شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 45 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قد كان لي قلب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          قيم عائلية مهمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          إن الله يحول بين المرء وقلبه.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 24 - عددالزوار : 18811 )           »          قناديل على الدرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 6354 )           »          أخلاق العمل في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 37 - عددالزوار : 12537 )           »          بركـــة طعــام المسلـم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          أهم تيارات التكفير والعنف ودور الدعوة السلفية في مواجهتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 676 )           »          خشـونـة الركـبـة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-12-2024, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الغضب )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (373)

صـــــ(1) إلى صــ(18)



شرح زاد المستقنع - باب الغصب [4]
المغصوب عند رده له ثلاث حالات: إما أن يرد وتكون فيه زيادة، أو يرد ويكون فيه نقص، أو يرد وتكون فيه زيادة من وجه ونقص من وجه آخر، وقد فصلت الشريعة كل هذه الحالات بأحكامها حتى لا يظلم أحد أحدا، وألزمت بإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان ظالما.



أحوال زيادة المغصوب ونقصانه


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصر الثوب أو صبغه ونجر الخشب ونحوه، أو صار الحب زرعا، أو البيضة فرخا، والنوى غرسا رده، وأرش نقصه ولا شيء للغاصب، ويلزمه ضمان نقصه] .
المغصوب له حالتان: الحالة الأولى: أن يرده الغاصب كما أخذه، دون زيادة أو نقصان، وفي هذه الحالة يكون صاحب الحق قد وصل إليه حقه كاملا، إلا أنه يجب على الغاصب أن يضمن أجرة المغصوب إن كانت هناك منفعة منعها من الشيء المغصوب، وبينا هذا فيما تقدم.
وبناء على هذا: يبقى
السؤال إذا تصرف الغاصب في الشيء المغصوب؟ أو أن هذا المغصوب زاد من نفسه، أو نقص، أو تلف بعضه بآفة سماوية أو نحو ذلك؟ فالعلماء رحمهم الله يجعلون هذه المسألة تحت عنوان: زيادة المغصوب ونقصانه.
فإذا زاد المغصوب أو نقص فله حالتان: الحالة الأولى: أن تكون الزيادة والنقصان قد نشأ كل منهما من الشخص الغاصب، فيزيد الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، أو ينقص الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، وحينئذ تكون يد الغاصب يدا معتدية في حال النقص، ويدا متفضلة في حال الزيادة.
الحالة الثانية: أن تكون الزيادة والنقصان من المغصوب نفسه، فالمغصوب بنفسه نقص أو تلف بعضه كما لو أن شخصا اغتصب طعاما وأخذه من صاحبه، فتلف بعض الطعام وبقي بعضه وكان التلف من نفس الطعام، أو اغتصب عصيرا فصار العصير خمرا -والعياذ بالله- بسبب المدة، وهذا من نفس العصير؛ لأنه إذا طالت عليه المدة تخمر، فحينئذ حصل النقص من الشيء المغصوب.
وقد تكون الزيادة من الشيء المغصوب أيضا، مثل: ما لو أن هذا المغصوب أخذه الغاصب في حالة سيئة، ثم تحسنت حالته، كأن يكون مريضا ثم شفي من مرضه دون أن يكون الغاصب قد عالجه أو سعى في علاجه، أو يكون العبد مجنونا -كما في القديم- ثم أفاق من جنونه دون فعل من الغاصب، وحينئذ هذا الشيء الذي هو الزيادة والتحسن وقعت بفضل الله عز وجل وليس للغاصب فيها أثر.
إذا: عندنا مسألة أحوال الزيادة والنقص، وعندنا أحوال التغير التي هي الزيادة في المغصوب أو النقص، وعندنا منشأ هذا التغير، وهو أن يكون ناشئا من العين المغصوبة، أو يكون ناشئا من الغاصب.
فالمصنف رحمه الله ذكر هذه المسائل، وفي الحقيقة كل من الزيادة والنقص ينقسم إلى أقسام: تارة تكون الزيادة والنقص في الذات، وتارة في المنفعة، وتارة في الصفة.
فتزيد الذات وتزيد المنفعة، أو تنقص الذات وتنقص المنفعة، أو تزيد الصفات أو تنقص، هذه كلها أحوال للزيادة والنقص، فإن حدثت في العين المغصوبة زيادة فإما أن تكون في ذاتها، مثل: ما لو ولدت الغنم وتكاثرت، فهذه زيادة في ذات الغنم.
أو تكون الزيادة في منفعة العين المغصوبة مثل: ما لو كانت العين المغصوبة على صفة وتصرف الغاصب فيها، فأصبحت تصلح للاستغلال في أكثر من شيء، كأن تكون السيارة للركوب فقط، ثم يتصرف فيها بطريقة ما فتصبح للركوب وللحمل عليها، فحينئذ زادت منافعها.
وتارة تكون الزيادة في الصفة، مثل: ما كان في القديم يغصب رقيقا، ويكون الرقيق جاهلا فيعلمه، فإذا علمه صنعة تكون حينئذ الزيادة في الصفة، أو يغتصب إبلا أو بقرا أو غنما وهي مريضة فيردها صحيحة، أو يأخذها صحيحة ويردها مريضة، إذا: النقص والزيادة في الصفات.
وتكون الزيادة والنقص في القيمة، فيغتصبه سيارة وقيمتها أثناء الغصب عشرة آلاف ريال، ثم يرخص سعرها فتصبح بثمانية آلاف ريال، فهذا نقص في السوق والقيمة.
أو يغتصبه أرضا أو عمارة قيمتها مليونا ثم تصبح قيمتها نصف المليون أو العكس، يأخذها وقيمتها مائة ألف ثم يردها وقيمتها مائتا ألف، فهذه زيادة القيمة ونقصها.
فهذه أربعة أحوال في الزيادة والنقص؛ الذات، المنفعة، الصفات، القيمة.
كل هذا تمهيد لما سيذكره المصنف رحمه الله من المسائل، فإما أن تكون العين المغصوبة زائدة أو ناقصة، وإذا زادت أو نقصت فإما من الغاصب وإما من غير الغاصب، ثم أحوال الزيادة والنقص إما في ذات العين المغصوبة أو منافعها أو قيمتها أو في صفاتها، هذه كلها أمثلة سيذكرها المصنف تدور حول هذه الضوابط التي ذكرناها.



حكم زيادة شيء في المغصوب يمكن فصله


وقوله: (ولا شيء للغاصب (.
فلو قال الغاصب: إني تكلفت في ضرب المصوغ، وتكلفت في نسج الغزل، وتكلفت في زرع الحب والنوى، وتكلفت في نجر الخشب، نقول: يدك يد اعتداء فلا يضمن لك فعلك؛ لأنه واقع في غير موقعه وغير مأذون به شرعا، ولا تستحق عليه؛ لأنه لو قلنا باستحقاقه فمعناه أن غصبه صحيح؛ ولذلك يصف العلماء رحمهم الله يده بأنها يد عادية، ويسمونها اليد العادية، واليد العادية لا تستحق أن يضمن لها ما فعلت إلا إذا زادت أعيانا يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طالب العلم.
إذا غصب شخص شيئا وأدخل على الشيء المغصوب أعيانا يمكن فصلها ففي هذه الحالة الأعيان ملك للغاصب، ونقول للغاصب: خذ حقك ورد للناس حقوقهم، وما يمكن أن نقول له مثل المغصوب: خذ مالك وخذ مال غيرك؛ لأن الله لم يجعل له سلطانا على مال أخيه.
فنقول: الغاصب يرد ما اغتصبه، ثم بعد ذلك نقول للغاصب: خذ ما أحدثته من الزيادات التي يمكن فصلها عن العين المغصوبة، هذه المسألة خاصة خارجة عما نحن فيه، نحن نتكلم على الزيادات التي لا يمكن فصلها، فإن الحب إذا صار زرعا والنوى إذا صار غرسا لا يمكنك أن ترد الغرس إلى نوى، ولا يمكن أن ترد الزرع إلى حالته الأولى حبوبا.
فحينئذ نقول: يضمن له عين المغصوب ويضمن له النقص المترتب على فعله.
حكم البيض المغصوب إذا صار فرخا
وقوله: (أو البيضة فرخا) .
تفريخ البيض يحتاج إلى كلفة، ويحتاج إلى مؤونة وعمل، ولربما تكون الكلفة لها قيمة وهي إجارة من يقوم بتفريخ البيض، فلو اغتصب عددا من البيض ثم استأجر من يفرخه أو قام بتفريخه، فهذا التفريخ قد يستحق مائة ريال مثلا، على حسب عدد البيض.
فنقول: ترده أفراخا؛ لأن صاحب البيض مالك للبيض وما نشأ منه وكونه أفراخا؛ لأن الفرع تابع لأصله، فلما ملك البيض ملك منفعته أو ما ينشأ عنه مما يتفرع عليه، فالفرع تابع لأصله والفرخ تابع لأصله البيض، فمالك البيض مالك للأفراخ.
وثانيا: نقول له: تضمن النقص الذي ترتب على تفريخ هذا البيض.
ولو قال: أريد مؤنتي وتعبي حينما نجرت الخشب ونسجت الغزل وفرخت البيض، نقول: ليس لك منه شيء؛ لأنك فعلت شيئا لم تؤمر به، فلم يأمرك أحد أن تفرخ البيض أو تنجر الخشب أو تقصر الثوب، بل تصرفت بها من عند نفسك في يد عادية.
واليد العادية يعني: المعتدية؛ لأن يده على الشيء ليست بيد حق وإنما هي يد عادية، لكن لو كانت يد حق لأثبتنا له حقه وضمن له ذلك الحق في تصرفه في الأعيان.
حكم من صير النوى المغصوب غرسا
وقوله: (والنوى غرسا) .
لو صار النوى غرسا، النوى من التمر والرطب ممكن أن تستفيد منه في أكثر من منفعة، وممكن أن يؤخذ النوى علفا للدواب، فتسمن وتنتفع، وممكن أن يزرع، فالنوى فيه أكثر من منفعة.
فإذا صرفه إلى منفعة الزرع فقد خصه ببعض المنافع، فنقول: تكون العين المغصوبة ملكا لصاحبها، وما نشأ عنها تابع لها، فهذا الغرس تابع للنوى المغصوبة، فيكون ملكا لصاحبه، هذا الحكم الأول.
وثانيا: يجب عليه ضمان النقص بعد تقدير ما حدث من نقص بسبب هذا التصرف.
وقوله: [رده وأرش نقصه] .
(رده) في هذه الحالة يرد جميع الأعيان المغصوبة، وما تفرع عنها، فيرد الدنانير المضروبة والدراهم، ويرد النسيج، ويرد المنجور من الخشب، ويرد الزرع، ويرد النوى الذي صار نخلا، والحب الذي صار زرعا؛ يرده لأنه فرع تابع لأصله المغصوب.
وثانيا: يلزمه ضمان النقص على التفصيل الذي ذكرناه.



حكم ضرب الذهب المغصوب


فقوله: (وإن ضرب المصوغ) .
أولا: المصوغ يكون من الذهب والفضة، والذهب والفضة إما أن يكونا سبائك، وإما أن يكونا حليا، وإما أن يكونا نقدا مضروبا؛ إن كان من الذهب فدنانير، وإن كان من الفضة فدراهم.
فالذهب فيه منفعة الحلي، فيمكن أن يصاغ حليا كالأسورة والقلائد، وفيه منفعة النقد فيكون ثمنا للأشياء كالدنانير، وفي زماننا الجنيهات، وإما يكون سبائك موضوعة من أجل غلاء السوق أو نقصه أو يجعلها الإنسان عنده بحيث يتصرف بها عند الحاجة، والفضة كذلك تكون سبيكة وتكون خاما وتكون أيضا حليا، وتكون دراهم مضروبة.
في حالة ما إذا غصب ذهبا أو فضة فإما أن يأخذها سبائك أو حليا ويردها مضروبة أو العكس.
والعلماء رحمهم الله لما قالوا: وإن ضرب المصوغ، دائما نقول: ليس المهم المثال، المهم قاعدة المثال، فالذهب منه القلائد والأسورة والخواتيم، وفي الحقيقة فيه منفعة اللبس، وفيه زيادة الصنعة؛ لأن صنعته تكلف وجعله أسورة وقلائد وخواتم يكلف على الشخص، لأنه يحتاج إلى قيمة للصنعة، فإذا كان مصوغا يمكن للمرأة صاحبة الذهب أن تتحلى به، وهذه منفعة، وممكن أن تصوغه وتضربه دراهم إذا كان فضة أو تضربه دنانير إذا كان ذهبا.
لكن بالعكس، لو كان دراهم وأرادت أن تحوله حليا فإن منفعة الدراهم قاصرة، لأنها في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ما يمكن للمرأة أن تتجمل بالدراهم، لكن بالنسبة للحلي تتجمل به ويمكن أن تضربه فيكون عملة سواء كان ذهبا أو فضة.
ففي حالة ما إذا أخذه حليا ثم صاغه وضربه دراهم أو دنانير فحينئذ نقصت المنفعة الموجودة فيه؛ لأن المنفعة الموجودة فيه بالحلي أتم وأكمل مما لو كان دراهم أو دنانير، فإذا أخذه وهو حلي وعبث به فصيره دنانير أو دراهم فقد أنقص منه الصنعة وكلفتها، وأنقص منه المنفعة.
وعلى هذا اختلف العلماء، بعض من أهل العلم يقول: إذا أخذ الذهب أو الفضة وتصرف فيهما بأي تصرف بنقص أو زيادة فإنه يرد عين المغصوب، زائدا أو ناقصا ولا نطالبه بالضمان.
ومن أهل العلم من قال: إذا ضرب المصوغ دنانير أو دراهم فنطالبه برده إلى ما كان عليه، فيرد المغصوب على حالته التي كان عليها أو قريبا منها إذا تعذر عليه المثلية.
ومنهم من قال: يرده ويضمن النقص الموجود، فمثلا: لو كان حليا وهذا الحلي كله أسورة، فأخذ كيلو غرام من الذهب كله حلي، وصاغه وصهره وصيره جنيهات، قالوا: نسأل الصاغة: لو أردنا أن نصير الكيلو الذهب مصاغا وأسورة مثل ما كانت كم يكلف؟ قالوا: يكلف كل سوار خمسة ريالات مثلا، وهي عشرة أسورة، فحينئذ استحق خمسين ريالا، فقالوا: يرد المصوغ ويرد النقص الذي حدث بسبب التغير، فيضمنونه مغصوب، ويضمنونه النقص للمنافع، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
قالوا: لأنه ظلم صاحب المصوغ ففوت عليه منفعة المصوغ، ويجب عليه رد العين، فنطالبه بالأمرين: نطالبه أن يرد الذهب، إذا كان كيلو غرام فإنه يرده على حالته مهما بلغ من الدنانير المضروبة من الذهب، أو الدراهم المضروبة من الفضة، ونطالبه بدفع القيمة لكلفة الصنعة.
وفي هذه الحالة يشكل على هذا القول مسألة الربا؛ لأنه حينما غصب ذهبا وجب عليه أن يرد المثل وزنا بوزن، ويدا بيد، فإذا طالبناه بالفضل، فضل الصنعة، كان هذا نوع من المبادلة مع الفضل والزيادة، ولذلك قال بعض العلماء رحمه الله: لا يستقيم أن يطالب بالزيادة من هذا الوجه.
ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الفضل في التماثل بين الذهب بالذهب والفضة بالفضة في الصنعة والجودة، بدليل حديث التمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بتمر جيد قال عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا -يعني: الجيد- بالصاعين من الرديء، فقال عليه الصلاة والسلام: أوه عين الربا رده، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) الحديث.
قالوا: فأسقط الجودة في لقاء الربوي بالربوي، وأوجب التماثل بغض النظر عن كون أحدهما جيدا والآخر رديئا، وقد قررنا هذا في باب الربا والصرف، وبينا أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب) يقتضي التماثل بغض النظر عن الجودة في الصنعة، وبغض النظر عن الجودة في نفس الذهب معيار (21) و (24) ، بينا هذا، وقلنا: إن مذهب السلف الصالح رحمهم الله على هذا بدليل قصة ابن عمر مع الصائغ، حينما قال: إني أبيع المصاغ وأستفضل -يعني: إذا بادلت بالذهب- قدر الصنعة والتعب، فنهاه ابن عمر واستدل بعموم الحديث.
وهذا يدل على أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يفهمون العموم على ظاهره.
فإذا ثبت هذا فإنه إذا رد الذهب بالذهب على القول الأول: لا يرد إلا عين المغصوب سواء نقصت منافعه أو زادت، قالوا: لا نضمنه ذلك النقص.
ما هو جواب المصنف رحمه الله؟ وما هو جواب الحنابلة رحمهم الله عن هذا الإشكال؟!! بينا أنهم يقولون: يجب ضمان الصنعة، وهذا الضمان للصنعة يوجب أن يتحقق التفاضل، والله فرض علينا في مبادلة الذهب بالذهب التماثل، فردوا رحمهم الله -ويوافقهم على ذلك بعض الشافعية- فقالوا: إن هذا ليس من باب المبادلة والبيع، وإنما هو من باب الضمانات، والضمانات خارجة عن قاعدة الربا وليس لها علاقة؛ لأنه هو ما بادل الذهب بذهب، بل هذا عين الذهب الذي اغتصب، وهذا ضمان للتصرف في المغصوب، فلا توجد مبادلة، ومن الذي قال: إنه يبادل الذهب بذهب؟ وهذا الجواب سديد وصواب إن شاء الله؛ لأنه لم يبادل ذهبا من غير الذهب الذي أخذه، وإنما رد عين المأخوذ وليس فيه مبادلة حتى يرد إشكال الربويات في المسألة التي ذكروها.
ولا شك وأرى فيما ظهر والله أعلم أن هذا القول من القوة بمكان؛ لأن الله تعالى قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل:126] ، وأوجب الله عز وجل ورسوله ضمان الحقوق لأهلها.
فهذا الذي أخذ الذهب وتصرف فيه إذا رده وهو ناقص فإنه لم يرد الحق لصاحبه تاما كاملا، فنقول له: عليك أن ترد عين المغصوب ويلزمك أن ترد حق الزيادة التي انتقصتها بفعلك.
ثم إن هذا الرجل الذي اغتصب الذهب تصرف، ونؤاخذه بتصرفه، فإيجاب الضمان عليه على ما فعله من ضرب المصوغ إنما هو إلزامه بما فعل وجنت يداه، ومؤاخذة الجاني بجنايته تدل عليه الأصول الشرعية وتقرره، ولذلك لا شك ولا إشكال -إن شاء الله- في رد المصوغ مع ضمان النقص الحاصل بسبب الضرب.



حكم نسج الغاصب للغزل بعد غصبه


وقوله: (ونسج الغزل) .
المسألة الثانية: مسألة نسج الغزل.
المسألة الأولى: ينبغي أن ننبه على قضية وهي: إذا كان المضروب نقص وألزمناه بضمان النقص يرد
السؤال لو أنه زاد فأصبح المصوغ بعد ضربه أفضل وأتم وأكمل مما لو كان مصوغا؟ في الحقيقة بعض العلماء يذكر هذا وإن كان محل إشكال؛ لأن الحلي لا يشك أن منفعة الحلي مع وجود الصنعة أكبر، ولذلك اقتصرنا في الشرح على ما ذكرناه على أنه نقص وليس بزيادة.
وقوله: (نسج الغزل) الشيء المغزول إذا أراد الإنسان أن يتصرف فيه فينسجه، وربما يأخذه ويتصرف فيه فيجعله رداء أو لحافا، فمن حيث الأصل: الشيء المغزول يمكن أن ينتفع به في أكثر من منفعة، ويمكن أن يصرف في أكثر من وجهة، فإذا أخذه وصرفه على وجهة معينة فقد عطل المنافع التي كانت فيه أولا.
وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله: أن نسج الغزل يعتبر من إنقاص العين المغصوبة وليس من زيادتها، وبعض العلماء يقول: الزيادة، ويجعل نسجه -يعني: قيامه بالنسيج- كلفة وتعبا، وفي هذه الحالة يقول: استغل مادة الغزل واستفاد منها وجعل منها فائدة، وجعل لها قيمة، فمن هنا يكون المغصوب قد زاد، لم ينقص.
والأول أظهر من جهة المنفعة، والثاني أظهر من جهة الصفة، فهناك فرق بين الصفة وبين المنفعة، إذا جئنا ننظر إلى أن الشيء وهو خام حينما تأخذ خام الصوف أو خام الوبر وتريد أن تصرفه لأكثر من جهة فأنت بالخيار بين أكثر من منفعة، فيمكن أن تصرفه إلى منفعة الملبوسات، ويمكن أن تصرفه إلى منفعة الفرش والبسط، فالمنافع فيه وهو خام أكثر وأتم إذا كان منسوجا أو كان قد صرفه الغاصب إلى جهة معينة من المنافع.
ومن جهة الصفة كونه أصبح منسوجا لا شك أنه تكلفه الصنعة، وتحتاج منه إلى مال، خاصة إذا استأجر من يقوم بذلك، فهذه زيادة.
فهي نقص من وجه، وزيادة من وجه آخر.
وعلى هذا: إن شئت جعلت من زيادة المنفعة، وإن شئت جعلته من زيادة الذات ومن زيادة صفة الذات، وإن شئت جعلته من نقص المنافع.
والثاني أظهر وهو: أنه من نقص المنافع لأن صاحب الصوف ربما أراده لشيء غير الشيء الذي فعله الغاصب، وعلى هذا يكون أضيق، ويكون في هذه الحالة ضامنا للنقص، فنقول له: يلزمك دفع هذا الشيء الذي نسجته، فيعطيه المغصوب منه بعينه.
ثم ننظر ما الذي حدث من النقص؟ فلو كانت قيمته وهو غزل يساوي خمسين ألفا في السوق، وبعد أن نسجه أصبحت قيمته أربعين ألفا؛ لزمه ضمان النقص، ويرد الشيء المغصوب مع ضمان نقصه.
وأيضا لو كان زائدا فإنه يرده ولا يطالب بأجرة الصنعة والعمل، فلو أن هذا الشيء الذي نسجه كانت قيمته قبل أن يتصرف فيه مائة، وبعد أن تصرف فيه فأحدث فيه الصنعة كلفته الصنعة خمسين ريالا فأصبح يباع بمائة وخمسين، فقال: أريد أن يضمن حقي؛ نقول: ليس لعرق ظالم حق.
وعلى هذا: يسقط استحقاقه في هذه المنفعة ولا يضمن له كما سيأتي إن شاء الله في نص المصنف رحمه الله على هذه المسألة.



حكم تقصير الغاصب للثوب المغصوب أو صبغه


وقوله: [وقصر الثوب أو صبغه] .
يكون مفصلا ويكون غير مفصل، والعرب تسمي غير المفصل ثوبا مثل: الإحرام، فالإحرام إذا ائتزرت به في أسفل البدن، وجعلت الثاني رداء على كتفيك قيل: ثوبان، ويقال: إن هذا ثوب وهذا ثوب، فالملبوس ثوب، إذا لم يكن مفصلا له اسمه الخاص كالقميص ونحوه.
فالثوب إذا كان مفصلا فإن منفعته أكمل، لكن إذا أخذ منه وقصره وحوره فإن هذا ينقص منفعة الثوب ويضر بمصلحته، وحينئذ يكون النقص للذات، لاحظ أن الأمثلة الأولى فيها نقص للمنفعة ولكن تقصير الثوب في بعض الأحيان قد يقص من الثوب شيئا، كما لو كان للثوب كمان طويلان وقص هذين الكمين نقص، وهكذا لو كان الثوب كاملا سابغا إلى أنصاف الساقين فقصه فصار في حكم القميص فهذا نقص.
ففي هذه الحالة تصرفه في الثوب في قصارته نقص في ذاته، فلما فرغ من نقص المنافع شرع في نقص الذوات، فقال في هذه الحالة: لو أخذ من الشخص ثوبا وتصرف فيه فقصره وحوره ونقصت قيمته بالنصف، فإننا نطالبه برد الثوب ونطالبه برد النقص الذي وقع في القيمة بسبب تصرفه.
ولو سأل سائل: ما الدليل على ذلك؟ نقول: نطالبه برد المغصوب؛ لأنه ملك لصاحبه وهو عين الثوب.
ونطالبه بضمان النقص؛ لأنه من جناية يده، وقد أخذ الشيء كاملا فرده ناقصا، والله أوجب المعاقبة بالمثل ولا مثلية إلا بضمان النقص.
فنقول: عليه أن يرد الثوب مع ضمان أرش النقص.



حكم نجر الغاصب للخشب المغصوب


وقوله: (ونجر الخشب ونحوه) .
في زماننا الآن الألواح الموجودة في الخشب، أو الأوصال التي تأتي شبه مادة خامة، ممكن أن يأخذ الألواح ويجعلها دواليب، أو يجعلها مكاتب، أو يجعلها في أسطحة المنازل، أو يجعلها في أكثر من منفعة، فهي كمادة خام تصلح لأكثر من منفعة.
فلو أنه أخذها ونجرها ووضعها مثلا في نجارتها كطاولات أو أبواب أو نوافذ حتى تستغل في هذه المنفعة فقد أنقص المنافع الموجودة في العين.
فإذا قد تقرأ قوله: (نجر الخشب) ما هو نجر الخشب؟ العلماء يريدون أصل المسألة وهي مسألة المنافع، أن الغاصب إذا اغتصب شيئا فأنقص منافعه وجب عليه ضمان ذلك النقص، فإذا نظرت إلى ألواح الخشب بمنافعها التامة بعد نجارتها قد انتقصت فيجب علينا أن نقدر ذلك النقص بالرجوع إلى أهل الخبرة ونلزمه ضمانه، وهذا من العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وقامت عليه السموات والأرض، هذا فعله وهذه جنايته.
فنقول: رد الخشب بحاله منجورا، ثم اضمن ذلك النقص الذي ترتب على فعلك، فيجب عليه أن يضمنه ويرده على صاحبه.
حكم الحب المغصوب إذا صار زرعا
وقوله: (أو صار الحب زرعا) .
وهنا إذا نظرنا إلى الحب نجد فيه أكثر من منفعة، ممكن للحب أن يطحن ويصير دقيقا ثم بعد ذلك يكون فيه من المنافع الكثير، وممكن للحب أن يعطى للدواب فتغتذي به، وممكن للحب أن يغرس ويزرع.
فلما يأتي ويضعه في الزرع يكون حينئذ حده في منفعة من تلك المنافع، وصيره إلى منفعة قد لا ترغب فيها ولا تحب هذه المنفعة، فنقول: إنه يصير ملكا لصاحبه الذي هو المغصوب منه ثم يجب عليه ضمان النقص على الأصل الذي قررناه.

يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-12-2024, 09:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



حكم خصي الغاصب للعبد المغصوب

قال رحمه الله: [وإن خصى الرقيق رده مع قيمته] .
في الأمثلة الأولى أكثرها يمكن أن نجعلها تابعة لنقص المنافع على التفصيل الذي ذكرناه.
وفي قوله: (وإن خصى الرقيق) هذا نقص للذات ونقص للمنفعة، نقص لذات المغصوب ونقص لمنفعته، فالخصاء من حيث الأصل الشرعي يقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون للآدميين.
الصورة الثانية: أن يكون للبهائم.
أما للآدميين فجماهير أهل العلم على تحريمه، ولا يجوز خصاء الآدمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقه من أجل النسل والتكاثر ويخلف بعضه بعضا، فجعله في الأرض خليفة أي: أن آدم وذريته يستخلف بعضهم بعضا، ويبقى هذا النسل لعمارة الكون بذكر الله عز وجل، وفي الخصاء تعطيل لهذا المقصود، وكذلك فيه إضرار بالآدمي؛ لأن الخصاء تعذيب وفيه تغيير للخلقة، ولذلك ذكره الله عز وجل من الأفعال المحرمة التي يسولها الشيطان للعصاة من بني آدم؛ فيأمرهم فيبتك آذان الأنعام ويأمرهم بتغيير خلق الله، ويأمرهم بالتصرف في هذه الذوات البشرية بإخراجها عن طبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم:30] لا يجوز أن يبدل خلق الله.
وفي الحديث: (لعن صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) ، فجعل العلة تغيير خلقة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، ومن لعن طرد من رحمة الله، والطرد مراتب، فهناك لعنة تطرد صاحبها طردا أبديا فيختم على قلبه والعياذ بالله، وهي لعنة الكفر، ولعنة الكافرين -نسأل الله السلامة والعافية- التي يختم بها على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فهم صم بكم عمي.
وهناك لعنات المعاصي في كبائر الذنوب وتتفاوت بحسب درجات الكبائر، فبعضها أشد من بعض على حسب ما حرم الله عز وجل مما يقع فيه الإنسان من كبائر.
فالتغيير للخلقة له هذا الوعيد الشديد، واللعن من الله سبحانه وتعالى، فالأصل يقتضي عدم جواز التصرف في الآدمي بخصائه.
ومن هنا يحرم إجراء العمليات الجراحية التي تؤدي إلى قطع النسل، وتؤدي إلى تعطيل منفعة الذرية والمنفعة التي يجدها الإنسان من التكاثر والنسل، ومنفعة الجماع والاستمتاع؛ إلا إذا وجدت الضرورة، مثل: الأورام الخبيثة التي يخشى بها ضرر البدن كله، فهذه تستثنى، أما من حيث الأصل فلا يجوز استئصال هذه الأعضاء.
ومن هنا حرمت جراحة تغيير الجنس كلها؛ لأنها تغيير لخلقة الله عز وجل دون وجود دوافع توجب الإذن الشرعي لفعلها.
فثبت أن الخصاء للآدمي لا يجوز، وحكى عليه غير واحد بالإجماع، وكانوا في القديم يفعلونه في الأرقاء ويعتبر من أسوأ العادات وأشنعها، ويعتبر من المظالم التي كان يظلم بها الأرقاء، كانوا يخصونهم خوفا على الأعراض، لكنه -والحمد لله- انقرض وذهب لما فيه من تغيير خلقة الله عز وجل، والاعتداء على حرمة الآدمي.
أما خصاء البهائم ففيه منفعة من جهة تطييب اللحم، وللعلماء فيه خلاف مشهور، بعض العلماء يقول: يجوز خصاء البهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين مقرونين موجوئين، والموجوء هو: الخصي.
وقالوا: إنه في الأضاحي يطيب اللحم، فهو نقص من وجه وكمال من وجه آخر.
وقال بعض العلماء: لا يجوز الخصاء؛ لأن هناك فرقا بين الذي يحصل اتفاقا وبين الذي يحصل قسرا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أضحيته وجد الخصي أطيب لحما -والأضحية تراد للحمها- فاشتراه، ولا يدل هذا على الإذن، والحقيقة أن القول بالجواز فيه قوة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولكن الشبهة موجودة.
فإذا ثبت هذا؛ فإنه إذا خصى الرقيق فإنه يعطل منافعه؛ لأنه يتكاثر، ومن مصلحة المالك وجود هذا التكاثر، فهو تعطيل للمنفعة.
وهذه المسألة مهمة وهي: أن الاعتداء على الأعضاء وتعطيل منافعها بالكلية يوجب ضمانها، فمن اعتدى على إنسان عمدا فشل يده -والعياذ بالله-، فإنه يضمن نصف ديته، ولو أنه عطل ما كان متعددا كاليدين والرجلين تقسم الدية على حسب أعداده، وهذا سيأتينا -إن شاء الله- في كتاب الديات.
فالأذنان في كل أذن نصف الدية، والعينان في كل عين نصف دية، ثم أجفان العين الأربعة يكون لكل جفن ربع دية، فبالاعتداء من الغاصب على الرقيق بخصائه عطل منفعة عضو كامل، ولذلك يفسد عليه جماعه ويفسد المنفعة المترتبة على الجماع.
وعلى هذا: لو اعتدى شخص على آخر فضربه ضربة على خصيته وأضرت به وأماتت الخصيتين وجب أن يدفع الدية كاملة، ويلزمه ضمان الدية كاملة.
في هذه الحالة نقول: اعتداؤه بالخصاء فوت منفعة هذا العضو وعطلها بالكلية فيجب ضمانها تامة كاملة، وهذا بالقيمة، فيضمن قيمته كاملة.
وهناك خلاف في الاعتداء على الأرقاء، بعض العلماء يقولون: يضمنون بالديات نصف دية الحر، وبعضهم قال: يضمنون بالقيمة، وهذا مما يسمى بقياس الشبه، وقياس الشبه هو: أن يتردد الفرع المختلف فيه بين أصلين مختلفين في الحكم، كل منهما يوجد فيه شبه منه، فأنت إذا نظرت إلى الرقيق تجده آدميا، فهذا يوجب إلحاقه بالحر فيجب أن يدفع نصف ديته إذا قتله، وتضمن منافعه بنصف ما في الحر، فلو كانت الدية مائة ألف وأتلف خصيته يدفع خمسين ألفا، التي هي الدية الكاملة للرقيق.
القول الثاني: يقول: لا، يضمن بالقيمة، ففي بعض الأحيان تكون قيمة الرقيق ضعفي دية الحر، لأن فيه منافع، ويباع -مثلا- بمائتي ألف، فلو أنه أضر به وعطل عضوه التناسلي يدفع قيمته كاملة.
فإذا: يتردد بين الأصلين، هل نلحقه بالحر من جهة الآدمية فنوجب ضمانه كاملا بالنسبة للديات، ويكون على الوجه المعروف؟ أم نلحقه بالأموال ونوجب ضمانه بالقيمة؟ وجهان سيأتي -إن شاء الله- بيانهما في باب الجنايات.
فالذي يهمنا هنا أننا نقول للغاصب: عطلت منفعة لعضو كامل، وعطلته من صار كأنه غير موجود، فيجب عليك ضمان قيمة الرقيق بالغة ما بلغت، ويجب عليك رد الرقيق بحالته الناقصة.

حكم ضمان نقص سعر السوق

قال رحمه الله: [وما نقص بسعر لم يضمن] .
تقدم في الأمثلة الأولى النقص في المنافع وفي الذوات، وانظر إلى قوله: (وإن خصى الرقيق) فجاء بجملة منفصلة عن الجملة المتقدمة؛ لأنه بإخصاء الرقيق صار اعتداء على الذوات، وبعض العلماء يرى أنه اعتداء على المنافع، فإذا جئت تنظر إلى أن العضو تعطل فلا ينتشر ولا يجامع فيكون نقصا للذات، وإذا جئت تنظر إلى المنفعة المترتبة من الجماع يكون نقص منفعة، وأيا ما كان فقوله: (وإن خصى الرقيق) هذا للذات، ويبقى السؤال للنوع الثالث من النقص والزيادة وهو: السعر، فقضية نقص السعر ترجع إلى السوق، ويرجع فيها إلى أهل الخبرة، فقيمة الشيء المغصوب إذا نقصت أو زادت فيها الضمان، فإذا أخذ المغصوب وقيمته ناقصة ورده وقيمته كاملة فإنه يرده على حاله.
مثلا: لو أخذ شيئا قيمته مائة ألف، ولما أراد أن يرده أصبح يساوي مائة وخمسين، فإنه يرده بحاله ولا يرد له المالك الخمسين، ولا يضمن له الخمسين.
لكن لو أخذه وقيمته مائة، ورده وقيمته خمسون فإنه لا يضمن الغاصب؛ لأن هذا النقص ليس بيده وليس ناشئا من تصرفه وليس له به علاقة، بل هو راجع إلى تقدير الله عز وجل وأمره سبحانه وتعالى.
وهنا تكاد تكون المسألة إجماعية، أنه ما يضمن نقص السوق، إلا أن فيها شذوذا وخلافا حكي عن أبي ثور الفقيه المشهور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي -وكان شافعيا ثم أصبح صاحب مذهب واجتهاد وهو الذي يقول فيه الإمام أحمد رحمه الله: (أعرفه بالسنة منذ ثلاثين عاما) فكان إماما رحمه الله في الفقه والعلم والعمل- فهنا الإمام يرى أنه إذا نقص في السوق فإنه يدفع ويلزمه الضمان، بناء على هذا القول الضعيف الشاذ: لو أخذ السيارة وقيمتها خمسون ألفا، ولما ردها بعد سنة أصبحت قيمتها خمسة وعشرين ألفا فيردها مع خمسة وعشرين ألفا، ويضمن النقص، ولكن الصحيح أنه لا يضمن نقص السوق.
فإذا: أصبح عندنا نقص الذوات مضمون، ونقص المنافع مضمون، ونقص السوق والسعر غير مضمون، على أصح قولي العلماء رحمهم الله.

حكم ضمان النقص بمرض

قال رحمه الله: [ولا بمرض عاد ببرئه] .
هذا نقص الصفات.
صورة المسألة: أخذ دواب وهي مريضة، كأن يغتصب إبلا أو بقرا أو غنما وهي مريضة، ثم ردها وهي صحيحة قد عوفيت وشفاها الله عز وجل، فلا يضمن المغصوب منه الزيادة، وكذلك لو أنه أخذها وهي سليمة صحيحة -وهي صورة المسألة التي معنا- ومرضت عنده ثم شفيت، فردها وهي صحيحة فلا ضمان عليه، فلو اغتصب خمسين رأسا من الإبل، وهي سليمة وبعد شهر ظهر فيها الجرب -والعياذ بالله- فأصبحت مريضة وردها مجروبة فحينئذ تقدر قيمتها وهي صحيحة، وتقدر قيمتها وهي جرباء ويدفع ويلزمه ضمان النقص، فلو أخذها وهي سليمة وردها ونصفها مريض، نقول: هذا المريض يرجع إلى أهل الخبرة فينظرون في النقص الحادث في هذا النصف، فنسألهم: كم قيمته؟ قالوا: خمسون ألف ريال.
نقول له: رد الإبل المريضة بحالها وهي مريضة وادفع ضمان النقص.
إذا: لو أخذ الصحيحة وردها مريضة ضمن نقص المرض منها، ولو كان المرض من غير يده، لأن بعض الأمراض تأتي بسببه هو، وبعض الأمراض لا يتدخل فيها، فسواء تعاطى السببية فاعتدى أو لم يتعاط السببية فإنه يضمن، لو سألك سائل وقال لك: أنا أسلم لك أنه لو تسبب في مرضها مثل: أن يسقيها ماء ملوثا فمرضت بهذا الماء، فهذه سببية فإن قصد فهو عدوان، وإن لم يقصد فهو خطأ موجب للضمان؛ لأن السببية نوعان: سببية اعتداء، وسببية خطأ، فسببية الاعتداء أن يقصد أنها تمرض، فحينئذ لا إشكال أنه يضمن، يقول لك: أنا أقبل منك أنه لو وضع لها ما يتسبب في مرضها أنه يضمن، لكن لو أنها مرضت من الله سبحانه وتعالى، وجاءها المرض قضاء وقدرا، وماؤها طيب، ومرعاها طيب، ومرضت؛ فحينئذ لماذا نضمنه؟! تقول: من باب اليد العادية؛ لأن الضمان يكون بالتعدي ويكون باليد ويكون بالإفضاء، هذه كلها وجوه للضمان، فتضمنه من جهة اليد، إذا كان ما له دخل في الشيء، تقول: لأنه لما اغتصب صارت يده يد عدوان، ويد العدوان تضمن تسببت أو لم تتسبب.
يقول لك: كيف وجه ذلك؟ تقول: لأنه لما اعتدت يده وأخذها وهي سليمة صحيحة فإن الله ألزمه في ذمته أن يردها صحيحة سليمة، فإذا نقصت وأصابها الضرر -ولو كان قضاء وقدرا- فإنه لم يرد الكامل كاملا، وإنما رده ناقصا فلم يرد المثل، فيجب عليه الضمان بيده التي اعتدت والتي يسميها العلماء: اليد العادية؛ لأنه بالغصب صار متحملا للمسئولية.
وعلى هذا: يجب عليه ضمان النقص في الصفات ولو لم يكن له تسبب.
لاحظ في الأول -وهو النقص إذا كان في المنافع- الغالب أنه يفعل شيئا ويتدخل، فيجعل المصوغ مضروبا، ويجعل النوى غرسا، والحب زرعا، فهذا يتعاطى الفعل، لكن هنا في الصفات كثير منها قد يكون له تدخل منه، لكن كثيرا ما تكون الصفات من غير فعل منه.

ضمان النقص في العبد بعد تعليمه

قال رحمه الله: [وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص] .
وهذه المسألة صورتها: أن ينقص الشيء المغصوب من وجه ويزيد من وجه آخر، فمثلا: غصب رقيقا، وعندما غصبه كان سليما، فمرض عنده، نقول: يضمن النقص العارض بالمرض، فلو كان هذا النقص يوجب عليه ضمانا يقدر بخمسين ريالا، حيث أخذه وقيمته مائة وهو صحيح، ورده مريضا بنقص خمسين، تقول: يرده ومعه خمسون ريالا.
فلو أنه علم الرقيق صنعة، وهذه الصنعة زادت في قيمته خمسين ريالا، فهو نقص من وجه وزيادة من وجه آخر، نقول: نجعلها بالمكافأة، فنجعل الخمسين بالنقص مقابل الخمسين بالزيادة؟
الجواب فيه تفصيل، إن كانت الزيادة من جنس النقص كافأت، وإن كانت الزيادة من غير جنس النقص لم تكافئ؛ لأنه ثبت استحقاق صاحب المغصوب لضمان نقصه بالمرض، والتعليم خارج عن المرض، فالتعليم شيء والمرض شيء آخر.
وعلى هذا: يكون عليه ضمان النقص، وأما الزيادة فلم يأمره أحد بتعليمه، وعلى هذا: الزيادة التي أدخلها من عند نفسه لا يكون له فيها استحقاق؛ لأنه لم يأمره أحد بهذا التعليم، فليست هناك مقابلة ومكافأة.
لكن لو كانت الزيادة من جنس التعليم كما لو أخذه وهو متعلم لصنعة، ثم نسي هذه الصنعة، فأخذه وشغله في أعمال أخرى مجانسة لهذه الصنعة، فتعلم فيها جانبا من جنس الجانب الذي كان يتقنه أولا ونسيه، فحينئذ نقول: إن هذا التعليم لما كان مقاربا لجنس الأول لم يكن النقص من كل وجه، فيمكنه أن يعارض ويكافئ، لكن في المرض لا، فالمرض مع التعليم جنسان مختلفان فلا يتكافئان ولا يتقابلان.

حكم الزيادة في العبد المغصوب ثم النقصان

قال رحمه الله: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة] .
في الأول كانت الأمثلة كلها من جهة تصرفات الغاصب، وهنا الضمان يكون باليد العادية، فنضمن الغاصب من جهة اعتدائه، فلو أخذ المغصوب مريضا ثم شفي عنده، ثم عاد مريضا مرة ثانية، فرده مريضا، نقول: لما شفي ويده يد عدوان ثبت عليه المغصوب كاملا؛ لأن كل دقيقة وكل لحظة يقوم فيها الغصب فالخطاب متوجه عليه أن يرده، فلما سلم وعوفي وشفي توجه عليه خطاب الله عز وجل برد الحقوق إلى أصحابها فامتنع فأصبحت يده متحملة للمسئولية لو نقص، كما لو أخذه صحيحا ثم مرض عنده، فإذا أخذه مريضا ثم شفي عنده ثم عاوده المرض يجب عليه ضمان النقص العارض بالمرض.
كذلك أيضا: لو أخذه هزيلا ثم أطعمه وحسن حاله وأصبحت صفاته كاملة بالسمن ونحوه، فعاد مرة ثانية وقصر فيه حتى أصبح هزيلا، فرده هزيلا نقول: اضمن النقص العارض بالهزال، وعلى هذا: يكون التضمين من جهة اليد العادية مركبا من أن الغاصب مطالب شرعا برد المغصوب، فكل تأخير يوجب عليه الضمان.
ومن أمثلة هذه المسألة في الودائع وما تقدم معنا في الوكيل، إذا أمر برد الشيء وقصر فيه وتأخر فهذا إهمال يوجب أن تنتقل يد الأمانة إلى يد الضمان والاعتداء، فإذا قصد ذلك صار معتديا، وإذا قصر وأهمل صار مهملا فيلزم بالضمان، وهذا هو الذي يؤثر في اليد، فاليد يد معتدية، والغاصب يده معتدية.
ففقه المسألة: أنه إذا تحسنت حال المغصوب فإنها حال كمال، فيجب عليه أن يرده، فلما قصر وتأخر في الرد ضمن ذلك النقص الذي وقع عنده وتحت يده وتكون يده يد ضمان من هذا الوجه.
قال رحمه الله: [ضمن الزيادة كما لو عادت من غير جنس الأول] .
كما لو أنه أخذه وهو صحيح ثم مرض عنده وعلمه صنعة تكافئ المرض، فقد رده بزيادة من غير جنس الأول؛ لأن جنس الأول: الصحة، والزيادة: علم الصنعة، وعلم الصنعة ليس من جنس الصحة، فالصحة باب خاص والعلم باب خاص.
فإذا: نقول: يجب عليه ضمان النقص الذي حدث في حال اغتصابه للعين.
قال رحمه الله: [ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما] .
صورة المسألة في هذا: لو أنه أخذ المغصوب وهذا المغصوب يتقن صنعة، ثم علمه صنعة ثانية من جنس الصنعة نفسها في النجارة أو الحدادة أو الكهرباء أو السباكة، فلما علمه إياها نسي الصنعة الأولى، فبالصنعة الأولى تكون قيمة الرقيق مائة ألف، وبالصنعة الثانية التي علمه إياها تبقى قيمة الرقيق كما هي، ويباع بمائة ألف.
فليس هناك من نقص، فالصفة -وهي العلم- كاملة، بمعنى: الجنس واحد وليس هناك تأثير في العين المغصوبة، لكن لو أنه اغتصبه وهو يتقن صنعة ثم علمه صنعة ثانية وجعله يعمل فيها فنسي الصنعة الأولى التي هي من جنسها، وكانت الصنعة الثانية أقل، فصارت قيمته ثمانين ألفا، وبالصنعة الأولى تكون قيمته مائة، فيضمن العشرين وهي النقص.
فإذا: إذا جئنا نقابل ونكافئ النقص الموجود بالزيادة الحادثة فإنه ينظر إلى اتحاد الجنس، فإن اختلف الجنس لم تؤثر الزيادة في النقص، ويجب ضمان النقص ورد العين زائدة دون دفع شيء للغاصب.
أما إذا كانت الزيادة من جنس الشيء الناقص فإنه في هذه الحالة ينظر: فإما أن تساوي أو تكون أكثر أو تكون أقل، فإذا كانت مساوية فلا إشكال، وإن كانت أقل ضمن النقص، وإن كانت أكثر رده بالزيادة، هذا بالنسبة لقوله: (إلا أكثرهما) .

الأسئلة

حكم تنازل المغصوب منه عن حقه

السؤال إذا صرف الغاصب الشيء المغصوب في منفعة أرادها المالك فما الحكم في ذلك؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إذا تصرف الغاصب ورضي المغصوب منه عن تصرفه وأقره فهذه المسألة تأتي على صور عديدة، ومن أشهرها: أن تنتقل إلى مسألة الصلح، ويرضى المغصوب منه بما فعله الغاصب على سبيل الصلح والمعاوضة، خاصة إذا كانت هناك زيادات توجب المقابلة، بحيث يجعل حقه مقابل ما أحدثه الغاصب.
أما من حيث الأصل الشرعي إذا رضي المغصوب منه تصرف الغاصب فقد سقط استحقاقه، أي: في هذه الحالة إذا قال: رضيت وما فعله أقبله، ولا أريد أن يدفع لي زيادة، فقد سقط استحقاقه.
أخذ دوابا قيمتها -مثلا- خمسون ألف ريال، وردها ناقصة مريضة قد أصبحت قيمتها ثلاثين ألفا، فقيل له: ما حقك؟ قال: ما أريد شيئا وأنا راض بهذا التصرف، وتنازل عن حقه وأبرأه، فلا إشكال.
فنحن نتكلم عن الأصل، أن الأصل يوجب الضمان لكن إذا رضي المغصوب منه وأقر فعل الغاصب، أو -مثلا- ضرب المصوغ فرضي المغصوب منه وقال: أريد مضروبا، فحينئذ لا إشكال، فهو لا يريد أن يطالب بحق في ذلك، والتصرف الذي في ماله مقبول عنده، فيسقط استحقاقه بالرضا، والله تعالى أعلم.

أسباب ضعف الهمة في طلب العلم

السؤال ما نصيحتك لمن يفتر عن طلب العلم ولا يصبر على مكابدة مسائله، وكيف تقوى الهمة في طلب العلم؟
الجواب ضعف الهمة في طلب العلم له أسباب، أعظمها وأخطرها وأشدها: سوء النية وتغير الطوية، فالله تعالى يقول في كتابه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] فالعلم فيه حجة، فلربما دخل طالب العلم وقلبه لله، فإذا وجد حلاوة العلم ولذته؛ لأن للعلم حلاوة وله لذة وكرامة وأنس، ومن ذاق لذة العلم نسي كل لذة سواها، ومن خاض بحور العلم وخاض في هذه العلوم المستفادة والمستقاة من نور الكتاب والسنة ألهته عن كل شيء، وكان العلماء رحمهم الله يتحدثون بما وهبهم الله من فضله.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جنتي في صدري) ، فالعلم جنة لا يعرف حلاوتها ولا لذتها ولا بركتها ولا خيرها إلا من وفقه الله عز وجل، فأتم عليه النعمة وكملها، أسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
فإذا وجد لذة العلم وأحس أن الله علمه وأنه قد ارتقى عن مستوى الجهل ربما اغتر، وظن أن له من الحول والقوة والذكاء والحفظ ما مكنه من ذلك، فإذا غير ما بنفسه غير الله ما به، فسلبه الله حوله وسلبه قوته، وأصابه بالخذلان والفتور.
النية هي التي تؤثر في همة طالب العلم، والنية هي الوقود الصالح الذي تتقد به القلوب وتشتعل بنور الإيمان حتى تتعلق بالله سبحانه وتعالى في كل كلمة وفي كل حرف، فلا تشتكي سآمة ولا مللا.
ولذلك نجد السلف الصالح رحمهم الله لما كانت نيتهم خالصة لله عز وجل -نحسبهم ولا نزكيهم على الله عز وجل- تغربوا عن الأوطان، وفارقوا الأهل والولدان، وحصل لهم من المشاق والمتاعب ما الله به عليم، وكان الرجل ينتظر الحديث الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نجده اليوم من أسهل ما يكون مدونا في الكتب، كان الرجل يجلس على طعامه ولم يفطر يوما وهو في شدة الجوع فإذا جلس يهيئ طعامه بنفسه، قيل له: إن الشيخ الفلاني له مجلس في مسجد كذا يريد أن يحدث، فيترك طعامه وينطلق إلى الشيخ، وهو جائع ولكن الله يطعمه، وهو في شدة الإعياء ولكن الله يمده بحوله وقوته، جنة في الصدور تنسي الإنسان السآمة والملل والتعب والنصب.
منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا، فتجد طالب العلم له الهمة الصادقة والإخلاص، ومن صدق مع الله صدق الله معه.
أما الأمر الثاني الذي يؤثر في طالب العلم: الجهل بحقيقة هذا العلم، ومن عرف هذا العلم ومكانته عند الله سبحانه وتعالى وعاقبته المحمودة في الدنيا والآخرة؛ هان عليه كل شيء، وبذل كل ما يستطيع لبلوغ هذه المنزلة الكريمة، والدرجة الشريفة المنيفة، وهو يسأل الله صباح مساء أن يكون من أهلها، إذا عرف حق العلم وقدره لن يسأم ولن ينصب ولن يشتكي التعب ولا السآمة ولا الملل؛ ولذلك قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] ما رضي الله سبحانه بشيء يقرنه بأحب الأشياء إليه وأعظمها زلفى لديه وهو الإيمان به سبحانه وتوحيده الذي أنزل من أجله كتبه وأرسل من أجله رسله إلا العلم فقال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11] فقرنه بالإيمان.
ثم قرنه بالإيمان في الثواب والعاقبة، وهذا من أفضل ما يكون وأجل ما يكون، لأنه لو قرن العلم بالإيمان من الجهة العامة على سبيل الإطلاق والعموم فليس كقرنه من جهة الثواب؛ لأن المقصود الأعظم من الأعمال والأقوال والطاعات: ثوابها وعاقبتها وجزاؤها؛ لأن العبد ينتظر من الله حسن الجزاء، فإذا قرن الله أعظم الأشياء عنده وأجلها وأكرمها عليه بالعلم دل على أن العلم في منزلة عظيمة، ومرتبة شريفة كريمة.
ولذلك وقف الهدهد بين يدي سليمان عليه السلام الذي ما على وجه الأرض يومها أحد أكرم على الله منه، فوقف أمامه وهو طائر، ولكن بسبب العلم تشرف أن يقول له: {أحطت بما لم تحط به} [النمل:22] فللعلم مكانة ومنزلة، تبوأ بها صاحبه المنزلة الكريمة في الدنيا والآخرة.
إذا أردت شرف العلم وعرفت ماذا يريد الله بهذا العلم جعلك الله عز وجل في همة كاملة، لا تسأم ولا تحس بالسآمة ولا الملل متى ما عرفت شرف ما تطلب.
إن الذي تطلبه أحبه الله عز وجل وشرفه وكرمه، وأحب أهله وجعلهم من خيرة خلقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أحب الله العلم وشرفه وكرمه، فاختار أهله في أشرف المواطن وأحبها وأعزها عنده سبحانه وتعالى بعد التوحيد وهي الصلاة، فلا يتقدم لإمامة الناس إلا عالم، فقال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) انظر كيف النبي صلى الله عليه وسلم يشرف أهل العلم، فجعلهم بين الناس وبين ربهم في الإمامة التي هي المقام الشريف والمنصب المنيف، فيكون بين العباد وبين ربهم مؤتمنا على أركان الصلاة وشرائطها وواجباتها, فهو شرف عظيم فيتحمل حتى سهو المأموم، كذلك أيضا شرف الله العلم ورفع قدر أهله إذا تكلموا به, ففي يوم الجمعة من تكلم وقال لأخيه: أنصت فقد لغى.
ومن شرفه: أنه إذا تكلم بعلم أمر الله غيره أن ينصتوا, فلذلك تأتي الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد ويكتبون من بكر وابتكر, حتى إذا قام الخطيب يخطب طووا الصحف وأنصتوا, أنصتوا للعالم الرباني الذي يتكلم عن علم وبصيرة.
ومن شرف العلم: أن الناس تنتظر من يدلها على الله ويهديها إلى صراطه, الناس أموات لا يمكن أن يحيوا إلا بالعلم, والناس في ظلام لا يمكن أن يهتدوا إلا بالله عز وجل ثم بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء, والناس في شقاء لا سعادة لهم إلا إذا تعلموا وعلموا, والناس في عذاب لا يمكن أن يرحموا إلا بالعلم, ولذلك قال الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] هذا فقط وأنت تستمع إلى القرآن, فكيف إذا استمعت ووعيت؟ فالرحمة تامة كاملة, فالأمة لا تزال في عناء وتعب وشقاء حتى تعرف قيمة هذا العلم وتعرف شرفه, ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله أعرف الناس بالعلم, وأولهم الصحابة رضوان الله عليهم, الذين عرفوا حق هذا العلم حينما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبوه صغارا وكبارا, ورجالا ونساء, فالنساء يقفن ويقلن: (يا رسول الله! غلب الرجال على حديثك فاجعل لنا يوما) .
وهذا من محبتهن للعلم وشعورهن بفضله.
وقال سهيل لما رجع إلى أهل مكة قال: (والذي يحلف به سهيل! ما رأيت أشد حبا من أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم, والله ما كلمهم إلا أطرقوا وكأن على رءوسهم الطير, وما رمقوه بأبصارهم) .
رضي الله عنهم وأرضاهم.
وعرف السلف الصالح فضل هذا العلم حينما تتلمذوا على العلماء، فتجدهم حريصين على مجالستهم وعلى حبهم حريصين على نقل فتاويهم ونشر الخير عنهم؛ حتى أصبحت الأمة في عز مجدها وعلو شأنها لما عرفت حق العلم.
والله لا يمكن لهذه الأمة أن تنال الخير في الدين والدنيا والآخرة إلا بهذا العلم, ولا يمكن أن تناله إلا بفضل الله ثم بفضل العلماء وطلاب العلم, ولا يمكن لطلاب العلم أن ينالوا هذا العلم بهمة صادقة لا تعب فيها ولا نصب ولا سآمة ولا ملل إلا إذا عرفوا حق هذا العلم.
فالمقصود: أن الهمة تستقر بمعرفة منزلة العلم، وانظر إلى التاجر في موسمه يسهر ليله ويبلي جسمه وتصيبه الأمراض في بعض الأحيان، فيكون مريضا، فإذا رأى الدنانير والدراهم ألهته عن مرضه وسقمه, فكيف بمن يرى رحمة الله عز وجل؟ فطالب العلم في كل كلمة يسمعها ترفع له درجة ومنزلة, وحالك اليوم ليس كحالك بالأمس.
ومن شرف مجالس العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يغفر للعبد الشقي الذي يمر ويجلس اللحظة من ذكر الله عز وجل في مجلس العلم, وجاء في الحديث: (تقول الملائكة: إن فيهم فلانا -أي: أنه عبد خطاء كثير الذنوب, مر فجلس معهم- فيقول الله تعالى: وله قد غفرت, هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) الله أكبر! حتى مجالس العلم فيها السعادة والرحمة، تقوم منها وأنت منشرح الصدر مطمئن القلب, إذا عرف طالب العلم قيمة العلم تعب من أجله.
كذلك مما يعين على الهمة الصادقة الشكر: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7] طالب العلم الذي يريد أن يقوم من المجلس يشتاق إلى الذي بعده وبمجرد ما أن ينتهي من المجلس وقلبه معلق بالله عارف بحق الله وحق عباده, فيشكر لله عز وجل ويقول: اللهم لك الحمد علمتني ما لم أكن أعلم.
وكم من أمم تنتظر من يعلمها؟! كل سطر تقرؤه وتسمعه ترفع به الدرجات والحسنات، وهو رفعة لك في الدنيا ومرضاة لربك.
فإذا: إذا نظرت أنك أصبت رحمة وأصبت خيرا وبرا فقل: الحمد لله, يرضى الله عنك وفي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها) ، فكيف بمن أصاب لذة العلم التي هي أشرف من الطعام والشراب؟! فلا تقم من مجلس علم إلا وأنت تحمد الله وتشكره وتثني على الله بما هو أهله, فإن الله يقول لنبيه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] .
طالب العلم إذا شكر نعمة الله وهبه الله الفتح, وزاده من الهمة الصادقة، وكذلك عليه أن يشكر نعمة العلماء, فيذكر فضل السلف الصالح, سل نفسك: كم من مجلس علم جلسته ولما قمت من المجلس ترحمت على صاحب الكتاب, وسألت الله أن يرحم سلف هذه الأمة الذين حفظوا العلم ووعوه وتعبوا من أجلك حتى أصبح العلم اليوم سهلا بين يديك, تنثر أمامك دواوين العلم من أئمة السلف الصالح, وتعيش الساعات واللحظات وأنت في أنس عظيم، بين يديك الأئمة وفحول العلم؟ فهل شكرت فضلهم بعد شكر الله عز وجل؟ ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
فطالب العلم الميت القلب ا





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-12-2024, 09:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الغضب )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (374)

صـــــ(1) إلى صــ(17)




شرح زاد المستقنع - باب الغصب [5]

قد يتصرف الغاصب في المغصوب بخلطه مع غيره، فلا يؤدي هذا إلى سقوط حق المغصوب منه، بل يحفظ حقه ويؤدى على تفصيل عند العلماء.
وكذلك قد يتصرف الغاصب في المغصوب بإعطائه للغير أو حتى لصاحب الحق لكن دون علمه، فكذلك لا يسقط حق المالك الأصلي بل يؤدى له على تفاصيل عند العلماء رحمهم الله.

أحكام اختلاط المغصوبات بغيرها

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وإن خلط بما لا يتميز كزيت أو خلطه بمثلهما] .
شرع المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالتصرف في الشيء المغصوب، بخلطه مع غيره، سواء كان ذلك الغير ينفصل عن المغصوب أو كان يمتزج معه حتى يصيرا كالشيء الواحد، ومن عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا بينوا أحكام الغصوبات أن يبينوا حكم هذه المسألة؛ لأن هناك مغصوبا يترك على حاله، ومغصوبا يتصرف فيه الغاصب، وهذا الفرض العقلي لا بد من بيان حكمه، وإذا تصرف فيه، فإما أن يتصرف في منافع المغصوب -وقد تقدم بيانها- وإما أن يتصرف في ذات المغصوب دون إضافة شيء عليه أو نقص شيء منه، وقد تقدم بيانه.
أما اليوم فالحديث عن الخلط، بمعنى: إضافة شيء إلى المغصوب، وإذا خلط بالمغصوب غيره فهناك صورتان:
خلط المغصوب بشيء يمكن فصله وتمييزه

الصورة الأولى: أن يكون ذلك الغير مما ينفصل عن المغصوب ولا يتصل به، بحيث يمكن أن يفصل كل واحد منهما عن الآخر.
الصورة الثانية: أن يكون العكس، بحيث يمتزجان ويختلطان حتى يصيرا كالشيء الواحد، ويصعب حينئذ تمييز الشيء المغصوب عما خلط به.
فأما الصورة الأولى، وهي: أن يقوم الغاصب بخلط المغصوب بغيره بحيث يمكن التمييز، فمن أمثلتها: أن يغصب تمرا، ثم يخلط التمر بالبر، فالبر شيء والتمر شيء، وحينئذ لا إشكال في تمكن الغاصب من فصل حق المغصوب منه عن حقه هو، فنقول له: يلزمك حينئذ أن تفصل المغصوب عما خلطته به وترده إلى صاحبه، في هذه الحالة -إذا خلط المغصوب بشيء يمكن تمييزه- عندنا حكمان: الحكم الأول: أنه مطالب بالتمييز.
والحكم الثاني: وهو متعلق بالحالات الخاصة، وهي التي لا يمكننا فيها التمييز إلا بمشقة وكلفة وأجرة وعمل، فإن أمكن التمييز بأن يقول الغاصب: أنا أميزه، كرجل اغتصب أرزا وخلطه ببر، وكان الأرز نصف صاع والبر نصف صاع، فشيء يسير يمكن فصله وفصل بعضه عن بعض، لكن لو اغتصب -مثلا- عشرة آصع من البر وخلطها بعشرة آصع من الأرز، فهذا يحتاج إلى مشقة وعناء، وإلى وقت وإلى زمان، نقول: تستأجر من يقوم بذلك، ويلزم الغاصب بدفع القيمة؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه، ولما كنا مأمورين برد هذا المغصوب إلى صاحبه وتوقف هذا الرد وإبراء ذمة الغاصب على استئجار من يقوم به، لزمه أن يستأجر وأن يرد الحق إلى صاحبه، ولو كلفه ذلك قيمة المغصوب أو أكثر، فلو فرضنا أن تمييز المغصوب عما خلط به يكلف مائة وقيمة المغصوب ثمانون، يقال: أنت ملزم بالفصل حتى ولو كانت التكلفة أكثر من القيمة؛ لأنها جناية يد يلزمه ضمانها كما تقدم معنا في أجرة رد الشيء المغصوب إلى المغصوب منه، هذا بالنسبة للصورة الأولى التي يخلط فيها الشيء المغصوب بما يمكن تمييزه، والحكم فيها واضح، والسبب في عدم ذكر المصنف -رحمه الله- لهذه الصورة: ظهور الحكم فيها ووضوحه.

خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه

أما إذا خلط المغصوب بشيء لا يمكن تمييزه عنه، فهذا يأتي على أحوال: ففي ببعض الأحوال تكون عين المغصوب موجودة، ولكنها تمتزج مع الشيء الذي اختلطت به من جنسها كزيت بزيت، وأرز بأرز، وبر ببر، وتمر بتمر -من نوع واحد- فحينئذ عين المغصوب موجودة، ولكن لا نتمكن من فصل حق الغاصب من حق المغصوب منه.
الصورة الثانية: أن يكون الخلط بشيء ليس من جنس المغصوب، كأن يخلط -كما ذكر المصنف- الدهن بالسويق، فحينئذ الدهن شيء والسويق شيء، لكن حينما خلطا مع بعضهما صارا كالشيء الواحد، وكمن اغتصب سمنا فصنع به طعاما، وكمن اغتصب دهنا من زيت ونحوه فقلى به طعاما أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يكون الحكم مخالفا للمسألة الأولى.
إذا خلط المغصوب بشيء من جنسه: كأن يجعل الزيت مع الزيت والأرز مع الأرز والتمر مع التمر، فحينئذ إما أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أغلى ثمنا وأجود، وإما أن يكون مثله في الجودة والثمن، وإما أن يكون أردأ منه، كرجل أخذ منك لترا من زيت الزيتون ووضعه مع لتر آخر من زيت الزيتون، فإما أن يكون مثله في القيمة والجودة والرداءة ومن نوع واحد وقيمتهما واحدة، وإما أن يكون أغلى منه وأجود منه -الذي يكون حق الغاصب - أو يكون حق المغصوب أغلى وحق الغاصب أرذل.
فإذا خلطه بمثله وكانا بصفة واحدة وثمن واحد، فحينئذ قال طائفة من العلماء: يجب على الغاصب أن يرد قدر المغصوب، فلو اغتصب صاعا من تمر وخلطه مع صاع آخر، نقول له: خذ من هذا المخلوط صاعا واحدا، وفقه المسألة يقوم على أن الغاصب له حق، والمغصوب منه له حق، وكلا الحقين مشتركان في الصاعين، فلو أننا قلنا لصاحب المغصوب: خذ الصاعين.
ظلمنا الغاصب، ولو أننا قلنا للغاصب: خذ الصاعين.
بقي الأصل كما هو والظلم كما هو، فالعدل أن يقال: رد إلى صاحب العين المغصوبة قدر ما اغتصبت صاعا أو لترا -إذا كان زيتا أو نحوه- فإذا رده ربما يعترض معترض ويقول: إننا لم نرد عين المغصوب؛ لأن الذي رد هو المغصوب، ومعه حق الغاصب، ف
الجواب رددنا عين المغصوب ورددنا مثله، والضمان في الغصب إما أن ترد الشيء المغصوب أو ترد ما هو مثل له، فلو أنه اغتصب صاعا وخلطه بصاع آخر وامتزجا مع بعضهما فإنه حينئذ لو أنك أخذت صاعا من هذا المخلوط، وقدر نسبة المغصوب النصف، فالنصف الثاني يعتبر بمثابة المثلي للمغصوب؛ لأنه مثله في الجودة، ومثله في القيمة والسعر، فليس هناك ضرر، فإذا قال لك قائل: لماذا عدلت إلى المثلي؟ تقول: لأنه تعذر العين، وتعذر أن نضمن العين، فنلزمه بضمان المثل، والشريعة تلزم بالعين متى أمكن ردها، وتلزم بالمثلي إذا تعذر رد العين، وهذا هو المذهب الصحيح؛ أنه إذا خلط الصاع بصاع مثله؛ وجب ضمان الصاع من المخلوط، إذا اتفقا جودة ورداءة واتفقا قيمة، فحينئذ يضمن لصاحب الحق بقدر حقه قل أو كثر.
وهناك من العلماء من يقول: يخير الغاصب، ونقول له: أنت بالخيار إن شئت أخذت صاعا من هذا الذي اختلط، وإن شئت طالبت بالمثلي من خارج المخلوط، ولكن الصحيح ما ذكرناه، أنه يضمن له حقه؛ لأنه إما أن يأخذ العين أو يأخذ المثل، وعندنا قاعدة وهي: (أنه لا يصار إلى البدل متى ما أمكن الرجوع إلى العين) .
أي: ما دام أنه يمكننا أن نرجع إلى العين ونستوفي منها الحقوق، فلا يمكن أن ننتقل إلى البدل والمثل، وهنا لو قلنا له: أعطه صاعا مثل الصاع الذي أخذته، فإنه يضمن البدل ولا يضمن الذات، ولا شك أنك لو ضمنت بعض الذات أفضل من أن يكون الضمان خارجا عن الذات كلها، ولهذه القاعدة دليل سنبينه -إن شاء الله- في قصة حكومة سليمان مع داود عليهما السلام في قضية الغنم، حيث إن الله تعالى صوب حكم سليمان بمراعاته لهذه القاعدة.
الحالة الثانية: أن يكون الشيء الذي أدخله على المغصوب أجود من الذي اغتصبه، مثال ذلك: لو أخذ أرزا وخلطه بأرز أجود وأفضل من الأرز الذي أخذه، كأن يكون -مثلا- الأرز الذي أخذه الكيلو منه بخمسة ريالات، والأرز الذي خلطه به من نفس النوع ولكن قيمة عشرة ريالات، فحينئذ يكون الخلط بما هو أجود وبما هو أغلى ثمنا، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: إذا خلط الأرز أو الدقيق أو التمر ونحو ذلك بما هو أجود منه، ننتقل إلى المثل؛ لأنه لا يمكن فصله، فحينئذ نقول له: انتقل إلى مثله.
ونترك الاثنين للغاصب، أي: العين المغصوبة -الذي هو الصاع المغصوب- مع ما هو أجود منه، يترك للغاصب، ونقول للغاصب: ابحث عن مثل ما اغتصبته، وهو صاع يعادل الصاع الذي أخذته في الصفة والقيمة.
وقال بعض العلماء: يلزم الغاصب بدفع صاع من المخلوط الذي فيه الجيد الذي له، فإن أبى فرض عليه ذلك -هذا إذا رضي المغصوب منه- ونلزمه بأخذ صاع من هذا المخلوط حتى ولو كان أجود.
وحينئذ يرد
السؤال كيف نلزم الغاصب بدفع شيء من حقه، مع أنه أجود؟ قالوا: ألزمناه بدفع الصاع من هذا المخلوط؛ لأن عين المغصوب موجودة فيه، فإذا ألزمناه بدفع صاع كان بعض العين مضمونا، فيبقى الزائد بقدر الصاع مما يؤخذ من المخلوط وهو ملك لصاحبه؛ لأنه هو الذي تسبب في الخلط، فتصبح زيادة يستحقها صاحب المال؛ لأنها من تصرفات الغاصب التي فيها العمد والعدوان، بمعنى: كأن الغاصب هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي يتحمل مسئولية جنايته، فلم يأمره أحد بالخلط، ويده يد عادية؛ لأنها دخلت على مال الغير، ورضي بإتلاف ماله بإدخاله مع مال الغير، فيتحمل مسئولية الضرر في النقص الحاصل على مالك، ونقول حينئذ: يلزمك أن تدفع الصاع، ويلزم المغصوب منه.
قالوا: لو قال المغصوب منه: لا أريد، وأريد صاعا مثل صاعي من غير المخلوط، فهل يطاع ويلزم بضمان المثلي؟ قولان للعلماء، والصحيح: أنه لا يطاع بل يلزم بأخذ الصاع مما اغتصب منه، أي: من المخلوط.
السؤال الذي يرد: لماذا ألزمناه؟ لأنه تبقى العين، وتبقى اليد في القدر الذي سيكون في داخل الصاع، هذا وجه.
والوجه الثاني: وجود الجيد والأفضل إنما هو حقه وزيادة، وكونه يقول: لا آخذ.
ليس له موجب شرعي، وإذا قال: لا آخذ، فهذا نوع من التفريط، فلو قال: أريد مثلا من خارج، صار فيه ضرر على المالك؛ لأنه في هذه الحالة يذهب ويتكلف شراء الصاع من خارج، وحقه مضمون والجيد فيه المثل وزيادة، فليس هناك من مظلمة حتى يقول: أريد الغير.
فيجب حينئذ إعطاؤه صاعا من المخلوط الذي هو أجود.
إذا: في حالة الاستواء وفي حالة الأجود يطالب الغاصب بدفع قدر مال المغصوب، سواء رضي المغصوب منه أو لم يرض، لكن لو خلطه بما هو أردأ.
فقال بعض العلماء: يضمن له مثل ما أخذ، ولا يعطي من الخلط؛ لأنه في هذه الحالة كأنه أتلف، وكأنه استهلك العين.
وقال بعض العلماء: يطالب بأخذ الموجود، ويضمن له قدر النقص من المال نفسه أو من مثله، وهذا هو الأقوى والصحيح.
ففي الثلاث صور حكمنا بالضمان من نفس المال، وهذا راجع للقاعدة التي ذكرناها، فالأصل بقاء اليد حتى يدل الدليل على رفعها وتحويلها إلى المثل أو القيمة.
والدليل على أننا نلزم المغصوب منه بالأخذ من عين ماله سواء كان في حالة الجودة أو الرداءة أو حال المثلية: قضية داود وسليمان وهي: رجل كان عنده غنم.
وجاءت الغنم في الليل ورعت فأفسدت زرع رجل آخر، فاختصما إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع تعادل قيمة الغنم، يعني: لو فرض أن الزرع قيمته مائة فالغنم قيمتها مائة، فحكم عليه السلام بأن صاحب الأرض يملك الغنم، وأثبت هذا الحكم من جهة أن صاحب الغنم مالك لها، متحمل لمسئوليتها ولكل ما ينشأ من الضرر منها، فألزمه بضمان حق صاحبه، فحكم بالغنم لصاحب الزرع، فلما خرج من عند داوود، قال سليمان: لو كان الأمر إلي لقضيت في هذا بغيره، قيل: وما تقضي؟ قال: أقضي بأن صاحب الغنم يأخذ الأرض فيعيد زراعتها ويردها كما كانت، وأحكم لصاحب الزرع أن يأخذ الغنم، فيحتلبها وينتفع من صوفها حتى يرد له صاحب الغنم أرضه كما كانت، فيرجع صاحب الزرع إلى زرعه وترجع الغنم إلى صاحبها.
فأثنى الله على حكم سليمان، والسبب في هذا: أن داود عليه السلام حكم بأن الغنم تصبح مستحقة لصاحب الأرض، فأخرج ملكية الغنم، ونزع يد صاحب الغنم عن الغنم، مع أن الغنم ملك له في الأصل.
فصوب الله حكم سليمان وجعله أصوب، وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] ، وهذا يدل على أن العلماء إذا اختلفوا وكل منهم اجتهد بدليل شرعي، فإن الكل مفهم من الله وكل لا يلام، وكل لا يثرب عليه، ولا يقبح الخلاف ولا يشنع ولا ينتقص من مكانتهم، بل يزيدهم فضلا إلى فضلهم ونبلا إلى نبلهم؛ لأنهم بذلوا ما في وسعهم.
فحينئذ لما حكم الله سبحانه وتعالى بأن الغنم تبقى لصاحبها، والأرض تبقى لصاحبها أبقى اليد كما هي، وهذا هو الذي نريده: إبقاء الأصل على ما هو عليه، فأنت إذا نظرت إلى مسألة الغصوبات، فالأصل أن هذه العين المغصوبة تبقى ملكا لصاحبها، ولا يحكم بانتقالها إلى الغاصب إلا بدليل، وحينئذ نقول: متى ما أمكن رد الزيت، أو الحبوب، أو الثمار التي خلطت بغيرها -مع أنه أجود أو أردأ- فإننا نقول بالرد، ونوجب على من فعل ذلك ضمان النقص إن وجد، ونلزمه بالدفع إن امتنع في الأجود والأحسن؛ لأنه هو الذي فرط وهو الذي ضيع ماله.
هذا إذا كان الخلط للمغصوب من جنسه، وهو الذي يمكن أن تخرج قدر المغصوب منه، فمن غصب صاعا أخرجت منه صاعا، ومن غصب صاعا وخلطه بصاع من بر، فيمكن أن تخرج من الاثنين صاعا واحدا، ولكن الإشكال إذا حصل الخلط لطعام لا يمكن الفصل فيه، فمن أخذ السمن واستهلكه في الطعام أو أخذ الدهن وخلطه في السويق فلا يمكن أن ترد السمن إلى حاله، ولا يمكن أن ترد السويق إلى حاله، فحينئذ يحكم بإلزامه ضمان مثل العين التي أتلفها.
الخلاصة: أنه إما أن يخلط على وجه يمكن التمييز والحكم فحينئذ يطالب الغاصب بالتمييز، وعليه مؤونة التمييز إن كان في ذلك كلفة ومشقة.
الحالة الثانية: أن يخلطه فلا يمكن تمييزه، فإما أن يخلطه بشيء من جنسه كزيت بزيت، وبر بر، وتمر بتمر.
فنقول له حينئذ: إن كان أجود أو كان مثليا لزمك أن تدفع مثله.
ويكون النقص على الغاص

حكم صبغ الغاصب لثوب غصبه

قال رحمه الله: [أو صبغ الثوب] .
مسألة صبغ الثوب تعتبر من إدخال العين التي لا يمكن فصلها غالبا إلا مع الحرج أو مع الإضاعة للمغصوب، ففي القديم كانت أحوال الناس ضيقة، ولم يكن القماش بالسهولة التي تتيسر للناس الآن، فإذا أخذ ثوبا ربما يلبس الثوب هذا أربع سنوات ويبقى معه.
ففي السنة الأولى يلبسه أبيض مثلا، وفي السنة الثانية يصبغه أزرق وفي السنة الثالثة يصبغه بصبغ ثالث، وهذا لا يضره، بل هذا يدل على البركة التي كانت في أموالهم، كان الشيء يبقى.
وهذا دليل على كثرة البركة في الأشياء.
ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تنزع البركة كما في صحيح مسلم: (أنه إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان أنه توضع البركة في الأرزاق والأقوات، حتى إن الشاة الواحدة يطعمها أربعون رجلا) وهذا من البركة، فكانوا في القديم يصبغون الثياب، وصبغ الثوب للحاجة؛ لأنه لا يستطيع أن يبقى به على لون واحد، فيصبغه للحاجة، فإذا صبغ الثوب فمادة الصبغ ستدخل داخل الثوب، ولا يمكن فصل مادة الصبغ عن الثوب، إلا إذا رد الثوب إلى اللون الذي كان عليه بصبغ ثاني فهذا شيء آخر.
فلا يمكن فصل الثوب، إلا بعض العلماء قالوا: يمكن في بعض الأحوال بمشقة وعناء وفيه كلفة على الغاصب.
فمن أهل العلم من قال: إذا غصب ثوبا فيلزم الغاصب بقلع الغصب.
ومنهم من قال: لا يلزم بذلك، ويأخذ المغصوب منه ثوبه، فإذا أخذ الثوب مصبوغا، فإما أن تنقص قيمته بسبب الصبغ، وإما أن تزيد قيمته بسبب الصبغ، وإما أن يبقى بقيمته التي كان عليها، فإذا نقصت القيمة نقول للغاصب: ادفع النقص، فمثلا: لو كان الثوب بخمسين ريالا بدون صبغ، ومع وجود الصبغ يباع بخمسة وعشرين، فنقصت النصف، فعند ذلك يلزم بضمان نصف قيمته، وإذا كان الصبغ يزيد في القيمة، فأصبحت قيمته مائة أو أكثر، فإنه يملكه المغصوب منه ولا شيء للغاصب، وأما إذا بقي على قيمته فلا إشكال.
قال رحمه الله: [أو لت سويقا بدهن أو عكسه] .
(أو لت سويقا بدهن) غصبه، أو غصب السويق ولته بدهن من ملكه، فالحكم مثل ما ذكرنا، إما أن يزيده أو ينقصه أو يساويه.

الانتقال من الغصب إلى الشراكة

قال رحمه الله: [ولم تنقص القيمة ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه] .
بقدر قيمة المالين، فعلى ما اختاره المصنف -رحمه الله- يدخلان شريكان في المالين بقدره، فصاحب الصبغ إذا كان صبغه يعادل سبع قيمة الثوب فله السبع، وإن زاد إلى الثلث فله الثلث، والعكس أيضا، ويفصل في المسألة على نفس التفصيل الذي ذكرناه في الحقوق.
قال رحمه الله: [وإن نقصت القيمة ضمنها] .
إذا كان بسبب الغصب، بمعنى: أن نقص القيمة تارة يكون بسبب السوق وهذا لا نتكلم فيه؛ لأننا بينا أن غلاء سعر المغصوب أو نقصه ليس من دخل الغاصب ولا يتحمل الغاصب المسئولية؛ لأن هذا من قدر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى لحكمته يتأذن برفع الأسعار وغلائها ويتأذن برخصها، على ما يشاء سبحانه وتعالى، وليس للناس في هذا دخل، ولا يلام الناس في هذا، فالغاصب إذا زادت القيمة فليس بملام، وإذا نقصت القيمة ليس بملام؛ لأن هذا ليس من يده ولا من صنعه، وقد بينا أن هذه المسألة إجماعية وأن الذي خالف فيها هو الإمام أبو ثور إبراهيم بن يزيد الكلبي رحمة الله عليه، وكان يقول: يلزمه ضمان النقص الحاصل بالأسواق، وبينا أن هذا القول ضعيف ولا يفتى به ولا العمل عليه.
قال رحمه الله: [وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه] .
فإذا دخل شريكان في الثوب أو في السويق وغلت القيمة لأحدهما، فأصبح -مثلا- الصبغ الذي صبغ به الثوب غاليا وارتفعت قيمته، فإنه يكون الغلاء من حظ الغاصب، ويدخل الغاصب في الشراكة بحسب القيمة التي زادت لصبغه، وكذلك أيضا لو لت السويق مع الدهن، لو غلا سعر الدهن كان للغاصب، ولو غلا سعر السويق كان الغلاء لصاحب العين المغصوبة، يفصل فيه على حسب.
لأن فقه المسألة: أن الغاصب له حق والمغصوب منه له حق، فإن كان الغلاء في العين المغصوبة فهو حق لصاحب العين المغصوبة، ويحسب من قيمة العين، وإن كان الغلاء للشيء الذي أدخله الغاصب فهذا حقه ويضمن له حقه، فترد للمغصوب حقه بتقدير قيمة العين المغصوبة، وترد للغاصب حقه بتقدير قيمة الشيء الذي أدخله وخلطه مع المغصوب، حتى ولو كانت القيمة غالية، ويستحق قدر ماله إذا كانا شريكين، وحكم بالشراكة على ما اختاره المصنف رحمه الله.
قال رحمه الله: [ولا يجبر من أبى قلع الصبغ] .
هذه مسألة خلافية، بعض العلماء يجبره، فمثلا: شخص له ثوب فأخذه غاصب وصبغه بلونه، فبعض العلماء يقول: لما جئنا للمغصوب منه وقلنا له: هذا ثوبك.
قال: ثوبي أبيض.
قلنا: الغاصب تصرف فيه وصبغه.
قال: لا بد أن يرد لي ثوبي كما كان.
في هذه الحالة صاحب الحق يطالب برجوع العين كما كانت، فبعض العلماء يقول: يتعذر في مثل هذا، وقد يكون فيه إتلاف للثوب، فلا يطاع ولا يجبر الغاصب على قلع الصبغ، واختلفوا في التعليل، فمنهم من يقول: لأننا إذا أجبرناه أتلفنا الصبغ وإتلاف المال منهي عنه شرعا وهو إفساد؛ فما دام أن الثوب صبغ وصلح حال الثوب، وصار إلى تمام وأفضل، فحينئذ نقول له: خذ الثوب، وإن كان الصبغ أثر في الثوب وأنقص قيمته، قلنا له: اضمن له حقه، أما أن يطالب بقلع الصبغ ويصبح الأمر أشبه بالإضرار بالغاصب، وهو يقول: لا بد أن يقلع الصبغ عن ثوبي؛ لأنه إذا قلع الصبغ عن الثوب ربما أضر بالثوب، وتصبح عليه كلفة القلع وكلفة النقص الذي يحدث في الثوب بعد القلع، وحينئذ يكون الضرر أكثر مع إتلاف الصبغ، فهناك أكثر من مفسدة، فقالوا: لا نأمر بهذا.
ولهذه المسألة نظائر، منها: لو أن رجلا عنده أرض زراعية اغتصبها شخص ثم حفر فيها بئرا، فمن مصلحة المزرعة وجود البئر، فلو قال صاحب الأرض: ما أريد! ظاهر الحال يدل على أن مصلحة المزرعة في البئر، فأصبحت المسألة مسألة إضرار بالغاصب، وأصبح هناك شيء من التعنت والأذية.
فبعض العلماء يقول: لا يطاع، ولا يلزم الغاصب بردمها، وإن كان بعض العلماء يقول: يلزم بردمها.
لكن مسألة الصبغ أقوى من مسألة البئر؛ لأن مسألة الصبغ فيها إتلاف للثوب وضرر به، وإتلاف للصبغ نفسه، فأصبح إتلافا للعين، وإتلافا أيضا للمنفعة الموجودة في العين دون وجود مصلحة، وعلى هذا قالوا: لا بجبر على قلع الصبغ.
حكم من اشترى أرضا تبين غصبها بعد الشراء
قال رحمه الله: [ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة] .
هذه مسألة تعم بها البلوى، وهي: أن يشتري شخص من آخر أرضا زراعية، وتبقى هذه الأرض مدة من الزمان، ويتبين أن الأرض ليست ملكا للبائع، وأنها ملك لشخص آخر.
فالأرض أخذها ميتة فأصبحت حية بالزرع، وأخذها بوارا فبنى واستحدث فيها، فحينئذ الأرض ليست ملكا للبائع، وإذا لم تثبت يد البائع فمعناه: أن المشتري لا تثبت يده، فتنتقل الأرض للمالك الحقيقي، فقال المالك الحقيقي: أريد أرضي، فسنقلع غرس المشتري، وسنهدم أبنيته التي بناها.
ف
السؤال من الذي يتحمل مسئولية الضرر المترتب على هذا الخطأ؟ طبعا المسألة لها صور: تارة يكون البائع الأول غاصبا للأرض ويبيعها لشخص ثم يتبين أنه غاصب، فيطالب صاحب الحق ويثبت له القضاء الحق فلا إشكال، وقد تقدمت مسألة بناء الغاصب خاصة إذا اشترى منه الشخص وهو يعلم أنه غاصب.
لكن إذا كان الشخص لا يعلم، وجاء إلى أرض وأحياها، وبعدما أحياها وزرعها باعها على شخص استخرج لها صكا، وباعها على شخص -مثلا- بمائة ألف، فأخذها الشخص الثاني فأحدث فيها بناء أو غرسا جديدا، حتى أصبحت مثلا بخمسمائة ألف، ثم تبين أن للأرض صكا أقدم من هذا الصك الذي بيعت الأرض به.
فالسؤال: من الذي يتحمل مسئولية الضرر الذي سيقع على هذا الاستحقاق؟
الجواب يطالب المشتري بقلع غرسه، ويطالب بهدم بنيانه وإعادة الأرض كما كانت، ثم نقول له: تأخذ قيمة ما دفعت -الذي هو قيمة الأرض- وتطالب الذي باعك بدفع قيمة الكلفة التي تحملتها في نقل الغرس وكذلك هدم البناء.
فيكون المتحمل للمسئولية البائع الأول؛ لأن البائع الأول كما أن له ربح الأرض كذلك عليه غرمها وخسارتها، والمشتري اشترى على أن يده يد مالكة، وإذا تبين بأن يده ليست بيد مالكة، فحينئذ يضمن هذا التفريط في معرفة حقوق الناس، ويضمن هذا التفريط في الاعتداء على أموال الناس إن كان معتديا، هذا بالنسبة إذا كان البيع من بائع واحد إلى مشتر واحد.
لكن لو فرض أن خمسة أشخاص تناقلوا هذه الأرض، فالأول باع بمائة ألف، ثم اشترى شخص ثان بعده ثم ثالث ثم رابع ثم خامس، فالخامس إذا طولب بهدم بنائه وقلع غرسه، ننظر في الضرر الذي ترتب على هذا القلع وعلى هذا الهدم وعلى هذا القلع، لو كان يساوي مائتي ألف، نقول له: ارجع بها على من باعك وهو البائع الرابع.
فالبائع الرابع يدفع المبلغ للمشتري منه، ويرجع الرابع إلى البائع الثالث، ويقول له: تدفع لي المبلغ الذي دفعته لفلان، ثم يقيم الثالث دعوى على الثاني، والثاني يقيم دعوى على الأول حتى تصل للأساس الذي غرر بالجميع، فكل منهم يطالب من غره، ولا ينتقل المشتري الأخير إلى البائع الأول مباشرة.
لا؛ لأنه ليس بينه وبين البائع الأول أي استحقاق، إنما الاستحقاق الذي وقع والبيع والمسئولية تترتب على البائع الذي ابتاع منه واشترى منه، وحينئذ يقول: اضمن لي حقي في تلف هذه الأعيان التي تلفت بالهدم أو النقص الذي حصل بنقل الغرس، فلو أنه نقل الغرس ومات -لأن الغرس إذا نقل شيء منه يموت وشيء منه يحيا- فيكون الضمان على الصورة التالية: أولا: يتحمل مسئولية القلع للغرس، فلو كلفه القلع عشرة آلاف ريال يلزمه دفعها وتحسب، ثم لو فرضنا أن أعيان المغروسات نقصت بمقدار عشرة آلاف، بعضها مات بسبب النقل وبعضها تلف، وبعضها ضعف حاله، وتردى إنتاجه، فكل هذه الأضرار يتحملها البائع الأخير للمشتري الأخير، ثم يطالب الأخير من باعه بضمان هذه الحقوق حتى يتوصل إلى البائع الأول.

يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-12-2024, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


حكم من أكل طعاما يعلم أنه مغصوب
قال رحمه الله: [وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه] .
شخص اغتصب طعاما من شخص، ثم أخذ هذا الطعام المغصوب وأطعمه مسكينا أو شخصا آخر لا يعلم أنه اغتصبه، فلا يضمن المسكين، ولكن لو علم المسكين أنه اغتصبه ثم أكله؛ لزم الضمان الآكل، أما الغاصب فلا ضمان عليه، بمعنى: أن الآكل أو المسكين أكل مالا علم أنه ليس للغاصب عليه يد، فمعنى ذلك: كأنه متعمد أن يأكل مال الأول، والغاصب ما أكل، فيضمن المسكين للغاصب، والغاصب يضمن لصاحب الحق، أما إذا كان لا يعلم فلا شيء عليه وإنما يضمن الغاصب، وعلى هذا تؤخذ مسألة الأطعمة، ومسألة الاستهلاك في الحقوق، وكلها مرتبة على هذا، ونفس الشيء في المنافع فيضمن له، ويكون الضمان على العالم إذا علم.
لو أن شخصا جاء واغتصب عمارة، ثم قال لشخص: اسكن في هذه العمارة سنة، فجاء واستأجرها بعشرة آلاف لمدة سنة، وهو لا يعلم بأنها مغصوبة، فهنا لا يضمن المستأجر، ولو تبين أنها مغصوبة أثناء مدة الإجارة انفسخت الإجارة، فصحت فيما مضى وبطلت فيما بقي، إلا إذا شاء صاحب العمارة أن يستمر مع المستأجر فلا إشكال، وهكذا بالنسبة للمركوبات ونحوها، فيكون الضمان على المستهلك، لكن لو علم أن العمارة أو السيارة مغصوبة وانتفع بها لزمه دفع الأجرة ويكون الضمان على العالم، وكما يكون في الأعيان يكون أيضا في المنافع.
قال رحمه الله: [وعكسه بعكسه] .
إذا أكل الطعام من لا يعلم أنه مغصوب لا يضمن، وإذا أكل الطعام من يعلم أنه مغصوب ضمن، فأصبحت المسألة في حال العلم وعدمه مختلفة الحكم، إن كان الآكل يعلم أنه مغصوب ضمن، والذي يضمن هو الذي أطعم وأعطى الغير ذلك الطعام.

متى تبرأ ذمة الغاصب

قال رحمه الله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه، لم يبرأ إلا أن يعلم، ويبرأ بإعارته] .
إذا اغتصب شخص من آخر حقا أو عينا فإنه تبقى ذمته مشغولة بهذا الحق وتبرأ الذمة بأحد أمرين: الأمر الأول: أن يرد عين الشيء الذي أخذه إلى صاحبه، فيأتيه ويقول له: هذه عمارتك أو هذه سيارتك التي أخذتها خذها، وضمن له نقصها، فحينئذ لا إشكال على التفصيل الذي ذكرناه.
الأمر الثاني: أن يسامحه صاحب الحق، فيقول له: قد أبرأتك وعفوت عنك، فحينئذ يبرأ.
ولكن هنا مسألة: لو أن صاحب الحق مات قبل أن يستسمحه الغاصب، كرجل اغتصب أرضا من جاره ثم توفي الجار قبل أن يسامحه، فجاء إلى ورثته وسألهم أن يسامحوه فقالوا له: قد عفونا عن المال الذي أخذته من أبينا وسامحوه، فهل يبقى حق الميت؟
الجواب اختار طائفة من العلماء أن الميت يكون خصما لهذا الغاصب في المدة التي احتبس فيها حقه عنه إلى أن توفاه الله عز وجل، فلو أنه ظلمه في هذه الأرض عشر سنوات، فإنه يكون غاصبا عشر سنوات ويلقى الله بمظلمة أخيه ولو سامح الورثة، فهم سامحوا في حقهم وليس لهم حق في أن يسامحوا في حق غيرهم، وكل نفس لها حقها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله) ، فجعل التحلل راجعا إلى صاحب الحق الأصلي، لكن بالنسبة للغاصب لا شك أنه إذا سامحه الورثة، فالأمر أفضل وأحسن من كونه يتمادى في الغصب، لكن لا يسقط الاستحقاق الأصلي للمورث -وهو الوالد أو الميت- لأنه يبقى بمظلمته حتى يلقى الله عز وجل بتلك المظلمة، ولذلك يستحب بعض العلماء أن يتصدق عن هذا الميت بعدل حقه، أن يتصدق وينويها صدقه عن هذا الميت بعدل حقه، فإذا فعل ذلك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان سيلقى الله عز وجل بمظلمة أخيه.

حكم انتفاع المغصوب منه بالمغصوب دون علمه

وقوله: [وإن أطعمه لمالكه أو رهنه] .
يبقى
السؤال لو أن هذه العين المغصوبة أطعمها لمالكها، فالذي أكل الطعام هو الشخص الذي يملك الطعام؟ شخص اغتصب صاعا من الأرز، ثم دعا صاحب الصاع عنده إلى وليمة وأطعمه إياه مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم قال له: يا أخي! قد ظلمتني في الأرز، قال: الأرز قد أكلته.
فما الحكم؟
الجواب أنه إذا كان لا يعلم، فلا يزال الصاع في ضمان الغاصب ولو أكله المغصوب منه، والسبب في هذا: أن يد الغاصب -وهي يد الضمان- لم تسقط؛ لأنه لم يعلم المغصوب منه أن هذا الذي يطعمه من ماله، وإنما دخل في ضيافة، ويظن أن هذا استحقاق، فهو يأكل بحق منفصل عن حقه الذي هو واجب على الغاصب، ولذلك كونه أكل فهذا لا يؤثر، ويبقى استحقاقه للعين المغصوبة، ويجب على الغاصب أن يضمن له المثل إذا أطعمه للمغصوب منه.
وقوله: (أو رهنه) .
إذا رهنه لمالكه ولم يعلم المالك أن هذا المال الذي رهنه هو نفس ماله فإنه لا يبرأ؛ لأن الرهن ينتقل إلى عند المرتهن وبينا في أحكام الرهن، أنه يكون الانتقال بالقبض، ويصبح الرهن لازما بالقبض وفصلنا في هذه المسألة، وبناء على ذلك: إذا أقبض المالك رهنه، فمثلا: لو أن شخصا اغتصب من شخص سيارة، ثم استدان منه عشرة آلاف ريال وجعل السيارة عنده رهنا، فإن هذا لا يوجب أن تزول يد الغصب وتبقى السيارة مضمونة عند الغاصب إذا لم يعلم المغصوب منه، أما إذا علم فهذا شيء آخر.
وقوله: (أو أودعه) .
جعله وديعة عنده.
وقوله: (أو آجره إياه) .
أخذ منه السيارة واستأجرها للركوب، فركبها وسافر بها.
وقوله: (لم يبرأ إلا أن يعلم) .
لم يبرأ الغاصب إلا أن يعلم المالك أن هذه السيارة هي سيارته، ويعلم المالك أن هذا الطعام هو طعامه، فإذا علم المالك أن هذا الطعام الذي يأكله هو طعامه، فحينئذ يكون قد أخذ حقه، وإذا علم أن هذه السيارة هي سيارته، فحينئذ تبرأ ذمة الغاصب في ضمان إجارتها المدة التي كانت عند المالك، وتكون يده حينئذ على العين المغصوبة، فإذا ردها للغاصب يكون هو المفرط وعلى هذا تبقى يد الغاصب على العين المغصوبة.
وقوله: (ويبرأ بإعارته) .
لأن الإعارة تستلزم الضمان، فتنتقل يد الغاصب، وتنتقل العين المعارة من ضمان الغاصب إلى ضمان المغصوب منه، وإذا انتقلت العين المغصوبة إلى ضمان المالك، حينئذ فاتت يد الغصب وأصبحت في ملك صاحبها، ولا يضمن الغاصب في هذه الحالة؛ لأنه لا يمكن أن نجمع بين يدين متضادتين في الغصب، فنقول: تكون العين المغصوبة المعارة في ضمان الغاصب، وفي ضمان المالك.
لا يمكن هذا؛ لأنها بالعارية تكون في ضمان المستعير، فالمغصوب منه -مالك السيارة- حينما يأخذها عارية سواء علم أو لم يعلم يكون ذلك موجبا انتقال الضمان إليه.

نصائح لطلاب العلم

أحب أن أنبه إلى أمر يقع في الدروس، وكثير من الناس حصل عنده لبس فإن البعض يخطئ بعض طلاب العلم، والحقيقة ليس هناك مجال للتخطئة، فالبعض يلاحظ على طلاب العلم أنهم عقب التسليم من الصلاة يقومون مباشرة إلى حلق العلم، وهذا ليس فيه أي غرابة، بل هذا يزكي طالب العلم ويرفع قدره ويشرفه، ويعظم الله عز وجل به أجره؛ لأن مسألة الحرص على القرب للاستماع ومن أجل أن يفهم ويعي أكثر ويتمكن من السؤال إذا أشكل عليه أمر، بعد الصلاة، فهذه كلها لا يقصد بها طالب العلم أنه يتقدم لأجل مصلحة دنيوية، إنما يتقدم من أجل (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن الصحابة رضوان الله عليهم كان أعظمهم خيرا وبركة في حديث رسول صلى الله عليه وسلم أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
أما مسألة الاقتتال والازدحام فالنصوص في هذا واضحة: أولا: القيام بعد الصلاة مباشرة، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمجرد أن صلى صلاة الفجر قام فزعا إلى بيته، فلما قام عقب الصلاة مباشرة لم يقل أذكار الصلاة ولم يعقب عليها من أجل مصلحة معينة موجودة في بيته، والحديث في الصحيح، وقال العلماء: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الذكر المعتاد لوجود العذر.
فطالب العلم عندما يقوم من مقامه مباشرة من أجل العلم لا نثرب عليه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق الحلاق في صلح الحديبية كاد الصحابة رضوان الله عليهم يقتتلون وهم يحلقون رءوسهم، فكيف إذا ازدحم طلاب العلم من أجل أن يسمعوا (قال الله وقال رسوله) .
فيجعل ذلك منكرا وخطأ! من يستطيع أن يجعل إنسانا يشتري رحمة الله ويتخوض فيها، لكن لا يسيء إلى غيره؟ لا نقول: إنهم يزدحمون ويقتتلون، لا.
نقول: إن زحامهم من أجل العلم ومن أجل أن يعي ويسمع لا تثريب عليهم فيه.
وقد كنا مع مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يسبقنا الشخص والشخصان فلا نسمع الفتوى ولا نسمع السؤال ولا الجواب.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يليه أولو الأحلام، وكان يحب أن يليه من يعقل عنه عليه الصلاة والسلام.
فهناك أشياء مخصوصة في مسألة الازدحام ومسألة التقدم حتى في صفوف الصلاة، بمعنى: الصف الأول معروف مكانه ومعروف من الذي فيه، فإذا تقدم الشخص والشخصان لضرورة الازدحام، فهذا لا تثريب عليه.
فطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم فرض عليهم أن يتعلموه، وأن يكونوا على إيمان تام به، وقد تفوت المسألة الواحدة بسبب التأخر، ولا يزال الرجل يتأخر حتى يؤخره الله، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره من الشخص أن يجلس في طرف المسجد ويستند إلى الجدار والحلقة في مقدمة المسجد إلا إذا كان عنده عذر، والبعض يقول: لا أحب أن يكون بجانبي يشوش علي.
وهو يقصد بذلك الخير، ولكن الأفضل والأكمل أن تتخوض رحمة الله، ولذلك تجد طالب العلم في اليوم الأول في الصف السادس، واليوم الثاني في الصف الرابع ثم الخامس ثم الثالث حتى يصل إلى أقرب الناس.
يقول أنس رضي الله عنه وهو يفتخر بهذه المنزلة: (لقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك حجة وعمرة) فالذي يشكل عندي: كيف نجعل المعروف منكرا؟! فالحمد لله الذي ما أماتنا حتى رأينا بأم أعيننا من يحرص على هذا العلم، وهذا -والله- نعمة وفخر! الإمام مالك رحمة الله عليه سقطت عمامته أكثر من ثلاث مرات وهو على باب مشايخه، يزدحمون من أجل رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يلومه، ويل للإنسان الذي يتتبع عورات طلاب العلم، فيأتي عامي جلف جاف لا يعرف من العلم شيئا ويقول: ما هذا الإزعاج؟ لأنه لا يعرف ما الذي يخوض العباد من أجله في رحمة الله عز وجل، فنحن في زمان أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، فلا يلام طالب العلم في الحال ولا يمكن أن ينتقص، ولا يمكن أن يقال: إن هذا باطل؛ لأن هذه مسائل خاصة.
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا توضأ يقتتل الصحابة على وضوئه) ما معنى (يقتتل) ؟ يقتتلون على وضوئه وهم يريدون فضلة وضوئه؛ لأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمكان المعجزة ولا يشاركه أحد.
لكن نحن نقول: إذا كان الصحابة يقتتلون على قطرات الماء من وضوئه عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن يبحث عن قطرات العلم التي يحيي بها ويثري بها الأمة؟! كيف بالذي يتخوض رحمة الله عز وجل وهو يبحث عن هذا العلم، وهو يريد أن يسمع كلمة تقربه إلى الله سبحانه وتعالى؟! لقد رأينا هذا من مجالس مشايخنا -ولا أجعله افتخارا أو رياء أو سمعة- والله لقد كنا نجلس في شدة الحر وكان يوافق رمضان، وكان الوالد -رحمة الله عليه- له أربعة دروس متواصلة بعد صلاة العصر، فكان عقب الفجر وعقب الظهر وعقب العصر، لكن أشدها الدرس الذي بعد العصر، آخر النهار، في شدة الصيف.
وتجد الدرس درس صحيح مسلم ثم يعقبه درس الترغيب والترهيب ثم يعقبه درس السيرة، وكل درس من هذه الدروس تكون من بعد العصر، وهذا في الصيف طويل قد يصل إلى أكثر من ساعتين، فكنا نزدحم وإن الشخص يكاد بعض الأحيان يجد رائحة النتن مع حر الصيف.
حتى إن الإنسان تجد أحيانا مثل الزبد على فمه من المشقة، فلا ينقص طالب العلم هذا، كنا نزدحم، وأقسم بالله إنه كان الرجل يضع رجله حتى في بعض الأحيان تتعب الركبة فما أستطيع أن أقف، فهذا لا ينقص طالب العلم شيئا أبدا، ولا أحد يلوم أحدا، فكانت بينهم من المحبة والمودة ما يسامح فيه الأخ أخاه، ويتجاوز عنه ويحس أنه إذا نافس فإنه ينافس في جنة عرضها كعرض السماء والأرض، ينافس في رحمة الله عز وجل ويتمنى الأخ الخير لأخيه، والذي يهمني: ألا نجعل المعروف منكرا.
أما مسألة السنة الراتبة بعد صلاة المغرب، فهناك من العلماء من يرى أنه لا بأس بتأخيرها إلى بعد العشاء، وأن المغرب والعشاء كالصلاة الواحدة، ويرى أنها سنة بعدية ولو وقعت بعد العشاء فهي بحكم السنة البعدية، وهذا مذهب بعض العلماء وأنا لا أفتي بهذا، وأرى السنة هي الأصل، لكن لو أن طالب العلم تأول القرب للعلم، فالسنة ليست بواجبة العلم فرض عليه، وليس القضية وجود السماعات والميكروفونات، فوجود السماعات والميكروفونات لا يساوي بين الناس، وإلا لاستوى من بخارج المسجد ومن بداخله، والذي بداخل المسجد الأقرب أعظم أجرا من الأبعد؛ لأن الأقرب هو الذي يبكر، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الناس أجرا في الجمعة من بكر إليها؛ لأنه بكر للعلم، وجعلت فضيلة الجمعة من أجل الخطبة، والخطبة لا تقوم إلا على العلم، وعلى الوحي؛ على قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام.
فالمقصود: كم من مرة أجد بعض الإخوان يكتبون الملاحظات وأسكت، ولكني وجدت الأمر يتجاوز الحد إلى درجة اتهام طالب العلم بأنه غير منضبط، وبعض طلاب العلم يظن أن هذا نقص في العلم وأهله، لا والله أبدا، بل هذا مما يرفع قدر طالب العلم ما اتقى الله عز وجل وفعل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته لا رياء ولا سمعة، ولم يضر بإخوانه.
وإن حصل من إخوانك لك ضرر فأحسن الظن بهم وليتسع صدرك لأخطاء إخوانك.
هذا الذي أحببت أن أنبه عليه بحيث لا يكون هناك فهم خاطيء، فمسألة حرص طلاب العلم على التذكير ومحبتهم للخير أمر طيب، ولنحمد الله ونشكره، فكم ترى أعيننا أناسا يقتتلون وهم يشترون الخبز والطعام، ويقفون الساعات الطويلة، وتجد الرجل يدخل مسجدا وينتقد طلاب العلم وهو يرى بأم عينيه من يزدحم على كسرة خبز ولا ينتقده ولا يلومه بل يذهب ويقف معه، نحن في زمان غربة، غربة الحق وأهله، فأقول: الله الله في أعراض طلاب العلم، وينبغي علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وما دام طالب العلم عنده تأويل وعنده حجة، فإنه لا يلام على ذلك، وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا ولكم فيما تعلمناه وعلمناه، ونسأله السداد والرشاد.

الأسئلة

استفادة الشريك من أرض مشتركة دون علم شريكه

السؤال: شريك باع أرضا زراعية دون علم شريكه، وكان قد استفاد من محصولها قبل بيعها، فماذا للشريك الثاني؟ هل له نصف المبلغ المباع فقط، أم له المطالبة بفوائد المحاصيل؟
الجواب إذا اشترك الاثنان في عين فتكون هذه العين بينهما بقدر الشراكة، فإذا كانت مناصفة فإنه يستحق نصف القيمة، ويستحق أيضا نصف المحاصيل التي نشأت وترتبت ربحا ونتاجا للعين المشترك فيها، فهو -بلا شك- يستحق بقدر حصته للشركة قلت أو كثرت.
وأما بالنسبة إذا باع دون إذن شريكه فهذا يختلف، ففي بعض الأحيان يوجد التفويض فيصح بيعه، وهناك أحوال تكون الشراكة فيها في الاستحقاقات، فيجب أن يرجع إلى شريكه ويستأذنه فيصح البيع في ماله، ولا يصح في مال شريكه، وبناء على ذلك يفصل في مسألة البيع وعدمه بين الشراكة التي يقصد بها المنافع وبين الشراكة التي تقتضي التفويض من كل وجه.
والله تعالى أعلم.

حكم زوال عيب المغصوب بعد رده وقبض الأرش

السؤال إن رد المغصوب معيبا، ثم زال عيبه في يد مالكه، وكان قد أخذ الأرش، فهل يلزمه رد الأرش للغاصب؟
الجواب لا يلزمه؛ لأن العبرة بحال الأداء لا بما يطرأ بعد ذلك.
والله تعالى أعلم.

الحث على غض البصر عن محارم الله

السؤال إن نعمة النظر من أجل نعم الله، وإن الله يثيب من غض عينه عن محارم الله، فكيف يمكننا أن نفوز بهذا الأجر، وخصوصا من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله؟
الجواب لا يوفق الإنسان لحفظ جوارحه مع حدود الله عز وجل إلا إذا عصمه الله بعصمته، وحفظه الله سبحانه وتعالى فصانه عما يغضبه جل شأنه وتقدست أسماؤه، ولذلك ينبغي للمسلم دائما أن يسأل الله الحفظ.
ومن أعظم ما يكون به الحفظ: أن يستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فأول ما ينبغي على الإنسان أن يسأل الله العافية في سمعه وبصره وجوارحه.
ثانيا: أن ينظر إلى نعم الله الذي نور بصره، وأطفأ بصر غيره، ولو أطبقت أطباء الدنيا على أن يعيدوا هذه النعمة لمن فقدها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ ولذلك يحمد الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليه بهذه النعمة، وأن يعلم أنه مغبون فيها، وأن من شكر الله عز وجل أن يحفظ هذا البصر عن عورات وأعراض المسلمين، فإذا وفقه الله لهذا الشعور، وعرف قيمة نعمة الله واستحيا انكسر، وهذا من صلاح القلب؛ لأن القلب إذا صلح أثر على الجوارح، ولا يصلح القلب بشيء مثل: الإيمان بالله، والنظر في نعم الله عز وجل.
كذلك مما يعين على غض البصر وحفظه عن حدود الله عز وجل: الأخذ بالأسباب، ومنها: البعد عن الأماكن التي فيها الفتن، والأماكن التي يتعرض الإنسان فيها للنظر إلى ما حرم الله، فيحفظ نفسه عن حضورها وشهودها والنزول فيها، حتى يحفظ الله له دينه، فإنه ما من نظرة إلى حرام إلا ولها أثر في القلب كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنها تنكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصبح القلب أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه.
ولله عقوبات في النظر إلى محارمه؛ فإنه ربما ابتلى الإنسان بالعمى على صراط جهنم والعياذ بالله، فعلى الإنسان أن يحفظ بصره.
كذلك من العواقب الوخيمة للنظر إلى ما حرم الله: أن الله سبحانه وتعالى يفقد صاحبه نور البصيرة التي هي: الفراسة، فتصبح الأشياء عنده مستوية، والمؤمن عنده فراسة لا تخطئ غالبا؛ لأنه إذا حفظ جوارحه حفظه الله عز وجل وصانه وبارك له فيها.
كذلك أيضا: عليه أن ينظر إلى حسن العاقبة، فإنه إذا غض بصره عن حرمات الله عز وجل؛ أعظم الله له مثوبته، فما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه، ومن الإيمان بالله: ترك الشيء لله إذا كان تركه يرضي الله، فهذا من صريح الإيمان وصدقه، وهو من اليقين بالله سبحانه وتعالى أنه يأجره، ومن تصديقه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم ما تكون الطاعة إذا كانت الفتنة أشد، فالنظر في الخلوة والنظر في الجمال الفاتن، والنظر في العورة الفاتنة أبلغ وأعظم، والغض عنه أعظم ثوابا وأجل، وخاصة إذا كان في حال الغيب، فإن الذي يخشى ربه بالغيب له مغفرة من الله وأجر عظيم وثواب كبير، وهذه المغفرة والأجر لا يعلم أجرها إلا الله وحده، فربما أعظم الله من وليه المؤمن الشاب الذي يتيسر له أن ينظر للحرام وهو في صحته وعافيته، أو ربما يفتن في نظرته للمرأة، ومع ذلك يستحي من الله جل جلاله، ويؤثر الله سبحانه على ما سواه، ويؤثر ما عند الله من حسن العاقبة وحسن الثواب، فيغض بصره لله وفي الله؛ فيعوض إيمانا بالله، وحلاوة يجدها في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله) .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

حكم أخذ المغصوب منه عن الصاع من المغصوب صاعين

السؤال إذا خلط مالا ربويا كالبر بما هو أردأ أو العكس، وتصالحا على الصاع بصاعين من المخلوط، فما الحكم؟
الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا وقع الصلح، جرت عليه أحكام البيع، فيجب التماثل ويجب التقابض، ولا يصح أن يكون أحدهما أزيد من الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك كما في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت في حديث الأصناف، وفي الصحيحين من حديث عمر وأبي سعيد الخدري وغيره من الأحاديث التي دلت على وجوب التماثل في المطعومات، إذا كانت منها أصناف ربوية، فيجب التماثل ويجب التقابض، والله تعالى أعلم.

مسألة تضمين الغاصب عند تلف المغصوب بآفة سماوية

السؤال أشكل علي تضمين الغاصب إذا تلفت العين ولو بآفة سماوية، وعدم تضمينه عند نقص قيمة العين في السوق؟
الجواب بالنسبة للتضمين، الأصل في يد الغاصب أنها يد معتدية وحينئذ هناك فرق بين التلف الذي يقع على اليد المعتدية متعلقا بالعين، والتلف الذي يقع متعلقا بالأحوال، فغلاء الأسعار ورخصها متعلق بالأحوال، والعين هي العين، موجودة كما هي، فالذي رده الغاصب هو عين المال، لكن إذا حصلت الآفة السماوية فإنه لا يرد عين المال؛ لأن التلف وقع على العين ووقع على الذات، وفرق بين النقص التابع للأحوال والنقص المتعلق بالأحوال؛ لأنه إذا نزلت الآفة السماوية على العين المغصوبة تضررت العين ونقصت، فنقول: إخراج المغصوب يوجب ضمانه، وحينئذ تلزم بالضمانة.
بناء على ذلك: يوجد فرق بين غلاء الأسعار ورخصها؛ لأنه أحوال، وبين الآفة السماوية لأنها ضرر بالذات، والحقيقة عندما تحكم الشريعة بكون يد الغاصب يد ضمان هذا أصل شرعي وصحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وإذا كانت العارية التي هي أخف من الغصب مضمونة، فكيف بإنسان يعتدي ويغصب؟ لكن على طالب العلم أن ينتبه أنه قد توجد بعض الأحوال الغريبة التي هي من الأحوال النادرة، لكنها لا تقدح في الأصل العام؛ لأنك لا تأتي وتلغي يد الغاصب المعتدية من أجل الآفة السماوية؛ لأنه ربما يخرجها فيتلفها غيره، من الذي أخرجها؟ ومن الذي يتحمل مسئولية الإخراج؟ فيد الغاصب يد معتدية وتتحمل مسئولية النقص المتعلق بالذات كما ذكرنا، دون النقص المتعلق بالأحوال مما هو من قدر الله عز وجل كالغلاء والرخص.
والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-12-2024, 09:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الغضب )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (375)

صـــــ(1) إلى صــ(15)


شرح زاد المستقنع - باب الغصب [6]
من عدل الشريعة أنها تلزم الغاصب بمثل ما غصب ولا تلزمه بما فوق ذلك، فإن لم يجد المثل انتقل إلى قيمته، وفي الأصل أن تصرفاته في المغصوب باطلة، ولكن لا يعني هذا أنه لا يقبل قوله أبدا في أي شيء يتعلق بالمغصوب، ولكن هذا له تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
حكم تلف أو تغيب المغصوب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا، وإلا قيمته يوم تعذره] .
شرع المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة في بيان ضمان المغصوب إذا تلف أو تغيب وكان له مثلي، والمغصوب الذي له مثلي يكون من المكيلات ويكون من الموزونات، فلو أن شخصا أخذ طعاما كالأرز -مثلا- أخذه غصبا من شخص وأتلف هذا الأرز فإنه يجب عليه أن يغرم له مثله، وهكذا لو اغتصب شيئا فتغيب الشيء كما هو الحال في الدواب، فلو اغتصب ناقة ففرت الناقة وغابت ولم يدر أين ذهبت، فإنه باغتصابه لهذه الناقة والدابة تكون يده يد ضمان، فيجب عليه أن يضمن مثلها.
ضمان المثلي بمثله
إذا: مراد المصنف: أن الضمان للمثليات يكون بالمثل، والمثليات كالمكيلات والموزونات، وقد تكون المثليات من العدد كما هو موجود في زماننا كالسيارات ونحوها فيضمن مثلها، وللعلماء في هذه المسألة قولان: بعض العلماء يقول: أي شيء يغصب ويتلف يجب على غاصبه أن يدفع القيمة، ولا يرى أنه يدفع المثلي.
وذهب طائفة من العلماء إلى أنه إذا كان الشيء المغصوب له مثل فإنه يجب عليه أن يضمن المثل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف وهو مذهب الحنابلة -رحمة الله عليهم- في المشهور.
فمن اغتصب شيئا وهذا الشيء تلف وله مثلي، فإنه يجب عليه أن يرد لصاحبه المثل، ولا ننتقل إلى القيمة متى أمكن رد مثل الشيء الذي أتلفه، والدليل على ذلك: ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتي بطعام من صفية رضي الله عنها وأرضاها، وكانت عنده أم المؤمنين عائشة وكانت صفية رضي الله عنها تحسن الطعام.
ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصة إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار.
فلما أتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم) رضي الله عنها وأرضها، ومن الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فلما كسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة رضي الله عنها، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان، وقال: (إناء كإناء، وطعام كطعام) أي: اضمني إناء مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعاما مثل الطعام الذي أتلفتيه فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئا نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودل عليه صريح القرآن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] ، وقال سبحانه وتعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، فقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} سمى ضمان الشيء ورد الشيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة؛ لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء -رحمهم الله- المثلية هنا، فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالبا فزاد وجار، ولذلك قال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] ، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلا بمثل؛ لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة، الشاهد في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل} [النحل:126] ، فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئا فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل} ، فإذا كسر إناء عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناء مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارة غصبا فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه.
وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمة الله عليهم- خلافا للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد.
والسبب الذي جعل القائلين بأنه يضمن بالقيمة: أنهم استدلوا بحديث في الصحيحين في عتق الشرك: (أن من أعتق شركا -يعني: نصيبا له في عبد- قوم له قيمة عدل) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضمان نصيب الآخر، بتقويم نصيب ذلك الآخر وإعطائه القيمة، ومثال ذلك: لو كان هناك عبد قيمته خمسة آلاف، وكان فيه شريكان، فأعتق أحد الشريكين نصيبه سرى العتاق، وحينئذ يضمن للشريك الآخر نصيبه بالقيمة على ظاهر الحديث.
الشاهد: أنه أمر بالضمان بالقيمة، ولم يأمر بالضمان بالمثل، يعني: أمر أن يضمن نصيب صاحبه بالقيمة، وهذا كالإتلاف؛ لأنه فوت نصيب صاحبه بالعتق؛ ولا يمكننا هنا أن نأتي بالمثل؛ لأن هناك شراكة فلا نستطيع أن نذهب ونأخذ عبدا ونأتي بشخص ونقول له: شارك هذا الشخص حتى تتحقق المثلية، فحينئذ نقول: هذا الحديث نجيب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: لا تعارض بين عام وخاص، فالأصل في الضمانات المثلية إلا في مسألة عتق العبد فيضمن بالقيمة، فيصبح الحديث خاصا في مسألة العتق، والضمان الأصل فيه عام، وهو: أنه يضمن بالمثل، هذا الوجه الأول، حيث تجعل الأصل عاما وتجعل الحديث خاصا، ولا تعارض بين عام وخاص.
ثانيا: أن تقول: إن الأصل الذي يقتضي الضمان بالمثلية هو فيما يمكن فيه المثلية وأن يأتي بمثل ما أتلف، والحديث الذي معنا متعلق بالعتق ولا يمكن فيه الضمان بالمثل فانتقل للقيمة، وهذا من أقوى الوجوه وهو الوجه الثاني الذي يجاب به عن هذا الحديث.
ضمان قيمة المغصوب عند تعذر وجود مثله
وقوله: [وإلا فقيمته يوم تعذره] .
(وإلا) يعني: وإن لم يتمكن من وجود المثل لزمه أن يضمن حق أخيه المسلم بالقيمة، إذا: القاعدة في الضمان: المثلية إن كان له مثل، فإذا لم يكن له مثل أو كان له مثل ولكن تعذر وجوده فحينئذ نقول له: اضمن قيمته، فالضمان يكون -أولا- بالمثلية، فإن تعذرت المثلية انتقلنا إلى القيمة، والقيمة: أن نقوم هذا الشيء الذي أتلفه الغاصب، كشخص -مثلا- أتلف سيارة غيره، سواء كان متعمدا أو مخطئا، فجئنا نطالبه بضمان ما جنته يداه من الإتلاف فقلنا له: ائت بسيارة مثل هذه السيارة، فبحثنا ولم نجد، فحينئذ نقول: تقوم هذه السيارة التي أتلفت ويطالب بدفع القيمة للمالك لها، فلو أتلف سيارة وتعذر وجود مثلها أو لم يكن لها مثل فحينئذ نسأل أهل الخبرة: كم قيمة هذه السيارة؟ قالوا: قيمتها يوم تعذر وجود مثلها عشرة آلاف، نقول: يجب عليك الضمان بالقيمة لتعذر المثلي، فيرفع عشرة آلاف ريال لمالكها.
وقوله: [وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذا، وإلا فقيمته يوم تعذره] .
فقوله: (غرم مثله إذا) : التنوين هنا تنوين عوض، وهو عوض عن حرف وعوض عن جملة (فقيمته إذا) أي: فقيمته في الحين الذي تعذر؛ لأن التنوين هنا عوض عن جملة كما قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ} [الزلزلة:1 - 4] فالتقدير يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج أثقالها ويقول الإنسان: ما لها {تحدث أخبارها} [الزلزلة:4] ، فهنا التنوين تنوين عوض عن جملة، فقوله: (قيمته إذا) أي: في الحين إذا تعذر، وهذه مسألة خلافية.
فائدة التنبيه على أن القيمة تكون حين التعذر: أنه ربما أتلف سيارة في شهر محرم، وكانت قيمة السيارة في شهر محرم عشرة آلاف ريال، ثم بحثنا وكان للسيارة مثل، فجعلنا نبحث عن مثل هذه السيارة مدة أسبوع فنزلت قيمتها -مثلا- إلى سبعة آلاف ريال، وتعذر وجودها، فالقيمة يوم التعذر سبعة آلاف والقيمة يوم التلف عشرة آلاف، ولربما تكون القيمة يوم الشراء عشرين ألفا، فحينئذ العبرة بوقت التلف، وبعض الشراح يفهم من جملة (قيمته إذا) أنه يجب حينئذ أن يضمن القيمة، وليس المراد يوم التعذر، فعلى هذا القول: يكون الضمان يوم التلف وليس يوم التعذر، (فقيمته إذا) إشارة إلى الاستحقاق، أي: تلزمه القيمة بسبب عدم وجود المثل، والحقيقة كلا القولين له وجه وإن كان الثاني أظهر.
قال رحمه الله: [ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه] .
كانوا في القديم يصنعون أشياء لا يمكن أن يصنع مثلها من كل وجه، مثلا: الأواني في زماننا يمكن إيجاد المثلي؛ لكن في القديم لا يمكن؛ لأنه إذا صنع الحداد إناء ربما وسع فيه وربما ضيق، ولم يكن هناك -مثل زماننا الآن- صب الآنية بطريقة نظامية تعرف فيها أطوالها وتعرف فيها مقاساتها بشكل دقيق يمكن أن يوجد فيه المثل، فكانوا في القديم يمثلون بالأواني؛ لأن الغالب عدم انضباطها، فما كان من المغصوبات لا مثلي له، فحينئذ يجب ضمانه بالقيمة.
لكن لو أن شخصا أتلف مغصوبا لا مثلي له، وقلنا له: يجب عليك أن تدفع القيمة، فرضي صاحب المغصوب، وقال: أنا أرضى بالقيمة ما دام أنه ليس له مثل ثم قال: أنا اشتريته بعشرة آلاف، ونظرنا في الشيء المغصوب وجدنا أن صاحبه استخدمه سنتين كسيارة -مثلا- فأصبحت قيمتها ثمانية آلاف، فهل العبرة بقيمتها يوم اشتراها، أم العبرة بقيمتها يوم أتلفها أم العبرة بقيمتها يوم اغتصبها؟ وفائدة ذلك: قد تكون قيمتها يوم الشراء غالية، وقيمتها يوم الاغتصاب دونها في الغلاء، وقيمتها يوم التلف أقل قيمة، فتكون القيمة بالشراء -مثلا- عشرين ألفا، فاغتصبها منه في شهر محرم وقيمتها عشرة آلاف، ثم بقيت مغصوبة نصف سنة مثلا، فأصبحت قيمتها خمسة آلاف عندما أتلفها، فهل يدفع عشرين ألفا أو عشرة آلاف أو خمسة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقوى في هذه المسألة قولان: القول الأول يقول: قيمتها يوم اغتصبها، والقول الثاني يقول: قيمتها يوم أتلفها، وهناك قول ثالث يقول: ننظر أغلى القيمتين؛ لأنه ربما كانت يوم التلف أغلى منها يوم الغصب وهذا قد يقع، ربما قد تكون قديمة فلما أتلفت أصحبت قيمتها أكثر أو ارتفع سوقها مثل: المجوهرات ونحوها، فاليوم الذي أتلفها فيه شاء الله أن قيمتها غالية، أو اغتصب بيتا وهدمه، وقيمته يوم اغتصبه يعادل مائة ألف، ويوم أتلفه غلت قيمة المواد البنائية، فأصبحت قيمة بنائه خمسمائة ألف، فبعض العلماء يقول: نعتبر القيمة باليوم الذي اغتصب فيه الشيء، فإنه قد أصبح في ذمته ذلك الشيء، فنحن نوجب عليه ضمان القيمة بيوم الغصب.
ومنهم من قال: لا.
هو أخذ البيت الذي هو العقار، أو أخذ السيارة أو أخذ الدابة، ولكنه كان ملزما بردها؛ لأنها موجودة، ولم يخاطب شرعا بالضمان إلا بالتلف؛ لأن التلف هو الذي أوجب علينا أن نخاطبه بالضمان، وإلا لو كانت غير تالفة لردها، فأصبحت ذمته مشغولة بالقيمة يوم التلف.
وهذا القول من أقوى الأقوال: أن ضمانها يكون بقيمتها يوم تلفت، وإن كان الاحتياط بالنظر إلى أغلى القيم لا شك أنه أقوى، خاصة وأن فيه نوعا من التعزير، وهذا مقصود شرعا للغاصب فيغرم أعلى القيمتين، وهذا على خلاف الشرع من حيث الأصل ولكن براءة لذمته، وبالاعتداء والغصب صار الأمر مختلفا.
الخلاصة: أننا نطالبه بالضمان بقيمة العين التالفة المغصوبة يوم تلفت ولا ينظر إلى قيمتها يوم اشتريت، ولا ينظر إلى قيمتها يوم اغتصبت، فيلزم بضمانها يوم تلفت؛ لأنه كان مغتصبا للعين مخاطبا بردها ولم يخاطب بالقيمة إلا لما أتلف، فأصبحت ذمته مشغولة بالقيمة في يوم التلف وليس قبله؛ فلذلك نقول: يجب عليك دفع قيمتها يوم تلفت.
كيفية ضمان القيمة في حال تعذر المثلي
وقوله: [وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلا دفعه ومعه نقص قيمته عصيرا] .
فقوله: (وإن تخمر عصير فالمثل) .
إن اغتصب عصيرا فبقي العصير عنده حتى صار خمرا، فحينئذ يتعذر رد المثل، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله، فهم أعطوك القاعدة وهي: أنه يجب عليك أن تحكم بضمان المغصوب بمثله، وإن تعذر المثل تنتقل إلى القيمة.
يرد
السؤال هل هناك صور يمكن أن توجد فيها العين المغصوبة ولا يطالب بردها، ويجب عليه ضمان مثلها، قالوا: نعم، إن أخذ العصير واغتصبه عصيرا وتحول هذا العصير إلى خمر، كعصير تفاح؛ لأن العصير إذا مكث مدة يتخمر، فأخذ عصير تفاح أو عنب فبقي عنده مدة يوم أو يومين فتخمر، فحينئذ لا يمكن رده؛ لأنه يجب إتلافه كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه أن يهريق الخمر وأن يكسر الإناء -وهو وعاء الخمر- فدل هذا على أنه يجب إتلاف الخمر.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المزادتين: (أن الرجل لما أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم المزادتين وحرم عليه بيعهما فتح المزادتين وسكبهما على الأرض) ، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أنه لما نزل تحريم الخمر جرت بها سكك المدينة عندما أهريقت وأتلفت، فالأصل أن الخمر تتلف، فلو أنه اغتصب عصيرا ثم تحول هذا العصير إلى خمر نقول: يد الغاصب يد ضمان، فيجب عليه أن يتلف هذا الخمر، وأن يرد لصاحب العصير مثله، وذلك لأن العصير يكون مثليا فيجب عليه الضمان بالمثل، وقد يتحول الخمر إلى خل بطريقتين: الطريقة الأولى: أن يتحول بنفسه، وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالا طاهرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل) ، والخل لا يمكن أن يصير خلا إلا بعد أن يكون خمرا، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة رضي الله عنه حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خمر الأيتام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرة حينئذ، فلو أنه اغتصب عصيرا فبقي العصير عنده مدة من الزمان، فتحول فيها هذا العصير إلى خمر ثم صار خلا، فإذا صار خلا فالعين يمكن ردها إلى صاحبها، فنقول له: رد هذا الخل إلى صاحبه؛ لأن الخل فرع عن العصير، والفرع تابع لأصله، فالمال مال المغصوب منه، فيجب عليك رد الخل، ثم ننظر: هل اختلفت قيمة الخل والعصير، فلا تخلو من ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تتفق القيمتان، كأن تكون قيمة العصير مائة ريال، فعندما غصبه كمية من العصير تخمرت ثم تخللت، فصارت قيمته خلا بمائة ريال، فحينئذ يرده خلا ولا إشكال.
الحالة الثانية: أن تكون القيمة ناقصة بعد أن صار خلا.
الحالة الثالثة: أن تكون القيمة أغلى إذا صار خلا.
فإذا تخلل وصارت قيمته أقل، قلنا له: رد الخل وادفع الفرق، وقد بينا دليل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، وقررنا أن من اغتصب شيئا وأمسك ذلك الشيء حتى نقصت قيمته فإنه يجب عليه الضمان، واستثنينا مسألة غلاء السوق ويكاد يكون إجماع أهل العلم عليها إلا قول أبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي رحمه الله الذي قال: تضمن قيمة غلاء السوق.
أما إذا كان الأمر بالعكس فتكون قيمة الخل أغلى، كأن يغتصب عصيرا قيمته مائة فأصبحت قيمته خلا مائتين، فحينئذ يرد الخل ولا ضمان عليه.
بطلان تصرفات الغاصب الحكمية
قال رحمه الله: [فصل: وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة] .
(تصرفات الغاصب): هذا الموضع والمسائل التي ذكرها المصنف رحمه الله في بداية هذا الفصل تتعلق بالتصرفات في العقود من بيع وهبة ووقف وغير ذلك، فبعد أن بين لنا تصرفات الغاصب الفعلية شرع في تصرفاته الحكمية ببيع المغصوب، و (الحكمية) : أي: الحكم على الشيء من حيث الصحة والفساد، تصرفات الغاصب الحكمية المعنوية باطلة، هذا أصل، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس لعرق ظالم حق) ، وقد حرم الله عز وجل أموال المسلمين، وجعل حرمة المال كحرمة الدم، وإذا كان المال محرما على الإنسان فتصرف فيه بدون ملكية وبدون إذن وبدون ولاية فتصرفه باطل؛ لأن المال ليس ملكا له، فلو أن شخصا جاء واغتصب سيارتك ثم باعها، فنحكم على البيع الثاني بالبطلان، ولو أخذ سيارتك ووهبها إلى شخص فإننا نحكم على هذه الهبة بأنها باطلة ويجب رد السيارة إلى مالكها.
فقوله: (باطلة) : الباطل لا تترتب عليه الأحكام الشرعية بحيث لا يحكم بصحة البيع ولا بصحة الهبة، ولا يحكم بالآثار المترتبة عليه، فمثلا: لو أنه اغتصب جارية ثم وطئها، فإن هذا الوطء يعتبر وطء زنا بالنسبة له، وبالنسبة للجارية: إذا أكرهت على جماعه وعلى استمتاعه كان حكمها حكم الإكراه على الزنا وسيأتي -إن شاء الله- في باب الحدود، فإذا وطئها وهو غاصب لها، فإنه لا يجوز لها أن تمكنه من نفسها، فهذا التصرف بالوطء نعتبره زنا، فإذا كان متزوجا فإنه يرجم وحينئذ نعتبره متعديا لحد الله عز وجل مرتكبا للزنا؛ لأنه يعلم أن هذه الجارية لا تحل له، وعلى هذا: فإذا وطئها يكون حكمه حكم الزنا ولا إشكال في ذلك.
لكن لو تصرف بالبيع أو تصرف بالهبة فيكون الضمان للعين ويجب عليه رد العين، وأما بالنسبة لما يترتب على الآثار المترتبة على هذا البيع وعلى الهبة؛ فإنه لا تترتب آثار شرعية، فكل ما بني على هذا البيع فهو باطل.
فلو باع سيارة لإنسان بعشرة آلاف، والسيارة مغصوبة ثم قام الثاني ببيعها لشخص آخر ثم بيعت إلى ثالث أو رابع فجميع البيوع باطلة؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل، والقاعدة: أن الفرع آخذ حكم أصله، فالبيع الثاني فرع عن البيع الأول؛ لأن البائع في البيع الثاني باع بملكية يدعيها من البيع الأول وبناها عليه، فإذا أسقطت البيع الأول أسقطت ما بعده من البيوعات، ثم لو أن الأخير الذي اشترى وهب السيارة أو تصدق بها حكمنا ببطلان البيع والهبة والصدقة؛ لأن جميع ما بني على باطل يحكم ببطلانه ويجب رد هذه السيارة إلى صاحبها وضمانها.

اعتبار قول الغاصب في قيمة التالف وقدره وصفته
قال رحمه الله: [والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله] .
إذا كان الغاصب يجب عليه أن يدفع القيمة، فيبقى
السؤال إذا اختلف الغاصب والمالك، نحن علمنا: أنه إذا أتلف الغاصب شيئا ألزمناه بالقيمة، وأن هذه القيمة تقدر بيوم التلف، وبينا أن سبب ذلك: أن ذمته تشغل بضمان القيمة يوم التلف، فإذا ثبت هذا: فما الحكم إذا اختلف الغاصب مع صاحب العين، فقال صاحب العين: قيمتها مائة ألف ريال، وقال الغاصب: بل قيمتها تسعون ألفا، فهل نصدق المالك ونقول للغاصب: ادفع مائة ألف، أو نصدق الغاصب ونقول له: ادفع تسعين ألفا؟
الجواب أن القول قول الغاصب إلا إذا قامت البينة على صدق المغصوب منه والمالك، وهذا مبني على أنه: إذا اختلف الاثنان في القيمة، فقال الغاصب: قيمتها تسعون ألفا، وقال المالك: بل مائة ألف، فتجزم بأن التسعين ألفا هي القيمة أي اليقين: أن التسعين ألفا هي القيمة؛ لأنه لما قال الغاصب تسعين، وقال المالك: مائة، اتفقوا على أنها بلغت تسعين واختلفوا في العشرة آلاف الزائدة التي ما بين المائة والتسعين فهل نصدق المالك أو الغاصب؟ فتقول: التسعين لا إشكال أنها ثابتة، فيبقى السؤال في العشرة آلاف التي يدعيها المالك على الغاصب، وكل من ادعى شيئا، فالقول بخلافه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم ولكن اليمين على من أنكر) ، فبين عليه الصلاة والسلام: أن المدعي للزائد يطالب بالبينة، وعلى هذا نقول: يجب على مالك السيارة أن يثبت بشهادة الشهود أو شهادة أهل الخبرة أن السيارة يوم التلف تستحق مائة ألف وإلا أخذ التسعين، وإذا أنكر الغاصب فإنه يحلف اليمين، وهذا هو معنى قولهم: (فالقول قوله مع يمينه) وعلى هذا: إذا ذهب الاثنان إلى القاضي، فسيقول القاضي للغاصب: كم قيمتها؟ يقول: قيمتها تسعون.
ويقول للمالك: كم قيمتها؟ يقول: مائة.
فيسأل المالك صاحب العين المغصوبة: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة.
يقول له: ليس لك إلا يمينه.
فيحلف الغاصب ويقول: والله إن قيمتها يوم التلف تسعون ألفا، فإذا حلف برئ، وإلا ردت اليمين كما هو معلوم في القضاء.
وقوله: (أو قدره) .
القدر يرجع إلى العدد، فإذا ادعى الغاصب أن له ثلاث سيارات، ثم قال المالك: بل أربع سيارات، واختلف في قدر المغصوب، هل هو ثلاث سيارات أو أربع سيارات؟ فنقول: القول قول الغاصب؛ لأن الغاصب يقول: ثلاث سيارات، والمالك يقول: أربع سيارات، فكلهم متفقون على ثلاث، والشك في الرابعة، والقاعدة: أن الغارم مدعى عليه، وهذا عند بعض العلماء: أن كل من عليه الغرم يعتبر مدعى عليه، فيكون القول قوله، فالغاصب الآن غارم، فإذا قلنا: إنه يقول له: بل أربع سيارات.
فحينئذ القول قول الغاصب حتى يقيم المالك بينة وشهودا على العدد الذي ادعاه فيكون القول قوله.
وقوله: (أو صفته قوله) .
قال المالك للغاصب: إن السيارة التي أتلفتها من النوع الممتاز.
قال الغاصب: لا.
بل من النوع الرديء.
كأن يكون هناك نوع من أغلى الأنواع الذي هو أجود أنواعها وفيها -مثلا- أربعة أنواع، فقال له: إن الذي اغتصبته النوع الممتاز، وطبعا سيقول المالك هذا؛ لأن هذا أحظ له وأكثر قيمة، قال الغاصب: أبدا، بل كانت السيارة من النوع الرديء، قال له: اغتصبت سيارة مكيفة، قال: لا.
بل اغتصبت سيارة غير مكيفة، قال: اغتصبت إذا سيارة أتوماتيكية، قال: لا.
بل سيارة عادية، فهذه الأوصاف الموجودة التي تختلف من زمان إلى زمان ينظر فيها إلى القدر المشترك بين الطرفين، ونقول: اليقين أنها سيارة من نوع عادي، وأن أوصافها عادية حتى يثبت أنها من الأوصاف الممتازة، أو قال: أتلفت ساعة من النوع الممتاز، وهو نوع كذا وكذا.
قال: لا.
بل أتلفت ساعة من نوع كذا وكذا، وهو نوع أردأ أو أقل، فنقول حينئذ: القول قول الغاصب حتى يثبت المالك أنها من النوع الممتاز أو الجيد، وهكذا في بقية الأمثلة، فالقول قوله، القاعدة هي هي، والمسألة هي هي، فنقول: القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، وهذا وجه عند بعض العلماء، والغارم مدعى عليه، ولأنهما اتفقا على الرديء، وليس عندنا يقين على الجيد؛ ولأن الأصل هو براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها، فلما أثبت أن المغصوب على هذه الصفة التي ذكرها من الرداءة، وقد أثبت للمغصوب المستحق صفة يكون على مثلها، وادعى المالك ما هو زائد، فسيكون حينئذ مطالبا بالبينة والدليل، وكل هذه وجوه نخرج عليها هذا القول الذي اختاره المصنف وجماعة من أهل العلم رحمهم الله.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-12-2024, 09:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



اعتبار قول المغصوب منه في رد المغصوب وعيبه

قال رحمه الله: [وفي رده وعدم عيبه قول ربه] .
هنا المسألة على العكس، إذا اختلفوا في القيمة والقدر والصفة فالقول قول الغاصب؛ لأنه سيتحمل المسئولية، لكن لو اختلف الغاصب والمالك في الرد، والمراد بالرد: رد المغصوب، كشخص اغتصب من شخص سيارة، وذهب واشتكاه إلى القاضي، وقال: إن فلانا اعتدى على سيارتي واغتصبها، وأطالب القاضي بمطالبته بإحضار سيارتي.
فجاء الغاصب وقال: نعم، اغتصبت منه السيارة ولكن رددتها له.
فحينئذ: الغاصب معترف بأنه اغتصب السيارة، فاعترف باليقين أنه اغتصب، ونشك هل رد أو لم يرد، والأصل أنه ما ردها؛ لأن نحن متأكدون ومستيقنون أنه حصل الغصب، وشككنا هل الغصب انتهى أم لا، فلا بد أن تكون هناك بينة ودليل على أن الغصب قد انتهى، فإما أن يقر المالك ويقول: رد علي حقي، أو يقيم المغتصب الشهود على أنه أحضر له سيارته التي ادعى أنها غصبت، ومثل هذا: الإقرار كأن يقول: ما رد السيارة، ثم يتذكر ويقول: نعم ردها، فهذا إقرار وتنقطع به الخصومة، مثال البينة والشهود: قال: اغتصب سيارتي في شهر محرم، ولم يردها إلى اليوم، فقال الغاصب: بل رددتها وعندي شاهدان يشهدان على أني رددتها يوم الخميس الماضي، والخصومة يوم السبت، فجاء الشاهدان وشهدا أن زيدا الغاصب جاء بالسيارة إلى عمرو المغصوب منه وسلمه السيارة وأعطاه مفاتيحها، وقد رأيا ذلك واطلعا عليه وشهدا عند القاضي، فنتحقق أن الغصب قد رد، ونقول للمغصوب منه: إنك قد أثبت غصبا، وثبت بالبينة انتقاله وارتفاعه ورد المغصوب إليك، فانقطع ما تدعيه ويكون القول قول الغاصب، وفي هذه الحالة: القول يكون قول المغصوب منه -وهو المالك- حتى يحدث الغاصب البينة.
إذا: حال الرد خلاف الأصل، فنحن مستيقنون والأصل عندنا أنه مغتصب، فمعنى ذلك: أننا لا ننتقل من هذا اليقين إلا بيقين مثله ونقول له: أنت تعترف أنك غصبت، وليس هناك دليل يدل على نقيض هذا الذي اعترفت به -وهو الغصب- من ردك للعين، فيجب عليك الضمان، ولا يصدق الغاصب أنه رد العين.
وقوله: (وعدم عيبه) .
إذا اتفق الغاصب والمالك على أن الغاصب قد اغتصب سيارة، فقال المالك: السيارة كانت نظيفة وليس فيها أي عيب.
فقال الغاصب: بل اغتصبت منه سيارة مصدومة، أو سيارة بها تلف في أجهزتها أو في أي شيء منها.
إذا: الخلاف هل فيها عيب أو ليس فيها عيب، فالكل متفق على وجود الغصب، فلا إشكال أن السيارة مغصوبة، ولكن الإشكال هل هي كاملة لا عيب فيها أو هي ناقصة؟ فالقول هنا قول المالك؛ لأن الأصل في العين ألا تكون معيبة، والأصل في الأشياء أن تكون كاملة حتى يدل الدليل على نقصها، فنقول للغاصب: أنت اعترفت أنك اغتصبت سيارة، فنحن نقول: الأصل أنها سيارة نظيفة، والأصل أنها سيارة لا عيب فيها حتى تثبت بالشهود أنها كانت معيبة، أو يقر ويعترف صاحبها.
وأيضا لو اغتصب منه عمارة ولما جاء يردها إذا بالعمارة فيها شيء تالف مثل: الكهرباء أو في تسليك الماء أو في بنائها حدث فيه عطل أو انهدم بعض الدار، فقال الغاصب: أخذتها على هذه الصفة المعيبة الناقصة، وقال المالك: بل كانت عمارتي تامة كاملة، فحينئذ نصدق المالك؛ لأن الأصل في العمارة: أنها كاملة ونظيفة وسالمة من العيب حتى يدل الدليل على أن فيها غيبا.
والفرق واضح بين الأمرين: هناك في القيمة والصفة وقدر المغصوب يكون الغاصب مدعى عليه، ولكن هنا لما أخذ عينا فعندنا أصول في الأعيان، ومنها: أن العين من حيث الأصل تكون كاملة، فالبيوت تكون كاملة لا عيب فيها، وكذلك السيارات، فإذا أخذت سيارة أو دابة فالأصل أنها غير معيبة حتى يدل الدليل على نقصها وتعيبها فنقول له: أقم البينة على صدق ما ذكرت وأنها كانت معيبة وإلا ألزمت بدفع قيمتها كاملة أو ضمان ذلك النقص.

حكم المغصوب عند عدم معرفة صاحبه

قال رحمه الله: [وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا] .
(وإن جهل) أي: الغاصب جهل صاحب العين المغصوبة، مثال ذلك: شخص اغتصب سيارة ثم لم يدر من هو صاحبها الذي اغتصبها منه، مثل: شخص جاء بالقوة ووجد رجلا راكبا في سيارته فهدده بالسلاح وأخذ سيارته منه، ثم لا يعرف من هو حتى يرد سيارته إليه، هذا كمثال، وفي القديم يقع في الدواب ويقع في الدور والأراضي، وهذه المسألة رتبها المصنف -رحمه الله- بعد المسائل المتقدمة، والترتيب منطقي وصحيح؛ لأن أول ما تتحدث عنه رد العين المغصوبة كاملة إذا كانت موجودة، وإذا كانت غير موجودة ولها مثل رد مثلها، وإذا كانت غير موجودة ولا مثل لها رد قيمتها، فبعد أن انتهى المصنف من ذكر هذا كله، يرد في القيمة مسألة: هل هي كاملة أو هي ناقصة؛ لأن القيمة تتأثر بالكمال والنقص، فأدخل مسألة الخلاف في تعين المغصوب ونقصه وقيمته.
إلى آخره، وبعدما فرغ من هذا: شرع -رحمه الله- في مسألة إذا جهل المالك، فكل المسائل المتقدمة إذا وجد المالك للمغصوب فحينئذ يتفاهم معه وكل يأخذ حقه، لكن لو لم يعلم صاحب الشيء المغصوب، فما الحكم؟ هل هذه الأحكام المتقدمة تسقط؟ ضمان العين وضمان المثل وضمان القيمة؟ فإذا كان مالك السيارة لا يعرفه أو كان يعرفه ثم غاب عنه ولم يدر أين ذهب، ولا يعرف هل هو حي أو ميت، فحينئذ يرد
السؤال ماذا يفعل؟
و الجواب في هذه الحالة قال بعض العلماء: يضمن إذا وجد مالكها، ويكون كاللقطة، يستحقها ويأخذها له حتى يجد صاحبها، وقال بعض العلماء: بل يتصدق بها على نية صاحبها، والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يقتص للعباد بعضهم من بعض، ويكون القصاص في المظالم -إذا كانت حقوقا مالية ونحو ذلك- يكون القصاص بالحسنات كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟ قالو: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته) ، لاحظ في قوله: (وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمته) ، المظلمة عامة: فشملت مظالم الغصوبات وغيرها، فيؤخذ من حسنات الغاصب على قدر مظلمته، فإذا تصدق بالمغصوب فإذا وافى الله يوم القيامة أخذت حسنات المغصوب وأعطيت لصاحبه فبرئت ذمته، فهذا المذهب هو أعدل المذاهب وأولاها -إن شاء الله- بالصواب، أن يتصدق به على نية صاحبه إبراء لذمته.
أما لو أنه تصدق وبعد زمن ظهر صاحبه؛ فحينئذ تكون الصدقة مبينة على ظن الموت وجهالة الحال، يعني: من حيث تعذر وصول الحق إلى صاحبه، فلما ظن تعذر ذلك وبان خطأ الظن سقط ذلك ووجب عليه الضمان؛ لأن القاعدة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) فهو ظن أنه لن يستطيع أن يجد صاحبه، فلما ظن ذلك وتبين خطأ هذا الظن وجد عليه ضمان العين المغصوبة وحينئذ تكون له الحسنات ولا تكون للمالك الحقيقي، كأن التصدق فقط لدفع المظلمة، فإذا أمكن أن يأخذ حقه في الدنيا فإنه لا يصار إلى مظلمة الآخرة.
إذا سرق مالا لإنسان وتعذر عليه أن يعرف صاحب المال، فإنه يتصدق به على نية صاحبه، فمثلا: شخص سرق -مثلا- عشرة آلاف من بقالة ثم مات صاحب هذه (البقالة) التي سرق منها، وهو يعلم ورثته، فحينئذ لا يصح أن يتصدق؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، وحينئذ يجب عليه أن يدفع إلى ورثة المسروق منه، فالغصب والسرقة يتصدق فيهما بالشيء مغصوب وبالشيء مسروق إذا تعذر وجود صاحبه، فإذا وجده بعد ذلك أو وجد ورثته ضمن لهم على الأصل الذي قررناه في الضمان.

الأسئلة

الفرق بين الغصب والسرقة

السؤال ما الفرق بين الغصب والسرقة؟
الجواب هناك فروق بين الغصب والسرقة منها: أولا: أن الغصب يكون بالقوة والقهر، والسرقة تكون بالخفية والخفاء، فالمغصوب يؤخذ بالقوة والغلبة، والمسروق يؤخذ بالخلسة، إلى درجة أن صاحبه لا يشعر أنه أخذ منه ذلك الشيء، فأثناء الأخذ إذا نظرت إلى الغصب ففيه علم، وإذا نظرت إلى السرقة ففيها جهل.
ثانيا: أن الغصب لا يجب فيه من حيث حكم الشرع عقوبة محددة مقدرة، والسرقة فيها العقوبة المحددة المقدرة إذا وجدت الشروط واستوفيت.
ثالثا: أن وصف الشيء بكونه مسروقا أو كونه مغصوبا يختلف؛ ففي الغصب يقع الوصف على كل قليل وكثير جليل وحقير وبإمكانك تقول: اغتصب مسواكا وهو دون نصاب السرقة، لكن في السرقة لا يمكن أن نقول: سرق إلا إذا بلغ نصاب السرقة، فالسرقة لها حد، ولها قدر لا يمكن أن نصف الشخص بكونه سارقا إلا إذا بلغ المسروق هذا الحد.
رابعا: أن السرقة لا يوصف المال فيها بكونه مسروقا إلا إذا أخذ من حرز، فإذا كان المال في صناديق مغلقة، نقول: حينئذ: سرق المال وكسر أو عالج مفاتيحها، لكن الغصب سواء كان المال موضوعا في حرز أو في غير حرز ما دام أنه أخذ بالقوة فإنه يوصف بكونه مغصوبا، وهناك فروق أخرى، لكن هذه من أهم الفروق بين الغصب وبين السرقة، وهناك طبعا مسألة ضمان المسروق، فقد اتفق العلماء: على ضمان المغصوب، لكنهم اختلفوا في ضمان المال المسروق، فبعض العلماء يقول: إنها تقطع يد السارق ولا يضمن المال، وبعضهم يقول: تقطع يده ويجب أن يرد المال إلى صاحبه، والله تعالى أعلم.

استغلال الأوقات في طاعة الله

السؤال الفراغ والشباب من نعم الله عز وجل التي يحاسب عليها يوم القيامة، فما توجيهكم تجاه هاتين النعمتين حتى يمكن استغلالها فيما يرضي الله عز وجل؟
الجواب إن الله تعالى إذا أحب عبدا من عباده وأراده للخير والطاعة والبر بارك له في عمره وبارك له في ساعات ليله ونهاره، وهيأ له الخير في صبحه ومسائه، فلا تفتر له عزيمة، ولا يكل ولا يسأم من طاعة الله سبحانه وتعالى، فيجد ويجتهد، وكلما قضى طاعة شمر عن ساعد الجد لطاعة غيرها، شاكرا لله، حامدا لنعمه، قائما بحقوقه وفرائضه، مجتنبا لحدوده ومحارمه، يتلمس مرضاة الله في كل دقيقة وثانية وساعة وبرهة، لا يعرف إضاعة الأوقات، ولا انتهاك المحرمات، ولا لهو الساعات، يستشعر أن كل دقيقة وثانية ربما قدمته إلى نار أو إلى جنة، فالبركة في الساعات والبركة في الأوقات رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها من يشاء.
وكم من ساعة أقام العبد فيها طاعة الله فحجبته عن عقابه وغضبه! وكم من ساعة انتهك فيها العبد حدود الله فزلت قدمه وساءت خاتمته! نسأل الله السلامة والعافية! فعلى الإنسان أن يعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليه بالعمر، ومما يعين الإنسان على التفكر والتدبر واغتنام ساعات العمر: أن ينظر إلى من حرم هذه النعمة، فينظر إلى الذين سلفوا وأقبلوا على ما قدموا، فيتذكر أهل القبور وما هم فيه من الحسرات، يتمنى الواحد منهم الساعات واللحظات لو أنها قضيت في الطاعات والمضاة، وتصور الإنسان أنه في هذه الساعة رهين الأكفان والبلاء بين يدي الله جل وعلا محتبسا مرهونا في قبره يتمنى أن يزاد في صحيفة عمله تسبيحة أو استغفار أو تحميد لله سبحانه وتعالى.
إن هذه العطلة وهذا الفراغ نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، ولا بد لكل مسلم أن يهيئ الأسباب لكي يبارك الله له في هذه العطلة، ومن أعظم الأسباب: أن يكثر من الدعاء، فلا يصبح ولا يمسي إلا وقد ذكر ربه واطرح بين يدي الله بدعوة صادقة، فإنه لا معين على الخير إلا الله سبحانه وتعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب التي يبارك بها في العمر، فإن الله تعالى إذا أراد أن يبارك للعبد في عمره هيأ له أسباب الخير، وليس هناك سبب بعد توحيد الله والإيمان بالله عز وجل يبارك بسببه في عمر الإنسان مثل بر الوالدين، فإن برهما والقيام عليهما ورعاية مصالحهما يبسط الله للعبد بذلك في رزقه وينسئ له في أثره، ويزيد له الخير والبركة في عمره، فلن تجد بارا إلا وجدته موفقا، ما طرق بابا من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيلا من البر إلا يسره الله عز وجل من حيث لا يحتسب، البر بر الوالدين، فتمضي هذه العطلة وقد فاز العبد الموفق السعيد برضا والديه، وإياك ثم إياك وتوهين الشيطان، فإن بر الوالدين قد يكون بالجلوس عندهما، وقد يكون بالقيام على مصالحهما، وقد يكون برعايتهما وعلاجهما ومساعدتهما في التداوي حتى يتم شفاؤهما بإذن الله من الأمراض، فأي مصلحة وأي خير وأي نعمة تسديها إلى الوالدين فإنها من برهما.
فاحرص كل الحرص على اغتنام العمر واغتنام هذه العطلة في رضا الوالدين فهذا من أفضل ما أنفقت فيه الأعمار وقضيت فيه ساعات الليل والنهار، فإن الله تعالى إذا علم من العبد حبه لوالديه وحرصه على برهما بلغه أعلى المراتب، فكل يوم تحرص على أنك تفوز بضاهما تحصل رضا أكثر من الرضا الذي كنت فيه من بر الوالدين، إن كانا في مدينة غير مدينتك سافرت إليهما، ولزمت أقدامهما وأدخلت السرور عليهما ومتعتهما بالنظر إليك والجلوس معك والأنس بك، وأدخلت السرور عليهما في قضاء الحوائج والمصالح والملاطفة، ذاكرا وصية الله من فوق سبع سماوات: {وبالوالدين إحسانا} [النساء:36] .
كذلك مما يبارك بسببه في عمر الإنسان: صلة الرحم، فتمر عليك هذه العطلة فتأخذ أبناءك وبناتك وأهلك وزوجك إلى زيارة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فينظر الله سبحانه وتعالى إليك وقد غبرت قدميك خائفا منه، راجيا رحمته، تلتمس عفوه في صلة الرحم، خرجت من بيتك مشفقا، خائفا وجلا من هذه الرحم التي يقطع الله من قطعها، راجيا لرحمة الله في هذه الرحم التي يصل الله من وصلها.
الناس اليوم من أحوج ما يكونون إلى الصلة الاجتماعية، وأكثر ما وقع من الدمار والتردي الذي يعيشه الناس في النفسيات والهموم والكربات كان من أعظم أسبابه: قطيعة الرحم.
كان الرجل قبل خمسين عاما وفي أيام الشدة التي لا يعلمها إلا الله يسافر مئات الكيلو مترات من أجل أن يسلم على أخته أو يزور عمته أو خالته ملتمسا مرضاة الله، والله أعلم ما الذي يرجع به إلى أهله إذا رجع من هذه الصلة.
صلة الرحم من أعظم الأسباب التي يبارك بسببها في الأعمار والأوقات، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح بها الصدور،: خديجة رضي الله عنها، لما دخل عليها رسول الله عليه وسلم ذعرا مرعوبا مرهوبا، قالت له: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم) ، فالذي يصل الرحم لا يخزيه الله، ولن ترى عينك واصلا للرحم وهو في خزي أبدا، بل إنه في رحمة وفي توفيق من الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (إني أنا الله خلقت الرحم واشتققت لها اسما من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) .
الأخت حينما تدخل عليها خاصة بعد موت الوالد والوالدة من أحوج ما تكون إلى زيارة أخ يصلها، ويمسح على رءوس أبنائها ويلاطفها ويشعرها أمام زوجها أن لها مكانة، فلا أحد يعلم مقدار هذه الأحاسيس والمشاعر ومقدار هذه الملاطفة وهذا الإحسان إلا الله وحده الذي وصى بصلة الرحم من فوق سبع سماوات، ورتب عليها الخير ورتب على عكسها وضدها ضد ذلك، فالحرص كل الحرص على صلة الرحم؛ لأن الإنسان أيام الدراسة وأيام العمل مشغول ولكن الآن لا يعذر، وإذا وصلت فينبغي أن تكون أكرم من وصلت وتسعى إلى درجات الكمال، فإن وجدت الأخت بحاجة قضيت حاجتها، وإن وجدتها في كربة وأنت قادر -بإذن الله- فرجت كربتها، وإن وجدتها في هم وغم ذكرتها الله جل جلاله الذي يبدد الهموم والغموم ويزيل الكربات، فلا يمر عليك أسبوع حتى ولو كنت في شغل ولك رحم تصلها إلا بارك الله لك في عمرك: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، وأن يبسط له في رزقه، وأن يزاد له في عمره؛ فليصل رحمه) ، وقالوا: إنها من الطاعات التي تعجل فيها المثوبة والعقوبة، فصلة الرحم عقوبتها عاجلة، وأيضا نعمتها وخيرها وبرها وأثرها وبركتها عاجله، مع ما أعد الله من الآجل للعبد.
كذلك مما تنفق فيه الأعمار وتقضى فيه ساعات الليل والنهار وهو من أحب ما يرضي الله عز وجل: قيام الليل، فإن الإنسان إذا كان في أثناء عمله وشغله قد لا يستطيع أن يقيم الليل ويتعذر بالمشاغل، ولكن اجعل لك ساعات ولحظات تخلو فيها بربك إذا هدأت العيون وسكنت الجفون، قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: (صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، وصوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور) ، فمن أراد أن ينور الله ظلمة قبره، بل من أراد أن يسدد الله لسانه، وأن يقوم بنانه وأن يصلح شأنه وحاله فليحرص على قيام الليل، فإن الله لما أوحى إلى نبيه بالرسالة -عجبت والله- قال تعالى: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا} [المزمل:1 - 2] ، فأول ما أمر الله به بعد توحيده قيام الليل، قالوا: لأن هذا يعين على الرسالة، فإذا أعان على أفضل الأشياء وأعظمها وأجلها فمن باب أولى أن يعين على غير ذلك، وذكر الله وبين سبحانه أن قيام الليل فيه خير كثير حتى على كلام الإنسان: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} [المزمل:6] ، قال بعض العلماء: لا يحافظ على قيام الليل أحد إلا سدد في لسانه وعصم من فتنة قوله وبيانه، فيحرص الإنسان على هذا الخير العظيم.
كذلك من الطاعات: صيام الإثنين والخميس، وصيام يوم وإفطار يوم وهو أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وكذلك صيام الأيام البيض، وكذلك أيضا من الطاعات والقربات التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها: طلب العلم، فإن الله عز وجل أحبه وأحب أهله، فيحرص على زيارة العلماء وغشيان حلق الذكر، ويجلس في رياض الخير يخلو فيها بطاعة الله عز وجل ومرضاته، لعل الله أن يحمله علما نافعا، وأن يبارك فيما تعلمه وعلمه، ويحرص إذا جلس في مجالس العلم على أن يكون في مراتب الكمال خشوعا وتخشعا، وتذللا وتضرعا لله سبحانه وتعالى، وإخلاصا وصدقا وإنابة، فيكون أفضل من يجلس في مجلس العلم، فلا يخرج من بيته وفي قلبه غير الله، ولا يجلس في مجالس العلم وفي قلبه غير الله، ولا يذاكر العلم ولا يسمع العلم إلا وهو يريد ما عند الله سبحانه وتعالى حتى يجعل الله له علما نافعا ويبارك له في هذا العلم، ويبارك له في السنة، ويبارك له في هذا النور والوحي الذي يأخذه.
كذلك أيضا: يحرص على زيارة إخوانه من طلاب العلم ومذاكرتهم وحبهم في الله، ويغيب في سرية قلبه لهم الخير، فهذا كله من الأمور التي يحرص عليها طالب العلم فيبارك له في وقته ويبارك له في عمره.
والوصية الأخيرة التي هي جماع الخير كله: تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله وفقه وسدده، وجعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل حتى ينتهي بذلك إلى جنة الله ورضوان الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمالنا، اللهم اجعل لنا خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

حكم الإفطار في صيام القضاء

السؤال هل يجوز الإفطار في يوم صيام القضاء، وإن لم يكن، فماذا يترتب عليه؟
الجواب للعلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة قولان مشهوران: من أهل العلم من قال: لا يجوز للمسلم أن يفطر في قضاء رمضان، وذلك لأنه فرض عليه، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، أي: فأفطر، فيجب عليه أن يصوم عدة من أيام أخر، فهي فرع عن أصل واجب، والقاعدة: (أن الفرع يأخذ حكم أصله) فلا يجوز له أن يفطر على هذا الوجه، وإذا أفطر متعمدا كان كمن تعمد الفطر في رمضان، فيفصل فيه بين وجود العذر وعدم وجود العذر، حتى قال بعض الفقهاء من المالكية: من أفطر في القضاء متعمدا كان كمن أفطر في رمضان متعمدا، فيلزمه القضاء والكفارة؛ ولذلك جعلوا هذا القضاء منزلا منزلة الأداء، حتى قالوا: لو جامع في القضاء وجبت عليه الكفارة؛ لأن الله تعالى قال: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، ولأن القاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) ، و (البدل يأخذ حكم مبدله) فيجب عليه الضمان من هذا الوجه.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز له أن يفطر، وهذا مذهب مرجوح ضعيف، والصحيح: أنه لا يجوز له في القضاء أن يفطر إلا من عذر؛ وذلك لقوة الأدلة التي ذكروها من الكتاب في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، أي: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، أي: يلزمه أن يصومها، فإذا ثبت أنها منزلة منزلة رمضان فحينئذ يكون حكمها حكم رمضان لعدم وجود دليل على الفطر فيها.
أما الدليل الثاني: فدليل المفهوم، فهنا دليل منطوق وهناك دليل مفهوم، ودليل المفهوم مستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) ، مفهوم الصفة في قوله: المتطوع، يدل على أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه، فلما قال: (المتطوع أمير نفسه) ، يعني: من حقك أنك إذا كنت في صيام تطوع أن تفطر إذا شئت ولو لم يوجد عذر، وهذا بظاهر المنطوق، ومفهومه أن غير المتطوع ليس بأمير نفسه؛ لأن المفهوم عكس المنطوق كما هو معلوم، وبناء على ذلك: اجتمعت دلالة المنطوق والمفهوم على عدم جواز فطره في قضاء رمضان إلا إذا وجد العذر، والله تعالى أعلم.

حكم الجماع في صيام القضاء

السؤال هل يأخذ في يوم القضاء حكم اليوم في رمضان من حيث كفارة الجماع؟
الجواب هذه مسألة راجعة إلى السبر والتقسيم في مسلك أصولي معروف، فالحديث في المجامع أنه قال: (جاء رجل يضرب صدره، وينتف شعره يقول: يا رسول الله! هلكت وأهلكت؛ جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم) ، هذه ثمانية أوصاف، وهذه طبعا أوصاف الموجود، (جاء رجل) ما له تأثير؛ لأن الرجل والمرأة في الحكم سواء، فيسقط هذا الوجه وتقول: غير مؤثر، (يضرب صدره وينتف شعره) يعني: متفجع، هل الذي يتفجع يناسب أن يعاقب أو يخفف عنه؟ إذا: ليس هناك مناسبة بين العقوبة وبين قوله: (يضرب صدره وينتف شعره) فيسقط قوله: يضرب صدره وينتف شعره.
يقول: (هلكت وأهلكت) هذا تفجع بالقول، وهناك تفجع بالفعل، فكما سقط تفجع الفعل فإنه يسقط تفجع القول، وقوله: (جامعت) هذا الجماع، فإذا قلت: جامعت، وصف مؤثر في وجوب الكفارة، فلو استمنى لن تجب عليه الكفارة؛ لأن الاستمناء ليس بجماع، ولو فاخذ المرأة فأنزل لم يجب عليه؛ لأنه قال: (جامعت) فلا بد من وجود الجماع، فيجب عليه الكفارة إذا حصل الجماع والمالكية والحنفية، قالوا: لا.
(جامعت) هذا من جهة الشهوة، وكونه أفطر بالجماع فقد أفطر بالشهوة، فكل مفطر بالشهوة كما لو استمنى أو داعب المرأة فأنزل وأنزلت وجب عليهما أن يكفرا، فنظروا إلى المعنى وقالوا: إن العلة حرمة رمضان، فإذا انتهك الحرمة بالفطر في موضع أمر بالصيام فيه لزمته الكفارة، فكأن الشرع جعل الحرمة للشهر، فيقولون: (جامعت) لا ننظر إليها بلفظها، وإنما ننظر إليها بمعناها، أنه إذا جامع أفطر، وإذا أفطر انتهك حرمة الشهر، فكل من أفطر منتهكا للحرمة حتى ولو أكل أو شرب عليه الكفارة، هذا وجه من يقول: إن من أكل متعمدا في نهار رمضان عليه الكفارة؛ لأنه يرى أن الوصف هنا ليس بذاته يعني: الجماع فقط، إنما الجماع في حكمه، طبعا الجمهور يقولون: إذا جامع أهله، فالإجماع على أن الكفارة تجب عليه، لكن لو زنى -والعياذ بالله- فجامع غير أهله، فالظاهرية يقولون: ليس عليه كفارة؛ لأنه قال: جامعت أهلي، والجمهور يقولون: إذا كان من جامع الأهل عليه كفارة! فمن باب أولى: إذا زنى فهو أولى أن يكفر، ولذلك هنا تدرك أن الشريعة تريد المعنى فقال: (جامعت أهلي في نهار رمضان) فإذا قيل: في نهار رمضان، نقول: هذا حكم خاص برمضان لا ينتقل إلى غيره، فالقضاء لا يأخذ حكم الأداء، وإذا قلنا: إن نهار رمضان سببه فرضية الصوم فيه، والله يقول: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184] ، يكون الجماع في عدة من أيام أخر كالجماع في نهار رمضان، ومن هنا يقوى قول من قال: من جامع في القضاء عليه الكفارة، والله تعالى أعلم.

الفرق بين ضمان القيمة وضمان أرش النقص

السؤال أشكل علي ضمان القيمة يوم كذا ولم نقل مع ضمان أرش النقص؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد فضمان أرش النقص متعلق بمسألة رد عين المغصوب مع النقص، وضمان القيمة متعلق بمسألة تعذر رد العين، فهناك فرق بين المسألتين، ويضمن الغاصب أرش النقص إذا رد العين وقيمتها ناقصة بغير سعر السوق، أي: بسبب التغير أو بسبب جناية من الغاصب؛ لكن المسألة التي معنا هي: ضمان القيمة إذا أتلف المغصوب كلية، فهناك فرق بين المسألتين، والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 09-12-2024, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الغضب )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (376)

صـــــ(1) إلى صــ(13)


شرح زاد المستقنع - باب الغصب [7]
مما تعم به البلوى: إتلاف أموال الناس عمدا أو خطأ، وهذه المسألة ليست من مسائل الغصب، ولكنها تشترك مع الغصب في لزوم الضمان، ولهذا تحدث العلماء عنها وبينوا أحكامها مفرقين بين إتلاف المال المحترم وغير المحترم، ومفرقين بين العمد والخطأ في هذا كله.

أحكام إتلاف أموال الناس

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن أتلف محترما، أو فتح قفصا، أو بابا، أو حل وكاء، أو قيدا، أو رباطا، فذهب ما فيه، أو أتلف شيئا ونحوه؛ ضمنه] هذه الجملة ليست في الحقيقة تابعة لباب الغصب، وإنما هي متعلقة بمسألة مهمة تعم بها البلوى، ولا يخلو زمان ولا مكان من السؤال عنها، وهي: مسألة إتلاف مال الناس، ومسائل الإتلاف متعلقة بالغصب؛ لأنها توجب الضمان، والغصب يوجب الضمان، ولذلك ذكر المصنف رحمه الله مسائل الإتلاف والتعدي على أموال الناس وممتلكاتهم، فالأصل الشرعي يقتضي أن المسلم لا يجوز له أن يفسد في الأرض، وإتلاف الأشياء المحترمة محرم بإجماع العلماء ما لم يدل الدليل على جواز الإتلاف، سواء كان الإتلاف كليا أو كان الإتلاف جزئيا، وسواء كان الإتلاف للأعيان والذوات ككسر زجاج أو قتل حيوان أو إهلاك نبات أو كان إتلافا للجزء والبعض، والأصل في تحريم هذه الإتلافات قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] ، فقد فسر هذه الآية الكريمة أئمة السلف ودواوين العلم بأن المراد بها إتلاف الزروع وقتل الحيوانات ونحو ذلك، ومنهم الإمام مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، هذا الإمام عرض القرآن على ابن عباس مرتين يستوقفه عند كل آية يسأله عن حلالها وحرامها وما تضمنته من أحكامها، وهذا الإمام الجليل الذي قال فيه بعض السلف: (ما أظن مجاهدا أراد بالعلم إلا وجه الله تعالى) ، يقول مجاهد: إن المراد بقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف:56] : إتلاف الأشياء المحترمة من إهلاك الزرع وقتل الحيوان ونحو ذلك، وقد أكدت هذا المعنى آيات أخر كقوله تعالى: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس:81] ، ونفيه سبحانه لمحبة المفسدين: {والله لا يحب المفسدين} [المائدة:64] ، كل هذا يدل على تحريم الإفساد وإتلاف الأشياء، والتسبب في ذهاب المنافع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقتل حيوانا ولا أن يتلف منافع ذلك الحيوان، ولا أن يفسد في الأرض بإهلاك الزروع والنباتات، ولا أن يفسد في الأرض بهدم العمران والبيوت، وهكذا ما يكون من تعطيل المنافع الموجودة كالمرافق العامة التي يرتفق فيها الناس.
وأشد ما يكون هذا الإفساد إذا كان في الأماكن التي لها حرمة مما يتعلق بالمساجد ودور العلم؛ لأنها أوقاف مسبلة محبسة، ومما يعد لسقي الناس وشربهم أو ما يعد لركوبهم صدقة عليهم، فلا يجوز للمسلم أن يتسبب في إتلافها، ولا أن يترك من يتولى أمره كأبنائه يفسدون فيها، فإنه متحمل للمسئولية كما سنبين أحكام ذلك كله، والناس يتساهلون في مثل هذا إلا من رحم الله، فيظنون أن الصبي إذا أتلف مثل هذا الشيء أو إذا ترك الصبي يفعل ما شاء فأتلف هذه الأشياء أنه لا شيء عليهم، والواقع أنهم مسئولون أمام الله عز وجل عن تعاطي الأسباب، ومسئولون كذلك عن ضمان كل ما أتلفه أبناؤهم وصغارهم؛ لأن الله جعلهم قائمين عليهم، وأمرهم أن يقوهم من ناره وعذابه، فالإجماع منعقد على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلف شيئا مما فيه مصلحة ومنفعة إلا إذا أذن الشرع بذلك الإتلاف أو أمر به كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

أركان الإتلاف

وقوله: (ومن أتلف محترما) الإتلاف له ثلاثة أركان يقوم عليها، ومسائله عند أهل العلم مبنية على هذه الأركان الثلاثة، فعندنا متلف وشيء يتلف أي: يقع عليه الإتلاف، والإتلاف نفسه، هذه ثلاثة أركان تقع بها جريمة الإتلاف إذا كانت عمدا، وحينئذ يرد السؤال عن أحكام هذه الأركان الثلاثة، وقد جمعها المصنف رحمه الله بقوله: (ومن أتلف محترما) (من) هذا الشخص الذي يقوم بالإتلاف (أتلف) الفعل، (محترما) : المكان الذي وقع عليه الإتلاف، فالأحكام تتعلق بهذه الثلاثة الجوانب.
فقوله: (ومن) : من صيغ العموم وتشمل الذكور والإناث، والصغار والكبار من حيث الأصل إلا إذا دل الدليل على استثناء في الخطاب، لكن من حيث العموم هي عامة شاملة للذكر والأنثى والصغير والكبير حتى أن الصبي لو أتلف شيئا محترما ولو كان عمره سنة فدفع برجله شيئا فكسره وذلك الشيء ملك للغير يجب ضمانه.
الشيء المتلف: أي: شيء فيه مصلحة، لكن بشرط أن يكون محترما شرعا، فإذا كان الشيء له احترام وله أصل يدل على جوازه وإباحته، فإنه حينئذ يضمن إذا تلف كما سنبين إن شاء الله تعالى، ويشمل هذا إذا أتلف آدميا من حيث الأصل، أو أتلف حيوانا أو بهيمة فقتلها وأتلفها، أو أتلف نباتا كزرع أحرقه أو قلعه من الأرض فمات، أو أتلف الثمر قبل نضجه فقصه من النخلة، هذا بالنسبة للشيء المتلف سواء كان حيوانا من الحيوانات آدميا وغيره، أو من غير الحيوانات، كالزجاج والخشب، ونحو ذلك.
نبدأ بقوله: (ومن) قلنا: يشمل الصغير والكبير، فنبدأ بالكبير، فالكبير البالغ العاقل، إذا أتلف شيئا على حالتين: إما أن يتلفه متعمدا قاصدا إتلافه، وإما أن يتلفه مخطئا.
مثال ذلك: لو أن رجلا أخذ (منجلا) وقلع نباتا لجاره وقصد إتلاف النبات على صاحبه، فحينئذ هذا إتلاف موجب للضرر على سبيل العمد، فإذا وقع هذا النوع من الإتلاف من الكبير البالغ العاقل، سواء وقع إتلافه على حي كحيوان أو غير الحيوانات، فيترتب عليه أمران: الأمر الأول: عقوبة شرعية.
الأمر الثاني: الضمان من حيث الأصل.
فلو جاء وأتلف زرع جاره واشتكى جاره إلى القاضي، وقال القاضي: لم أتلفت زرع جارك؟ قال: أنا متعمد قاصد أريد أن أفسد ماله.
فالقاضي يعزره ويؤدبه -وسنبين أحكام التعزير في باب التعزير، لا نتكلم هنا على عقوبته إذا كان متعمدا فلها باب خاص، إما أن تكون عقوبة مقدرة كما في الجنايات على الأرواح والأنفس وهذه لها باب خاص وهو باب القصاص ومسائل الاعتداء على النفس والأطراف- وتفصل فيه مسائل الاعتداء على النفس والأطراف، وفي هذه الحالة: إذا كان الكبير البالغ قد جنى جناية عمدا نعاقبه بما يليق به، ويطالب بضمان المال الذي أتلفه على أخيه المسلم بشرط أن يكون هذا المال محترما شرعا.

حكم إتلاف مال الغير خطأ

الحالة الثانية: أن يقدم على إتلاف مال أخيه مخطئا، كرجل أخذ سيارة شخص فحصل حادث أتلف بسببه السيارة، فهو لم يقصد ولم يتعمد إتلافها، فنقول: يترتب شيء واحد، وتسقط العقوبة والتعزير؛ لأنه لا يقصد، ويجب ضمان حق أخيه المسلم.
إذا: ضمان الحق يستوي فيه أن يكون متعمدا أو مخطئا، فالشريعة توجب ضمان حق المسلم سواء كان متعمدا أو مخطئا، ثم الضمان يختلف: فتارة تجعل الشريعة النفس بالنفس كالقاتل يقتل، وتارة توجب الضمان بالأموال، إذا كانت أموالا كما سيأتي -إن شاء الله- تفصيله، إذا: يتبين من خلال هذا: أن الكبير البالغ العاقل: إما أن يتعمد أو يخطئ، فإذا تعمد ترتب أمران: أولهما: عقوبته بالتعزير بما يليق به وبجنايته، والثانية: ضمان الحق لصاحبه.
ومسألة إيجاب الضمان عليه إذا كان مخطئا، هذه تحدث إشكالا، فالله تعالى يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ، ويقول تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب:5] .
فخذها قاعدة: أن الخطأ يجب فيه الضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، وتوضيح ذلك: أن الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف كإيجاب الصلاة والزكاة والصوم، هذه يكلف بها الإنسان ويخاطب بها، وإذا أخطأ سقط عنه الإثم، لكن ضمان هذه الحقوق لا يسقط بالخطأ، ونبدأ بحق الله، مثلا: لو أن شخصا قلت له: قم فصل الظهر، قال: صليت، وظن أنه صلى وهو مخطئ لم يصل، ثم لما مضت ساعة تذكر أنه كان مخطئا حينما قال لك: صليت، فيجب عليه أن يصلي.
إذا: خطؤه أوجب سقوط الإثم عنه طيلة الفترة التي كان فيها مخطئا، فلما تبين له أن ذمته مشغولة سقطت عنه المؤاخذة، وتوجه الخطاب عليه أنه لم يصل، فبناء على هذا: إذا كان الشخص مخطئا نسقط عنه الإثم، لكن نوجب عليه الضمان، ولذلك ترى نص القرآن حينما أمر الله عز وجل بالدية فيمن قتل أخاه المسلم مخطئا: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} [النساء:92] ، فالقتل إذا وقع بالخطأ وجب ضمانه بالدية، مع أنه مخطئ، والله يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] ، ففهمنا أن المؤاخذة من جهة التكليف وهي: وجوب ترتب الإثم على الفعل.
إذا: مسألة ضمان المتلفات يستوي فيها المخطئ والمتعمد، الكل يضمن، إذا ثبت هذا يرد
السؤال لماذا تطالب الشريعة المخطئ بالضمان، قد يرد إشكال ويقول لك: هذا رجل أخطأ فصدم سيارة أو قتل إنسانا بسيارته دهسا وهو لا يريد قتله، أو دهس بهيمة أو كسر محلا أو نحو ذلك لماذا توجب عليه الضمان مع أنه مخطئ؟
و الجواب أن هذا يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية وكمالها؛ لأن الأموال لا تتلف إلا بشيء من التفريط، لا يمكن أن يقع إتلاف إلا بشيء من التفريط، فالدهس والقتل لا يقع إلا بسبب تفريط السرعة وعدم ضبط الإنسان لقيادته مثلا، والدابة لا تتلف الأشياء وهي في ملكك إلا بسبب التساهل بتركها ترعى في أموال الناس وتتلفها.
فلو فتح باب: أنه لا يجوز الضمان في الخطأ لضاعت حقوق الناس؛ ولذلك تجد الناس الآن إذا علم أنه لو حصل بينه وبين أخيه حادث أتلف به سيارته أنه يضمن، احتاط وأخذ بجميع الأسباب التي بإذن الله عز وجل تمنعه وتحول بينه وبين الوقوع في أذية أخيه المسلم.
إذا فمنهج الشريعة من أكمل ما يكون وأتم ما يكون في ضمان حقوق الناس، وهذا يحفظ للناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم.

حكم إتلاف غير المكلف مال غيره

الحالة الثانية: أن يكون الجاني صغيرا، فإذا كان الجاني صغيرا فإنه يسقط عنه جانب التكليف فلا نقول: إنه آثم، إذا وقع منه شيء متعمدا؛ لأن الصغير إما أن يتعمد كالكبير أو يخطئ، وهنا قاعدة ذكرها العلماء تقول: (عمد الصبي والمجنون خطأ) ، هذه قاعدة تجعلها معك في المسائل الشرعية، أن كل شيء تعمده الصغير الذي هو دون البلوغ أو المجنون الذي لا يعقل تجري عليه أحكام الخطأ، ولا تجري عليه أحكام العمد.
فلو أن صبيا -لا قدر الله- أخذ سلاحا فقتل شخصا دون أن يدفعه أحد ودون أن يكرهه أحد، فقتله متعمدا فإنه لا يقتص منه، بل ينزل منزلة الخطأ، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وخاصة إذا كان دون التمييز، وفيه خلاف ضعيف سنبينه -إن شاء الله- في باب الجنايات وهذا الخلاف إذا كان مميزا عند بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه.
إذا: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالمجنون لو جاء متعمدا وأخذ حديدة فكسر زجاجا أو كسر محلا لشخص فأتلف ماله، لو فعل هذا الفعل عاقل لعاقبناه وأوجبنا عليه الضمان، لكن إذا فعله المجنون قلنا: عمده خطأ وينزل منزلة الخطأ، فيجب الضمان ولا تترتب عليه العقوبة.
أما الدليل على إسقاط المؤاخذة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق) ، إذا: دلت السنة على أنه لا يؤاخذ الصبي ولا المجنون وإذا سقطت عنه المؤاخذة فإنه لا يعاقب على ذلك ولا تترتب على فعله العقوبة، هذا إذا تعمد الصبي، أما إذا أخطأ فالحكم واحد.
إذا: الصبي إذا أتلف شيئا وجب ضمانه، فلو أنه أتلف مالا للغير، وقال ولي الصبي: هذا صبي، نقول: إنه صبي ولكن يجب الضمان، فالصبي لا نؤاخذه ولا نعاقبه ولكن يجب الضمان عليه.
وإذا أوجبنا الضمان على الصبي، فالصبي والمجنون لهما حالتان: الحالة الأولى: أن يكون عند الصبي مال، مثل: اليتيم، يتوفى والده ويترك له إرثا فيرث -مثلا- مائة ألف، ثم أقدم هذا الصبي على شيء -مثلا- قيمته عشرة آلاف ريال فأتلفه، فحينئذ تأخذ من ماله وتضمن لصاحب الحق، هذا إذا ترك له أو عنده مال ورثه من قريب؛ فإننا نأخذ هذا المال ونسد به ما وجب ضمانه، لكن بشرط، فيشترط إذا ضمنا المتلف من مال الصبي: ألا يكون هناك إفضاء وسببية من الولي، فلو أن الولي أمر الصبي بشيء فيه إتلاف وأتلفه فإنه يجب الضمان على الولي لا على الصبي، وذلك؛ لأن الصبي كالآلة مسلوب الإرادة والاختيار؛ لأنه لا يعقل، وهكذا المجنون: إذا أمره وليه أن يتلف شيئا أو أمره أن يفسد شيئا فإنه يجب الضمان على الولي، ومن أمثلة هذه المسألة: لو أن صبيا أمره بالغ وقهره على أن يقتل شخصا سقط القصاص عن الصبي ووجب القصاص على الآمر، وسيأتي -إن شاء الله- في مسألة القتل بالأمر والقتل بالإكراه، الشاهد هنا: أن الصبي يضمن في ماله بشرط: ألا يكون للولي سبب في التعدي.
وهكذا إذا كانت للولي سببية.
ومن أمثلتها: ما يقع في حقوق الله عز وجل، فالحاج والمعتمر مأمور باجتناب ما أمر الله باجتنابه من محظورات الإحرام، فإذا كان الصبي دون التمييز وأحرم عليه وليه فحججه وليه أو أعمره، فإنه إذا وقع في الإخلال فإنه يكون في مال الولي لا في مال الصبي، وبناء على ذلك: يفصل في هذه المسألة في الضمان في حق الله عز وجل وحق المخلوق، فالصبي في جميع الأموال قلنا: يضمن إذا كان له مال، وإذا لم يكن له مال ضمن عنه وليه، ولو أن والد الصبي جاء به فأدخله إلى مكان فقام الصبي فأتلف شيئا فإن والده يضمن ذلك الشيء إذا لم يكن للصبي مال، هذا بالنسبة للمتلف إذا كان آدميا.
أما إذا كان المتلف حيوانا فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون ملكا لشخص، والحالة الثانية: أن يكون غير مملوك كالدواب المنفلتة والسائبة.
فإذا كانت الدواب ملكا لشخص فتارة يضمن صاحبها وتارة لا يضمن، وأما إذا كانت مسيبة فهذه فيها تفصيل عند العلماء في مسائل تارة يكون فيها الضمان على بيت مال المسلمين عند بعض أهل العلم، وبعضهم يرى أن السائبة لا ضمان عليها مطلقا.
قال: (ومن أتلف) عرفنا من الذي يقوم بالإتلاف، (ومن أتلف) : وأتلف الشيء: إذا أفسده وعطل منافعه وأذهبها، فإن كان الشيء من الحيوانات فقد يكون إتلافه كلية بقتله وإزهاق روحه، وقد يكون الإتلاف جزئيا كما لو كسر يد البهيمة أو أتلف عضوا من أعضائها، ويكون الإتلاف لغير الحيوان مثل: الآلات والمصنوعات، فإذا أتلف بعضها وبقي بعضها: يكون إتلافا جزئيا، وإذا أتلفها كلها يكون إتلافا كليا.
فالإتلاف يكون بالقتل، ويكون بالتحريق، ويكون بالكسر، فكل شيء فيه تعطيل للمنافع وإذهاب للعين ومصالحها فإنه إتلاف، وتارة يكون كاملا وتارة يكون ناقصا.

حكم إتلاف الأشياء المحترمة

فقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) ، (شيئا) : نكرة، والقاعدة: أن النكرة تفيد العموم، (شيئا) أيا كان هذا الشيء، سواء كان حيا أو كان غير حي جامدا أو مائعا، لكن بشرط أن يكون محترما.
قوله: (محترما) قيد يخرج غير المحترم، وغير المحترم هو: الشيء الذي حرمه الشرع، ومن أمثلة ذلك: الميتة والكلب والخنزير، وكذلك السباع العادية، والفواسق، فهذه كلها غير محترمة، قال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم) ، فلما ذكر الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم ووصفهن بالفسق أسقط حرمتهن، وأجاز إتلافها وعد ذلك قربة لله سبحانه وتعالى، وبناء على ذلك: لا بد وأن يكون الشيء المتلف له حرمة.
وكما يكون من الحيوانات غير محترم يكون من غير الحيوانات، مثل: الخمر من الشراب، والصليب، وآلات اللهو، فكل هذه لا حرمة لها شرعا ولو أتلفت فإنه لا يجب ضمانها، وآنية الذهب وآنية الفضة كذلك؛ لأن الله عز وجل حرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح- من حديث حذيفة رضي الله عنه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) فلو هشم شخص إناء ذهب أو إناء فضة وكسره، فإنه لا يجب عليه ضمانه، وإذا ثبت هذا فإن كل شيء محترم يجب ضمانه إذا طالب صاحبه بحقه.
فقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) هذه الجملة صدر بها المصنف؛ لأنه سيذكر ما تفرع عليها من المسائل المبنية على قاعدة الإتلاف.

الإتلاف المباشر

قال رحمه الله: (ومن أتلف محترما، أو فتح قفصا، أو بابا) .
الإتلاف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الإتلاف المباشر.
القسم الثاني: الإتلاف السببي أو الإتلاف بالسببية.
الإتلاف المباشر: أن يقوم الشخص بنفسه بفعل الإتلاف، كأن يحرق الدار بنفسه، أو يكسر الزجاج بيده فهذا إتلاف مباشر.
أما الإتلاف السببي: يكون من الشخص إذا فعل الشيء الذي يقع به الإهلاك؛ لكن يباشر الإهلاك غيره، كشخص بنى جدارا فجاء شخص وجلس تحته، فجاء آخر ودفع الجدار عليه؛ فالذي قتله الجدار، والذي أحدث الجدار هو صاحب الأرض، لكن الذي دفع وباشر الإتلاف بنفسه شخص آخر.
ومن أمثلته: من حفر بئرا في مزرعته، أو حفر أرضا لعمارته، فهذه الحفرة جاء شخص ودفع غيره فيها فقتله ومات، فالحفرة حفرها سبب في القتل، لكن الدفع فيها سبب مباشر للقتل، فهذا إتلاف مباشر، وهناك إتلاف بواسطة، فالإتلاف المباشر لا إشكال فيه، وعند العلماء عدة قواعد في مسألة الإتلاف بجميع صوره من القتل المباشر والقتل بالسببية، والجناية المباشرة والجناية السببية، والضرر المباشر والضرر بالسببية، فالإتلاف إذا كان مباشرا -أيا كان سواء كان إتلافا لحيوان أو غيره- يكون موجبا للضمان من حيث الأصل سواء تعدى الشخص أو لم يتعد.
فتصبح القاعدة: المباشرة تقتضي الضمان مطلقا، أما السببية فلا تقتضي الضمان إلا بالتعدي والتفريط، وعلى هذا سيكون -إن شاء الله- تفصيل العلماء رحمهم الله للمسائل.
ابتدأ رحمه الله بقوله: (ومن أتلف شيئا محترما) تلاحظ أن العبارة المراد بها: المباشرة، بمعنى: أن الإتلاف للشيء وقع بمباشرة الإنسان وليس بواسطة، ومن أتلف شيئا محترما، سواء أتلفه بيده أو برجله أو بسيارته، فكل هذا يعتبر إتلافا مباشرا.

يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09-12-2024, 10:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



الإتلاف بالسببية

وقوله: (أو فتح قفصا) هنا الإتلاف بالسببية، وفيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، فالقفص قد يكون فتحه رحمة، وقد يكون فتحه عذابا وبلاء، فمثلا: إذا كان هناك عصفور أو طائر فتحه الشخص شفقة عليه ورحمة به؛ لكن إذا كان بداخله أسد أو كان بداخله سبع مفترس، فهذا لا شك أنه سيفضي إلى هلاك كثير من الناس والحيوانات، فلذلك يختلف فتح القفص من جهة الشخص الفاتح، لكن في صورة الأمر وحقيقته تلاحظ مسألة مهمة وهي: هل فتح القفص يكون مباشرة أو سببية، فيه وجهان للعلماء؟ الوجه الأول: بعض العلماء يرى أن كل من فتح قفصا على حيوان ضار وخرج الحيوان منه وأضر فهذا كالمباشرة؛ لأن الحيوان لا عقل عنده ولا إدراك، ومثل هذا الفعل لا شك أنه مفض للخروج، والخروج مفض للهلاك والإتلاف والإفساد، فيقولون: مثل الذي أمسك حية بيده وقتل بها شخصا، فحينئذ صحيح أن الحية هي التي قتلت، لكن من الذي حركها وقربها؟ فهنا ولو أن في الصورة شيئا من السببية لكنها للمباشرة ألصق وأقرب والحكم بها أقوى، وهذا القول لا يفصل فيه، بل نقول: من فتح قفصا مطلقا سواء خرج الحيوان بعد الفتح مباشرة أو تأخر فعليه الضمان؛ لأن الحيوانات لا تناط بها الأحكام؛ ولذلك تسند الأحكام إلى ما يناط إليه، فهذا الشخص هو الذي فتح وأتلف وحصل بفعله وفتحه ما حصل من الضرر.
وبناء على هذا القول: لا تفصيل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
الوجه الثاني: هناك من أهل العلم من فصل، فقال: من فتح قفصا نظرنا: إما أن يقع خروج الحيوان بعد الفتح مباشرة كما لو كان على الباب فبمجرد فتحه خرج، فحينئذ نعتبره في حكم المباشرة، ونرى أن فتحه مؤثر وموجب للضمان، أما لو أنه فتح وتأخر وما خرج الحيوان أو الطير إلا بعد فترة أو برهة، فالخروج وقع من الحيوان بفعله، وصحيح أن الفتح موجود؛ لكن الخروج أصبح مؤثرا وأصبح مباشرة من الحيوان، فصار سببية ومباشرة، فلا يوجبون عليه الضمان إلا إذا حركه ودفعه إلى الخروج وحرشه عليه.
والفرق بين القولين: أن أصحاب القول الأول يضمنونه ويحملونه تبعة هذا الفتح وهذا التصرف سواء خرج الحيوان مباشرة أو تأخر، فهو ضامن متحمل المسئولية.
أما القول الثاني فلا يضمن إلا إذا تعدى، وهذا الذي ذكرناه في القاعدة: أن السببية لا ضمان فيها إلا بالتعدي، فقالوا: فتح القفص سببية، فإن حرك الحيوان وحرشه أو دفعه للخروج وجب الضمان، وأما إذا سكن ولم يخرج الحيوان فإنه لا ضمان عليه.
ويكون في حكم التحريش إذا كان الحيوان على الباب مباشرة، فبمجرد فتحه نهش وقتل ولدغ، فحينئذ يضمن، والحقيقة قول المصنف أقوى.
والنظائر والأشباه توجب أن فتح القفص وفتح الباب على الشيء المحبوس يوجب الضمان، والبهيمة لا شك أنها تندفع إلى الخروج وتريد الخروج، وهذا شيء موجود في البهائم لفطرتها؛ لأن البهيمة -وإن كانت لا تعقل- فإن فيها تمييزا للأمور، كما قال تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فقوله: (ثم هدى) أي: هداه لمصالحه، ودفع المضار عنه، فالبهيمة تدرك أن المصلحة في الخروج فتسعى لذلك وتطلبه، فمسألة أنه لا عقل لها ليس على كل حال يوجب إسقاط الضمان، فإذا فتح القفص وهو يعلم ما فيه وتساهل في ذلك فحصل الضرر؛ فإنه يتحمل المسئولية المترتبة على ذلك، وهكذا لو كان الذي بداخل الغرفة رجلا شريرا معروفا بالفساد والأذية والإضرار، فإذا جاء شخص وهو يعلم ففتح له وأخرجه فإنه يتحمل المسئولية، فيكون المباشر الشخص نفسه، ولكنه يكون حينئذ في حكم السببية فتخف المسألة عن المسألة السابقة من جهة أنها سببية إذا كان حيا يعقل، وتكون قريبة من المباشرة آخذة لحكمها إذا كانت في الحيوان ونحوه.
وقوله: (أو بابا) .
أو فتح بابا كما ذكرنا، إذا كان داخل الغرفة شيء ضار كالسبع المفترس أو مجنون منه ضرر، قد يؤذي ويضر ويقتل وهو يعلم بذلك ثم فتح له الباب، فيكون قد مكنه بذلك من الإفساد، وتعدى بتعاطي السبب الموجب للضمان.
وقوله: (أو حل وكاء) .
كانوا في القديم يحملون اللبن والعسل ونحوه من الأطعمة والأشربة في القرب، وتكون الأوعية مربوطة محكمة، فيأتي شخص ويفك هذا الرباط فتسقط القربة ويندفع ما فيها، فمن أهل العلم من فصل في حل الوكاء: فإن كان الشيء الذي عليه الوكاء لا يثبت ولا يستقر، بحيث إذا انحل الوكاء اندفع ما فيه، مثل: القرب إذا كانت على الأرض وحل الوكاء فإنه يندفع ما فيها من اللبن أو العسل فحينئذ يجب الضمان؛ لأنه لا إشكال أن حل الوكاء سيفضي إلى خروج ما في القربة؛ أما إذا كان الوعاء مستندا إلى حائط وكان ثابتا مستقرا ثم حل الوكاء فلا يجب الضمان إلا بالتعدي، كأن يدفعه فيسقط أو يتعاطى سببا لسقوطه، فإذا لم يفعل شيئا من ذلك ثم سقط الوعاء من نفسه بعد برهة -وكان الغالب استقراره- فلا ضمان عليه.
وقوله: (أو رباطا، أو قيدا، فذهب ما فيه) .
(أو رباطا) كالسبع إذا كان مربوطا فحل رباطه، (أو قيدا) : كالكلب -أكرمكم الله- إذا كان مقيدا فحل قيده فخرج وعض أو قتل أحدا، فهذه كلها تفضي إلى الضرر وفيها تعد، فأصحاب هذا القول يرون أن الحل والفك والفتح للباب ونحو ذلك يعتبر تعديا من الفاعل، والسببية يجب فيها الضمان بالتعدي، فإذا ذهب ما في القفص -وهو إما أن يكون له قيمة أو لا قيمة له- فإذا ذهب ما فيه مما له قيمة كالعصفور أو النغر أو نحو ذلك وجب ضمانه، لأنه في قول طائفة من العلماء: يجوز حبس العصافير والطيور التي لها أصوات طيبة ويستدلون بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، قالوا: بشرط أن يطعمها وأن يحسن إليها وألا يعذبها.
فعلى هذا القول: يكون حبسه سائغا شرعا، فإذا فتح القفص وطار هذا الطائر نقول له: اضمنه أو رده.
فإذا لم يستطع رده وجب عليه ضمانه.
وقوله: (فذهب ما فيه) يعني: مما فيه من الطير، أو ذهب ما فيه من الطعام، فقد يكون بداخل القربة لبن أو عسل، فسكب على الأرض حتى فسد، فحينئذ يجب عليه ضمانه.
وقوله: (أو أتلف شيئا) (أو) للتنويع، فهذا الشيء إذا تسبب الإنسان أو باشر في إتلافه فإما أن يذهب فحينئذ يضمن إذا كانت له قيمة كالعصفور والحمام ونحوه، وإما أن يكون الشيء مضرا؛ ولذلك قال رحمه الله: (أو أتلف شيئا) يعني: هذا الذي في داخل القفص كالأسد أو النمر لما فتح له خرج وقتل شخصا أو خرج وكسر شيئا، فحينئذ يجب عليه ضمان ذلك الشيء المتلف.
إذا: هذا الشيء الذي يخرج إما أن يكون مما له قيمة فيكون الضرر على صاحبه بخروجه وفراره وشروده، فنقول له: رده أو اضمن، وإما أن يكون خروجه موجبا للفساد والضرر كالحية تلدغ فتقتل، وكذلك العقرب، فالحية ليس لها قيمة، لكن ننظر إلى الضرر المترتب عليها: فمن دقة المصنف رحمه الله أن قال: (فذهب ما فيه أو أتلف شيئا) ، فذهب ما فيه مما له قيمة، أما إذا كان الشيء الذي ذهب لا قيمة له، كأن يكون كلبا عقورا -أكرمكم الله-، فلا نقول: يجب عليه ضمان ما في داخل الشيء المفتوح.
فإذا: (ذهب ما فيه) إما أن يوجب الضمان لعين الشيء الذي ذهب إن كانت له قيمة، وإما أن يكون الضمان مترتبا على ضرر ناشئ عن الذهاب، ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا من خروج البهيمة فتكسر شيئا أو تعض شيئا أو تقتل شيئا فحينئذ يجب عليه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه.
وقوله: (أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه) .
(ونحوه) أي: الضرر، يكون بعض الأحيان بالإتلاف المباشر أو الإتلاف بالسببية، فيفصل في جميع ما يترتب عليه من الضرر.

الأسئلة

حكم حبس الصيد في مكة

السؤال ما حكم حبس الصيد في مكة المكرمة، والحال أن الصيد في مكة محرم؟
الجواب من حيث الأصل بعض العلماء يرى أن الوصف العارض بالحرمة يكون في الشخص، ويكون في الزمان، ويكون في المكان، فيكون في الأزمنة مثل: أزمنة الأشهر الحرم وتحريم القتال فيها، كما جاء بنص الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عز وجل عن قتال المشركين فيها، وكذلك أيضا: يكون بالمكان: كمكة والمدينة على أنها حرم، ويكون بالأشخاص: مثل المحرم، فبعض العلماء يجعلها بمرتبة واحدة فيقول: إذا طرأت هذه الحرمة زمانا ومكانا وحالا، أي: على الشخص وجب عليه أن ينظر إلى الحال ولا ينظر إلى ما سبق، بمعنى: إذا صاد خارج مكة وأدخلها بمكة نظر إلى حرمة المكان، وحينئذ لا يستصحبه، وتزول يده عن الصيد، ولا يبقى ممسكا صيدا في مكة؛ لأنه صيد من حيث الأصل، ومن أهل العلم من قال: لا.
إذا صاده خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فليس من صيد الحرم، وإذا لم يكن من صيد الحرم، حل له أن يعامله معاملة المستأنس المملوك، مثل: الدابة التي يملكها من الدواجن والطيور ونحوها إذا أراد يذبحها ويأكلها فلا شيء عليه.
والأولون يستدلون بدليل الحاج، فإن من أحرم للحج والعمرة، يجب عليه تخلية الصيد، فلو صاد قبل أن يحرم وأمسك صيدا ثم لبى لم يجز له أن يستصحبه، بل يجب عليه أن يفكه، يقولون: وتستوي الاستدامة سواء كان المحرم مستديما أو مبتدئا، فيحرم الصيد بمكة ابتداء استدامة، والواقع القول بأنه إذا صيد خارج الحرم ثم أدخل الحرم فإنه لا يأخذ حكم الصيد فيه قوة، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يأخذ حكم الحرم؛ لأنه لم يصد داخل الحرم، والله عز وجل خصص المكان بالتحريم، والتخصيص يقتضي أن يقيد الحكم بما خصص به، وإلا ما فائدة التخصيص؟ وبناء على ذلك: يقوى هذا القول.
وأما مسألة محظورات الإحرام فإن فيها استدامة، فمثلا: من محظورات الإحرام: النكاح، فلو أن الرجل أحرم بالحج والعمرة وهو متزوج من قبل، فهل ينفسخ عقده؟ الجواب: لا.
فنقول: دل على أن نفس الإحرام فيه تفصيل، فما دل الشرع فيه على الاستدامة حكمنا بالاستدامة فيه، وما دل الشرع فيه على أن المحرم هو الابتداء قلنا بتحريم الابتداء، ولا شك أن الإنسان إذا تورع فهذا أفضل وأكمل وأبعد عن الشبهة، والله تعالى أعلم.

خطر الغرور وعلاجه

السؤال من الأمور التي تطرأ على طالب العلم في أثناء الطلب داء الغرور فما هو العلاج لذلك؟
الجواب إن العلم إذا أريد به وجه الله وابتغى به العبد ما عند الله عصمه الله من الزلل وسدده في القول والعمل، وحقق له كل ما يصبو إليه من مرجو وأمل، فالله هو المطلع على السرائر الذي لا يخفى عليه شيء مما غيبته الضمائر؛ فلذلك يجب على طالب العلم أن يحاسب نفسه دائما بالإخلاص لله عز وجل وإرادة ما عند الله، وهذه المحاسبة إذا صحبها شيء من الانكسار والاعتراف بعظيم نعمة الله جل جلاله الذي علم الإنسان ما لم يعلم وفتح عليه أبواب العلم، ويسر له سبيله ولولا الله ما فهم، ولولا الله ما علم، ولولا الله ما استطاع أن يصل إلى شيء من هذا العلم.
قال تعالى مخاطبا نبيه وأشرف خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، فالفضل فضل الله والنعمة والرحمة من الله وحده؛ ولذلك جعل لعباده السمع والبصر والفؤاد، وهي أسباب ووسائل يتوصل بها إلى العلم، فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائما في الإخلاص لله عز وجل مستصحبا أثناء محاسبته عظيم نعمة الله عليه وجميل وجليل منته لديه، فإذا عرف نعمة الله انكسر لله.
والقلب المخلص كالوعاء النقي بل هو أشرف وأزكى من تلك الأوعية، ولكن الله ضرب المثل، فالقلب المخلص مليء بنور الله عز وجل القلب المخلص امتلأ بالله وحده، وما من قلب يمتلئ بالله إلا وقد انشغل وانصرف عن كل شيء سواه، ففي الله وحده سلوة للإنسان عن كل شيء سواه، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته، وأخلص لله بقوله وعمله وأدرك نعمة ربه، وصاحب الإخلاص بالمعرفة التامة بنعمة الله عليه ذل لله وحده، وأصبحت تلك القلوب المخلصة النقية التقية الخلية من الشرك بريئة، ومن الرياء ومحبة المدح والثناء والغرور بالنفس معصومة بإذن الله عز وجل، وهذه كلها أسباب تحول بين الإنسان وبين الغرور، ولن تجد إنسانا يبتلى بالغرور إلا وجدت في إخلاصه نقصا وفي عبوديته لله خللا، فلا يدخل الغرور إلا بالانصراف عن الله جل جلاله، ومن جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه زكاه ربه، وزكى عمله وجعل هذا العلم مقربا له سبحانه، فلا يتعلم كلمة إلا وقربته من الله جل وعلا، ولا يسمع جملة إلا وحببته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب ما فيه إلا الله، فإذا انصرفت القلوب إلى الله طهرها ربها وتولى أمرها مقلب القلوب والأبصار، وتولى أمرها من يحول بين المرء وقلبه، والله يقول عن الذين انصرفوا عنه {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ، نسأل الله بأسمائه وصفاته ألا يزيغ قلوبنا! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة! كل من يجد الغرور ففيه نقص من الإخلاص وفي إخلاصه دخن، فعليه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تزيد من إخلاصه لله جل جلاله ومن أعظمها وأجلها: الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعر أن هذا العلم أمانة ومسئولية وتبعات، إما أن يفضي بالعبد إلى الدرجات، أو يهوي به في الدركات، فإذا خاف من هذا العلم أشفق على نفسه حتى إنك لتراه من أخلص الناس وهو يشك في إخلاصه ويقول: لا.
ما أنا بمخلص، عملي ليس بمخلص وليس بخالص، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (أدركت سبعين كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
أثر هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، فكانوا يحركون القلوب بالإخلاص لله جل جلاله، والمغرور إذا انصرف قلبه عن الله أصابه الغرور، ولقد عتب الله على أقوام اغتروا بأنفسهم وفرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
ليعلم كل طالب علم وليعلم كل متعلم أن الغرور يمحق البركة ويذهب الخير، ولربما صرف الإنسان من الرحمة إلى العذاب فيشقى من بعد السعادة ويهلك من بعد النجاة والعصمة، والله يقول: {فتزل قدم بعد ثبوتها} [النحل:94] ، فمن دخله الغرور فإنه على مهلكة؛ لأن الله اختار القلب للنظر، فقال سبحانه: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] ، ليعلم الله في قلوبكم الإخلاص، فلا خير يراد إلا بالإخلاص لوجه الله جل جلاله، فالغرور يمحق البركة، والغرور يذهب الخير ويصرف العبد عن الله جل جلاله، ولا يزال العبد يغتر حتى يهلكه الله بغروره، وانظر إلى مكان الغرور وشؤمه وشره، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا ممن كان قبلنا يمشي إذ أعجبه برد عطفيه -يعني: نظر إلى ثوبه وهو جميل- فاختال في مشيته فأصابه الغرور فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة) ، هذا في ثوب!! فكيف بمن يغتر بالعلم؟ من الغرور بالعلم: أن يتعاظم الإنسان على الناس وأن يحس أنه بعلمه قد أصبح حاكما على الناس، فيحتقر من هو أعلم منه، وينتقص من هو مثله، ويترفع على من دونه.
ومن الغرور: أن ينصب نفسه حاكما على أئمة العلم ودواوين السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة، فوالله لو كانوا أحياء لخرست أفواه هؤلاء، ولو كانوا أحياء لعموا حتى يقادوا بعلم هؤلاء إلى الجادة والسبيل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ حرمة السلف الصالح، ويحفظ حرمة العلماء وخاصة أئمة الكتاب والسنة وهم على درجات، فالعلماء الذين شهد لهم أنهم أئمة السلف وأجمعت الأمة على جلالتهم ورفعة قدرهم وحبهم وعلو شأنهم وزكاهم الله بالقبول، فوضع الله لهم القبول في الأرض، لا يأتي الإنسان بعد عشرة قرون يشكك في عقائد هؤلاء، أو يشكك في تبيينهم ومنهجهم مغترا بنفسه، وهو بالأمس كان ضالا شقيا بعيدا عن رحمة الله فما إن وقف في طلبه للعلم حتى يقف مجرحا ثالبا منتقصا مزدريا للعلماء، فإياك ثم إياك أن تقرأ كتابا أو تجلس في مجلس علم فتقوم وأنت محتقر للسلف، والله ما نصحنا لعلماء الأمة والدين إذا كانت كتبنا تقود إلى ازدرائهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وتجد الإنسان إذا كان الإنسان فقيها، يشعر من معه من معه أنه لا فقه إلا فقهه، وإذا كان محدثا يشعر أنه لا حديث إلا منه أو لا تصحيح ولا تضعيف إلا منه، فلا يبالي بعدها بالعلماء، ويقول: لا تغتر بفلان ولا تعبأ بفلان، هذا لا ينبغي، فإن أول ما يأتي الغرور يبدأ باحتقار أئمة ودواوين العلم الذين شهد لهم بذلك، فينبغي عليك أن تتقي الله في سلف الأمة، وأن تتصور هذا العالم الإمام حافظا للكتاب والسنة، فما كان أحد يتصدر للعلم إلا إذا كان على قدم راسخة، الإمام مالك ما جلس يحدث الناس حتى شهد له سبعون من أئمة الفتوى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل للعلم، فما كان يتقدم كل زاعق وناعق، فاتق الله ولا تغتر بنفسك إذا كنت مع علماء السلف وأئمة السلف، فينبغي أن نغرس في قلوب طلابنا وقلوب من يتلقى العلم عنا حب السلف وإجلالهم، والترحم عليهم، وذكرهم بالجميل، والإشادة بفضلهم وعلو شأنهم، وهذا من النصيحة لعلماء الدين، ولأئمة المسلمين.
وكذلك النصحية للعلماء الأحياء بألا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فبعض طلاب العلم إذا جلس بمجلس عالم جعل ينتقد ويزدري غيره، وإن سمع علم شيخه أصم أذنه عن علم غيره، بل ينبغي على الإنسان أن يعلم أن هذا سنة، وأننا تحت رحمة الله منا المصيب ومنا المخطئ، وأننا لا نستطيع أن نزكي أنفسنا بأن نقول: نحن أصحاب الحق ونحن الذين على النجاة وعلى الصراط المستقيم، بل نبني على غالب ظنوننا ونجتهد بالدليل والحجة حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، فإذا بذل الإنسان السبب فإن كان مصيبا فله أجران، وإن كان مخطئا فله أجر واحد، لكن لا يقتضي هذا ذم العلماء وسبهم وانتقاص غير شيخك، لا.
بل تكون كفيف اللسان عفيف القلب إلا إذا كان هناك أمر فيه اعتداء لحدود الله، فتقول: هذا الأمر خطأ، وفلان أخطأ في هذا الأمر، إذا كان يخالف فيه نصا صريحا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى، أو يأتي بعلم من عنده واجتهاد من عنده لا يعرف له أصل عن أئمة السلف، فهذا شيء آخر، ونحن نتكلم على مسائل شرعية يسع فيها الخلاف من الفرعيات وليس من الأصول، فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يغتر بشيخه، بل عليه أن يستعصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا نسيان فضل أهل الفضل، ولا يعني هذا أن يترك طالب العلم شيخه! لا، بل يتبع شيخه بالدليل، وإذا رأى شيخه يتحرى الكتاب والسنة أحبه لحب الكتاب والسنة، وغار على الحق الذي أجراه الله على يديه وأحب سماع هذا الحق ما دام أنه يرى أنوار التنزيل عليه، وعلى هذا يسير طالب العلم.
ولا يغتر أيضا طالب العلم بانتقاص غيره، فلربما يكون شابا اهتدى فرأى غيره من العوام فينتقصهم ويضحك منهم إذا أخطئوا، أو يستخف بهم إذا سألوا، لا ينبغي هذا، فإن الله قد يمقت العبد بذنب واحد، فيغضب عليه غضبا لا يرضى بعده أبدا: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) ، وقد يسخط الله على إنسان يغتر بعلمه فينتقص الناس، فإذا جلست بين عوام يريدون الفائدة فأظهر خشوعك ووقارك، لا من أجل أن يمدحك الناس ولا من أجل السمعة بل لله وابتغاء مرضاته، وقل: هذا العلم الذي شرفني وكرمني ينبغي أن أصونه وأن أحفظه كما أن الله جعله صونا لي وحرزا، فيكون الإنسان سهل الكلام مع الناس، سهل الكلام مع العامي إذا سأل أو إذا استشكل، فهذه من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الضابط في معرفة المال المحترم

السؤال أشكل علي الضابط في معرفة المال المحترم؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد المال: هو كل شيء له قيمة، وسمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ولذلك قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالمال كل شيء له قيمة، وبناء على ذلك: إذا قال العلماء: المال، فلا يختص بالذهب ولا بالفضة، وقد دل على ذلك دليل السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف غير الذهب والفضة بالمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته -ثم ذكر الإبل، فقال- إلا فتح لها بقاع قرقر يجدها أوفر ما تكون لا يفقد منها فصيلا، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها) الحديث، فذكر الإبل والبقر والغنم، ووصفها بأنها مال، وفي حديث الثلاثة النفر: الأقرع والأعمى والأبرص، فإن الأعمى لما جاءه الملك فقال له: (ابن سبيل منقطع، فقال له الأعمى: كنت فقيرا فأغناني الله، كنت كذا وكذا -وذكر نعمة الله عليه- ثم قال له: والله لا أردك اليوم من مالي شيئا، دونك الوادي خذ منه ما شئت -وكان ماله الغنم- فقال الملك -وهذا موضع الشاهد- أمسك عليك مالك) ، فسمى الغنم مالا، فإذا: قول العلماء: مالا محترما، المال: هو كل شيء له قيمة سواء من النقدين أو غيرهما، والعرف الدارج عند الناس أنهم لا يطلقون المال إلا على النقدين من الذهب والفضة، وهذا في الاصطلاح خاص، لكن المعروف: أن المال عام، وبناء على ذلك يشمل الأشياء كلها، لكن قولهم: (محترم) المحترم: هو الذي له حرمة، وهو المأذون باتخاذه، فإذن الشرع باتخاذ المال يعطيه الحرمة؛ لأن الله جعل لك -إذا ملكت هذا المال- حق التصرف فيه، فيصبح المال له حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم وحسابهم على الله) ، فقال: (عصموا) ، صار في عصمة وحرمة.
فإذا: قولهم: (مال محترم) أي: مال مسلم، ويدخل في ذلك: مال الذمي، لكن لو أنه أتلف مال كافر حربي فإنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأن مال الكافر الحربي ملك لنا: ولا يكون له حرمة؛ لأن الشرع أسقط عنه الحرمة بدليل الغنيمة، وعلى هذا لا بد أن يكون المال محترما، فيكون محترما من جهة الشخص كما ذكرنا في المسلم والكافر، ويكون محترما من جهة الوصف، فيكون نفس المال مأذونا به شرعا مثل: الأطعمة والأكسية ونحوها، ويكون ضدها الأطعمة المحرمة، مثلا: لو جاء شخص إلى طعام خنزير، فإذا كان لذمي فإنه محترم؛ لأن شرط العهد الذي بيننا وبينهم: أن نقرهم على دينهم وهذا مباح لهم في دينهم، لكن نحن نتكلم على الأصل العام: أن الخنزير ما له حرمة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) ، فلو أخذ الصنم وكسره فليس عليه ضمان، وهكذا لو كان هناك شيء من الأطعمة الفاسدة المحرمة فأتلفت، فإنها إذا أتلفت ليس لها حرمة ومن هنا ساغ للمحتسب -كما ذكر العلماء في أحكام المحتسب-: أنه إذا دخل السوق ووجد طعاما فاسدا أتلفه؛ لأن الطعام الفاسد ما له حرمة، وإذا بقي عند الشخص ربما باعه على مسلم فقتله وأضر به، فمثل هذا يوجب سقوط الضمان، فإذا وقع الإتلاف على مثل هذه الأموال سقط ضمانها، والله تعالى أعلم.

مناسبة إدخال أحكام الإتلافات في باب الغصب

السؤال ما وجه مناسبة هذه الأحكام في باب الغصب مع أن أحكامها متعلقة بباب الضمان؟
الجواب تختلف مناهج العلماء رحمهم الله، فبعضهم يذكرها في باب الضمان، لكن المشكلة أن الضمان إذا كان بمعنى: الكفالة المتقدم معنا في باب الكفالة -فمن العلماء من يجعل الضمان والكفالة بمعنى واحد- فحينئذ لا يسوغ أن تجعل أحكام الضمان للإتلافات تحت باب الضمان؛ لأنك إذا جعلت الضمان والكفالة بمعنى واحد، فهذه متعلقة بالديون، فالضمان: كأن يأتي شخص ويريد أن يستلف سيارة مثلا، فتقول: أنا أضمنه أن يسدد، فهذه ما لها علاقة بالإتلافات، لكن إذا كان الضمان بمعنى: ضمان الحقوق والإتلافات فهذا باب مستقل، فحينئذ يسوغ أن تفرده بمادته، والسائد والذائع عند العلماء رحمهم الله أنه قل أن تجد من وضع باب الضمان بمعنى ضمان المتلفات، والمؤلفات المعاصرة تعبر بالضمان وتدخل مسائل الإتلافات، وهذا مصطلح صحيح وسائغ؛ لأن اسم الضمان يسوغ أن تندرج تحته هذه المسائل؛ لكن المصنف رحمه الله منهجه هو الصحيح؛ فإن الغصب اعتداء على الأموال والإتلاف اعتداء على الأموال، والمناسبة بينهما لا إشكال في وضوحها وتمامها.
فإذا كانت عندك مادتان: مادة فيها نصوص ولها أصل، ولها باب مثل الغصب ولها نصوص خاصة وتفصيلات وتفريعات، ومادة ملحقة بهذا الباب مندرجة تحت أصله، فالأفضل أن تبدأ بالمادة الأولى وهي الغصب، ثم ترفقها بأحكام الضمان للمتلفات وأحكام الاعتداء، فالمصنف رحمه الله هنا سلك هذا المسلك، وإلا فبعض العلماء يجعل الضمان بابا مستقلا، إلا أنه لم يجعل ضمان الاتلافات بابا مستقلا؛ لأنا لو قلنا بهذا لوجب إدخال الديات والقصاص فيه؛ لأن هذه كلها ضمان للحقوق، وبناء على ذلك: نجد كثيرا من العلماء لا يدخلون الإتلافات تحت باب الغصب، والشافعية عندهم هذا المنهج، والإمام الشافعي رحمه الله عليه من أئمة السلف ومع ذلك ذكر أحكام الإتلافات بعد الغصب، فجعل مسائل الإتلاف -كما في مختصر المزني في مسائله على الإمام الشافعي رحمه الله- بعد الغصب، والمصنف رحمه الله وأئمة الحنابلة رحمهم الله يذكرون هذه المسائل عقب الغصب وهذا وجيه، والمسألة كلها في الأولى والأحسن، والأمر واسع -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 09-12-2024, 10:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الغضب )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (377)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


شرح زاد المستقنع - باب الغصب [8]
لم تضمن الشريعة الحق لصاحبه إذا أتلف ماله آدمي فقط، بل حتى لو أتلفت البيهمة شيئا فإن الشريعة ألزمت صاحبها بضمان ما أتلفته حتى لا تضيع حقوق الناس، وهذا كله مبين ومفصل في كتب العلماء رحمهم الله.



موجبات الضمان

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان] .
تقدم معنا أن مسائل الضمان تعتبر من أهم المسائل؛ نظرا لعموم البلوى بها، وكثرة السؤال عن أحكامها، وقد بينا أن العلماء رحمهم الله منهم من يذكر مسائل الإتلاف بعد مسائل الضمان، فلما كان الغصب يوجب الضمان ناسب أن تذكر مسائل الإتلاف؛ لأنها تشترك مع الغصب في كونها توجب الضمان.
وذكرنا أن الإتلاف يكون على صورة السببية وصورة المباشرة، وبينا إتلاف الشخص للأشياء بنفسه، كأن يحرق الشيء أو يتلف المنافع الموجودة فيه، سواء وقع الإتلاف لكل الشيء أو بعضه، وبينا أن الشريعة أوجبت على من اعتدى على أموال الناس أن يضمن ما جنت يداه، وأنه يطالب بدفع قيمة الأضرار المترتبة على اعتدائه.
وسيشرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان حصول الضرر بالسببية، وحصول الضرر بالسببية ذكر من أمثلته: فتح القفص كما ذكرنا، وفتح الباب، وحل الوكاء، هذا على القول بأن التضمين هنا من سببية مؤثرة في المباشرة، وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.
والآن عندنا مسألة ربط الدابة في الطريق الضيق، وقبل بيان هذه المسألة وما يتبعها من مسائل ينبغي أن يعلم أن هناك ثلاثة أمور لا بد من توفرها في الضمان، وهذه الثلاثة الأمور كالآتي: أولا: وجود الاعتداء.
وثانيا: أن يترتب على الاعتداء ضرر.
وثالثا: أن توجد سببية تربط بين الاعتداء وبين الضرر.
فعندنا اعتداء، وعندنا ضرر الذي هو أثر الاعتداء، وسببية رابطة بين الاعتداء وبين الضرر.
أما الاعتداء فيشمل ستة صور: الصورة الأولى: الإهمال.
الصورة الثانية: التقصير.
الصورة الثالثة: مجاوزة الحد.
الصورة الرابعة: عدم التحرز.
الصورة الخامسة: العمد.
الصورة السادسة: الخطأ.
هذه ست جهات يوصف فيها الشخص بكونه معتديا.

العمد والخطأ يوجبان الضمان

أما النوع الخامس: وهو العمد، والنوع السادس: الخطأ، فهما يقعان في نفس الأشياء التي تقدمت، فمن قصد الضرر بهذه الأشياء المتقدمة فهو متعمد، ومن وقعت منه هذه الأشياء عفويا دون قصد ودون تعمد فإنه مخطئ، وحينئذ يجب الضمان، كشخص أحرق كتاب غيره، فنقول له: اضمنه.
وهكذا لو أخطأ فسقطت النار من يده فأحرقت فراشا أو أرضا فإننا نقول: أنت ضامن سواء قصدت فكنت متعمدا أو لم تقصد، والفرق بين العمد والخطأ: أن العمد يوجب الضمان مع العقوبة، وأما الخطأ فإنه يوجب الضمان وحده، وقد تقدم بيان ذلك، وكل هذه الصور في الحقيقة هي أسباب للضمان، والمصنف رحمه الله أشار بصورة ربط الدابة للصورة الأولى وهي صورة الإهمال، وكما أنها تقع في الحيوانات فإنها تقع في غير الحيوانات.
وقوله: (وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن) قال: (عثر به إنسان) لا يشترط أن يعثر الإنسان، بل كل ما يترتب على وجود هذا الإخلال وهذا الإهمال من ضرر فإنه يتحمله؛ لكن ذكر (عثر به إنسان) لأن الإنسان غالبا يعقل ويتحفظ، فإذا كان يضمن ممن يعقل ويتحفظ فمن باب أولى أن يضمن إذا تسبب بضرر لغير الإنسان بوجود هذا الدابة والبهيمة.

الإهمال يوجب الضمان

فأما قولنا: (الإهمال) إذا حصل الضرر مترتبا على الإهمال؛ فالمهمل يتحمل مسئولية ذلك الضرر، وكذلك بالنسبة لبقية الصور، لكن نريد أمثلة على الإهمال الموجب للضمان، بمعنى: الإهمال إما أن يقع في الأشخاص، وإما أن يقع في الأموال، فمثال الإهمال في الأشخاص: لو أن امرأة مرضعة -مثلا- كانت ترضع صبيا فأهملته ولم تسقه ولم تقم على إرضاعه حتى مات، فهذا إهمال في القيام بواجبها ومسئوليتها التي تحملتها، فلو أن هذه المرضعة حملت هذا الصبي أو الخادمة أو الخادم أخذ الصبي ووضعه بجوار نار، وهو طفل رضيع فوضع جوار تنور النار أو وضع بجوار بركة ماء ولا حاجز لها فدب وسقط، فهذا إهمال بالسببية وصحيح أنه سقط بفعله، أي: باشر الصبي الذهاب للحفرة واحترق بالنار، أو باشر الذهاب إلى الحرب وسقط منه فمات، أو باشر الذهاب إلى فتحة الخزان وسقط فيها ومات، لكن كون هذه الفتحة موجودة في هذا الموضع وكون التنور موجودا في هذا يستلزم ممن يحمل الصبي ألا يتركه دون أن يكون بجواره ودون أن يغلق عليه هذه المنافذ الموجبة للضرر، فإذا: هذا الإهمال سبب في الضمان؛ لأنه نشأ الضرر، عنه، والصبي لا يعقل، فأصبحت مباشرته ساقطة، وأصبح من وضعه في هذا الموضع متحملا المسئولية، ولذلك قالوا: لو أن امرأة نامت بجوار صبيها وانقلبت عليه في الليل وقتلته، فهذا قتل خطأ لكن فيه نوع إهمال ويكون المنشأ فيه من جهة الإهمال، هذا بالنسبة لضمان الأشخاص، فالإهمال يوجب الضمان في الأشخاص، وقد يوجب الإهمال الضمان في الأموال، فمثلا: حينما تكون هناك مواد سامة أو ضارة ويحملها شخص، وحملها له طريقة معينة أو ينبغي أن تقفل الأوعية التي فيها هذه المواد فلم يقفلها كما ينبغي ولم يقم بحفظها في الأوعية التي يحفظ فيها مثلها فإن هذا الإهمال يوجب المسئولية عن جميع الأضرار المترتبة عليه.
كذلك الإهمال في البناء أو النجارة أو الحدادة، أو الطب، فكل هذه الأمور إذا وقع فيها إهمال، فإن المهمل يتحمل مسئولية إهماله، فمن ربط دابته في الطريق هذا إهمال؛ لأن الطريق الضيق ليس موضعا لربط الدابة، ولذلك قيده المصنف رحمه الله بالضيق بخلاف الطريق الفسيح، فلو أن شخصا كانت معه ناقة أو بهيمة فربطها في طريق ضيق، فجاء شخص يمشي فعثر بحبلها وسقط فانكسرت يده أو حصل الضرر عليه أو كان يحمل شيئا فسقط وانكسر فإن صاحب هذه الدابة يتحمل المسئولية عن هذا الضرر كله؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع لربط الدواب، وثانيا: لأن صورة الربط توجب الضرر غالبا وتفضي إليه، فمثل هذه البهائم إذا ربطت في مثل هذا الموضع فإنها توجب الضرر حتى ولو كان برباطها الذي تربط به، فلو ربطه في منتصف الطريق فأضر بإنسان أو بسيارة أو بغيره فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر، لكن لو أنه أخذ بهيمته وربطها في صحراء، فجاء شخص ومر على حبلها وسقط، فيكون التقصير من الشخص وليس ممن ربطها، وليس هذا الموضع متعينا لأن يسلكه الشخص، فلما أراد أن يسلكه تعين عليه أن يتحفظ، وحينئذ لا تكون كالصورة الأولى التي ضيق فيها على الناس وكان الضرر فيها بسبب وجود هذا الإهمال من صاحب الدابة.
قال بعض العلماء: لا يضمن إن كان في طريق فسيح؛ لأن هناك قاعدة عند العلماء: أن مفاهيم الصفات في المتون معتبرة عند أهل العلم، فهنا لما قال: (طريق ضيق) نفهم منه: أنه إذا كان الطريق واسعا فإنه لا يضمن، وتتفرع على هذه المسألة: لو جاء وأقفل بها طريقا ضيقا يسلكه الناس، فترتب بسببه ضرر على الناس في أرواحهم أو ترتب عليه ضرر في ممتلكاتهم أو أغراضهم وحوائجهم فإنه يتحمل المسئولية عن هذا الضرر؛ لأن هذا الموضع ليس بموضع إيقاف كما أن الطريق الضيق ليس بموضع ربط للدابة.
فقوله: (ومن ربط دابته في طريق ضيق فعثر به إنسان) هنا اجتماع السببية والمباشرة، فصحيح أن العثر وقع بمشي الشخص وهو الذي باشر المشي في هذا الموضع فسقط، لكن وجود هذه الدابة وهذا الحبل في هذا الموضع على هذا الوجه موجب للضمان.

التقصير يوجب الضمان

السبب الثاني والصورة الثانية من موجبات الضمان: التقصير، فتضاف إلى هذه الصورة صورة التقصير، والتقصير هو نوع من الإهمال، لكن يفرق بين التقصير والإهمال: أن التقصير غالبا يكون في الأشياء التي لها حدود معينة، ويقوم الشخص بالتقصير بعدم فعل الشيء على أتم الوجوه فينتقص منه، فإذا قصر ألزم بعاقبة تقصيره، ومن أمثلة ذلك: إذا كان الشيء مما يربط فلم يربطه، أو كان الشيء مما يقفل فلم يقفله، فمثلا: شخص وضع شيئا في موضع مؤتمن فيه على أمانات الناس، فالذي جرى في العرف أنه يقفل هذا الموضع، فقصر في قفله أو تركه مفتوحا فهذا إهمال من وجه وتقصير من وجه، فالتقصير نوع من الإهمال لكنه يختص بالأشياء التي لها ضوابط معينة، فمثلا: لو أنه أخذ سيارة الأجرة من شخص أمانة لا يضمن، لكن إذا جرى العرف على أنه في كل مسافة معينة يقوم بفعل شيء فيها، إما من جهة غيار زيتها أو تفقدها فلم يتفقدها ولم يكشف على شيء من ذلك حتى تعرضت السيارة للتلف، فنقول: تضمن؛ لأن هذا إهمال من وجه وتقصير من وجه.
السبب الثالث: مجاوزة الحد، وهو مثل التقصير يكون في الأشياء المحددة وهو عكسه، فالتقصير أقل والمجاوزة أكثر، فالمجاوزة تقع في الأموال وتقع في الأشخاص، فقد ذكر العلماء رحمهم الله في القديم -كما سبقت الإشارة إليه في باب الإجارة- الطبيب إذا جاوز الحدود المعتبرة عند أهل الصنعة، فمثلا: لو عمل عملية جراحية لها حدود معينة فجاوز الحد المعتبر عند أهل الخبرة في قطع عضو أو دواء أو جرعة الدواء، وقد تكون جرعة الدواء تفضي إلى الإدمان، فإذا وصل إلى حد معين ولم يحتط وجاوز هذا الحد؛ فذلك يوجب الضمان في الأشخاص.
كذلك أيضا تقع مجاوزة الحد في الممتلكات والأموال، فمثلا: مصعد له عدد معين من الحمولة، فركب فيه أشخاص أكثر عددا فسقط هذا المصعد وقتلوا، فهذه الزيادة مجاوزة للحد ويتحملون مسئولية أنفسهم، فلا يكون مالك المصعد مسئولا.
كذلك لو أن شخصا أعطى سيارته لآخر يعمل بها أو يسوقها ويؤجرها فأركب فيها حمولة زائدة حتى تلفت السيارة أو تسبب ذلك في حادث، فعند ذلك يضمن، وكذلك مجاوزة الحد في المواضع المخصصة للممتلكات فيضع فيها فوق الطاقة المحدودة، فكل شيء له ضابط عند أهل العرف أو عند أهل الصنعة أو أهل المهنة -إن كان من الصنائع والمهن- إذا جاوز فيه الشخص ذلك الحد فإنه يضمن ويتحمل المسئولية المترتبة على تلك المجاوزة.

عدم الاحتراز يوجب الضمان

الصورة الرابعة الموجبة للضمان: عدم الاحتراز، بمعنى: ألا يتعاطى الشخص أسباب التحفظ من الضرر، وهذا يقع في الأشياء الخطرة، فإذا كان الشخص أمامه حفرة وعليها تعليمات معينة عند مروره بها ثم تجاوز الحد واقترب من المكان الخطر؛ فعند ذلك يتحمل مسئولية نفسه ولا يضمن لو هلك أو تلف شيء من أعضائه؛ لأنه بمجاوزته وعدم احترازه وعدم توقيه تحمل مسئولية نفسه، كذلك المواضع المحمية التي منع من الاقتراب منها ومن دخولها فاقترب منها فإنه يتحمل مسئولية نفسه.
حكم من كان له كلب عقور أحدث ضررا
قال رحمه الله: [كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه] الكلب -أكرمكم الله- هو الحيوان المعروف، والعقور: هو الذي يحبس الناس ويهجم عليهم ويؤذيهم ويضرهم وربما قتل، فالكلب العقور هو المعتدي على الناس، وأصل العقر في لغة العرب: الحبس، يقال: عقر الشيء؛ إذا منعه وحبسه، فالكلب العقور هو الذي يحبس الناس؛ لأنه يهجم ويعتدي عليهم، فوصف بهذا الوصف.
هذا النوع من الكلاب -أكرمكم الله- مأمور بقتله، فالكلب إذا أصبح يتعرض للناس ويؤذيهم ويعضهم أو يقتلهم أو يمنعهم من سلوك الطريق ولم يكن الموضع مملوكا لشخص فإنه يقتل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، ويجوز قتله في الحل والحرم، وهو من ضمن ما أذن بقتله دفعا للمفسدة الأعظم، والكلب العقور في الأصل لا يجوز للشخص أن يقتنيه؛ لأنه عندما يقتنيه يخالف النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله وهذا يريد استبقاءه، فإذا أدخل كلبا عقورا بيته فقد أذن للكلب بالإضرار والإفساد، وحينئذ يتحمل كل ما يترتب على هذا الكلب العقور من ضرر، فإذا أذن لشخص بالدخول للبيت فقام الكلب وعضه فإنه يتحمل مسئولية هذه العضة، فلو أن هذه العضة أتلفت رجل المعضوض أو يده ضمن نصف الدية على التفصيل في باب الضمان.
لكنه يضمن إذا أذن للشخص بالدخول في بيته، فإذا كان الشخص سارقا أو هجم على البيت بدون إذن وابتلاه الله بكلب عقور فهذا لا يضمن، بل هو هدر؛ لأنه بدخوله هذا الموضع سقطت حرمته وحينئذ لا يتحمل صاحب الكلب المسئولية، فإذا أذن لأحد بالدخول إلى مزرعته والمزرعة فيها كلب عقور أو أذن لأحد بالدخول في بيته والبيت فيه كلب عقور فإنه يضمن، وأما إذا لم يأذن له وهجم الشخص كالصائل، فإذا صال عليه شخص جاز له أن يدفع الضرر.
فالكلب العقور يضر بأرواح الناس ويضر بأعضائهم، ولهذا أمر بقتله دفعا لهذا الضرر، فإذا حفظه الشخص وخالف الشرع بحفظه وبإدخاله إلى داره أو مزرعته وأذن لشخص بالدخول إلى ذلك المكان فعضه أو قتله فإنه يجب عليه ضمانه.
وقوله: (أو عقره خارج منزله) جاء بالكلب العقور وحفظه وأطعمه وجعله بجوار بيته، فمر مار فعقره فإنه يضمن؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه؛ ولأن هذه المحافظة أو القيام على الكلب العقور توجب الضمان، وحينئذ يتحمل المسئولية عن كل ما ينتج عن هذا الكلب العقور من أذية وضرر.

ضمان مالك البهائم لما أتلفته من أموال الناس

قال رحمه الله: [وما أتلفت البهيمة من الزرع ليلا ضمنه صاحبها وعكسه النهار] بعد أن فرغ رحمه الله من التسبب في الإضرار بالشخص نفسه بفتحه للعصفور أو للمحبوس من الدواب المهلكة، أو فتحه للباب أو حله للوكاء، شرع في السببية عن طريق البهائم، فذكر صورة الكلب العقور، وبعد أن انتهى من الكلب الذي يهجم ويضر بأرواح الناس شرع في السببية عن طريق البهائم إذا أضرت بالأموال، فأصبح الشخص إما أن يضر بنفسه أو يضر بواسطة حيوان، وإذا أضر بالحيوان فإما أن يضر بأرواح الناس مثل: الكلب العقور، أو يضر بممتلكاتهم ومثل لها بالبهائم إذا أتلفت أموال الناس، فمن كان عنده بهائم كالإبل أو البقر أو الغنم ودخلت هذه البهائم إلى بستان شخص فأكلت زرعه وأفسدته فلا يخلو هذا الإفساد من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع بالليل، والحالة الثانية: أن يقع بالنهار.

إسقاط جناية البهيمة إذا كانت بغير ما تقدم

قال رحمه الله: [وباقي جنايتها هدر، كقتل الصائل عليه، وكسر مزمار وصليب، وآنية ذهب وفضة، وآنية خمر غير محترمة] قوله: [وباقي جنايتها هدر] باقي جناية البهيمة هدر، والهدر: الذي لا ضمان فيه.
وعلى هذا تستثنى الصور التي ذكرناها لوجود السببية المؤثرة ويبقى ما عداها تحت عموم النص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) ومن أهل العلم رحمهم الله من خالف الجمهور وقال: لا يسقط من البهيمة إلا جرحها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في رواية: (والعجماء جرحها جبار) فرأوا أن الذي يسقط هو أذيتها وإضرارها بالأنفس والأشخاص دون الأموال فإنه يجب الضمان مطلقا، والصحيح ما ذكرناه من التفصيل لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعموم، ونخصص ما ورد الكتاب بتخصيصه أو دل الشرع على تخصيصه بوجود السببية المؤثرة.
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 09-12-2024, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



حكم إرسال الدابة قرب ما تتلفه عادة

قال رحمه الله [إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة] لو جاء بناقته ودخل بها إلى السوق أو دخل بها إلى موضع فيه أطفال صغار وترك الناقة ثم دخل يشتري أو يتبضع فقتلت الناقة صبيا أو عضت صبيا أو أتلفت مالا، في العادة لو ترك مثل هذه الدابة بجوار هؤلاء الأطفال غالبا أن يحصل الضرر والحكم للغالب، فقالوا: فكأنه لما قصر في ربطها وحفظها حيث قال: (إلا أن ترسل) والإرسال ضد أن يعقلها، فخرج ما لو عقلها فلو عقلها وجاء صبي وقرب يده منها فعضته، أو جاء شخص اقترب منها فعضته؛ فحينئذ المقترب هو الذي يتحمل المسئولية لكن إذا عقلت وحفظت فإنه لا إهمال من صاحبها ولا ضمان عليه فيما يترتب عن ذلك، لكن لو أرسلت وتركت بجوار طعام داخل السوق والسوق مليء بالأطعمة وتركها ثم ذهب ليتبضع، أو ذهب يقضي له حاجة فذهبت إلى الأطعمة فأفسدت، ففي هذه الحالة لا يمكن إسقاط الضمان فهذه يسمونها: السببية المفضية إلى الضرر؛ لأننا لا نشك أن تركها مرسلة سيفضي بالضرر، فحينئذ يوجب عليه ضمان ما يترتب على هذا الإرسال من ضرر.

ضمان راكب الدابة ما تتلفه بمقدمها لا بمؤخرها

قال رحمه الله: [وإن كانت بيد راكب أو قائد أو سائق ضمن جنايتها بمقدمها لا بمؤخرها] هنا مسائل تختلف عن المسائل المتقدمة، فالمسائل المتقدمة تضمن فيها البهيمة بالملكية؛ لأن يدك يد ملكية فأنت ضامن لأنك مالك، لكن المسائل الآتية مبنية على قيادة البهيمة وهذا يقع في الدواب التي تركب، فلو ركب بعيرا، فإن أتلف البعير بمقدمه فإنه يجب الضمان على القائد، وإن أتلف بمؤخره لا ضمان عليه إلا إذا كان هو الذي رده إلى الخلف.
مثال: لو قاد البعير حتى دخل إلى موضع فأفسد بدخوله، فإن الذي قاد البعير ودفعه للدخول والراكب أو القائد متحكم بزمام البعير، فلما أطلق له العنان وأدخله في هذا الموضع لا شك أنه متسبب في هذا الضرر، فحينئذ البعير مباشر والقائد متسبب فيلزمه الضمان؛ لأنه بهذه القيادة انتهى إلى الضرر وأفضى إليه، لكن لو أنه يسير ثم وقف أو استوقف البعير، ثم قام البعير ورفس رجلا من ورائه وقتله أو أضر به، فحينئذ: (العجماء جبار) فيسقط الضمان، لكن لما كان هناك قائد يقود فإنه بهذه القيادة يتحمل، من أمثلتها: السيارة، فلو كان يقودها وحدث الضرر بمقدم السيارة فدهس -لا قدر الله- أو أتلف سيارة أخرى أو أتلف حائطا أو فعل أي ضرر تسبب عن هذه القيادة، يتحمل المسئولية بمقدمها، ولو جاءه شخص من ورائه وضربه وصدم فيه يكون متحمل المسئولية الذي في الخلف، لكن لو أنه أرجع السيارة إلى الخلف -كما لو رد البعير إلى الخلف- إذا ردها إلى الخلف يضمن، وإذا وقع الإتلاف بالمقدم فإنه يضمن، ولا يضمن إذا جاءه شخص من ورائه وأضر به.
لكن لو أنه أوقف السيارة في موضع لا توقف فيه وجاء شخص من الخلف وأتلفه هل يضمن؟ مثلا: طريق ضيق وأوقف السيارة في هذا الطريق وهو يعلم أن طريق ضيق، فلا شك أنها سببية للضرر مثل ما ذكرنا في ربط البهيمة في داخل الطريق الضيق، فهذه المسائل كلها مفرعة على المسائل المتقدمة، فإن وقع الإتلاف بمقدم الدابة فإنه يضمن، وإن وقع الإتلاف بمؤخرها ففيه تفصيل إن كان حملها على الرجوع، وكان الإتلاف بالمؤخرة بتحريك منه وإثارة ضمن، وإن لم يحركها ورفست برجلها فإنه لا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وإنما ألزمناه الضمان حينما أتلفت بمقدمتها؛ لأنه كان متسببا في قيادتها ودفعها إلى ذلك الشيء الذي هو أمامه.
لكن لو أنها أتلفت في منتصفها -أي: لا بالمقدمة ولا بالمؤخرة- فهذه من أمثلتها عند العلماء رحمهم الله: لو برك البعير على شيء فكسره، وطبعا إذا برك حدث القتل بالوسط؛ لأنه يسقط على الشيء فيقتله، ونحن ذكرنا أن الذي يضمن إذا كان على البعير إذا كان بالمقدمة، فلو برك البعير يضمن أم لا ما يضمن؟
الجواب إذا بركه كان ضامنا له، أما لو برك من نفسه قال بعض العلماء: لا ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وهو أمره أن يسير فبرك، فلما برك قتل شيئا أو أفسد شيئا، فحينئذ وقع البروك بفعل البعير لا من فعل الشخص نفسه.
لو كان على البعير شخصان راكبان وأتلف البعير بمقدمه من الذي يضمن هل يضمن الذي في المقدمة أو يضمن الذي وراءه أو الاثنان؟ الواقع أن الذي يضمن هو الذي في المقدمة، لكن لو برك فيضمن الاثنان؛ لأنهما لما حصل البروك قال بعض العلماء: لو أنه وقع إنسان على آخر فقتله أو على بهيمة فماتت فإنه يضمن؛ لأنه وقع القتل بالثقل، وهنا لم يقع القتل بقضية البروك وحدها، فالكل مشتركون في الثقل فيضمن الذي في المقدمة والذي في المؤخرة ويكون الضمان على الجميع، وهذا الذي جعل بعض العلماء يجعل الضمان في حال البروك من المنتصف على الراكب بدون تفصيل؛ لأنه يرى أن الفساد وقع بالثقل، وقضية كونه تسبب في البروك أو عدمه لا تأثير له؛ لأن الذي حدث به الكسر وحدث به القتل وحدث به الإزهاق ثقل البعير مع الشخص الراكب عليه، ولذلك فصل في أحكام أن يتلف المقدمة أو بالمؤخرة أو بوسطه على هذا التفصيل.

الضمان إذا كان إتلاف البهائم للمال في الليل

فإذا وقع الإفساد في النهار فإن صاحب البهيمة لا يتحمل المسئولية، وإن وقع الإفساد بالليل فإن صاحب البهائم يتحمل المسئولية عما أفسدت بهائمه من الزرع.
والأصل في هذا التفريق: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ذكر عن نبيه داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في قضية نفش الغنم في الليل، فأوجب كل من داود وسليمان الضمان، لكن داود عليه السلام أوجب ملكية صاحب الزرع للغنم، وسليمان أبقى الملكية كما هي وأوجب ضمان الزرع الذي فسد، فكل من داود وسليمان متفق مع الآخر على وجوب الضمان لكن اختلفوا في كيفية التضمين، تفصيل الحادثة: رجل كان له غنم، فخرجت بالليل وأكلت زرع رجل آخر، فلما فسدت اختصموا إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع الذي تلف تعادل قيمة الغنم؛ فقضى عليه السلام بأن صاحب الزرع يملك الغنم، فحكمه صحيح وما ظلم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بل حكم بالعدل، لكن يقولون: هناك حكم يكون فيه الاجتهاد وهناك ما هو أصوب منه، فداود عليه السلام حكم من حيث الأصل بحكم له وجه من حيث العدل، فصاحب الزرع لما فسد زرعه وقيمته -مثلا- ألف ريال، والغنم قيمتها ألف ريال؛ فلما حكم بأن الغنم لصاحب الزرع ما ظلم صاحب الغنم ولا ظلم صاحب الزرع، هذا من حيث حكم داود، لكن سليمان قال: لو كنت قاضيا في ذلك لأمرت صاحب الغنم أن يأخذ الزرع وينميه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الأرض الغنم ينتفع بحليبها وصوفها حتى ينمي ذلك له زرعه ويرجع كل إلى ماله، فأثنى الله على حكم سليمان؛ لأن حكم سليمان أبقى اليد كما هي؛ فأبقى لصاحب الزرع زرعه وأبقى لصاحب الغنم غنمه، فأثنى الله على هذا الحكم وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] فأثنى على الاثنين، حتى كان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: لولا هذه الآية لأشفقت على المجتهدين.
أي: لأشفقت على العلماء والمجتهدين الذين يجتهدون في الأحكام الفقهية؛ لأن الله أثنى على الاثنين وقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء:79] فدل على أن الاجتهاد فيه سعة، فما دام أن الإنسان يتحرى الحق ويريد الصواب فلا تثريب عليه ولو خالف غيره، ما دام أن عنده دليل وحجة.
فظاهر القرآن أن الغنم إذا نفشت في الليل فإنه يجب ضمانها، ولذلك داود حكم بضمان الزرع وسليمان حكم بضمان الزرع.
فالكل متفق على أن الغنم إذا رعت في الليل فإنه يتحمل صاحبها المسئولية، لكن النهار جاء فيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه حيث كانت له ناقة ضارية واعتدت على مال لأنصاري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بضمانها، وقضى أن حفظ الحدائق نهارا على أصحابها، وحفظ الدواب ليلا على أهلها؛ فدل على أن الدواب في الليل يحفظها أهلها، وأما في النهار فالحدائق والبساتين يحفظها أهلها، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: هذا صحيح؛ لأن صاحب الزرع في النهار موجود داخل زرعه فلذلك يتحمل مسئولية المحافظة على الزرع، لكنه في الليل يأوي إلى فراشه ويرتاح والغنم في الليل عادة تسكن، فكونها تترك فهذا نوع من الإهمال والتفريط ولذلك لزم الضمان من هذا الوجه، وعلى هذا يفرق في الدواب بين كونها تفسد في الليل أو تفسد في النهار وهذا مذهب الجمهور.
هناك من العلماء من قال: البهيمة لا ضمان فيما أتلفت وخاصة الجرح، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (العجماء جبار) وقوله: (جبار) بمعنى: هدر، وإذا كانت العجماء هدر، فمعنى ذلك أن ما تتسببه من الأضرار فإنه هدر لا يجب ضمانه، والواقع أن هذا الحديث لا يعارض ما ذكرناه؛ لأن القاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) ، فالبهائم تسمى عجماء؛ لأنك لا تفهم كلامها، ويقال لها: بهيمة؛ لأنها أبهمت، والإبهام من الشيء المبهم المجهول، فلا تستطيع أن تفهم لغتها ولا كلامها، فالمراد بقوله: (جبار) ما يكون منها من إتلاف هدر، وظاهر الحديث أن كل ما يكون من جناية البهائم هدر، لكن لما جاء حديث البراء وأيده ظاهر الكتاب خصصنا عموم الحديث في السنة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة كما هو معلوم تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنقول: إن العجماء هي جبار ما لم يكن الإفساد في الزروع، فإنها مستثناة من النص إذا وقع الإفساد بالليل دون النهار.

الأسئلة

حكم أم تركت ابنتها عند شيء أكلته فماتت

السؤال كنت في يوم من الأيام أعد الطعام، وكانت لي طفلة صغيرة تبكي، فوضعت عندها سفرة طعام لتلعب بها وتنشغل بها، حتى أكمل إعداد الطعام، فتأخرت عنها، فعدت وقد حاولت الطفلة بلع السفرة فاختنقت وماتت، فماذا علي؟
الجواب لا شك أن هذا فيه تقصير، فبعض المواد قد تقتل كأكياس النايلون، فربما يختنق بها الصبي لو تركت عنده؛ لأنه لا عقل عنده فيدخل فيها رأسه، وكذلك الحقائب المفتوحة ربما أدخل أخاه وأغلق عليه، فهذا يحدث، ولذلك أي شيء فيه تقصير وإهمال لاشك أنه يوجب الضمان، فيجب على المرأة أن تصوم شهرين متتابعين إذا لم يمكنها العتق؛ لأن هذا قتل بالخطأ، والعلماء يقولون: إذا تعاطت الأم أسباب هلاك ابنتها وتركت عندها ما يوجب الضرر والهلاك؛ فإنها تضمن، حتى ترك الطفل عند الطعام خطأ، وأعظم من ذلك أن تقول: من أجل أن تعبث بالطعام!! فالطعام ليس محلا للعبث وليس بشيء يعبث به، والذي يترك ابنه أو طفلته عند طعام من أجل أن يعبث به فلو داسه بقدمه ولو أتلفه فإنه يتحمل ذنبه وإثمه -والعياذ بالله- لأنه راض بهذا الفعل، مهيئ لأسبابه؛ ولذلك لا يجوز هذا ممن تتقي الله عز وجل، والذي يظهر في ترك الأشياء القاتلة مثل: الأكياس التي يختنق بها الصبيان، ومثل: ترك الأطفال بجوار الحفر أو تركهم بجوار الآبار أو تركهم بجوار برك السباحة أو نحو ذلك من الأمور التي لا حاجة لها دون مراقبة ومتابعة، فالذي يظهر أنه يوجب الضمان، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

تحمل الوالدين مسئولية إتلاف أطفالهم

السؤال إذا قام الأطفال بإتلاف السيارة كلها أو بعض أجزائها فما الحكم؟
الجواب تقدمت معنا القاعدة التي تقول: (إن عمد الصبي والمجنون خطأ) وبناء على ذلك: فإن الأطفال إذا أتلفوا شيئا وجب ضمانه وتسقط عنهم المؤاخذة بالعقوبة لكونها دون سن المؤاخذة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم النبي عليه الصلاة والسلام: الصبي حتى يحتلم) فهذا يدل على أنهم لا يؤاخذون، ولكن لا يعني هذا أن أموال الناس تذهب هدرا، بل إنه يجب ضمانها من أموال الصبيان، وبتقصير الآباء يتحملون مسئولية أبنائهم وما حصل من ضرر بهذا الإتلاف.
وينبغي على الوالد أن يستشعر بالمسئولية أمام الله عز وجل، وكذلك الوالدة عليها أن تتقي الله عز وجل في أبنائها، بالمحافظة عليهم، وكون بعض الآباء يقول: هذا صبي، هذا جاهل، فهذا لن ينجيه أمام الله عز وجل، وإذا لم يحفظ ابنه فليعلم أن الله سينتقم منه، وأنه لا يأمن أن تأتي دعوة سوء على ابنه فتشقيه في الدنيا والآخرة، فإن أموال الناس لا شك أنها مضمونة وحقوقهم غير ضائعة، والله جل جلاله من فوق سبع سماوات يقول عن المال الذي فتنت القلوب به: {يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} [محمد:37] يعني: لو أن الله سبحانه وتعالى فرض على الناس أن يخرجوا زكاتهم على شكل فيه إجحاف لهم لحصل منهم -والعياذ بالله- البخل وحصل منهم من الابتلاء ما قد يكون سببا في غضب الله عز وجل.
(ويخرج أضغانكم) فإذا كان هذا لله الذي هو مالك الخلق وما ملكوا، فكيف إذا كان من مخلوق يعتدي على الأموال بالتساهل في ترك الأولاد يؤذون الناس في ممتلكاتهم وفي سياراتهم وفي بيوتهم، أو يفسدون المرافق العامة التي ينتفع بها الناس وخاصة الأوقاف، مثل: الثلاجات التي يشرب منها الماء، وأماكن الاستراحة في السفر؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (لعن الله من غير منار الأرض) وفي رواية (منارات الأرض) قال العلماء: هي العلامات التي يستدل بها المسافر أثناء مسيره، فكيف بمن أتلف على الناس سقاءهم وشرابهم وأماكن راحتهم؟! فالضرر في هذا عظيم ولذلك تصيبه اللعنة.
فينبغي على الآباء أن يحفظوا أبناءهم وألا يتساهلوا في مثل هذه الأمور، والوالد الذي يحفظ أبناءه ويحافظ عليهم يبارك الله له في ذريته، والذي يتساهل في حفظ أولاده وذريته لا بد وأن يأتي اليوم الذي يريه الله عز وجل في ولده ما يكون سببا في ندمه وألمه حين لا ينفع الندم والألم؛ ولذلك فالآباء الذين يفرطون في أبنائهم صغارا يجنون ثمن هذا التفريط وهم كبار، فينشأ الابن مستهترا بحقوق أبيه، مضيعا لبره، مفرطا في الأمانات والواجبات الملقاة عليه تجاه والده، لا يحترمه ولا يقدره ولا يرحم كبره، ولكن إذا نشأه على طاعة الله وعوده من الصغر بأن يأمره بالصلاة ويأخذ بيده إلى الصلاة فيصبح الابن دائما تحت طوع أبيه، فمنذ نعومة أظفاره وهو تحت أمر أبيه، فإذا فعل ذلك ووفى لله عز وجل بحق أبنائه لم يمت ولم يخرج من الدنيا حتى يقر الله عينه به حيا أو ميتا، فيقر الله به عينه حيا حينما يراه بالمشيب والكبر ساعده الأيمن، يقضي له الحاجات ويفرج الله به الكربات، إذا قال له: يا بني! اتق الله، ارتعدت فرائصه من خشية الله عز وجل، فيجده سامعا مطيعا محبا للخير له، وأما ما تقر به العين وهو في قبره وفي آخرته فالدعوات الصالحات؛ لأنه ينشأ الابن وفيا بارا بأبيه.
أما التساهل في الأبناء والبنات وتضييع حقوق الذريات، وترك الحبل على الغارب باسم عدم تعقيد الابن، وباسم عدم التضييق عليه، فوالله إن الضيق كل الضيق في هذا الاستهتار، والضيق كل الضيق أن يرسل هذا الابن كالفرس الجموح الذي لا عماد له من أجل أن يفسد أموال الناس ويتلفها، فاليوم يفسد أموال الناس خارج البيت وغدا يفسد مالك داخل بيتك، وكما أضر بالناس فإنه يضر بأبيه وبأمه وبإخوانه وأخواته؛ ولذلك يقولون: إن السيئة تدعو إلى أختها، فالابن الذي ينشأ على أذية الناس في أموالهم يأتي اليوم الذي يؤذي ماله ويؤذي والديه، فعلى الوالد أن يتقي الله عز وجل وأن يحفظ أبناءه، وإذا جاءت الشكوى من الجار أو جاءت الشكوى من أخيه المسلم أن ابنه فعل؛ تتبع ذلك وتحرى فيه، وعاقب ابنه وزجره وأوقفه عند الحدود التي ينبغي أن يقف عندها، وإذا فعل ذلك ففيه خير له ولولده وللناس جميعا، وإذا تساهل الناس في مثل ذلك تكون فتنة ويكون الشر العظيم، والبلاء الوخيم، أسأل الله العظيم أن يهدي أبناء المسلمين وذرياتهم، والله تعالى أعلم.

مسألة اجتماع السببية والمباشرة في الإتلاف

السؤال أشرتم إلى مسألة السببية والمباشرة فلو اجتمعا فما الحكم؟ ثم هل يؤثر الاجتماع بين السببية والمباشرة مع الدليل؟
الجواب باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد ذكرنا أن السببية والمباشرة تجتمعان، من أمثلتها: قلنا: أن يحفر شخص بئرا ويأتي شخص ويرمي غيره فيها، فالحفر سببية ورمي الشخص في البئر مباشرة فهذا الشخص مات بسقوطه في البئر، والبئر حفرها مالكها والذي باشر القتل هو الشخص الثاني لا الأول فيجب الضمان على الثاني لا الأول؛ ولذلك قالوا: إذا اجتمعت السببية والمباشرة سقطت السببية وأعطي الحكم للمباشرة، وبعضهم يقول: إذا اجتمعت السببية والمباشرة قدمت المباشرة على السببية، ومن أمثلة هذا: لو أن شخصا وضع سكينا في موضع، فجاء شخص وأخذه -والعياذ بالله- وقتل نفسه بها، فالقتل وقع بمباشرة الشخص، لكن وجود السكين في هذا الموضع سبب؛ لأنه يسر القتل، لكنه لم يفض إلى القتل مباشرة، بخلاف ما إذا فتح الباب فخرجت منه الدابة أو خرج منه شيء فأتلف، فإن هذا يفضي إلى الضرر غالبا، ولذلك السببية تسقط بشرط أن تكون المباشرة تقبل أن تسند إليها، وهناك سببية ساقطة من أصل الشرع كما في قوله عليه الصلاة والسلام (البئر جبار) دل هذا الحديث على أن من حفر فإنه لا يضمن، فلو أن شخصا حفر بئرا وجاء شخص آخر وسقط فيها فلا يضمن صاحب البئر، لكن لو جرى العرف على أن هذه الحفر يوضع عليها حاجز ويوضع عليها ستار فأهمل؛ فيكون الضمان من جهة الإهمال؛ لأن الناس اعتادت أن هذه الحفر ينبهون عليها بمنبهات، واعتادوا ذلك وألفوه، فأسندت المحافظة إلى من يقوم بالحفر فقصر في ذلك فحينئذ يجب عليه الضمان.
فإذا: عند اجتماع السببية والمباشرة فإن المباشرة تقدم على السببية، وفي بعض الأحيان يشرك بين السببية والمباشرة، مثال ذلك: لو أن أشخاصا اجتمعوا على قتل شخص فقام شخص وربطه، وجاء الثاني وسكب البنزين عليه، وجاء الثالث وأوقد النار، فالذي أوقد النار باشر القتل، لكن من الذي سكب المادة التي تعين على الاشتعال؟ فهنا سببية مفضية للهلاك، ومن الذي ربط؟ لو لم يربط لربما فر الرجل ولتعاطى أسبابا لنجاته، فتصبح السببية مع المباشرة مشتركة، ويكون الجميع بمثابة القاتل الواحد، فهنا اجتمعت السببية مع المباشرة.
وكذلك أيضا ربما تكون -الذي هو الطرف الثاني من السؤال- السببية منفردة كالصور التي ذكرناها، وتكون السببية مجتمعة، والمباشرة مجتمعة، فلو أن أشخاصا أحرقوا مزرعة، فالذين أحرقوا هذه المزرعة أربعة منهم قاموا بإحضار مواد الوقود، وأربعة أشعلوا النار، وأربعة نقلوا النار من أجزاء إلى أجزاء، فهؤلاء كلهم مجتمعون سببية ومباشرة، فليس المباشرة مسندة إلى شخص واحد وليست السببية مسندة إلى شخص واحد، إنما تسند إلى أشخاص والدليل على ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما قتل الجماعة الذين قتلوا الشخص في البئر، قال رضي الله عنه وأرضاه قولته المشهورة: (والله لو تمالئوا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به) فدل على أن التشريك فيما يفضي إلى الإزهاق والقتل يوجب الضمان، وعلى هذا: إذا اجتمع جماعة سببية جماعة مباشرة فإنهم يضمنون، لكن هناك تفصيل في قوة السببية وقوة المباشرة في بعض الأحيان، فمثلا: ربما يكون المتسبب لا يعلم بالقتل، فقالوا له: اذهب وأحضر فلانا، وهم يريدون قتله، فأحضره، أو قيل له: اذهب وأحضر العصير، فذهب وأحضر العصير، فقام شخص ووضع السم في العصير، فالعصير سبب للقتل، وإحضار العصير سبب في القتل، فلو أن هذا الساقي الذي يحمل العصير لا يعلم أن العصير مسموم وجاء وقدمه للشخص فقام الشخص وأخذ العصير وشربه، فالقتل وقع بمباشرة الشخص نفسه؛ لأن الكأس ما تحرك بنفسه، والذي أدخل هذا السم إلى جوفه هو نفس الشخص المقتول، لكن هذه المباشرة لا تؤثر، بمعنى: أنها لا توجب إسقاط السببية؛ لوجود قصد بالقتل وتهيؤ لأسباب القتل، فحينئذ حامل الشراب لما كان لا يعلم سقطت سببيته وبقيت سببية واضع السم فتسقط المباشرة وتسقط السببية التي بجوارها، وتعمل السببية السابقة وهي وضع السم في العصير والإغرار بالفعل أو بالسبب المفضي إلى الزهوق.
هذه كلها مسائل قد نفصل فيها -إن شاء الله- في كتاب الجنايات، وقد تقع السببية والمباشرة في الأموال، ففي بعض الأحيان بناء العمائر والمهن كالحدادة والنجارة والسباكة قد تكون هناك سببية وتكون فيها مباشرة، وكلها يفصل فيها على حسب الضرر المترتب على الفعل، ولذلك يقولون: المباشر هو: الفاعل الذي يفضي إلى الضرر بفعله، بحيث إن فعله هو الذي أفضى إلى الضرر مباشرة، كالإحراق والإغراق، فلو أخذ شخصا فأغرقه فمات فإن هذا التغريق مباشرة، ومثل: إيقاد النار للإحراق، فهذا الحرق نفسه هو الذي قتل، والتغريق هو الذي قتل فهذا كله يعتبر مباشرة.
وأما السببية فهي: وسيلة تفضي إلى الضرر بمعنى: لا تعتبر هي كالمباشرة، وإنما هي واسطة بين الفاعل وبين الضرر المترتب على فعله، والله تعالى أعلم.

حكم قتل الحيوان الأليف إذا توحش

السؤال جاء في الحديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش) فلو أتلف البهيمة وهي في هذه الصورة متوحشة مالا بالليل، فهل يضمن صاحبه أم أنها تلحق بالعقور؟
الجواب البعير من عظيم آيات الله عز وجل، يقوده الطفل الصغير، لكن لو هاج ربما يقتل أشخاصا ويتلف كثيرا من الممتلكات، فإذا ند كما قال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) هذا الحديث في الصحيح وهو حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه، وسببه: أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فهاج بعير وفر، فقام رجل وأخذ سهما ورمى البعير بهذا السهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها -يعني: فر- فاصنعوا به هكذا) فالمسألة التي في الحديث ليست هي مسألتنا؛ لأن المسألة التي في الحديث إذا كانت عندك بهيمة داجنة، أي: من الحيوانات الأليفة، فالحيوانات الأليفة التي تؤكل كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام والعصافير يجب عليك أن تذكيها بالذبح والنحر -الذبح فيما يذبح والنحر فيما ينحر- لكن لو عجزت عنها فشرد البعير وغلب على ظنك أنك لن تدركه فرميت السهم فضربت بطنه فسقط ومات، فحينئذ يعامل معاملة الصيد، وينتقل من كونه مستأنسا إلى كونه متوحشا، وإذا صار متوحشا حل أن يعامل معاملة المتوحش، وبناء على هذا: قال بعض العلماء: البهيمة في هذه الحالة تكون هدرا، فلو قتلها الإنسان لا شيء عليه، أي: لو أنا رأينا جملا هائجا في حديقة فيها أطفال أو فيها ممتلكات وغلب على الظن أنه إذا لم يقتل فإنه سوف يتلف هذه الممتلكات ويقتل الأطفال، فحينئذ نقول: يجوز قتله.
لكن لو أمكن عقر هذا الجمل بضربه بفخذه أو ضربه في رجله أو يده فإنه يعقر ولا يقتل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ليبين هذا الأصل، وفي هذا الحديث ما لا يقل عن خمس وثلاثين مسألة: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) وهو الحديث الذي قال فيه الإمام أحمد رحمه الله: (لعل الإمام مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع) .
كانوا رحمهم الله يعتذر بعضهم لبعض ولا يشهر بعضهم بأخطاء بعض ولا يتتبع بعضهم عورات بعض، يقول الإمام أحمد: (لعل مالكا لم يبلغه حديث أبي رافع) ، فيحفظ كل منهم حق أخيه، رحمهم الله برحمته الواسعة وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، والله تعالى أعلم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 396.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 391.01 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]