«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 45 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         لا يحدّث فيهما نفسه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          طالب العلم المبهر حقًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الإيمان والإلحاد: من تعليم الأسماء إلى انهيار المعنى والحضارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          النفوس المشرقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          من مقتضيات كلمة التوحيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الصدق منجاة والكذب مهواة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          احذر المرةَ الأولى! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ترسيخ اليقين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          لإزالة عقوبة الذنوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          ( الزوجة الصالحة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-12-2024, 07:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 10 - 13].

1- أن الكفار لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، فلن ترفع ما وقع عليهم من عذاب الله تعالى، ولن تمنع عنهم ما لم يقع، ولا تعوضهم ما فقدوا من رحمة الله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾، وهذا بخلاف المؤمنين فإنهم ينتفعون بأموالهم بالصدقة، وبأولادهم بالدعاء ونحو ذلك وتكون من أسباب رحمة الله تعالى بهم.

2- إثبات الملكية الخاصة للكفار؛ لقوله تعالى: ﴿ أَمْوَالُهُمْ ﴾، فلا يجوز استباحة أموالهم إلا إذا كانوا محاربين للمسلمين.

3- أن أولاد الكفار ينسبون إليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْلَادُهُمْ ﴾.

4- إمداد الله للكفار بالأموال والأولاد كغيرهم؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].

5- قدرة الله تعالى التامة وقوته التي لا تقهر، ونفوذ أمره فلا تغني الكفار أموالهم ولا أولادهم منه شيئًا.

6- الحذر من الانشغال بالأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى، ومن الاغترار بها فهي قد تضر ولا تنفع.

7- أن الكفار هم وقود النار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾.

8- التحذير من الكفر والوعيد للكافرين بالنار.

9- إثبات النار وعذابها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُودُ النَّارِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾.

10- سلوك الكفار من هذه الأمة مسلك آل فرعون والذين من قبلهم بتكذيب آيات الله؛ لقوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾.

11- تكذيب آل فرعون ومن قبلهم بآيات الله وشدة تكذيب آل فرعون وطغيانهم، للتنصيص عليهم دون غيرهم، كيف؟! وقد ادعى فرعون الربوبية والألوهية.

12- إقامة الله - عز وجل - الحجة على الخلق بما آتاهم من الآيات الكونية والشرعية الدالة على ربوبيته وألوهيته وكمال صفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾.
13- تعظيم الله - عز وجل - لنفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ بضمير العظمة؛ لأنه العظيم سبحانه وتعالى.

14- أخذه - عز وجل - لفرعون وقومه والمكذبين قبلهم بآيات الله، وإهلاكهم بسبب ذنوبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وفي هذا رد على من زعم أن فرعون نجا من العذاب مستدلًا بقوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92].

وليس المراد في هذه الآية أنه نجا من العذاب، وإنما المراد بها أن الله أنجاه ببدنه؛ أي: بجثته فقط؛ حيث رمى بها الموج خارج البحر؛ ليتأكد بنو إسرائيل من هلاكه، فيطمئنوا لأنه قد أرعبهم وأرهبهم بجبروته، فلا يكادون يصدقون بأنه هلك حتى يعاينوا جثته، وليكون آية لمن خلفه، أما روحه فهي في العذاب، كما قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].

15- التهديد والوعيد للمكذبين من هذه الأمة بأخذهم وإهلاكهم بسبب ذنوبهم كالمكذبين من آل فرعون ومن قبلهم.

16- تشابه مواقف المكذبين بآيات الله ورسله، كما قال تعالى: ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 53].

17- أن ما يصيب الناس من عقوبات إنما هو بسبب ذنوبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾، ومفهوم هذا إثبات العدل له - عز وجل - فلا يعاقب أحدًا إلا بذنب، ولا يظلم أحدًا من خلقه.

18- إثبات الأفعال الاختيارية للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ فأضاف الذنوب إليهم، وقوله تعالى: ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، فأضاف الفعل إليهم، وفي هذا رد على الجبرية الذين ينفون الاختيار للإنسان، ويقولون: إنه كالسعفة في الهواء ونحو ذلك.

19- شدة وقوة عقاب الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

20- التحذير من عقاب الله وشدته.

21- أن القرآن من عند الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾، وفي هذا رد على من يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم افترى القرآن وتقوله من عند نفسه.

22- أهمية هذا الخبر الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يبلغه للكافرين؛ لقوله تعالى: ﴿ قل ﴾.

23- تخويف الكافرين وإرعابهم وإرهابهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾.

وفي هذا بشارة للمؤمنين بالغلبة وتقوية لقلوبهم ومعنوياتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، ووعد الله لا يتخلف إذا صدق المسلمون الله.

24- الوعيد والتهديد للكافرين بجمعهم وحشرهم إلى جهنم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾.

25- الجمع للكافرين بين عقوبة الدنيا والآخرة؛ عقوبة الدنيا بهزيمتهم وغلبة المؤمنين لهم، وعقوبة الآخرة بجمعهم وحشرهم إلى جهنم.

26- شدة ظلمة النار وجهمتها وحرها، وبعد قعرها؛ لهذا سميت جهنم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾.

27- ذم جهنم وأنها بئست المهاد والفراش؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

28- ضرب الأمثال والتوجيه لأخذ العبر والعظات من الأمور والأحداث الواقعة؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ الآية.

29- زيادة التصديق والطمأنينة في ربط الخبر والوعيد بحدث وأمر واقع مشاهد محسوس ليجتمع للمخاطب مع علم اليقين- وهو الخبر الصادق- عين اليقين وهو مشاهدة الحدث الواقع؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].

فهو عليه الصلاة والسلام مؤمن مصدق بأن الله يحيي الموتى، ولكنه أراد أن يجمع الله له مع علم اليقين عين اليقين، فيرى ذلك بعينه. وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان»[1].

30- أن القتال المشروع ما كان في سبيل الله، أي في سبيل إعلاء كلمة الله، خالصًا لله تعالى، موافقًا للشرع؛ لقوله تعالى: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

31- أن الغلبة والنصرة ليس بكثرة العدد والعدة، وإنما ذلك بتأييد الله تعالى ونصره للذين صدقوا الله في القتال في سبيله؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

كما قال تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، وقال تعالى: ﴿ لَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ﴾ [الحج: 40، 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

وهكذا كانت الغلبة والنصرة للمؤمنين في عهود الإسلام الزاهرة، وفاءً بوعد الله تعالى بقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

أيام كان المسلمون أعزة
في دينهم والعود صلب المكسر
أيام كان الدين ملء نفوسهم
وأتوا على كسرى العظيم وقيصر[2]


32- أن ما كان من القتال في غير سبيل الله فهو في سبيل الكفر وأهله، سبيل الطاغوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].

33- أن الله عز وجل قد يُري المقاتلين من كل فئة الفئة الأخرى مثليهم ليكون ذلك من أسباب نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين؛ لقوله تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾.

ولا يعارض هذا قوله تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44]، فهذا في حال وذاك في حال أخرى.

فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأوهم مثليهم، ليستعد المسلمون ويتوجهوا إلى الله في طلب العون والنصر، وليحصل للكفار الخوف والرعب والوهن، وعندما التحم الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء؛ ليقدم كل منهما على الآخر، ويتم ما أراده الله من نصر المسلمين وهزيمة الكافرين، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل.

عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.

قال: هذا يوم بدر؛ قال عبدالله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قول الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44] [3].

وقيل: قللوا في أعين بعضهم أولًا ليجترئ كل منهما على الآخر، ثم لما التحم القتال رأى كل فريق الآخر مثليهم.

34- الإشارة إلى أنه ليس الخبر كالعيان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾.

35- تأييد الله تعالى بنصره من يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

36- إثبات الأفعال لله تعالى، والمشيئة، وأنه تعالى يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾[البروج: 16]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1].

37- الترغيب في التوجه إلى الله تعالى وسؤاله النصر، والتوكل عليه مع بذل أسباب النصر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

38- أن فيما ذكر من التقاء الفئتين المتقاتلتين، ورؤية إحداهما الأخرى مثليها، وتأييد الله بنصره للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة عبرة وعظة لأصحاب الأبصار والبصائر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.

39- أنه لا يعتبر بالوقائع والأحداث إلا أصحاب البصائر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.

40- الترغيب في أخذ العبرة والعظة من الوقائع؛ لأن الله أثنى على أهل البصائر وخصَّهم بالاعتبار، ويفهم من هذا ذم أهل الغفلة وعمي القلوب والبصائر.

[1] أخرجه أحمد (1/ 215)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[2] البيتان للشاعر محمد صادق عرنوس، من قصيدة نشرها في صحيفة الفتح، العدد 207، بتاريخ 14 صفر 1349هـ. انظر: «الوحدة الإسلامية في الشعر العربي الحديث» (ص166). والبيتان فيه بلفظ:
أيام كان المسلمون بحالة
مرهوبة والعود صلب المكسر
أيام كان الدين ملء قلوبهم
فأتوا على كسرى العظيم وقيصر


[3] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 246)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 606).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-01-2025, 02:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



الوجه الثالث: أنه قال: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾، فأضاف العندية إلى «الرب» الذي: معناه الخالق المالك المتصرف، المربي لعباده بجميع النعم، ذو العناية التامة بهم، ومربيهم بربوبيته الخاصة؛ ولهذا أضاف اسم «الرب» إلى ضميرهم تشريفًا وتكريمًا لهم.

﴿ جَنَّاتٌ ﴾ «جنات» جمع «جَنة» وأصل الجنة البستان، سمي بذلك لأنه يجن ويستر من بداخله بأشجاره وثماره الملتفة.

والمراد بها في الآية البساتين والمنازل التي أعدها الله للمتقين، مما لا تقاس به بساتين الدنيا ومنازلها؛ أي: لهم جنات كثيرة متعددة ومتنوعة، كما قال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]، ثم قال: ﴿ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 62].

وقال صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن»[24].

﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ صفة لـ«جنات» لأن الجمل بعد النكرات صفات؛ أي: تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار؛ كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ [محمد: 15].

وهي تجري بغير أخدود يصرفها أهل الجنة حيث شاؤوا؛ قال ابن القيم[25]:
أنهارها في غير أخدود جرت
سبحان ممسكها عن الفيضان




﴿ خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقيمين فيها إقامة أبدية لا تحول ولا تزول، فلاهي تفنى، ولا هم يخرجون منها، وقال صلى الله عليه وسلم: «ينادي منادٍ إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43] [26].

﴿ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾: معطوف على ﴿ جَنَّاتٌ ﴾، أي: ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ﴾، ولهم «أزواج مطهرة»، وعطفها على ﴿ جَنَّاتٌ﴾؛ لاختلاف أنواع التلذذ، وهو أشبه بعطف الخاص على العام؛ لأن التمتع بالأزواج من أعظم نعيم الجنة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾ [يس: 55، 56].

وهذه الأزواج المطهرة من أزواجهم في الدنيا، ومن الحور العين.

ومعنى ﴿ مطهرة ﴾؛ أي: مطهرة خلْقًا وخُلُقًا، أي: مطهرة من النجاسات الحسية، كالحيض والنفاس والبول والغائط والمني والمخاط وسائر الأدناس ونحو ذلك.

ومن الأرجاس المعنوية، كالغل والحقد والحسد والغيرة والفحش وسوء الخلق، ونحو ذلك.

﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾: معطوف على ﴿ جَنَّاتٌ ﴾، فذكر أولًا الجنات وهي المنازل والمساكن وما فيها من أنواع النعيم الحسي، ومن ذلك الأزواج المطهرة، ثم أتبع ذلك بذكر ما هو أعظم من ذلك كله، وهو النعيم المعنوي الروحي وهو: «رضوان الله عليهم».

قرأ أبو بكر عن عاصم بضم الراء: «ورُضوان»، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ وَرِضْوَانٌ ﴾.

وأظهر في مقام الإضمار، فلم يقل: «ورضوان منه»، بل قال: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ لتعظيم ذلك الرضوان، كما قال تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [التوبة: 72]؛ أي: ورضوان من الله تعالى عليهم، فلا يسخط عليهم أبدًا، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»[27].

وأعظم من ذلك كله النظر إلى وجه الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال صلى الله عليه وسلم[28].

وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»[29].

﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: والله مطلع على العباد، خبير بهم لا يخفى عليه منهم خافية.

والمراد بالعبودية هنا العبودية العامة: عبودية الخلق والملك والتدبير، فهو بصير بالعباد كلهم يعلم من آثر الشهوات ومتاع الحياة الدنيا، ومن اختار الآخرة وما فيها من ألوان النعيم، يوفق من شاء بفضله، ويخذل من شاء بعدله، ويجازي كلًا بعمله. وفي هذا وعد لمن اتقى الله ووعيد لمن خالف أمره وعصاه.

قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾.

هاتان الآيتان وصف ونعت للذين اتقوا في قوله: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.

قوله: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ﴾ يا ربنا ﴿ إِنَّنَا آمَنَّا﴾؛ أي: صدقنا بألسنتنا وقلوبنا بك يا ربنا وبكتبك ورسلك، وبكل ما يجب الإيمان به، وانقدنا بجوارحنا لشرعك.

وقد أكَّدوا هذا بـ«إنَّ»، ودعوا الله عز وجل وتوسلوا إليه باسم الربوبية الذي مقتضاه العناية والرعاية، والذي كان به جل دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين.

﴿ فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾: الفاء: عاطفة سببية، فتوسلوا إلى الله بإيمانهم، أي: بسبب إيمانهم أن يغفر ذنوبهم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].

والمعنى: استر ذنوبنا وتجاوز عنها، والذنوب هي السيئات والمعاصي كبيرها وصغيرها.

والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في المناجاة: «أن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول الله تعالى: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك»[30].

ومنه سُمِّي المغفر وهو «البيضة» التي توضع على الرأس في القتال تستره وتقيه السهام، وحيث اجتمع سؤال المغفرة والتوبة، فتبدل سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].

قوله: ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾؛ أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، بتوفيقنا للعمل الصالح، والبعد عن العمل الذي يوجب عذاب النار، وبالعفو عما يقع منا من نقص أو تفريط، وإنما خصوا مسألتهم بالمغفرة لذنوبهم ووقايتهم عذاب النار؛ لأن من غفرت ذنوبه، وزحزح عن النار فقد فاز؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]، وليس ثمة دار غير الجنة والنار، فمن وُقِيَ عذاب النار فمآله الجنة دار الأبرار.
الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ
يا ليْتَ شعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ
الدَّارُ جنَّة ُ عدن إنْ عمِلتَ بِمَا
يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ فَرَّطت، فالنّارُ
هما محلان ما للناس غيرهما
فاختر لنفسك ماذا أنت تختار[31]


قوله تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾.

هذا- كما سبق- من نعت ووصف «الذين اتقوا».

قوله: ﴿ الصَّابِرِينَ﴾ الصابرين: جمع «صابر»؛ أي: الصابرين على فعل الطاعات وترك المحرمات وعلى أقدار الله.

والصبر لغة: الحبس، وهو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عما حرم الله.

وهو أنواع ثلاثة: أعظمها وأفضلها: الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة[32].

﴿ وَالصَّادِقِينَ﴾: معطوف هو وما بعده على ﴿ الصَّابِرِينَ﴾.

و«الصادقين» جمع «صادق» والصدقة موافقة الباطن للظاهر، ومطابقة الخبر للواقع، والصدق يكون أولًا مع الله تعالى، كما يكون مع النفس، ويكون مع الخلق؛ أي: والصادقين مع الله في الإيمان باطنًا وظاهرًا، والإخلاص لله - عز وجل - والمتابعة لشرعه، وفعل أمره واجتناب نهيه.

والصادقين مع أنفسهم بالاجتهاد بطلب سعادتها ونجاتها وخلاصها، وعدم تعريضها لعذاب الله تعالى، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»[33].

قال الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه
فكن طالبًا في الناس أعلى المراتب[34]




وقال الآخر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هوانًا بها كانت على الناس أهونا[35]




والصادقين مع الخلق في تعاملهم معهم قولًا وفعلًا وأداءً لحقوقهم.

والصدق يكون بالأقوال، بأن يَصدق الإنسان فيما يقول وفيما يخبر به عن أمر وقع، ومنه الشهادة ونحو ذلك، فيكون قوله في هذا مطابقًا للواقع، فيخبر بالخبر حقًّا - كما رأى أو سمع، ويؤدي الشهادة حقًّا كما تحملها، وهكذا.

ويكون الصدق بالأقوال أيضًا: بما يتحمله المرء ويلتزم به في المستقبل من عمل أو وعد أو عهد ونحو ذلك، فيتبع القول بالعمل والوعد والعهد بالوفاء، وقد قال الله - عز وجل - معاتبًا المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].

وقال صلى الله عليه وسلم في ذم أهل النفاق: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»[36].

والصدق يكون بالأفعال بأن يكون ما يفعله المرء من أفعال ظاهرة موافقًا لما يقوله، ولما في باطنه، فلا يظهر الإيمان بأفعاله وهو يبطن الكفر، ولا يظهر المسكنة وهو غني، ولا يظهر المودة والمحبة وهو يضمر العداوة والبغضاء ونحو ذلك.

والصديقية مرتبة عظيمة تلي مرتبة النبوة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا»[37].

ومنه سميت مريم- عليها السلام- «صديقة»، قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المائدة: 75].

ومنه سمى أبو بكر - رضي الله عنه - «الصديق»؛ لأنه أول مَن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدَّقه من الرجال.

﴿ وَالْقَانِتِينَ﴾ جمع «قانت» والقنوت: دوام الطاعة والخشوع والخضوع لله - عز وجل - كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ أي: مديم الطاعة خاشعًا خاضعًا، وقال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، أي: خاشعين خاضعين لله، غير متكلمين في الصلاة بغير ما شرع فيها.

كما قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: «كنا نتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت»[38].

﴿ وَالْمُنْفِقِينَ﴾: جمع «منفق» والمنفق: مَن بذل النفقة. والنفقة والإنفاق: بذل المال وإخراجه، وهو نوعان: محمود يمتدح صاحبه، وهو الإنفاق المشروع، وهو المراد هنا، أي: ﴿ وَالْمُنْفِقِينَ ﴾: النفقات المشروعة، الواجبة والمستحبة، بإخراج الزكاة والنفقة على الأهل والأولاد، والصدقات في سبيل الله، وأبواب البر، وطرق الخير، من غير إسراف ولا تقتير، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وقال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7].

والنوع الثاني من الإنفاق مذموم يذم صاحبه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].

﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ ﴾ «المستغفرين» جمع مستغفر، والاستغفار: طلب مغفرة الذنوب، أي: الذين يصلون في الأسحار ويطلبون من الله مغفرة ذنوبهم بسترها والتجاوز عنها.

﴿ بالأسحار ﴾: الباء هنا ظرفية بمعنى «في»، أي: في الأسحار، و«الأسحار» جمع «سحر» وهو آخر الليل، الذي هو وقت النزول الإلهي، وإجابة الدعاء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له؟»[39].

فامتدحهم بالاستغفار في هذا الوقت وهو وقت السحر، وفي هذا ثناء عليهم من وجهين، الأول: التماسهم لاستغفارهم وقت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا، ووقت إجابة الدعاء.

والثاني: الإشارة إلى أنهم يتهجدون ويقومون الليل ويختمون بالاستغفار بعد الفراغ من قيام الليل، كما قال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18].

وقد شرع الاستغفار بعد الانتهاء من العبادة؛ بعد الصلاة، وبعد الحج ونحو ذلك.

[1] أخرجه البخاري في النكاح (5096)، ومسلم في الذكر والدعاء (2740)، والترمذي في الأدب (2780)، وابن ماجه في الفتن (3998)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2742)- وأخرجه مختصرًا الترمذي في الفتن (2191)، وابن ماجه في الفتن (4000).

[3] أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم في الرضاع (1467)، والنسائي في النكاح (3232)، وابن ماجه في النكاح (1855)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنها.

[5] أخرجه أبو داود في الزكاة (1664)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[6] أخرجه ابن ماجه في النكاح (1857)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

[7] أخرجه النسائي في عشرة النساء (3939)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في النكاح (5069).

[10] أخرجه ابن الشجري عن الفراء: أن أعرابيًّا بشِّر بابنة ولدت، فقيل له: نعم الولد هي. فقال: «والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة»، «أمالي ابن الشجري» (2/405)، وانظر: «شرح التسهيل» لابن مالك (3/5)، «شرح الكافية الشافية» (2/1102).

[11] أخرجه الترمذي في الطهارة (113)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[12] أخرجه البخاري في المغازي (4015)، ومسلم في الزهد والرقائق (2961)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2462)، وابن ماجه في الفتن (3997)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.

[13] أخرجه البخاري في الجهاد- الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (2850)، ومسلم في الإمارة- فضيلة الخيل وأن الخير معقود بنواصيها (1872)، والنسائي في الخيل (3575)، والترمذي في الجهاد (1694)، من حديث عروة بن الجعد رضي الله عنه.

[14] أخرجه البخاري في الجهاد (2860)، ومسلم في الزكاة- إثم مانع الزكاة (987)، والترمذي في فضائل الجهاد (1636)، وابن ماجه في الجهاد (2788).

[15] هذا جزء من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- السابق.

[16] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2942)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود في العلم (3661)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

[17] البيت ينسب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ انظر: «الإمتاع والمؤانسة» (ص347)، «العمدة في محاسن الشعر» (1/34).

[18] البيت لم ينسب لقائل؛ انظر: «أوضح المسالك» (1/275)، «المغني» للسيوطي (2/612).

[19] أخرجه الترمذي في الزهد (2320)، وابن ماجه في الزهد (4110)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وقال الترمذي: «صحيح غريب».

[20] أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[21] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2892)، والترمذي في فضائل الجهاد (1648)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

[22] سيأتي تخريجه قريبًا.

[23] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3244)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي في التفسير (3197)، وابن ماجه في الزهد (4328)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[24] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ومن دونهما جنتان﴾ (4878)، ومسلم في الإيمان (180)، من حديث عبدالله بن قيس رضي الله عنه.

[25] «النونية» (ص229).

[26] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها- دوام نعيم أهل الجنة (2837)، والترمذي في التفسير (3246)، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.

[27] أخرجه البخاري في الرقاق- صفة الجنة والنار (6549)، ومسلم في الجنة صفة نعيمها وأهلها- إحلال الرضوان على أهل الجنة (2829)، والترمذي في صفة الجنة (2555)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[28] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187)، من حديث صهيب رضي الله عنه.

[29] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187).

[30] سبق تخريجه.

[31] الأبيات لأبي العتاهية؛ انظر: «ديوانه» (ص141).

[32] راجع ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].

[33] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[34] البيت ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» (ص15).

[35] البيت مجهول النسبة. انظر: «أدب الدنيا والدين» (ص320)، «الدر الفريد» (2/367).

[36] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5021)، والترمذي في الإيمان (2631)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[37] أخرجه البخاري في الجمعة - ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة (1200)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة - تحريم الكلام في الصلاة (539)، وأبو داود في الصلاة (949)، والنسائي في السهو (1219)، والترمذي في الصلاة (405)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[38] سبق تخريجه.

[39] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين- الترغيب في الدعاء والذكر من آخر الليل والإجابة فيه (758)، وأبو داود في الصلاة (1315)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1366).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-01-2025, 02:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ... ﴾


فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 14، 17].

1- تزيين حب الشهوات من النساء للناس كونًا، وكذا حب البنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث؛ لقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾.

2- حكمة الله تعالى البالغة في تزيين هذه الأشياء السبعة المذكورة للناس وغيرها لبناء هذا الكون وعمارته.

3- ابتلاء الله تعالى للناس في تزيين الأشياء المذكورة وغيرها من متاع الدنيا لهم ليتبين من لا يشغله ذلك عن عبادة الله تعالى، بل يستغل ذلك ويستعين به على طاعة الله تعالى، ممن يشغله ذلك، أو يجره إلى معصية الله تعالى.

4- أن محبة ما ذكر في الآية على وجه لا يشغل عن طاعة الله تعالى أمر مباح؛ كما قال تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب»[1].

5- الحذر من الافتتان بالشهوات من النساء والبنين والأموال، وغير ذلك مما ذكر في الآية وغيره، والانشغال بذلك عن طاعة الله تعالى.

6- أن من أعظم ما تحصل به الفتنة، ويشغل عن طاعة الله تعالى النساء والأبناء والأموال، لهذا قدمت في الآية، وقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 28]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 15].

والأولاد يشمل الأبناء والبنات، عن يعلى العامري- رضي الله عنه - قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه، وقال: «إن الولد مبخلة مجبنة»[2]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء»[3].

7- تقديم كثير من الناس محبة الأبناء غالبًا على محبة البنات، والتفاخر والتعاظم بهم؛ لهذا خص البنين بالذكر دون البنات. والخير فيما يختاره الله، وصدق الله العظيم: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وقال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، ويكفي البنات فخرًا أن جل نسل الأنبياء عليهم السلام بنات، وأنهن حجاب لوالديهن من النار[4]، وأنهن سبب لمرافقته النبي في الجنة[5].

8- أن المال كلما كثر ازدادت الفتنة فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾، وفي الحديث: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب»[6].

9- أن مما يزين للناس اقتناء الخيل وركوبها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْخَيْلِ الْمسَوَّمَةِ، وهي كما قال صلى الله عليه وسلم: «لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر»[7].

10- أن مما زين للناس اقتناء الأنعام، الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامِ ﴾، وذلك إما بقصد الاستفادة من نتاجها، أو للاتجار بها، وهذا أمر مباح، بل مشروع لما فيه من نفع عام ما لم يؤد إلى الفتنة بالمال.

وقد يكون اقتناؤها لأجل المفاخرة والمباهاة بها، كما هو حال أهل مزايين الإبل - كما يقولون - الذين يشترون الفحل أو الناقة بعشرات الملايين، وكما هو حال الذين يشترون «التيس» وهو ذَكَر المعز بمئات الآلاف، ممن يحتاجون إلى «درة» عمر بن الخطاب- رضي الله عنه.

11- أن مما يزين للناس حرث الأرض وزرعها؛ لقوله تعالى: ﴿ والحرث﴾.
وهذا فيه أيضًا نفع عام ما لم يؤد بصاحبها إلى الانشغال عن طاعة الله تعالى والافتتان في الدنيا.

12- أن كل ما ذكر في الآية مما زين للناس من حب الشهوات من النساء والبنين وغير ذلك هو مجرد متاع في هذه الحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾.


13- التزهيد في التعلق بما ذكر مما زين للناس، والترغيب في الانشغال بما ينفع؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، فهو إما أن يزول عن الإنسان أو يزول عنه الإنسان.

14- حقارة الحياة الدنيا ودناءتها؛ لهذا سميت «دنيا»؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، فهي دنيئة حقيرة لا قيمة لها بالنسبة للآخرة، لكنها أيضًا مزرعة للآخرة لمن وفقه الله تعالى.

15- أن الله - عز وجل - عنده حسن المآل والمرجع، وهو الجنة، مما هو خير من الدنيا وزينتها ومتاعها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ، فلا ينبغي الانشغال بالدنيا وما فيها عما عند الله تعالى.

16- أن القرآن الكريم كلام الله - عز وجل - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم تبليغه للناس؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾.

17- بلاغة القرآن الكريم باختيار أسلوب التنبيه والتشويق في الدعوة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾.

18- أن ما عند الله - عز وجل - للذين اتقوا من جنات تجري من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة، ورضوان الله عليهم خير من الدنيا وزينتها ومتاعها الزائل؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

19- أن المفاضلة قد ترد بين أمرين بينهما في الفضل بون شاسع وفرق واسع، فقد فاضل هنا بين زينة الدنيا ومتاعها، وبين ما أعد للذين اتقوا عند ربهم من الجنات وما فيها من ألوان النعيم. وشتان بين هذا وهذا.

شتان بين الحالتين فإن ترد
جمعًا فما الضدان يجتمعان[8]




كما أن المفاضلة قد ترد بين أمرين ليس في أحدهما شيء من الفضل، كما في قوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24].

20- تشريف المتقين وتكريمهم بإضافة اسم «الرب» إلى ضميرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾.

21- عظَّم ما للذين اتقوا عند ربهم، فهم في جوار ربهم الكريم، ولهم جنات تجري من تحتها الأنهار فيها من ألوان النعيم، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله أكبر، وأعظم بهذا من نعيم، ويكفي في عظمته أنه من ربهم الكريم ذي الفضل العظيم، وعنده، وفضل التقوى والترغيب فيها؛ لعظم ما خص به المتقين من الثواب العظيم؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ الآية.

22- إثبات صفة الرضا لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ والرضا من الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة.

23- اطلاع الله - عز وجل - وبصره وعلمه بالعباد وأعمالهم وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.

24- حكمة الله - عز وجل - الكونية في كون العباد منهم المتقي ومنهم خلاف ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

25- الوعد لمن اتقى الله والوعيد لمن خالف أمر الله وعصاه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

فمعنى هذا ومقتضاه أنه محيط بهم وبأعمالهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها.

26- إثبات عبودية جميع الخلق لله تعالى التقي منهم وغيره، عبودية عامة؛ لقوله تعالى: ﴿ بِالْعِبَادِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93].

27- ثناء الله - عز وجل - على المتقين وامتداحه لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾.

28- أن من أهم وأعظم صفات المتقين سؤال الله تعالى مغفرة ذنوبهم ووقايتهم عذاب النار؛ اعترافًا منهم بتقصيرهم، وبعدًا عن الإدلاء على الله بعملهم؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

29- دعاء المتقين في طلبهم المغفرة من ربهم بوصف الربوبية الذي مقتضاه العناية بعباده؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ﴾ الآية.

30- توسل المتقين في سؤالهم المغفرة من ربهم بإيمانهم إقرارًا منهم واعترافًا بعبوديتهم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ﴾ الآية.

31- جواز التوسل بالإيمان والأعمال الصالحة؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ﴾ الآية.

وكما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فقال بعضهم: «إنه لا نجاة لكم مما أنتم فيه إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران- الحديث، وفيه «ففرَّج الله عنهم وخرجوا يمشون»[9].

32- حاجة الإنسان مهما كان عليه من التقى إلى سؤال الله تعالى المغفرة والوقاية من عذاب النار، فالإنسان لا يخلو من تقصير ونقص، وعمله مهما كثر لا يعدل شيئًا من نعمة الله تعالى عليه، ولا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى وفضله.

33- مشروعية البسط في الدعاء تعظيمًا لله - عز وجل - وتقربًا إليه وخضوعًا بين يديه، وإظهارًا للافتقار إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، فسؤال مغفرة الذنوب متضمن طلب الوقاية من عذاب النار، ولم يكتفوا به، بل قالوا: ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، لكن ينبغي أيضًا الحرص على جوامع الدعاء مما ورد في الكتاب والسنة وسلف الأمة والبُعد عن التكلف والاعتداء في الدعاء.

34- إثبات النار وعذابها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

35- أن من صفات المتقين: الصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق، والاستغفار بالأسحار؛ لقوله تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾.

36- الترغيب بالاتصاف بهذه الصفات السبع التي امتدح الله بها المتقين، من سؤال مغفرة الذنوب، والوقاية من عذاب النار، والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار، ومفهوم ذلك ذم من اتصف بضد هذه الصفات.

37- فضل الصبر على ما ذكر بعده من الصفات لتقديمه عليها، وذلك لأنه لا قيام لها إلا به.

38- فضل الصدق؛ لأن الله امتدح المتصفين به؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالصَّادِقِينَ﴾.

وهو يشمل الصدق مع الله تعالى في الإيمان به باطنًا وظاهرًا، والانقياد لشرعه.

والصدق مع النفس بطلب خلاصها، ونجاتها، والصدق مع الخلق في الحديث وأداء حقوقهم.

وهو من أفضل الأعمال، يهدي إلى البر ويرفع صاحبه إلى منزلة الصديقين، بسببه خلد الله ذكر الثلاثة الذين خلفوا في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[التوبة: 118، 119].


39- فضل القنوت ودوام الطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْقَانِتِينَ ، وفي الحديث: «إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»[10].

40- فضل الإنفاق في وجوه البر والخير المشروعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُنْفِقِينَ ﴾.

وفي الحديث: «اليد العُليا خير من اليد السُفلى»[11].

41- فضل أوقات السحر وفضل الاستغفار فيها حيث وقت النزول الإلهي، وإجابة الدعاء، وختام القيام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾.

[1] سبق تخريجه.

[2] أخرجه ابن ماجه في الأدب (3666).

[3] سبق تخريجه.

[4] أخرجه البخاري في «الزكاة» (1418)، ومسلم في «البر والصلة» (2629)، والترمذي في «البر والصلة» (1914)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[5] أخرجه مسلم في «البر والصلة» (2631)، والترمذي (1914)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[6] أخرجه مسلم في الزكاة (148)، من حديث أنس رضي الله عنه.

[7] سبق تخريجه.

[8] البيت لابن القيم؛ انظر: «النونية» (ص11).

[9] أخرجه البخاري في المزارعة (2323)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743)، وأبو داود في البيوع (3387)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

[10] أخرجه البخاري في الرقاق (6464)، ومسلم في صلاة المسافرين (782)، وأبو داود في الصلاة (1368)، والنسائي في القبلة (762)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[11] أخرجه البخاري في الزكاة (1428)، ومسلم في الزكاة (1034)، والنسائي في الزكاة (2531)، والترمذي في صفة القيامة (2463)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-01-2025, 02:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 18 - 20].

قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

قوله ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: الشهادة تكون بالقول والإخبار والإعلام، وتكون بالفعل، أي: شهد الله بقوله وإخباره وإعلامه لخلقه بما أنزل في كتبه وعلى ألسنة رسله أنه لا معبود بحق إلا هو، المتفرد بالألوهية لجميع الخلق، وكلهم عبيده.

وبذلك قضى وحكم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [النحل: 51]، وقال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 24]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ [الإسراء: 22]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213].

وشهد - عز وجل - بفعله أنه لا معبود بحقٍّ إلا هو بما نصَّبه من الأدلة الدالة على وحدانيته التي تُعلم دلالتها بالعقل والفطرة، من خلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك، فهو سبحانه وتعالى بخلقه لها ونصبها دلائل على وحدانيته قد شهد وأبان بها أنه لا إله إلا هو؛ كما قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وشهادة الرب وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة، وبفعله تارة، فالقول هو ما أُرسل به رسله، وأُنزل به كتبه، وأوحاه إلى عباده؛ كما قال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2].

وأما شهادته بفعله فهو ما نصَّبه من الأدلة على وحدانيته التي تُعلم دلالتها بالعقل، وإن لم يكن هناك خبر عن الله، وهذا يُستعمل فيه لفظ الشهادة والدلالة والإرشاد، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويُظهِره، فهو بمنزلة المخبر به، الشاهد به.

كما قيل: سل الأرض من فجَّر أنهارها، وغرَس أشجاها، وأخرج ثمارها، وأحيا نباتها، وأغطش ليلها، وأوضَح نهارها، فإن لم تُجِبكَ حِوارًا، أجابتك اعتبارًا.

وهو سبحانه شهِد بما جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هي بخلقه لها، فإذا كانت المخلوقات دالة على أنه لا إله إلا هو سبحانه الذي جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هي بخلقه، وبيَّن ذلك؛ فهو الشاهد المبيِّن أنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة الفعلية ذكرها طائفة.

قال ابن كيسان: «شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه - أنه لا إله إلا هو»[1].

وقد ذكر ابن القيم أن للشهادة أربع مراتب، قال:
«فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحه المشهود به وثبوته، وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به - وإن لم يُعلِم به غيره، بل يتكلم هو به مع نفسه، ويَذكُرها وينطق بها، أو يكتُبها، وثالثها: أن يُعلِم غيره بما شهد به ويخبره به ويُبينه له، ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به»، ثم قال: «فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط، تضمَّنت هذه المراتب الأربعة: علم الله سبحانه بذلك وتكلُّمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به»[2].

﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي: إنه لا معبود بحقٍّ إلا هو، فكل ما عُبِد من دون الله فهو باطل، كما قال تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 21، 22]، وقال تعالى: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40].

﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾: معطوف هو و﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ على لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾؛ أي: وشهد الملائكة أنه لا إله إلا هو؛ قال تعالى: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166].

﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾؛ أي: وشهد أولو العلم، أي: أصحاب العلم بالله - عز وجل - وشرعه، وما يجب له - عز وجل - أنه لا إله إلا هو، بإقرارهم بذلك، وبيانهم وإعلامهم بذلك غيرهم.

﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾: حال؛ أي: شهد الله أنه لا إله إلا هو حال كونه قائمًا بالقسط - كما شهد الملائكة أولو العلم أنه لا إله إلا هو حال كونه قائمًا بالقسط؛ أي: قائمًا بالعدل، قولًا وفعلًا وإخبارًا وحُكمًا به وأمرًا.

فشهد سبحانه أنه لا إله إلا هو ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾؛ أي: متكلمًا بالعدل، مخبرًا به، حاكمًا به، آمرًا به؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام.

وقال هود عليه السلام: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، وقال تعالى في مثل ضربه لنفسه ولما يُشرك به من الأوثان: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4].

فخلقه - عز وجل - السماوات والأرض بالعدل، وعبادته وحده دون غيره حقيقة العدل، وجزاؤه المؤمنين بالجنة، والكافرين بالنار عدل.

قال ابن القيم[3]: «فتضمنت هذه الآية أجلَّ شهادة، وأعظمها، وأعدلها، وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود».

فهو سبحانه خير الشاهدين، وأصدق القائلين، وشهادته على وحدانيته، وعلى قيامه بالقسط، أكبر وأعظم شهادة، وتوحيده أعدل العدل، والشرك به أظلم الظلم؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43].

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: شهد عز وجل أولًا لنفسه أنه (لا إله إلا هو)، كما شهدت بذلك الملائكة وأولو العلم، وحكم ثانيًا أنه (لا إله إلا هو)، فشهد بذلك أولًا، وحكم به ثانيًا، وأكده وأمر به.

ففي الأولى شهادته - عز وجل - وإخباره أن (لا إله إلا هو)، وفي الثانية حكمه وتأكيد أنه (لا إله الا هو)، وفي ذلك كله تعليم عباده، وأمرهم بالشهادة بذلك واعتقاده وعبادته وحده دون سواه.

﴿ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ﴿ الْعَزِيزُ ﴾: من أسماء الله - عز وجل - يدل على أنه ذو العزة التامة، و«الحكيم»: اسم من أسمائه - عز وجل - يدل على أنه سبحانه ذو الحكم التام، وذو الحكمة البالغة[4].

قال ابن القيم[5]: «فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي للظلم، وعزته المنافية للعجز، وحكمته المنافية للجهل والعيب».

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.

قوله ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾: قرأ الكسائي بفتح الهمزة «أنَّ»، وقرأ الباقون بكسرها ﴿ إِنَّ ﴾.

فعلى قراءة فتح الهمزة تكون الجملة عطف بيان؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾، يعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام، وعلى قراءة كسر الهمزة تكون الجملة مستأنفة.

و﴿ الدين ﴾: الملة والشرعة؛ قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 76].

﴿ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾: أي إن الدين المقبول، المرضي عند الله هو الإسلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

وفي قوله: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ صيغة حصر؛ أي: الدين الذي لا دين عند الله سواه.

﴿ الْإِسْلَامُ ﴾: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهو الدين الذي بعث الله به جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم؛ ولهذا قال أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 72]، وقال إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وقال يعقوب لبنيه عند الموت: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].

وقال تعالى عن التوراة: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾ [المائدة: 44]، وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]، وقالت ملكة سبأ: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، وقال تعالى مخاطبًا هذه الأمة: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الحج: 78].

ولما خُتمت الأديان بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، صار الإسلام علمًا بالغلبة على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يُقبل بعد بَعثه من أحد سواه؛ لنسخه لجميع الأديان السابقة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

والإسلام إذا أطلق وأفرد يشمل جميع شرائع الدين الظاهرة، وجميع عقائده الباطنة، فيشمل أركان الإسلام الخمسة.

وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا»[6].

وكذا أركان الإيمان الستة؛ كما في حديث: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»[7].

وكذا كل ما أمر الله به من التوكل على الله، وخوفه، ورجائه، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك، سواء كان ذلك الأمر واجبًا أو مندوبًا.

كما يشمل ذلك ترك كل ما نهى الله عنه من الكفر والشرك، والقتل العمد، والربا، وأكل مال اليتيم، والسحر، والكذب والفجور وقول الزور، والغيبة والنميمة، وغير ذلك.

قوله: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾: في هذا تقرير وتأكيد لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾، وأن هذا هو الذي كان عليه الناس، وعليه أجمعت الأمة، ثم طرأ الاختلاف بما حصل من أهل الكتاب من اختلاف من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم.

قوله ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: نافية، و﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ هم: اليهود والنصارى.

سُمُّوا أهل الكتاب؛ لأن لهم كتبًا بقيت إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت محرفة؛ أي: وما وقع الاختلاف بين أهل الكتاب في أديانهم وفي دين الإسلام، فاختلف اليهود مع النصارى، واختلف أهل كل ملة منهم فيما بينهم، واجتمعوا على مخالفة الإسلام، وحذف متعلق الاختلاف ليشمل هذا كله.

﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾ «إلا»: أداة حصر، و«ما»: مصدرية، أي: إلا من بعد مجيء العلم إليهم؛ أي: إلا من بعد مجيء الوحي من الله تعالى إليهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام؛ أي: إلا من بعد ما عرَفوا الحقَّ، وقامت عليهم الحجة، فاختلفوا حيث لا يسوغ لهم الاختلاف.

﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ «بغيًا»: مفعول لأجله؛ أي: لأجل البغي بينهم والحسد، أي: بغيًا من بعضهم على بعض، وحسدًا، وطلبًا للرياسة.

ولم يكن اختلافهم لشبهة عندهم، فأصبح بعضهم يضلل بعضًا، ويُكَفِّر بعضهم بعضًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، وقال تعالى: ﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الجاثية: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [الشورى: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4].

﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ الواو: استئنافية، و«من»: شرطية، أي: ومن يكذِّب بآيات الله الشرعية والكونية ويجحدها ويستكبر عن الانقياد لما جاء فيها من الحق.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾: جملة جواب الشرط، و«الفاء»: رابطة لجواب الشرط؛ لأنه جملة اسمية، وفيها تخويف وتهديد، أي: فإن الله سريع الحساب، وسيحاسبه ويجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب، وأكد عز وجل هذا بــ«إنَّ» وكون الجملة اسمية.

والله - عز وجل - سريع الحساب فحسابه آتٍ، وكل آتٍ قريب؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا»[8].

وهو عز وجل سريع الحساب؛ لأن عمر الإنسان في هذه الدنيا قليل، والدنيا كلها قليل بالنسبة للآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»[9].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».

وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»[10].

وهو - عز وجل - سريع الحساب؛ لأن الانسان يجد في هذه الحياة الدنيا شيئًا من عاقبة عمله سعادة وتيسيرًا لأموره إن كان مطيعًا، وشقاوة وتعسيرًا لأموره إن كان عاصيًا.

وهو - عز وجل - سريع الحساب، لا يحتاج إلى وقت طويل لمحاسبة الخلائق؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من الخلق وأعمالهم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

وقد قال بعض أهل العلم: إن الله - عز وجل - يحاسب الخلائق في نصف يوم أخذًا من قوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]، قالوا: فهو يحاسب الخلق في النصف الأول من النهار، والنصف الثاني يكون أهل الجنة فيها، أي: يقيلون فيها.

قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

ذكر الله - عز وجل - اختلاف أهل الكتاب بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، ثم أتبع ذلك بقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾ في إشارة واضحة إلى أن اختلافهم فيما بينهم مُفضٍ إلى محاجة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.

قوله ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾ الفاء: عاطفة، وضمير الواو في «حاجوك» يعود إلى أهل الكتاب والمشركين، بدليل قوله: ﴿ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

و«المحاجة»: المخاصمة، وأكثر ما تكون في المخاصمة بالباطل، أي: فإن خاصموك في الدين خصام مكابرة وعناد.

﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ ﴾: جواب الشرط «إن»، قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الياء: ﴿ وَجْهِيَ ﴾، وقرأ الباقون بتسكينها «وجهيْ»؛ أي: توجهت إلى الله بوجهي وقلبي وبدني، وأخلصت له في عبادتي، واتبعت شرعه؛ امتثالًا لأمره، واجتنابًا لنهيه، ورضًا بحكمه، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79].

وفي قوله: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾: قطع الطريق على المحاجين وإسكاتهم، سواء قلنا: هذا من باب الإعراض عنهم، أو المحاجة لهم.

﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ الواو: عاطفة، و«من»: اسم موصول معطوف على الضمير في «أسلمت»، أي: والذي اتبعني أسلم وجهه لله، أو ينبغي أن يُسلِم وجهه لله، أي: أسلمت وجهي لله أنا وأتباعي على ديني؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾؛ أي: اليهود والنصارى.

﴿ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾ أي: العرب، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾[الجمعة: 2].

و﴿ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾: جمع «أُمِيِّ»، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، نسبةً إلى أمه، أي: إلى الحالة التي وُلِدَ عليها.

﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾: الاستفهام للتحضيض والأمر، وفيه معنى الاستبطاء؛ أي: أسلِموا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 108]؛ أي: أسلِموا، وكما في قوله تعالى: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]؛ أي: انتهوا، والمعنى: أنه قد أتاكم من البينات ما يوجِب أن تُسلِموا، فأسلِموا.

﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا ﴾؛ أي: فإن استسلموا لله ظاهرًا وباطنًا، بتوحيدهم إياه بالعبادة، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك.

﴿ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ لاقترانه بـ «قد»، أي: فقد رشدوا وَوُفِّقوا للهدى وسلكوا طريقه.

﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾؛ أي: أعرضوا عن الإسلام باطنًا بقلوبهم، وظاهرًا بأبدانهم فلا يضرك ذلك.

﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾، وقُرِنَ بالفاء لأنه جملة اسمية.

و﴿ إنما ﴾: أداة حصر، أي: ما عليك نحوهم إلا البلاغ، وقد بلَّغت البلاغ المبين، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 82]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].

وأما هداية القلوب وحساب الخلق فإلى الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40].

وقد بلَّغ صلوات الله وسلامه عليه البلاغ المبين، وأدَّى الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترَك أُمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.

﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: والله مطلع على العباد كلهم، خبير بهم وبأعمالهم وأحوالهم، ومن كان منهم أهلًا للهداية، ومن لم يكن أهلًا لذلك.

[1] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 288- 289).

[2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 453).

[3] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 452).

[4] انظر ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].

[5] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 463).

[6] أخرجه البخاري في الإيمان (8)، ومسلم في الإيمان (16)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5001)، والترمذي في الإيمان (2609).

[7] أخرجه مسلم في الإيمان (8)، وأبو داود في سننه (4695)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4990)، والترمذي في الإيمان (2610)، وابن ماجه في المقدمة (63)، من حديث عبدالله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

[8] ذكره الترمذي في «صفة القيامة»، و«الرقائق»، و«الورع» (2459).

[9] سبق تخريجه.

[10] أخرجه البخاري في «الرقاق» (6416)، والترمذي في «الزهد» (2333)، وابن ماجه في «الزهد» (4114).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-01-2025, 02:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 18، 20].

1- شهادة الله - عز وجل - لنفسه بتفرده بالألوهية، وأنه لا إله إلا هو، بقوله وفعله وعجيب صنعه؛ لقوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾، وفي هذا تنبيهٌ لعباده على غناه عن توحيدهم له، وأنه سبحانه هو الموحِّد نفسه بنفسه.

2- شهادة الملائكة وأولو العلم بما شهد الله به لنفسه من الوحدانية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾، والمراد: أولو العلم بالله وشرعه وأتباعهم.

3- فضيلة الملائكة؛ حيث جعلهم الله تعالى في المرتبة الأولى في الشهادة بالتوحيد بعده سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾.

4- أخذ طائفة من أهل العلم من قوله: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أنه لا يشترط للشاهد عند الحاكم وغيره في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة، فمن تكلم بشيء وأخبر به، فقد شهد به؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 150]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 19].

فجعل منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، فسمى إقرار المرء على نفسه شهادة.

وفي حديث ماعز: «فلما شهد على نفسه أربع مرات، رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم »[1]. فَسُمِّيَ إقراره شهادة.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس»[2].

ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة.

والعشرة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة لم يتلفظ بشهادته لهم بلفظ الشهادة، وإنما قال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة...»[3].

وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» دخل في الإسلام وشهد الشهادتين، وإن لم يقل: «أشهد» ونحو ذلك.

وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لابد للشاهد عند الحاكم ونحوه من التلفظ بلفظ الشهادة.

5- فضل العلم بالله وشرعه، وفضل أهل هذا العلم والثناء عليهم؛ حيث جعلهم الله شهودًا بعد الملائكة على وحدانيته، وقرَن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، واستشهد بهم على أجل مشهود به، وجعلهم حُجة على من أنكر هذه الشهادة، فزكَّاهم بهذا وعدَّلهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾، وهذه منقبة عظيمة للعلماء في هذا المقام.

وهذا لمن قدَّر منهم للعلم قدره، فعظَّم ربه، وصان علمه، وعمل به وعلَّمه، فوَفَّى بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

وهؤلاء من أهل العلم قليل؛ ولهذا قال تعالى في ختام الآية: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن مِن أول مَن يُقضى يوم القيامة عليه رجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتِيَ به فعرَّفهُ نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلَّمت العلم لِيُقال: عالِم، وقرأت القرآن لِيُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فَسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار»[4].

وقد أحسن القائل:
وعالم بعلمه لم يعلمن
معذب في قبره من قبل عباد الوثن[5]




وقال الآخر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظَّموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنَّسوا
محياه بالأطماع حتى تجهما[6]

6- الترغيب في العلم بالله وشرعه؛ لأن به تحصل الشهادة على وحدانية الله - عز وجل - بل هي من مقتضياته، فمن لم يشهد من أهل العلم لله بالواحدانية، فهو من أجهل الجهال، وإن علم من أمور الدنيا ما لم يعلَمه غيره.

7- حكم الله - عز وجل - أنه لا إله حق إلا هو، بعد شهادته وإخباره بذلك، وأمره - عز وجل - عباده بتوحيده؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، فمن عبد مع الله غيره فهو مُشرك.

8- تأكيد تفرده - عز وجل - بالألوهية، فشهد عز وجل بذلك لنفسه، وأخبر به، وحكم به وأمر، كما شهِد بذلك الملائكة وأولو العلم.

9- إثبات قيام الله تعالى واتصافه بالعدل قولًا وفعلًا وحكمًا وإخبارًا، وحكمًا به وأمرًا، وشهادته - عز وجل - لنفسه بذلك وشهادة الملائكة وأولو العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾.

10- اجتماع صفات الكمال لله عز وجل؛ لأن التوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال، فالتوحيد يتضمن تفرُّدَه سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحدٍ سواه، والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب، وموافقة الحكمة؛ ففي الأول كمال ذاته، وفي الثاني كمال أفعاله.

11- إثبات اسم الله «العزيز» وصفة العزة التامة له - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ العزيز .


12-إثبات اسم الله «الحكيم» وأن له - عز وجل - الحكم التام، والحكمة البالغة؛ لقوله تعالى:﴿ الحكيم ﴾، وفي هذا رد على الجبرية والجهمية الذين ينفون حكمة الله تعالى.

13- في اقتران العزة والحكمة في حقه - عز وجل - زيادة كماله تعالى إلى كمال.

14- أن الدين الذي يُعتد به ويُقبل عند الله هو الإسلام الذي جاء به جميع الأنبياء والرسل، وهو توحيد الله تعالى، والانقياد لشرعه، وهو بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، ما جاء به من الشرع، فهو الإسلام الذي لا يُقبل من أحدٍ سواه؛ لنسخه لجميع الأديان قبله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسِلت به إلا كان من أصحاب النار»[7].

15- أن حقيقة الدين والتدين لله تعالى الاستسلام له بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك؛ لأن الله سمى «الدين» الإسلام.

16- أن أهل الكتاب اليهود والنصارى لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم؛ أي: إن اختلافهم كان عن علم، فلا يعذرون فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾.

17- أن اختلاف أهل الكتاب كان بسبب بغي بعضهم على بعض؛ لقوله تعالى: ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾.

18- التحذير من الاختلاف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾، وقال تعالى محذرًا هذه الأمة: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].

وقال صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته من ذلك: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفرق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة»[8].

19- خطر البغي، ووجوب الحذر منه؛ لأنه سبب للاختلاف ورد الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾.

20- ينبغي في مسائل الخلاف الانتصار للحق، والبحث عنه، والبعد عن التطاول، والانتصار للنفس.

21- التحذير من الكفر بآيات الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، فمن كفر بآيات الله فسيُحاسبه الله سريعًا، ويجازيه على كفره قريبًا، وفي هذا وعيدٌ لمن كفر بآيات الله، وحضٌّ على الإيمان.

22- سرعة حساب الله تعالى للخلائق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.

23- إثبات حساب الخلق على أعمالهم، لكن حساب المؤمنين تقريرٌ وعرضٌ، أما حساب الكفار فمناقشة وتوبيخ وتقريعٌ.

كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسِب عُذِّب»، قالت عائشة: فقلت: أَوَليس يقول الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]؟ قالت: فقال: «إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك»[9].

24- عناية الله - عز وجل - بنبيه صلى الله عليه وسلم ، وتهيئته لما سيواجه ممن يدعوهم، وتعليمه ما يقوله للمحاجين له، ولمن يدعوهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾ [آل عمران: 20]، وفي هذا إعدادٌ من الله له، وتقوية لقلبه ولحجته ودعوته.

25- في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران: 20]، توجيه له صلى الله عليه وسلم لما هو أخصر، وبما فيه قطع الطريق على المحاجين وإسكاتهم؛ أي: هذا طريقي وطريق أتباعي دون محاجة أو جدال، وهذا من أساليب الرد على المحاج إذا كان لا جدوى للمحاجة؛ كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

26- أن المنهج الحق في الإسلام أن يتوجه المسلم إلى الله تعالى بكليته، وبوجهه، وقلبه، وبدنه ممتثلًا لأمر الله، مجتنبًا لنهيه، فهذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾.

27- شرف الوجه من بين الأعضاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، فخصَّهُ من بين الأعضاء لشرفه، ولأن توجهه علامة ظاهرة على توجه بقية الأعضاء.

28- أن من لم يُسلِم وجهه لله تعالى فليس متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾.

29- وجوب الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾.

30- عموم رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم للعرب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾، وفي هذا ردٌّ على من زعم من أهل الكتاب أن رسالته صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب فقط.

عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعِثت إلى الناس عامة»[10].

وفى رواية: «وبُعِثت إلى كل أحمر وأسود»[11].

ولما زار صلى الله عليه وسلم الغلام اليهودي في مرض موته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «يا فلان، قُل: لا إله إلا الله»، فنظر إلى أبيه، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطِعْ أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»[12].

31- في تقديم ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ : إشارة إلى أن قيام الحجة عليهم أعظم؛ لما عندهم من العلم عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].

32-أن العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب؛ لقوله تعالى:﴿ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾.

33- أن من أسلم فقد اهتدى للطريق المستقيم، وَوُفِّق إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾، وفي هذا حض على الإسلام، وترغيب فيه.

34- أن من لم يُسلِم فقد تولَّى وأعرَض عن الحق، وليس على الرسول صلى الله عليه وسلم هدايته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾.

35- أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والواجب عليه بالنسبة للناس هي إبلاغهم الرسالة ودعوتهم، وأما هدايتهم فهي إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾.

36- اطلاع الله - عز وجل - وبصره بالعباد وأعمالهم وأحوالهم، ومَن هو أهل للهداية، ومَن ليس أهلًا لها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، وفي هذا وعدٌ لمن أسلَم واهتدَى، ووعيدٌ لمن تولى وأعرَض.

[1] أخرجه البخاري في الطلاق (5272)، ومسلم في «الحدود» (1691)، وأبو داود في «الحدود» (4430)، والنسائي في «الجنائز» (1956)، والترمذي في «الحدود» (1429)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة» (581)، ومسلم في «صلاة المسافرين» (826)، وأبو داود في الصلاة (1276)، والنسائي في «المواقيت» (562)، والترمذي في الصلاة (183).

[3] أخرجه الترمذي في «المناقب» (3747)، من حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم في «الإمارة» (1905)، والنسائي في «الجهاد» (3137)، والترمذي في «الزهد» (2382).

[5] البيت لابن رسلان الشافعي؛ انظر: «غاية البيان» (ص4).

[6] البيتان للقاضي الجرجاني؛ انظر: «محاضرات الأدباء ومحاورات لشعراء» (ص14).

[7] أخرجه مسلم في «الإيمان» وجوب الإيمان برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس (153)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[8] أخرجه أبو داود في «السنة» (4596)، والترمذي في «الإيمان» (2640)، وابن ماجه في «الفتن» (3991)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في «العلم» (103)، ومسلم في «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» (2876)، والترمذي في «صفة القيامة» (2426).

[10] أخرجه البخاري في «التيمم» (335)، ومسلم في «الغسل والتيمم» (432).

[11] أخرجها مسلم في «المساجد ومواضع الصلاة» (521).

[12] أخرجه البخاري في «الجنائز» (1356)، وأبو داود في «الجنائز» (3095)، من حديث أنس رضي الله عنه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-01-2025, 02:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 21 - 25].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.

أمر الله - عز وجل - في الآية السابقة النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الذين أوتوا الكتاب إلى الإسلام، وحذَّرهم من التولي، ثم ذمَّهم في هذه الآية بذِكر ما هم علىه من الكفر، وقتل النبيين والآمرين بالقسط، وتوعدهم بعذابٍ أليم.

قوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾؛ أي: إن الذين يُكذبِّون بآيات الله الشرعية والكونية ويجحدونها، من أهل الكتاب وغيرهم.

﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾: معطوف على ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾.

قرأ حمزة: «ويقاتلون»، وقرأ الباقون: ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾، وقرأ نافع «النبيئين» جمع «نبيء»، وقرأ الباقون: ﴿ النَّبِيِّينَ ﴾ بلا همز، جمع (نبي)، مأخوذ من «النبأ»، وهو الخبر الهام، كما قال تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2].

وسُمِّيَ النبيون بهذا الاسم؛ لأن النبي مُنْبَأ من عند الله، أي: مُخْبَر من عند الله، و(مُنْبِئ): مُخْبِر لقومه بما أوحاه الله إليه، ومأخوذ أيضًا من «النّبْوة» وهي المكان المرتفع؛ لأن الأنبياء ذوو مكانة عالية مرتفعة عند الله تعالى وعند المؤمنين.

﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾: جار مجرور حال مؤكدة من فاعل «يقتلون».

والمراد بهذا الوصف: بيان الواقع، أي أن قتلهم عدوانًا وظلمًا كما فعل اليهود؛ حيث قتلوا كثيرًا من أنبياء الله - عز وجل - منهم: زكريا وابنه يحيى، كما همُّوا بقتل عيسى، بل زعموا أنهم قتلوه؛ ولهذا ذمَّهم الله تعالى بهذين الوصفين في آياتٍ كثيرة، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]، وقال تعالى: ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91].

وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾ [المائدة: 70]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 183].

ولا يراد بقوله: ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ إخراج ما خالفه؛ إذ لا يمكن أن يكون قتل النبيين بحق بحالٍ من الأحوال.

﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾: معطوف على قوله ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾ من عطف العام على الخاص؛ لأن الأنبياء في مقدمة الذين يأمرون بالقسط من الناس.

و«القسط»: العدل في الحكم والأقوال والأفعال، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام: 152]؛ أي: ويقتلون الذين يأمرون بالعدل من الناس عنادًا منهم ومعارضة للعدل والحق وبطرًا وكِبرًا، وفي الحديث: «الكبر بطر الحق وغمط الناس»[1].

﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾: خبر المبتدأ ﴿ الَّذِينَ ﴾، ودخلت علىه الفاء؛ لتضمُّن الموصول معنى الشرط، أي: بشرهم يا محمد، ويا أي مبشر.

والبشارة في الأصل: الإخبار بما يَسُر، واستُعمِلت هنا في الإِخْبار بما يسوء من باب التهكم بهم، كما في قوله تعالى: ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 138]، وقوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [الدخان: 49]، وفي هذا من العذاب المعنوي ما قد يفوق العذاب الحسي، والمعنى هنا: فأخبرهم بعذابٍ أليم، أي: مؤلم موجِع حسيًّا للأبدان، ومعنويًا للقلوب، و(العذاب): العقاب.

قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 22].

﴿ أُولَئِكَ ﴾: الإشارة للذين يُكذِّبون بآيات الله، ويقتلون النبيين والآمرين بالقسط، وأشار إليهم بإشارة البعيد (أولئك) تحقيرًا لهم.

﴿ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾؛ أي: الذين بطلت وذهبت واضمحلت أعمالهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].

﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾ أي: فلم يستفيدوا منها في الدنيا بل كانت سببًا لشقائهم فيها، ﴿ وَالْآخِرَةِ)؛ أي: ولم يُثابوا علىها في الآخرة بل عوقبوا بسببها.


﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ «مِنْ»: زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى لعموم النفي؛ أي: وما لهم أيُّ ناصرين، أي: وما لهم أي أحد ينصرهم من بأس الله تعالى وعذابه، وجمع «ناصر» لمقابلة الجمع قبله مع مراعاة المناسبة لفواصل الآيات.

قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾.

﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾: الاستفهام للتعجيب، والرؤية هنا علمىة، ويُحتمل كونها بصرية، والأول أولى؛ لأنه أشمل، ولأنه يتعلق بالحال، والحال تعلُّم ولا تبصُّر؛ أي: ألم تعلم إلى حال ﴿ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾، والمراد بــ﴿ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾ هنا: اليهود، و﴿ نَصِيبًا ﴾ حظًّا، والتنوين فيه للتكثير والتعظيم، و﴿ من ﴾ للتبعيض أو للبيان.

و( أل ) في ﴿ الْكِتَابِ ﴾ للعهد، والمراد به «التوراة»، أي: ألم تعلم وتنظر إلى حال اليهود الذين أُعطوا نصيبًا من الكتاب، أي: أُعطوا حظًا كثيرًا عظيمًا من الكتاب؛ لأن التوراة هي أعظم كتب الله تعالى بعد القرآن الكريم.

وقيل: المعنى: الذين أُعطوا نصيبًا قليلًا من الكتاب، أي: من العلم، كما قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، والأول أصح وأنسب للسياق.

﴿ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ﴾: حال من الموصول؛ أي: حال كونهم يدعون إلى كتاب الله، أو مستأنفة مُبيِّنة لمحل التعجب.

والدعاء: النداء؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ [الحجرات: 13]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المائدة: 11].

و«كتاب»: بمعنى مكتوب، أي: إلى مكتوب الله؛ لأن كتب الله تعالى كلها مكتوبة عنده في اللوح المحفوظ.

والمراد بــ ﴿ كتاب الله ﴾ هنا: «القرآن الكريم»، والداعي إليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته إلى يوم القيامة.

وقيل المراد بــ ﴿ كتاب الله ﴾: «التوراة أو الإنجيل»؛ لما فيهما من تصديق لبعثته صلى الله عليه وسلم ورسالته، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾: (اللام): للتعلىل، أي: لأجل أن يحكم بينهم، والضمير في ﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ يُحتمل أن يعود إلى «الله»، أي: يدعون إلى كتاب الله؛ ليحكم الله بينهم بكتابه.

ويُحتمل عود الضمير إلى «الكتاب»، أي: ليحكم كتاب الله بينهم.

وأُسند الحكم إلى الكتاب؛ لأن الحكم بينهم بما فيه هو حكم الله، أي: ليفصل بينهم ببيان الحق من الباطل فيما بينهم أنفسهم، وفيما بينهم وبين الداعي لهم وهو الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الإسلام، أو في حكم الرجم، أو غير ذلك.

﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾: التولي يكون بالأبدان، أي: ثم يتولى فريق وجماعة منهم بأبدانهم.

﴿ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾: الجملة معطوفة على ما قبلها، ويجوز كونها حالية.

والإعراض يكون بالقلوب؛ أي: وهم صادون بقلوبهم عن كتاب الله، والمعرِض بقلبه لا فائدة فيه، ولا مطمع في رجوعه، بخلاف المتولي ببدنه فإنه قد يراجع نفسه، ويعود إلى رشده.

وقد جمع هؤلاء بين التولي في الظاهر بأبدانهم، والإعراض في الباطن بقلوبهم، والتولي عن الداعي، والإعراض عن المدعو إليه، فلا مطمع فيهم.

و«التولي» و«الإعراض» من الكلمات المترادفة التي إذا انفردت اجتمعت، واذا اجتمعت انفردت. فإذا انفرد أحدهما عن الآخر حمل كل منهما على المعنيين، وهما التولي بالأبدان والإعراض بالقلوب.

أما إذا اجتمعا فيُحمل «التولي» على الإعراض بالأبدان، ويُحمل الإعراض على التولي بالقلوب، كما في الآية هنا.

ويُفهم من قوله ﴿ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾: أن فريقًا منهم لا يتولى ولا يُعرِض، بل يقبل ويؤمن.

قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾.

ذكر عز وجل في الآية السابقة تولي وإعراض فريق من أهل الكتاب عن كتاب الله تعالى، ثم ذكر في هذه الآية سبب توليهم وإعراضهم.

قوله ﴿ ذلك ﴾: الإشارة إلى تولي فريق منهم وإعراضهم عن كتاب الله، أي: ذلك التولي والإعراض.

﴿ بأنَّهم ﴾: الباء للسببية، أي: بسبب أنهم.

﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾: أي بسبب أنهم خدعوا أنفسهم بهذه المقالة الباطلة، والاعتقاد الخاطئ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، فهونوا بهذا الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب الذنوب.

﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ﴾: لن تصيبنا النار ونعذب فيها.

﴿ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ «إلا»: أداة حصر، أي: إلا أيامًا قليلات، أو قلائل؛ لأن كل معدود فهو قليل؛ لأنه ينتهي، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ﴾ [هود: 104].

وجمع هنا جمع القلة ﴿ مَعْدُودَاتٍ ﴾؛ لأنه أليق بمقام التعجيب والتشنيع.

قيل: إنهم قالوا: لن نعذب إلا سبعة أيام، وقيل: أربعين يومًا، وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل[2].

﴿ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ﴾؛ أي: أطمعهم في غير مطمع، وخدعهم في دينهم الباطل.

﴿ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ «ما»: مصدرية، أو موصولة، أي: وخدعهم في دينهم افتراؤهم أو الذي كانوا يفترون ويختلقون من الكذب والدعاوى والأماني الباطلة، ومن ذلك قولهم: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾، وقولهم: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18]، وقولهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111].

فذكر لتوليهم وإعراضهم سببين، الأول: أمنهم وشهادتهم الباطلة لأنفسهم بالنجاة، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات.

والثاني: تزيين الشيطان لهم سوء عملهم، فاغتروا بذلك وتراءى لهم أنه الحق؛ عقوبةً لهم على إعراضهم عن الحق.

قوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.

ذكر الله - عز وجل - في الآية السابقة زعم أهل الكتاب الباطل أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودات، وخداعهم لأنفسهم بالافتراء والأماني الباطلة، ثم أتبع ذلك باستعظام وتهويل سوء حالهم ومآلهم يوم القيامة مهددًا ومتوعدًا.

قوله: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ ﴾: ﴿ فَكَيْفَ ﴾: استفهام لتعظيم وتهويل سوء حالهم؛ أي: كيف تكون حالهم، أو كيف يصنعون إذا جمعناهم ﴿ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ الآية.

فلا تسأل عما هم فيه من الهم والكرب وشدة العذاب والحسرة والندم على ما فاتهم من الأجر والثواب.

﴿ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾: (اللام) بمعنى «في»، وتُسمى لام التوقيت، أي: في يومٍ لا ريب فيه، وهو يوم القيامة، ونُكِّر «يوم» للتعظيم، كما قال تعالى: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [المطففين: 4، 5]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 27]، وقال تعالى: ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [المدثر: 9، 10].

قال ابن كثير[3]: «أي: كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله، وكذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله، ومحاسبهم علىه، ومجازيهم به».

﴿ لا ريب فيه ﴾؛ أي: لا ريب ولا شك في وقوعه؛ وهذا خبر من الله تعالى، فهذا اليوم آتٍ وواقع لا محالة، وعلى ذلك دلَّ الكتاب والسنة والعقل.

ويُحتمل أن يكون قوله: ﴿ لا ريب فيه ﴾ خبر بمعنى النهي، أي: لا ترتابوا فيه[4].

﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ جَمَعْنَاهُمْ ﴾، وجاء العطف بالواو دون «ثم» التي للتراخي؛ للدلالة على سرعة حسابه عز وجل للخلائق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 202].

و«ما»: موصولة أو مصدرية؛ أي: أُعطِيت كل نفس مكلفة من الإنس أو الجن كسبها أو الذي كسبته من خير أو شر وافيًا، أي: أُعطِيت جزاء عملها وافيًا ثوابًا كان أو عقابًا، وجُعِلت التوفية للكسب، وجُعِل المكسوب مكان الجزاء؛ إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾: الجملة حالية، أي: والحال أنهم لا يظلمون، أي: وهم لا يُنقَصون شيئًا من أعمالهم وثوابها، ولا يتعدى علىهم بالزيادة في عقابهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [يس: 54]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله - عز وجل -: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا»[5].

[1] أخرجه مسلم في «الإيمان» (91)، والترمذي في «البر والصلة» (1999)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

[2] راجع ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80].

[3] في «تفسيره» (2/ 22).

[4] راجع ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ﴾ [البقرة: 2].

[5] أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب» (2577).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 09-01-2025, 02:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ.... ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [ال عمران: 21، 25].

1- ذم أهل الكتاب، والتشنيع علىهم، وتوعدهم بعذابٍ أليم؛ لكفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين والآمرين بالعدل تكبرًا منهم وعنادًا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، وهذا وعيدٌ لهم ولمن سلك مسلكهم.

2- وجوب الإيمان بآيات الله، والحذر من الكفر بها.

3- عِظم حُرمة قتل وقتال النبيين، وأنه من الكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾.

4- أن قتل الأنبياء وقتالهم لا يمكن أن يكون بحق؛ لقوله تعالى: ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾.

5- شدة حرمة قتل وقتال الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ حيث قُرِنَ بالكفر وقتل النبيين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾.

6- فضل الأمر بالعدل والآمرين به؛ لأن الله جعلهم بعد النبيين.

7- جوز التهكم بالكفار؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فسمى إخبارهم بالعذاب بشارة تهكمًا وسخرية بهم.

8- شدة عذاب الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين والآمرين بالقسط؛ لقوله تعالى: ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ أي: موجِع حسيًّا للأبدان، ومعنويًّا للقلوب.

9- تحقير الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين والآمرين بالقسط، وحبوط أعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾، فأشار إليهم بإشارة البعيد تحقيرًا لهم، وبيَّن بطلان أعمالهم وجزائها في الدنيا والآخرة.

10- أن الكفر مُحبِط للأعمال، وأن مِن أعظم وأشنع أعمال الكفار قتل الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس.

11- أن الكفار ليس له ناصر يدفع عنهم عذاب الله ونقمته؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾.

12- التعجيب من حال الذين أُتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى القرآن ليحكم بينهم، ثم يتولى فريقٌ منهم ويُعرِض مع ما عندهم مما يصدقه في كتبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾.

13- أن العلم إذا لم يصاحبه توفيق من الله تعالى فإنه لا ينفع صاحبه، بل يكون وبالًا علىه، فهؤلاء مع ما هم علىه من العلم لم يهتدوا للعمل.

14- أن اللوم والذم والمؤاخذة لمن تولى وأعرض إنما تكون بعد إقامة الحُجة عليه بدعوته؛ لقوله تعالى: ﴿ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾.

15- أن التحاكم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن يجب أن يكون إلى حكم الله - عز وجل - في القرآن الكريم في كل شيء من العبادات والمعاملات وغير ذلك؛ لنسخه لجميع الكتب قبله.

16- تعظيم القرآن وتشريفه بإضافته إلى الله - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ﴾.

17- أن من أهل الكتاب من أجاب الدعوة إلى كتاب الله، فأسلموا وحَسُنَ إسلامهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾، ومفهوم هذا أن فريقًا منهم لم يتوَلَّ ولم يُعرِض، بل أسلم.

18- أن أشد ما يكون في المخالفة والرد والعناد، وفي الذم أن يجتمع التولي عن الحق بالأبدان والإعراض عنه بالقلوب؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾.

19- أن سبب تولي وإعراض فريق من أهل الكتاب زعمهم أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودات؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾.

20- جرأة أهل الكتاب على الكذب على الله وغرورهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾.

21- تصديق أهل الكتاب بوجود النار، وبالبعث بعد الموت، لكن هذا لا ينفعهم مع توليهم وإعراضهم عن الانقياد والعمل بكتاب الله تعالى.

22- التحذير من الاغترار بالأماني الباطلة والانخداع بها؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾.

23- لا ينبغي أن يغتر الإنسان ويعجب بما هو علىه من تدين، ويُدِلَّ على الله بعمله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ﴾، وليسأل الله التوفيق للإخلاص والثبات على الحق وحسن الختام.

24- تهويل وتعظيم سوء حال ومآل هؤلاء المتولين المعرضين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ الآية.

25- إثبات القيامة والمعاد وجمع العباد؛ لقوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾.

26- تعظيم الله تعالى لنفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ جَمَعْنَاهُمْ ﴾ بضمير العظمة وهو العظيم سبحانه.

27- تعظيم يوم القيامة وأهواله؛ لقوله تعالى: ﴿ لِيَوْمٍ ﴾ بالتنكير.

28- إعطاء كل نفس عملها وجزاءها وافيًا يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ﴾، وأن الجزاء من جنس العمل.

29- انتفاء الظلم في ذلك اليوم، فلا أحد يُظلم بأن يُنتقص من حقه، أو يُزاد في عقابه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.

لكن المؤمنين يُعاملون بالفضل، فَيُضاعِف الله لهم ويزيدهم من فضله، ويعفو عن سيئات من شاء منهم.

وأما الكفار فَيُعاملون بالعدل، ويجازون بأعمالهم من غير زيادة أو نُقصان.

30- كمال عدل الله - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾؛ فهذا من الصفات المنفية الدالة على كمال ضدها وهو العدل، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 122]، وغير ذلك.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09-01-2025, 02:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ.... ﴾ [آل عمران: 26].


قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

في هذه الآية بيان عظمة الله - عز وجل - وكمال ملكه، وتمام قدرته، كما أن فيها تعريضًا بأهل الكتاب، وأن إعراضهم إنما هو حسد على زوال النبوة منهم وانقراض ملكهم، وإبطالًا لزعمهم أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة.

قوله: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾: الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قُل يا محمد مُعَظِّمًا لربك ومتوكلًا علىه وشاكرًا له ومفوضًا إليه، وهو خطاب له ولمن تبِعه.

﴿ اللَّهُمَّ﴾: أصلها «يا الله» مُنادى حُذِفت منه ياء النداء.

قال ابن القيم[1]: «لا خلاف أن لفظ «اللهم» معناها: (يا الله)؛ ولهذا لا تُستعمل إلا في الطلب، فلا يُقال: (اللهم الغفور الرحيم)، بل يقول: (الله اغفر لي وارحمني)».

واختلفوا في الميم المشددة من آخر الاسم (اللهمَّ) فقيل: زيدت عِوضًا عن حرف النداء؛ ولهذا لا يُجمع بينهما في الشعر، كما قال ابن مالك[2]:
وشذ يا اللهم في قريض

ومن هذا قول الشاعر:
إني إذا ما حدث ألمَّا
أقول يا اللهمَّ يا اللهمَّ[3]




وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم كزيادتها في (زرقم) لشديد الزرقة، وفي (ابنم) في (ابن).

قال ابن القيم بعد أن ذكر هذا[4]: «وهذا القول صحيح لكن يحتاج إلى تتمة، وقائله لحظ معنى صحيحًا لابد من بيانه، وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك، وهذا مُطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعني، كما هو مذهب أساطين العربية».

إلى أن قال: «وإذا علم هذا من شأن الميم، فهم قد ألحقوها في آخر هذا الاسم (اللهم) الذي يسأل العبد به ربه سبحانه في كل حاجة وكل حال، إيذانًا بجمع أسمائه تعالى وصفاته، فإذا قال السائل: (اللهم إني أسألك) كأنه قال: أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلى بأسمائه وصفاته، فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانًا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «مَا أَصَابَ عبدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ...» وذكر الحديث بطوله.

إلى أن قال: «وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف، قال الحسن البصري: «اللهم»: مجمع الدعاء، وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله «اللهم» فيها تسعة وتسعون اسمًا من أسماء الله تعالى، وقال النضر بن شُميل: من قال «اللهم» فقد دعا الله بجميع أسمائه».

﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾: بدل من قوله «اللهم»، أو منادى ثانٍ، أي: يا مالك الملك.

ومعنى ﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ ؛ أي: لك الملك، أي: أنت المالك لكل شيء، المتصرف فيه، و(ال) في الملك هنا وفي الموضع بعده للجنس؛ أي: لك الملك كله؛ كما قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 120]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: 18].

﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾: جملة استئنافية فيها مع ما عطف علىها، ومع قوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ﴾ الآية بيان تمام ملكه، وكمال تصرفه.

و﴿ مَن ﴾: اسم موصول في محل نصب مفعول ثانٍ لـ ﴿ تُؤْتِي﴾؛ أي: تُعطي الملك الذي تشاء، أي: الذي تريد كونًا إعطاءه إيَّاه لحكمة تعلمها.

وهو مُلك نسبي كمًّا؛ لأن من أعطاه الله الملك لا يملك إلا مملكته التي أعطاها الله إيَّاها دون غيرها.

وهو مُلك نسبي كيفًا؛ لأن من أتاه الله الملك إنما يجوز له التصرف في ملكه وفق ما شرع الله، وليس له التصرف المطلق.

﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾: نزع الملك أخذه ومنعه، وفي التعبير بـ«تنزع» إشارة إلى تشبث الملوك بملكهم.

و«ما»: موصولة، أي: وتأخذ الملك من الذي تريد أخذ الملك منه بعد تمليكه، وتمنع الملك ممن تريد فلا يحصل على الملك أصلًا، كل ذلك لحكمة تعلمها.

﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ﴾؛ أي: وتقوي وتنصُر وتؤيد الذي تريد نصره، فتكون له العزة والنصر والغلبة.

﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ؛ أي: وتذل الذي تريد إذلاله، فيكون ضعيفًا ذليلًا.

والإعزاز قد يكون كونيًا فقط لحكمة وأسباب مادية، بأن يجعل الله تعالى القوة والغلبة لطائفة ولو كانت كافرة على طائفة أخرى، فيعز هذه الطائفة ويذل الأخرى وهذا في الدنيا.

وقد يكون الإعزاز كونيًا شرعيًا؛ بأن يوفق الله الإنسان لأسباب العزة الحقيقية وهي الإيمان بالله تعالى وطاعته والتقرب إليه؛ فهذه هي العزة حقًّا في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].

وبها تحصل الغلبة والنصر مع توافُر أسبابه المادية؛ كما قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].

كما أن الإذلال قد يكون كونيًّا فقط لحكمة وأسباب مادية، وقد يكون كونيًّا شرعيًّا، بأن يُخذل الإنسان ويُبتلى بأسباب الذل وهي الكفر والمعاصي؛ وهذا هو الذل حقًّا، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].

فالعز كل العز بالإيمان بالله تعالى وطاعته، والذل كل الذل بالكفر بالله ومعصيته، ولهذا قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فمعتق نفسه أو موبقها»[5].

﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾: قدَّم الخبر للتخصيص، أي: بيدك وحدك الخير كله. خير الدين، وخير الدنيا، وخير الآخرة، أي: كل ما فيه نفع ومصلحة، دينية أو دنيوية أو أُخروية من التوفيق للإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وأسباب العزة الحقيقية، والنصر على الأعداء، والأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان، والرزق الحلال، وغير ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّا ﴾ [إبراهيم: 34].

وفي الحديث: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك»[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يده ملأى سحاء الليل والنهار»[7].

﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾: الجملة تعليل لما قبلها، أي: لأنك على كل شيءٍ قدير. «إنَّ»: حرف توكيد، ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾: متعلق بــ«قدير»، وقُدِّم عليه لتأكيد عموم قدرته على كل شيء أيًّا كان صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا.

و«القدرة»: فعل الشيء بدون عجز، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].

فالقدرة ضدها العجز، كما أن القوة ضدها الضعف، والقدرة يوصف بها فقط ذوو الإدراك، أما القوة فيوصف بها ذوو الإدراك وغيرهم، فيُقال: فلان قوي، كما يُقال: الحديد قوي.

قوله تعالى: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27].

دلَّل عز وجل في الآية السابقة على عظمة ملكه، وتمام قدرته بكونه يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ثم دلَّل لذلك في هذه الآية بمداولته الليالي والأيام والتصرف بالزمان.

قوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ﴾: أي وتُدخِل الليل في النهار، فيطول الليل ويزيد على النهار.

﴿ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ : أي وتُدخِل النهار في الليل، فيطول النهار ويزيد على الليل.

قال ابن كثير[8]: «أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا، فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاءً».

فإذا طال الليل- وذلك في الشتاء- مال الجو إلى البرودة حتى تصل البرودة ذروتها لقلة زمن وجود الشمس على سطح الأرض وكون شعاعها غير عمودي، وإذا طال النهار- وذلك في الصيف- مال الجو إلى الحرارة حتى تصل الحرارة ذروتها، وذلك لطول زمن وجود الشمس على سطح الأرض وكون شعاعها عموديًّا.

ومن حكمة الله تعالى ورحمته كون هذا التداخل بين الليل والنهار تدريجيًّا؛ حتى لا يؤثِّر ذلك على الكائنات والنبات ونظام الحياة؛ ولهذا كانت فصول السنة أربعة فصول: فصل الشتاء، وفصل الصيف، وفصلان انتقالان بينهما وهما: فصل الربيع، وفصل الخريف.

وفي هذا كله من المنافع والمصالح للإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك ما لا يُحصى، فيحصل كل نوع من الكائنات الحية والنباتات على ما يناسبه، فبعض الكائنات والنباتات تحتاج إلى البرودة، وبعضها يحتاج إلى الحرارة، وبعضها يحتاج إلى الأمرين، وبعضها يحتاج إلى الاعتدال.

﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾: قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «الميْت» بالتخفيف، وقرأ الباقون ﴿ الْمَيِّتِ﴾بالتشديد.

و«الميْت» بالتخفيف: الذي قد مات دون الذي لم يَمُت، و«الميِّت» بالتشديد الذي قد مات والذي لم يَمُت وسيموت، قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30].

قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ
إنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ[9]




أي: ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ ﴾حياة حسيَّة ﴿ مِنَ الْمَيِّتِ﴾موتًا حسيًّا، ومن ذلك أن الله - عز وجل - خلق آدم وأوجده وأحياه من التراب والطين الذي هو جماد لا حياة فيه، وخلق كل واحد من ذريته من نطفة وهي ميتة إلى نفخ الروح فيه بعد تمام مراحل تكوينه، كما قال تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28].

ومن ذلك إخراج الدجاجة من البيضة، وإخراج الزرع من الحبة، والنخلة من النواة، كما قال تعالى: ﴿ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [الروم: 50]، ومن ذلك أن تموت الأم ويخرج ما في بطنها حيًّا.

وأيضًا ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ ؛ أي: الولد المؤمن الحيّ حياة معنوية قلبية ﴿ مِنَ الْمَيِّتِ﴾؛ أي: من الوالد الكافر الميت موتًا معنويًّا قلبيًّا، أي: يخرج الولد المؤمن من الوالد الكافر، وهذا أعظم وأهم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].


﴿ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾: أي: وتخرج المولود الميت موتًا حسيًّا إنسانًا كان أو حيوانًا ﴿ مِنَ الْحَيِّ ﴾ من الوالد الحيّ حياة حسية إنسانًا كان أو حيوانًا، فتلد الأنثى من الإنسان أو الحيوان وتُسقِط مولودًا ميتًا، ومن ذلك إخراج البيضة من الدجاجة.

وأيضًا ﴿ وَتُخْرِجُ﴾ الولد الكافر الميت موتًا معنويًّا قلبيًّا ﴿ مِنَ الْحَيِّ ؛ أي: من الوالد المؤمن الحيّ حياة معنوية قلبية، أي: وتُخرِج الولد الكافر من الوالد المؤمن.

فهو سبحانه الذي يُخرِج المتضادات بعضها من بعض، وقد انقادت له جميع العناصر، كما قال الشاعر:
من ظاهر النِّعم الكبرى وباطنها
هذا السحاب به ماءٌ به نار
لا ينكر الله إلا جاهل نَزِقٌ
غِرٌّ بليد سفيه الرأي ختّار[10]


﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: (الرزق): العطاء، ويشمل رزق الدنيا والآخرة. ورزق الدنيا نوعان: رزق به قوام الأبدان من المآكل والمشارب والمساكن والمراكب.. ونحو ذلك، وهذا يُعطيه الله لجميع الخلق المؤمن والكافر، والبر والفاجر حتى البهائم؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].


ورزق به قوام القلوب والأرواح من الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وهذا خاص بمن وفَّقهم الله لذلك، نسأل الله من فضله.

أما رزق الآخرة فهو ما أعدهُ الله لأهل الجنة من الثواب العظيم والنعيم المقيم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 62].

والمعني: وتعطي الذي تريد من الخلق حسب ما اقتضته حكمتك ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، وحذف مفعول «ترزق»، ليعم كل رزق من رزق الدين والدنيا والآخرة.

﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ؛ أي: من غير أن تُحصي عليهم ما أعطيتهم وتحده بحد، بل تُعطي العطاء الجزيل بلا حد.

وليس معنى هذا أن الأرزاق غير مقدرة، بل كل شيء مقدر عند الله - عز وجل - كما قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].

كما أنه سبحانه يُعطي العطاء الجزيل، ولا يخاف أن ينفد ما عنده، ويعطي تفضلًا منه وكرمًا بغير عوض.

[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 483).

[2] انظر: «ألفيته» (50).

[3] البيت لأبي خراش الهذلي، ويقال: لأمية بن أبي الصلت؛ انظر: «المقتضب» (4/ 242).

[4] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 487).

[5] سبق تخريجه.

[6] أخرجه أبو داود في «الطب» (3919)، من حديث عروة بن عامر رضي الله عنه.

[7] سبق تخريجه.

[8] في «تفسيره» (2/ 23).

[9] البيت لعدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه. انظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجَّاج (2/ 157)، و«لسان العرب» مادة: (موت).

[10] البيتان للشاعر وليد الأعظمي؛ انظر: «المجموعة الكاملة» (ص135).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 09-01-2025, 02:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ... ﴾


فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 26، 27].

1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى وإنما هو مُبلِّغ عن الله - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ ﴾ الآية، وفي هذا رد على من يزعمون أنه تقوَّل القرآن وافتراه من عند نفسه.

2- أمر الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم بالثناء عليه وتعظيمه وتفويض الأمر إليه، والتوسل إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ الآيتين، وهذا أمر له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه.

3- أن الله - عز وجل - مالك الملك كله، فهو المنفرد بالملك، والمنفرد بالتصـرف فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ الآية.

4- تمام ملك الله - عز وجل - وكمال تصرفه؛ لقوله تعالى: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ الآية.

5- منح الله - عز وجل - الملك من يشاء، ونزعه ومنعه ممن يشاء، وأنه سبحانه هو المعطي المانع؛ لقوله تعالى: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى.

6- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية المبنية على الحكمة، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ لقوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ } الآية، وقوله: ﴿ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30].

7- أن الله - عز وجل - يُعِز من يشاء، ويُذِل من يشاء لحكمة يعلمها سبحانه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾.
8- أن الله تعالى بيده الخير كله؛ لقوله تعالى: ﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾.

9- ينبغي طلب العزة والخير من الله وحده؛ لأن كل ذلك بيده سبحانه وتعالى، مع بذل الأسباب المادية.

10- أن أفعال الله تعالى كلها خير، وأن الشر لا يُضاف إليه، وإن كان سبحانه هو الذي خلق كل شيء؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الخير كله بيديك والشر ليس إليك»[1].

قال ابن القيم[2]: «فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه، بل كل ما يُنسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرًّا لانقطاع نسبته وإضافته إليه، فلو أُضيف إليه لم يكن شرًّا، وهو سبحانه خالق الخير والشـر، فالشـر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله».

وقال السعدي[3]: «وأما الشر فإنه لا يُضاف إلى الله تعالى، لا وصفًا ولا اسمًا ولا فعلًا ولكنه يدخل في مفعولاته، ويندرج في قضائه، فالخير والشر كله داخل في القضاء والقدر، فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه، ولكن الشر لا يُضاف إلى الله».

11- الإرشاد والتنبيه إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذه الأمة بما خصها به من بعثة رسولها محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل إلى جميع الثقلين، وجعل كتابه مهيمنًا على جميع الكتب السماوية، وبلغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها، وأظهر دينه على الأديان كلها. وفي هذا رد على المعترضين بقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: 124]، وقال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الزخرف: 32].

12- عموم قدرة الله تعالى لكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

13- الاستغناء بالثناء عن الدعاء؛ لأن الثناء مما يتوسل به إلى الله تعالى، فهذا الثناء والتعظيم متضمن طلب العزة والخير من الله وحده؛ لأنه أهل ذلك والقادر عليه.

وكما قيل:
إذا أثنى عليك المرء يومًا
كَفَاهُ من تعرضه الثناء[4]



14- حكمة الله تعالى البالغة، وقدرته التامة، ورحمته وعنايته بخلقه في إيلاج الليل في النهار، وجعل ذلك بتدرج، وما يترتب على ذلك من اختلاف فصول السنة من حر إلى برد إلى اعتدال، وما في ذلك من المنافع والمصالح العظيمة للإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾.

15- قدرة الله تعالى العظيمة، وحكمته البالغة في إخراج الحيّ من الميت، وإخراج الميت من الحيّ، حسيًّا كان ذلك أو معنويًّا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾.

16- إخراج الحي من الميت أعظم في القدرة، وأظهر في الحكمة، وأجلّ في النعمة؛ لهذا قُدِّم- والله أعلم- على إخراج الميت من الحيّ.

17- ينبغي طلب الهداية من الله تعالى وحده، لأنه وحده القادر على التوفيق للهداية والحياة المعنوية بالإيمان.

18- بلاغة القرآن وبديع نظمه، ففي قوله تعالى: ﴿ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ جناس، وفي قوله: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ طِباق، وكذا في قوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾.

19- أن الله تعالى يَرزُق ويُعطي من يشاء، والأرزاق والخزائن كلها بيده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ ﴾.

20- أن الله - عز وجل - لا حدَّ لرزقه وعطائه، بل يرزق من يشاء بغير حساب؛ لقوله تعالى: ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.

21- ينبغي طلب الرزق من الله تعالى وحده؛ لأن الأرزاق بيده مع بذل الأسباب المادية.

[1] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (771)، وأبو داود في الصلاة (760)، والنسائي في الافتتاح (897)، والترمذي في الدعوات (3422)، من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه .

[2] انظر: «بدائع التفسير» (1/495).

[3] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/370).

[4] البيت لأمية بن أبي الصلت؛ انظر: «ديوانه» (ص17).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 09-01-2025, 02:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.... ﴾



قوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 28، 29].

قوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.

بيَّن الله - عز وجل - في الآيات السابقة في السورة قبل هذه الآيات عداوة المشركين للإسلام وأهله، وحسد اليهود لهم وتوليهم عن الإسلام، ثم أتبع ذلك بنهي المؤمنين عن موالاتهم كنتيجة لذلك.

قوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ «لا» ناهية، و«يتخذ» مجزوم بها، وكسر لالتقاء الساكنين، و﴿ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ فاعل، و﴿ الْكَافِرِينَ ﴾ مفعول أول لـ﴿ يَتَّخِذ ﴾ و﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ مفعول ثان.

والمعنى: لا يجعل المؤمنون الكافرين أولياء لهم، يوالونهم ويناصرونهم ويوادونهم.

﴿ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي: من سوى المؤمنين، أي: لا يوالون الكافرين، ويتركون ولاية المؤمنين، ولا يوالون الكافرين مع المؤمنين، بل يجب عليهم موالاة المؤمنين، وترك موالاة الكافرين.

وأيضًا: لا يجعلون للكافرين ولاية عليهم، وينتصرون بهم، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141].

والنهي للتحريم، فلا يجوز للمؤمنين موالاة الكافرين، ولا مناصرتهم، ولا الانتصار بهم، بل يجب عليهم معاداتهم، والبراءة منهم، كما قال تعالى في سورة النساء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 144]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة: 23]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1].

وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 89].

وقال هنا: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ بأسلوب الغيبة، والإظهار مقام الإضمار، ولم يقل: «لا تتخذوا» كما في آية آل عمران، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118]، وكما في آية النساء، وآيتي المائدة، وآية التوبة وآية الممتحنة؛ لأنه سبق نداء المؤمنين في هذه الآيات الخمس بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ثم جاء خطابهم بالنهي بقوله: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا ﴾.

كما سبق خطاب المؤمنين بقوله في سورة النساء: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾، ثم خاطبهم بقوله: ﴿ فَلَا تَتَّخِذُوا ﴾.

أما قوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ فلم يسبقه نداء للمؤمنين، ولا خطاب لهم، ولهذا جاء بأسلوب الغيبة، وجاء بالإظهار للدلالة على أن إيمان المؤمنين يمنعهم من موالاة الكافرين.

وقوله: ﴿ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ دليل على أن الموالاة إنما تكون بين المؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ﴾ [التوبة: 71].

﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ الإشارة لمصدر الفعل «يتخذ» أي: للمفهوم من النهي السابق، وهو اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي: ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.

﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾؛ أي: فقد برئ من الله، والله بريء منه، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22].

﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ قرأ يعقوب «تَقِيَّة» بفتح التاء، وكسر القاف، وتشديد الياء مفتوحة بعدها، وقرأ الباقون بضم التاء، وألف بعد القاف ﴿ تُقَاةً ﴾.

والاستثناء منقطع؛ لأن التقية منهم ليست بموالاة لهم. وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب.

أي: لكن أن تتقوا منهم تقاة بمداراتهم عند الضرورة في الظاهر واللسان، لاتقاء شرهم- دون الباطن والجنان، وهذا أشبه بحال المكره، وقد قال الله - عز وجل -: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106].

قال ابن القيم[1]: «معلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار، اقتضى ذلك معاداتهم، والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال، إلا إذا خافوا من شرهم، فأباح لهم التقية، وليست التقية موالاة لهم».

وقال ابن كثير[2]: «إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره، لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم»[3].

﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ الواو: عاطفة، و«يحذر» ينصب مفعولين؛ الأول: ضمير الخطاب الكاف، والثاني: قوله: «نفسه».

والمعنى: ويخوفكم الله نفسه وعقابه، إذا ارتكبتم نهيه فواليتم الكافرين.

وفي ربط التحذير بنفسه - عز وجل - تعظيم للتهديد؛ لأنه العظيم، القادر على كل شيء، الذي لا يقدر أحد على منع عذابه أو رفعه.
﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، وقدم الخبر، وهو قوله: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ ﴾ لأجل الحصر، أي: وإلى الله- عز وجل وحده، لا إلى غيره ﴿ الْمَصِيرُ ﴾.

وأظهر في مقام الإضمار، فلم يقل: «وإليه المصير»؛ لتربية المهابة في النفوس، أي: وإلى الله- عز وجل وحده المرجع والمآب، وعليه الحساب.

كما قال تعالى: ﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14].

قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

نهى الله - عز وجل - المؤمنين في الآية السابقة عن موالاة الكافرين، وحذَّرهم عذابه ونقمته، ثم أكد ذلك بالتنبيه على علمه - عز وجل - بما يخفونه في صدورهم أو يبدونه من موالاة الكافرين وغير ذلك، وعلمه ما في السماوات والأرض وقدرته التامة على كل شيء.

قوله: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾ الخطاب والأمر في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم.

وكثيرًا ما يأتي الخطاب له صلى الله عليه وسلم مصدرًا بقوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ وهو أمر بالتبليغ الخاص لهذا القول، يدل على مزيد العناية والاهتمام به والتوكيد له، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول القرآن كله ويبلغه للناس.

﴿ إِنْ تُخْفُوا ﴾ أي: إن تسروا وتكتموا، وهو خطاب للمؤمنين وغيرهم.

﴿ مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾ «ما» اسم موصول بمعنى «الذي» يعم أي شيء أخفوه من عداوة أو موالاة أو خير أو شر، أو غير ذلك. أي: الذي في قلوبكم أيًّا كان، ويعبر بـ«الصدور»؛ لأن القلوب فيها، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، ولهذا يقال للقلوب: «ذات الصدور».

﴿ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾؛ أي: أو تظهروه وتعلنوه، والضمير «الهاء» يعود إلى «ما» الموصولة.

يَعْلَمْهُ اللَّهُ }: جواب الشرط في قوله: ﴿ إِنْ تُخْفُوا ﴾.

والضمير في قوله: ﴿ يَعْلَمْهُ ﴾ يعود إلى المفهوم من الفعلين في قوله: إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ }؛ أي: يعلم ما أخفيتموه وما أبديتموه؛ لأنه - عز وجل - يعلم السر وأخفى، والسر والعلانية عنده سواء، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]، وقال تعالى: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]، وقال تعالى: ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الملك: 13].

﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ الواو: استئنافية، و«ما»: في الموضعين اسم موصول يفيد العموم، وكررت لتأكيد عموم علمه عز وجل.

والمعنى: وهو يعلم أزلًا وأبدًا جميع الذي في السموات، وجميع الذي في الأرض من المخلوقات والكائنات، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قدم المتعلِّق وهو قوله: ﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ على المتعلَّق به وهو ﴿ قَدِيرٌ ﴾؛ لتأكيد عموم وكمال وتمام قدرته - عز وجل - أي: أن قدرته - عز وجل - نافذة في كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44].

وقال - عز وجل - في الحديث القدسي: «إني على ما أشاء قادر»[4].

[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 497).

[2] في «تفسيره» (2/ 24).

[3] نكشر: أي نضحك في وجوههم ونباسطهم من الكشر، وهو ظهور الأسنان للضحك.

[4] أخرجه مسلم في الإيمان- آخر أهل النار خروجًا (187)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 21 ( الأعضاء 0 والزوار 21)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 377.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 371.60 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]