدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصدقة عليهم .

6213 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " الآية ، قال : هم فقراء المهاجرين بالمدينة .

6214 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدى : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " قال : فقراء المهاجرين .
القول في تأويل قوله عز وجل ( الذين أحصروا في سبيل الله )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : الذين جعلهم جهادهم عدوهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرفا .

وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى " الإحصار " تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوه وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرف في أسبابه ، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 592 ]

6215 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " الذين أحصروا في سبيل الله " قال : حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو .

6216 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " قال : كانت الأرض كلها كفرا ، لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله ، إذا خرج خرج في كفر . وقيل : كانت الأرض كلها حربا على أهل هذا البلد ، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو ، فقال الله - عز وجل - : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " الآية ، كانوا ههنا في سبيل الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرف .

ذكر من قال ذلك :

6217 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " حصرهم المشركون في المدينة .

قال أبو جعفر : ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدي ، لكان الكلام : للفقراء الذين حصروا في سبيل الله ، ولكنه " أحصروا " فدل ذلك على أن خوفهم من العدو الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حبسوا - وهم في سبيل الله - أنفسهم ، لا أن العدو هم كانوا الحابسيهم .

وإنما يقال لمن حبسه العدو : " حصره العدو " وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدو ، قيل : " أحصره خوف العدو " .
[ ص: 593 ] القول في تأويل قوله ( لا يستطيعون ضربا في الأرض )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لا يستطيعون تقلبا في الأرض ، وسفرا في البلاد ، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب ، فيستغنوا عن الصدقات ، رهبة العدو وخوفا على أنفسهم منهم ، كما : -

6218 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " لا يستطيعون ضربا في الأرض " حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدو ، فلا يستطيعون تجارة .

6219 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يستطيعون ضربا في الأرض " يعني التجارة .

6220 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد قوله لا يستطيعون ضربا في الأرض " كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله .
القول في تأويل قوله ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف )

قال أبو جعفر : يعني بذلك : " يحسبهم الجاهل " بأمرهم وحالهم " أغنياء " من تعففهم عن المسألة ، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس ، صبرا منهم على البأساء والضراء ، كما : -

6221 - حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 594 ] قوله : " يحسبهم الجاهل أغنياء ، يقول : يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف .

ويعني بقوله : " من التعفف " من ترك مسألة الناس .

وهو " التفعل " من " العفة " عن الشيء ، والعفة عن الشيء تركه ، كما قال رؤبة :


فعف عن أسرارها بعد العسق


يعني برئ وتجنب .
القول في تأويل قوله ( تعرفهم بسيماهم )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : "تعرفهم " يا محمد " بسيماهم " يعني بعلامتهم وآثارهم ، من قول الله - عز وجل - : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) [ سورة الفتح : 29 ] هذه لغة قريش . ومن العرب من يقول : " بسيمائهم " فيمدها .

وأما ثقيف وبعض أسد فإنهم يقولون : " بسيميائهم " ; ومن ذلك قول الشاعر : . [ ص: 595 ]


غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
[ ص: 596 ]

وقد اختلف أهل التأويل في " السيما " التي أخبر الله - جل ثناؤه - أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصف صفتهم ، وأنهم يعرفون بها .

فقال بعضهم : هو التخشع والتواضع .

ذكر من قال ذلك :

6222 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " تعرفهم بسيماهم " قال : التخشع .

6223 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6224 - حدثني المثنى قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث قال : كان مجاهد يقول : هو التخشع .

وقال آخرون يعني بذلك : تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم .

ذكر من قال ذلك :

6225 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " تعرفهم بسيماهم " بسيما الفقر عليهم .

6226 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " تعرفهم بسيماهم " يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة .

وقال آخرون : معنى ذلك : تعرفهم برثاثة ثيابهم . وقالوا : الجوع خفي .

ذكر من قال ذلك :

6227 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : [ ص: 597 ] " تعرفهم بسيماهم " قال : السيما : رثاثة ثيابهم ، والجوع خفي على الناس ، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [ أن ] تخفى على الناس .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله - عز وجل - أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعيان ، فيعرفهم وأصحابه بها ، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة .

وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم ، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضر ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب ، وأن تكون كانت جميع ذلك ، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان ، ويعلم أنها من الحاجة والضر بالمعاينة دون الوصف . وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظير آثار المجهود من الفاقة والحاجة ، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثياب الرثة ، فيتزيى بزي أهل الحاجة ، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختل ذو فاقة . وإنما يدرى ذلك عند المعاينة بسيماه ، كما وصف الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته .
القول في تأويل قوله ( لا يسألون الناس إلحافا )

قال أبو جعفر : يقال : " قد ألحف السائل في مسألته " إذا ألح " فهو يلحف فيها إلحافا " . [ ص: 598 ]

فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف ؟

قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة إلحافا أو غير إلحاف ، وذلك أن الله - عز وجل - وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم . فلو كانت المسألة من شأنهم ، لم تكن صفتهم التعفف ، ولم يكن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تنبئ عن حالهم وأمرهم .

وفي الخبر الذي : -

6228 - حدثنا به بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن هلال بن حصن ، عن أبي سعيد الخدري قال : أعوزنا مرة فقيل لي : لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته ! فانطلقت إليه معنقا ، فكان أول ما واجهني به : " من استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن سألنا لم ندخر عنه شيئا نجده " . قال : فرجعت إلى نفسي ، فقلت : ألا أستعف فيعفني الله ! فرجعت ، فما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا بعد ذلك من أمر حاجة ، حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا ، إلا من عصم الله . [ ص: 599 ]

.

الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد ، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : " لا يسألون الناس إلحافا " وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف .

قيل له : وجه ذلك أن الله - تعالى ذكره - لما وصفهم بالتعفف ، وعرف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله : " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " وأنهم إنما يعرفون بالسيما - زاد عباده إبانة لأمرهم ، وحسن ثناء عليهم ، بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحين من السؤال عنهم .

وقد كان بعض القائلين يقول : ذلك نظير قول القائل : " قلما رأيت مثل [ ص: 600 ] فلان " ! ولعله لم ير مثله أحدا ولا نظيرا .

وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6229 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يسألون الناس إلحافا " قال : لا يلحفون في المسألة .

6230 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا يسألون الناس إلحافا " قال : هو الذي يلح في المسألة .

6231 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يسألون الناس إلحافا " ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " إن الله يحب الحليم الغني المتعفف ، ويبغض الغني الفاحش البذىء السائل الملحف قال : وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : إن الله - عز وجل - كره لكم ثلاثا : قيلا وقالا وإضاعة المال ، وكثرة السؤال . فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدر ليلته ، حتى يلقى جيفة على فراشه ، لا يجعل الله له من نهاره ولا ليلته نصيبا . وإذا شئت رأيته ذا مال [ ينفقه ] في شهوته ولذاته وملاعبه ويعدله عن حق الله ، فذلك إضاعة المال ، وإذا شئت رأيته باسطا ذراعيه ، يسأل الناس في كفيه ، فإذا أعطي أفرط في مدحهم ، وإن منع أفرط في ذمهم .

[ ص: 601 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 274 ) )

[ قال أبو جعفر ] :
6232 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا معتمر ، عن أيمن بن نابل قال : حدثني شيخ من غافق : أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن . فيقول : أهل هذه - يعني الخيل - من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

وقال آخرون : عنى بذلك قوما أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير .

ذكر من قال ذلك :

6233 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 602 ] قوله : " الذين ينفقون أموالهم " إلى قوله : " ولا هم يحزنون " هؤلاء أهل الجنة .

ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : المكثرون هم الأسفلون . قالوا : يا نبي الله إلا من ؟ قال : المكثرون هم الأسفلون ، قالوا : يا نبي الله إلا من ؟ قال : المكثرون هم الأسفلون . قالوا : يا نبي الله ، إلا من ؟ حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها رد ، حتى قال : " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ، عن يمينه وعن شماله ، وهكذا بين يديه ، وهكذا خلفه ، وقليل ما هم [ قال ] : هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى ، في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد .

وقد قيل إن هذه الآيات من قوله : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " إلى قوله : " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " كان مما يعمل به قبل نزول ما في " سورة براءة " من تفصيل الزكوات ، فلما نزلت " براءة " قصروا عليها .

ذكر من قال ذلك :

6234 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " إلى قوله : " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فكان هذا يعمل به قبل أن تنزل " براءة " فلما نزلت " براءة " بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 108 ( الأعضاء 0 والزوار 108)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 599.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 593.90 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (0.98%)]