|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() القاعدة الخامسة عشرة: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله الذي حمد نفسه في السماوات والأرض، وحمد نفسه في الآخرة والأولى، وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فليس مثل ملتقانا بهاءا، ونضرة، لأن حديثنا لا يزال يتردد ويتجدد في آي من القرآن، ورسمه واسمه: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة، التي تبعث الأمل في نفوس أهل الإيمان، وتملأ قلوبهم ثقةً ويقيناً، وراحة وطمأنينة، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. وهذه الآية الكريمة جاءت مرةً على لسان موسى ج وهو يبشر قومه الذين آمنوا به، بحسن العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، والتمكين في الأرض إن هم لازموا التقوى. وجاءت هذه القاعدة بلفظ مقارب، في خطاب الله تعالى لنبيه محمد ج في خواتيم سورة طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. وجاءت هذه القاعدة ـ أيضاً ـ بعد انتهاء قصة قارون، في خواتيم سورة القصص، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. ومن المعلوم أن العاقبة هنا لا تنحصر في الآخرة التي ضمن الله النجاة فيها للمتقين، كما في قوله ـ: {والآخرة عند ربك للمتقين}، بل هي عامة في الدنيا والآخرة، ولكن قبل أن نسأل: أين صدق هذه القاعدة، فلنسأل: أين تحقيق التقوى على الوجه الصحيح؟! وإلا فوعد الله لا يتخلف! أيها القارئ المسدد: إن أدنى تأمل لمجيء هذه الآيات ـ مع تنوع سياقاتها ـ ليوضح بجلاء اطراد هذه القاعدة، فقد أخبر بها ربنا جل وعلا في قوله: {والعاقبة للتقوى}، وبعد قصة قارون قوله:{والعاقبة للمتقين}، وبشر بها موسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام. "وحقيقة العاقبة: أنها كل ما يعقب أمراً، ويقع في آخره من خير وشر، إلا أنها غلب استعمالها في أمور الخير، فالمعنى: أن التقوى تجيء في نهايتها عواقب خير. واللام ـ في قوله "للتقوى" و "للمتقين" للملك، تحقيقاً لإرادة الخير من العاقبة؛ لأن شأن لام الملك أن تدل على نوال الأمر المرغوب، وإنما يطرد ذلك في عاقبة خير الآخرة، وقد تكون العاقبة في خير الدنيا ـ أيضاً ـ للتقوى. وجاءت هذه الجملة بهذا الأسلوب لتؤكد معنى العموم، أي: لا تكون العاقبة إلا للتقوى، فهذه الجملة أرسلت مجرى المثل"(1). فما أحوجنا ونحن نشاهد ما نشاهد: إن على المستوى الفردي أو الجماعي أن نتأمل هذه القاعدة، ولنبدأ بالإشارة إلى المستوى الجماعي: فإن أمة الإسلام تمر منذ قرون بحالة من الضعف والتفرق وتسلط الأعداء على كثير من أهله، وهذه حالٌ تجعل بعض الناس من المنتسبين للإسلام ـ وللأسف ـ يبحث عن موطئ قدم خارج دائرة بلاد الإسلام، فيذهب غرباً أو شرقاً، بحثاً عن مبادئ أخرى، ومذاهب مختلفة، لا تمت إلى الإسلام بصلة، بسبب شعوره البائس بهزيمة داخلية وما تعانيه الأمة الإسلامية من تفرق وتشرذم، وفي الوقت ذاته: انبهاره بالتقدم المادي، وما يوجد في تلك البلاد من محاسن تتعلق بحقوق الإنسان، وغيرها من المجالات. والمؤلم في أمثال هؤلاء أنهم لم يروا من حضارة الشرق أو الغرب إلا الجانب الإيجابي والحسن، وعميت أبصارهم، أو تعاموا عن الجوانب المظلمة ـ وما أكثرها ـ! هذه الحضارة التي اعتنت بالجسد، وأهملت الروح، وعمرت الدنيا وخربت الآخرة، وسخّرت ما تملكه من أسباب مادية في التسلط على الشعوب المستضعفة، وفرض ثقافتها، وأجندتها على من تشاء! وعلى سبيل المثال: فإن نظام الثورة الفرنسية الذي قرر مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين البشر ـ كما يزعم واضعوه ـ لم يمنعه من إبادة ثلث سكان جزيرة هاييتي؛ لأنهم تمردوا على العبودية! كما أن القائد الفرنسي المشهور نابليون ـ الذي أنجبته الثورة الفرنسية ـ جاء إلى بلاد مصر، ليحتلها ويقيم نظاماً استعمارياً فيها. والأمثلة كثيرة لا يتسع المقام لسردها، فضلاً عن التفصيل فيها، ولكن لعل من المناسب أن نُذكّر بقضية الساعة هذه الأيام، وهي قضية انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي! الذي قام على مصادمة منهج الله العادل في شأن المال، فرأى أربابه صدق ما توعد الله به أكلة الربا من المحق، وفي كل يوم نسمع عن مليارات ضائعة، وشركات عالمية أفلست، حينها قال من قال: لا بد من العودة إلى المنهج الإسلامي في الاقتصاد! وصدق الله: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}، وصدق الله: {والعاقبة للتقوى}. ألا ما أحوج الدول الإسلامية، والجماعات الإسلامية في بقاع الأرض إلى أن يتدبروا هذه القاعدة جيداً، وأن يتأملوا جيداً في العواقب التي جناها مخالفوا التقوى في الأنظمة والحكم والسلوك، ومن تدبر مجيء قوله تعالى ـ على لسان موسى وهو يخاطب قومة المضطهدين عدة قرون ـ: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الأعراف: 128] من تدبرها عرف حاجة الدول والمجتمعات لتدبر هذه الآية جيداً، وأن وعد الله لا يتخلف لمن اتقاه دولاً كانوا أو شعوباً، تأمل معي قول مَنْ عواقب الأمور كلها إليه ـ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 41]}. ومن أراد أن يعرف الآثار السيئة التي لقيها العالم من بعد المسلمين عن دينهم، وخسارة العالم لعظيم مبادئ الإسلام فليقرأ كتاب الشيخ أبي الحسن الندوي:: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!. أما على المستوى الفردي، فإن الحديث فيها يحتاج إلى بسط أكثر، ولكن حسبنا في مقامنا هذا أن نشير إشارة مُذِكّرة بأهمية هذه القاعدة في حياتنا اليومية: فإن آية القصص: {والعاقبة للمتقين} جاءت بعد قصة قارون الذي لم يصبر على شهوة المال! وفي هذا إشارة إلى حاجة العبد ـ رجلاً كان أو امرأة ـ لتدبر هذه القاعدة جيداً، خصوصاً وهو يعيش في جو من المغريات والفتن والصوارف عن دين الله ـ يتدبرها ويتأملها؛ لتهوّن عليه الصبرَ عن الشهوات والملذات المحرمة... فكلما دعته نفسه إلى ما يخالف التقوى فليذكرها بحسن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة.. وكذلك الداعية إلى الله، من أحوج ما يكون إليها وهو يسير في طريق الدعوة الطويل، والمليء بالابتلاء بالخير أو بالشر، وخصوصاً إذا كان لا يجد معيناً ولا ناصراً، بل قد يجد مناهضاً ومعادياً! يقول شيخنا العلامة ابن باز: ـ بعد أن ذكر شيئاً مما تعرض له إمام الدعاة محمد ج من أذى وابتلاء، قال: "فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم؟ أو يقول متى كنت متقياً أو مؤمناً فلا يصيبني شيء؟ ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان , ومن صبر حَمِدَ العاقبة , كما قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}،{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى, متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس , فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة , كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فأنت ـ يا عبد الله ـ في أشد الحاجة إلى تقوى ربك، ولزومها، والاستقامة عليها، ولو جرى ما جرى من الامتحان, ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله, أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ , واذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - , واذكر أتباعهم بإحسان , فقد أوذوا، واستهزئ بهم، وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر"(2). ومفهوم هذه القاعدة القرآنية المحكمة: أن كل من لم يكن تقياً في أحواله، أو أفعاله، فلا عاقبة له حسنة، وإن أمهل زماناً، أو تُركَ دهراً، وهذه سنة الله في خلقه، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية: يستدل بهذه القاعدة القرآنية: (والعاقبة للمقتين) وبأمثالها ـ إبان هجوم التتار على بلاد الإسلام ـ وكان يقسم بالله أن التتار لن ينصروا، بل سيخذلون وينكسرون، وكان مما قاله حينها: "واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين" (3). وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،، ______________ (1) التحرير والتنوير - (9 / 193) بتصرف يسير. (2) مجموع فتاوى ابن باز (2 / 289). (3) ينظر: مجموع الفتاوى (3 / 125)، و (28 / 419).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() القاعدة السادسة عشرة: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله ما حمده الحامدون، وغفل عن ذكره الذاكرون، وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهلم بادي الخير لنتدبر وقافين مع: (قواعد قرآنية)، لنتأمل جميعاً في قاعدة من القواعد القرآنية، التي يحتاجها الإنسان في مقام التمييز بين الأقوال والأفعال، والسلوكيات والمقالات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]. والخبيث: ما يكره بسبب رداءته وخساسته، سواء كان شيئاً محسوساً، أو شيئاً معنوياً، فالخبيث إذاً يتناول: كل قول باطلٍ ورديء في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح من الفعال، فكل خبيث لا يحبه الله ولا يرضاه، بل مآله إلى جهنم، كما قال ـ: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37]. وإذا تبين معنى الخبيث ههنا، فإن الطيب عكس معناه، فالطيب شامل: للطيب والمباح من الأقوال والأفعال والمعتقدات، فدخل في هذه القاعدة كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الواجبات والمستحبات والمباحات. فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال(1). وهذه القاعدة القرآنية هي صدر الآية الكريمة: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 100] والتي سيقت في معرض الحديث عن أنواع من المطاعم والمشارب والصيد، وتفصيل الحرام والحلال فيها. ولا ريب أن الغرض من الآية ليس مجرد الإخبار بأن الخبيث لا يستوي هو والطيب، فذلك أمرٌ مركوز في الفَطَر، بل الغرض هو الحث والترغيب في تتبع كل طيب من القول والعمل والاعتقاد والمكسب، والتنفير من كل خبيث من القول والعمل والاعتقاد والمكسب. ولما كان في بعض النفوس ميلٌ إلى بعض الأقوال أو الأفعال أو المكاسب الخبيثة، ولما كان كثيرٌ من الناس يؤثر العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، جاء التحذير من الخبيث بأسلوب عجيب يقطع الطريق على من قد يحتج بكثرة من يتناول هذا الخبيث، فقال ـ: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} وذلك أن في بعض الخبائث شيءٌ من اللذة الحسية أو المعنوية، كالحصول على مالٍ كثير لكن من طريق حرام، أو الوصول إلى اللذة الجسدية عن طريق الزنا، أو الخمر أو غيرهما من الملذات المحرمة، فهذه قد تغري الإنسان، وتعجبه، إلا أنه مع كثرة مقداره، ولذاذة متناوله، وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} [الكهف 46]، وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو أعظمه: معرفة الله ومحبته، وطاعته، فتلك هي ـ والله ـ الحياة الطيبة التي وعد بها ـ من استقام على أمره، بأن يطيب عيشه في الدنيا والبرزخ والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] هؤلاء هم الذين طابت أقوالهم وأفعالهم وحياتهم، فطاب مماتهم ورجوعهم إلى الله، كما قال ـ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِين} [النحل: 32] نسأل الله الكريم المنان من فضله الواسع العظيم. أيها المسلم: ولعظيم موقع هذه القاعدة وما دلّت عليه، فإن المتأمل للقرآن يجد عجباً من كثرة التأكيد على العمل بما دلّت عليه هذه القاعدة، ومن ذلك: 1 ـ التأكيد على ضرورة العناية بالمكاسب الطيبة، ولم يستثن الله أحداً من عباده المؤمنين في الحث على هذا الأمر، بالإضافة إلى العمومات الآمرة بطيب المكسب، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين} [البقرة: 168] إلا أن الله تعالى خص الرسل عليهم الصلاة والسلام ـ الذين كانوا أطيب الناس حساً ومعنى ـ بخطاب خاص في هذه المسألة بالذات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وكلُّ هذا يؤكد ضرورة العناية بهذا الباب العظيم الذي هو طيب المكسب، ولقد سلنا الصالح شديدي العناية بهذه المسألة، ولربما سافر أحدهم مئات الأميال، وتغرب عن وطنه، كل ذلك بحثاً عن لقمة طيبة حلال، حتى قال سفيان الثوري:: إن طلب الحلال هو عمل الأبطال. ولقد كان من أعظم أسباب العناية بطيب المكسب عند أسلافنا أمور، من أهمها: أ ـ أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ب ـ ومنها: أن هذه المكاسب مما تنبت عليها الأجساد. ولهذا فإن مما يوصى به كثرة الصدقة كلما كثر المال، أو قويت فيه الشبهه، كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من يتعاطون التجارة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أهل السنن ـ: من حديث قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نسمى السماسرة ـ فقال: "يا معشر التجار! إن الشيطان والإثم يحضران البيع ـ وفي لفظ: إنه يشهد بيعكم الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة ـ، فشوبوا بيعكم بالصدقة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وإذا كان هذا شأن هذه المسألة ـ أعني طيب المكسب ـ فعلى الناصح لنفسه أن يجتهد في طيب مكسبه، والحذر من أي شيء يكدره، خصوصاً وقد اتسعت على الناس اليوم أنواع من المكاسب المحرمة فضلاً عن المختلطة والمشتبهة، كبعض الشركات الموجودة في أسواق الأسهم المحلية والعالمية. 2 ـ ومن هدايات هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} أنه لا يصح ـ أبداً ـ أن نجعل الكثرة مقياساً لطيب شيءٍ ما، وصحته وسلامته من المحاذير الشرعية، وهذا أمرٌ يصدق على الأقوال والأفعال والمعتقدات، بل يجب أن نحكم على الأشياء بكيفيتها وصفتها وبمدى موافقتها للشرع المطهر. تأمل ـ مثلاً ـ في قلة أتباع الرسل وكثرة أعدائهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ، وهذا مما يؤكد على الداعية أهمية العناية بالمنهج وسلامته، وأن لا يكون ذلك على حساب كثرة الأتباع! وهذا موضعٌ لا يفقهه إلا من وفقه الله تعالى، ولا يصبر عليه إلا من أعانه الله وسدده؛ لأن في الكثرة فتنة، وفي القلة ابتلاء. وإليك مثالاً ثالثاً يجلي لك معنى هذه القاعدة بوضوح، وهو أن تتأمل في كثرة المقالات والعقائد الباطلة وكيف أن المعتقد الحق هو شيء واحدٌ فقط، قال ـ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]! والله الذي لا إله غيره، ما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيّب مثلها وأحسن، مع أمن من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والعاقل حين يتحرر من هواه، ويمتلئ قلبه من التقوى، ومراقبة الله تعالى، فإنه لا يختار إلا الطيب، بل إن نفسه ستعاف الخبيث، ولو كان ذلك على حساب فوات لذات، ولحوق مشقات؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، مسلياً نفسه بقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]. جعلنا الله وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأفعالهم، فطاب منقلبهم ومآلهم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. _______________ (1) ينظر: مفردات الراغب: (272)، وتفسير ابن جزي والسعدي لهذه الآية.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() القاعدة السابعة عشرة: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين) د.عمر بن عبد الله المقبل حمداً لك اللهم، وصلاةً وسلاماً على خيرتك من خلقك، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فمرحى بكم في مهيع موضوعنا الشائق الرائق: (قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع قاعدة من القواعد القرآنية المحكمة في أبواب المعاملات، والعلاقات بين الناس، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [القصص: 26]. وهذه الآية الكريمة جاءت ضمن قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين ـ في سورة القصص ـ، والذي كان عاجزاً عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر ـ من غير أن ينتظر سؤالهما ـ بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما، فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما ـ وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال ـ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26] فقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} تعليل لطلبها، فالقوة في العمل، والأمانة في أدائه على الوجه المطلوب. وهذا التنصيص على هذين الوصفين هو من وفور عقل هذه المرأة التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى عليه السلام، وهو دليل ـ كما سيأتي ـ أن هذا من المطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة من الأمم، وشريعة من الشرائع. وقد أخذ العلماء ـ رحمهم الله ـ هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمراً من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر. أيها الأخ الموفق: إن من تأمل القرآن الكريم وجد تلازماً ظاهراً وبيّناً بين هاتين الصفتين (القوة والأمانة) في عدة مواضع، ومن ذلك: ما وصف الله به مبلغ الوحي والرسالات إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ـ جبريل؛ ـ في قوله ـ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 19 - 21] فانظر ـ يا عبدالله ـ كم وصفاً وصف الله به هذا الرسول الملكي الكريم؟! ومن ذلك وصفه بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن يؤدي عملاً من الأعمال. والموضع الثاني من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة، فهو قول يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. "أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه"(1). ولا يخفى أن إدارة أموال مجموعة من الأيتام تحتاج إلى هاتين الصفتين فكيف بإدارة أموال تتعلق بجماعة، أم كيف بإدارة أموال دولة بأكملها، ولهذا أبرزَ يوسفُ عليه السلام هاتين الصفتين، ومدح نفسه بهما، لا لذات المدح، بل لأن الوضع الاقتصادي في مصر آنذاك يقتضي مبادرة في ضبط إدارة أموالها، خصوصاً وقد كانت مقبلة ـ بحسب الرؤيا ـ على سنين عجاف مجدبات، تحتاج إلى حكمة وتعقل في الصرف. أما الموضع الثالث من المواضع التي لوحظ فيها وصف القوة والأمانة في القرآن الكريم فهو: ما جاء في قصة سليمان عليه السلام، وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل: 38، 39]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلقاً على هذه المواضع الثلاثة بكلام نفيس، أنقل منه ما يناسب المقام: "وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}...، والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر...، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]... إلى أن قال: "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوةً، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر... ثم قال: مبيناً منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج في هذا الباب: "ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل الرجل لمصلحةٍ مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان" ثم لخص كلامه الطويل في تعليقه على هذه الآية بقوله: "والمهم ـ في هذا الباب ـ معرفةُ الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرِفَتْ المقاصد والوسائل تَمَّ الأمر"(2). وكان: قد قال كلمة ينبغي أن نعيها جيداً ـ معشر المستمعين والمستمعات ـ: "ثم إن المؤدي للأمانة ـ مع مخالفة هواه، يثبته الله، فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده، فيذل أهله، ويذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك؟ فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم - وكان في مرض موته- فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم، وهم بضعةَ عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنَيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني! قال هذا العالم ـ الذي يحكي هذه القصة ـ: فلقد رأيت بعض بنيه، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها. قلت (والكلام لابن تيمية): هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزيرة قبرص، وثغور الشام والعواصم، إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحدٍ من أولاده، من تركته شيئاً يسيراً، يقال: أقل من عشرين درهماً -! قال ـ أي هذا العالم الذي يحدث بهذه القصة القصة ويعظ ذلك الخليفة العباسي ـ: وحضرتُ بعض الخلفاء، وقد اقتسم تركتَه بنوه، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم ستّمائة ألف دينار، ولقد رأيتُ بعضهم، يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه!! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب!"(3) ختاماً من أراد أن يتوسع في فهم معاني هذه القاعدة القرآنية العظيمة، فليراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية". رزقنا الله وإياكم فهمَ كتابه والعمل به، وجعلنا وإياكم ممن يقوم بحق ما ولاه الله عليه، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ________________ (1) تفسير السعدي: (400). (2) ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (42-63) باختصار وتصرف. (3) ينظر: السياسة الشرعية ـ مع تعليق شيخنا العثيمين عليها ـ ص: (29-31)، وسيرة عمر بن عبدالعزيز: (338).
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() القاعدة الحادية والعشرون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين) د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا مرفأ جديد إلى حلقة جديدة من هذه السلسلة الموسومة بـ(قواعد قرآنية)، نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق سبحانه وتعالى والتعامل مع خلقه، هي قاعدة تمثل سفينةً من سفن النجاة، وركناً من أركان الحياة الاجتماعية، وهي ـ لمن اهتدى بهديها ـ علامة خير، وبرهان على سمو الهمة، ودليل على كمال العقل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}[التوبة: 119]. أيها الإخوة: هذه القاعدة المحكمة جاءت تعقيباً على قصة جهاد طويل، وبلاء كبير في خدمة الدين، والذب عن حياضه، قام به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم،وذلك في خاتمة سورة التوبة ـ التي هي من آخر ما نزل عليه – صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117، 119]. والمعنى: إن هؤلاء الذين تاب الله عليهم ـ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والثلاثة الذين خلفوا ـ هم أئمة الصادقين، فاقتدوا بهم. وأنت ـ أيها المبارك ـ إذا تأملتَ مجيء هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} بعد هذه الآيات، أدركتَ أن الصدق أعمّ من أن يختصر في الصدق في الأقوال! بل هو الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال، التي كان يتمثلها نبينا صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، قبل البعثة وبعدها. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم صادق اللهجة، عف اللسان، أميناً وفيّاً حافظاً للعهود قبل بعثته، عرف بالصادق الأمين، وكان ذلك سبباً في إسلام بعض عقلاء المشركين، الذين كان قائلهم يقول: لم يكن هذا الرجل يكذب على الناس أفتراه يكذب على الله؟! أيها الإخوة: كثيرٌ من الناس حينما يسمع هذه القاعدة القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} لا ينصرف ذهنه إلا للصدق في الأقوال، وهذا في الحقيقة تقصير في فهم هذه القاعدة، وإلا لو تأمل الإنسان سياقها لعلم أنها تشمل جميع الأقوال والأفعال والأحوال! كما تقدم. يا أهل القرآن! إن للصدق آثاراً حميدة، وعوائد جليلة; وهو دليل على رجحان العقل، وحسن السيرة، ونقاء السريرة. ولو لم يكن للصدق من آثار إلا سلامته من رجس الكذب، ومخالفة المروءة، والتشبه بالمنافقين! فضلاً عما يكسبه الصدق من عزة، وشجاعة، تورثه كرامة، وعزة نفس، وهيبةَ جناب، ومن تأمل في قصة الثلاثة الذين خلفوا أدرك حلاوة الصدق ومرارة الكذب ولو بعد حين. ومن تأمل في الآيات الواردة في مدح الصدق والثناء على أهله وجدَ عجبا عجاباً! ولو أخذتُ في سرد الآيات الواردة فيه سرداً فقط لانقضى وقت الحلقة قبل أن تنقضي الآيات، ولكن حسبنا أن نشير إلى جملة من الآثار التي دلّ عليها القرآن للصدق وأهله في الدنيا والآخرة: 1. فالصادق سائر على درب الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الذين أثنى الله عليهم في غير ما آية بالصدق في الوعد والحديث. 2. والصادق معانٌ ومنصورٌ، ويسخر الله له من يدافع عنه من حيث لا يتوقع، بل قد يكون المدافع خصماً من خصومه، تأمل في قول امرأة العزيز: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف: 51]. 3. والصادق يسير في طريق لاحب إلى الجنة، ألم يقل النبي ج: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا" أخرجه الشيخان(1)، وقد قال الله عز وجل ـ مبيناً صفات أهل الجنة ـ: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: 17]. 4. وأهل الصدق هم الناجون يوم العرض الأكبر على ربهم، كما قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}[المائدة: 119]. 5. والصادقون هم أهلٌ لمغفرة الله وما أعده لهم من الأجر والثواب العظيم، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) [الأحزاب: 35]. وبعد هذا.. فإن من المحزن والمؤلم أن يرى المسلم الخرق الصارخ ـ في واقع المسلمين ـ لما دلّت عليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}! فكم هم الذين يكذبون في حديثهم؟ وكم هم الذين يخلفون مواعيدهم؟ وكم هم أولئك الذين ينقضون عهودهم؟ أليس في المسلمين من يتعاطى الرشوة ويخون بذلك ما اؤتمن عليه من أداء وظيفته؟ أليس في المسلمين من لا يبالي بتزوير العقود، والأوراق الرسمية؟ وغير ذلك من صور التزوير؟ لقد شوّه ـ هؤلاء ـ وللأسف بأفعالهم وجهَ الإسلام المشرق، الذي ما قام إلا على الصدق! وإنك لتعجب من مسلم يقرأ هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}! ومع ذلك يمارس كثير من المسلمين الكذب مع وفرة النصوص الشرعية التي تأمر بالصدق وتنهى عن الكذب! ليت هؤلاء يتأملون هذا الموقف، الذي حدّث به أبو سفيان س قبل أن يسلم، حينما كان في أرض الشام، إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه، فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت(2). فتأمل ـ أيها المؤمن ـ كيف حاذر هذا الرجل الذي كان مشركاً يومئذ من الكذب؛ لأنه يراه عاراً وسُبةً لا تليق بالرجل الذي يعرف جلالة الصدق، وقبح الكذب؟! إنها مروءة العربي، الذي كان يعد الكذب من أقبح الأخلاق! ولهذا لما سئل ابن معين: عن الإمام الشافعي قال: دعنا، والله لو كان الكذب حلالاً لمنعته مروءته أن يكذب(3)! وجاء في ترجمة الحافظ إسحاق بن الحسن الحربي (ت: 284) أن الإمام إبراهيم الحربي سئل عنه، فقال: ثقة، ولو أن الكذب حلال ما كذب إسحاق(4)! وكان إبراهيم الحربي (ت: 285) يقول في الإمام المحدث هارون الحمال: لو أن الكذب حلال لتركه هارون تنزهاً(5). ولله درُّ الإمامِ الأوزاعي: أنه قال: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت! فأين من هذا أولئك الذين استمرأوا الكذب، بل وامتهنوه، ولم يكتفوا بهذا بل روّجوا شيئاً من عادات الكفار في الكذب، كما هو الحال فيما يسمى بكذبة إبريل! ويزعم بعضهم أن تلك كذبة بيضاء! وما علموا أن الكذب كله أسود! إلا ما استثناه الشرع المطهر. ويقال: لو لم يكن من خسارة يجنيها هؤلاء الذين يكذبون إلا أنهم يتخلفون بكذبهم هذا عن ركب المؤمنين الصادقين، الذين عناهم الله بهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}. ما أحرانا معشر الآباء والمربين، أن نربي أجيالنا على هذا الخلق العظيم، وبغض الكذب، وأن نكون لهم قدوات حية يرونها بأعينهم. يقول الأستاذ الأديب الكبير محمد كرد علي: "لو عَمَدنا إلى الصدق نجعله شعارنا الباطنَ والظاهر في عامة أحوالنا؛ لوفرنا على أنفسنا وعلى من يحتفون بنا وعلى القائمين بالأمر فينا أوقاتاً وأموالاً ولغواً وباطلاً، ولعشنا وأبناءنا سعداء لا نقلق ونَرَوّع، ممتعين بما نجني، مباركاً لنا فيما نأخذ ونعطي، ولعشنا في ظل الشرف، وتذوقنا معنى الإنسانية، ونَعِمْنا بالقناعة، وعَمّنا الرضى"(6). انتهى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. _______________ (1) البخاري ح ()، ومسلم ح (). (2) صحيح البخاري ح (؟)، وصحيح مسلم ح (74). (3) لسان الميزان 5/416. (4) تاريخ بغداد (6/382). (5) تاريخ بغداد (14/22) وفي النص خلل، صحح من تذكرة الحفاظ 2/478. (6) أقوالنا وأفعالنا (178).
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() القاعدة الرابعة والعشرون : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا ظل من ظلال حلقات هذا السلسلة المباركة؛ لنتوقف قليلًا عند قاعدة من القواعد القرآنية التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69]. وهذه الآية الكريمة جاءت في ختام سورة العنكبوت، والتي افتتحت بقوله تعالى: { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت]. وكأن ختام سورة العنكبوت بهذه القاعدة القرآنية: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} هو جواب عن التساؤل الذي قد يطرحه المؤمن ـ وهو يقرأ صدر سورة العنكبوت التي ذكرنا مطلعها آنفًا ـ تلك الكلمات العظيمة ـ التي تقرر حقيقة شرعية وسنة إلهية ـ في طريق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك السؤال هو: ما المخرج من تلك الفتن التي حدثتنا عنها أول سورة العنكبوت؟! فيأتي الجواب في آخر السورة، في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص، عندها تأتي الهداية، ويتحقق التوفيق بإذن الله. ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقًا أن يتصور صعوباته؛ ليكون على بينة من أمره، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله، فلم ولن يكون مفروشًا بالورود والرياحين، بل هو طريق "تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين" (الفوائد: (42)). أتدري لماذا أيها القارئ الكريم؟ لأن "الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب" (في ظلال القرآن). "فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا تزعزعنَّك الكروب؛ فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق، ومكوِّنة النفوس. وإن رجلًا لم تعركه الحوادث، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا داعي خَلْقٍ إلى حقٍّ؛ فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه، وابذل كل ما تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقًا رشدًا، ويصلح بك جماعات بل أممًا { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }" (الكلمة للمنفلوطي، نقلًا عن مقالات لكبار كتاب العربية للدكتور محمد الحمد ـ وفقه الله ـ (1 / 213)). أيها القراء الكرام: وإذا تبينت صلة هذه القاعدة القرآنية المذكورة في آخر سورة العنكبوت: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } بأول السورة، فإن دلالات هذه القاعدة في ميدان الدعوة كبيرة ومتسعة جدًا، وهي تدل بوضوح على أن من رام الهداية والتوفيق وهو يسير في طريق الدعوة فليحقق ذينك الأصلين الكبيرين اللذين دلّت عليهما هذه القاعدة: 1 ـ أما الأصل الأول: فهو بذل الجهد والمجاهدة في الوصول إلى الغرض الذي ينشده الإنسان في طريقه إلى الله تعالى. 2 ـ والأصل الثاني هو: الإخلاص لله، لقوله-: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } فليس جهادهم من أجل نصرة ذات، ولا جماعة على حساب أخرى، وليس من أجل لعاعة من الدنيا، أو ركض وراء كرسي أو منصب، بل هو جهادٌ في ذات الله تعالى. وإنما نُبّه على هذا الأصل ـوهو الإخلاص- مع كونه شرطًا في كل عمل، فإن السر -والله أعلم- لأن من الدعاة من قد يدفعه القيام بالدعوة، أو بأي عمل نافع، الرغبة في الشهرة التي نالها الداعية الفلاني، أو يدفعه نيل ثراء ناله المتحدث الفلاني.. فجاء التنبيه على هذا الأصل الأصيل في كل عمل صالح. وثمة سرٌّ آخر -والله أعلم- في التنبيه على هذا الأصل، وهو: أن الإنسان قد يبدأ مخلصًا، ثم لا يلبث أن تنطفئ حرارة الإخلاص في نفسه كلما لاح أمام ناظريه شيء من حظوظ النفس، والأثرة، أو التطلع إلى جاه، والرغبة في العلو والافتخار، أو الانتصار. "والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلّت تركت به ثُلمًا شتى، ينفذ منها الشيطان" (خلق المسلم للغزالي: (66))، لذا ليس غريبًا أن يأتي التوكيد على هذا الأصل الأصيل في هذا المقام العظيم: مقام الجهاد والمجاهدة. وإذا تقرر أن السورة مكية ـ على القول الصحيح من أقوال المفسرين ـ وهو الذي لم تجب فيه بعدُ شعيرة الجهاد بمعناه الخاص ـ وهو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله فإن ثمة معنى كبيرًا تشير إليه هذه القاعدة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }، وهو أن من أبلغ صور الجهاد: الصبر على الفتن بنوعيها: فتن السراء وفتن الضراء، والتي أشارت أوائل سورة العنكبوت إلى شيءٍ منها. أيها المتأمل الكريم: وهذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } دلت على شيءٍ آخر، كما يقول ابن القيم: "وهو أن أكمل الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد... إلى أن قال:: ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نصرتْ عليه نُصِرَ عليه عدوُه" (الفوائد: (59)). وفي كلمات الأعلام من سلف هذه الأمة، والتابعين لهم بإحسان ما يوسع دلالة هذه القاعدة: فهذا الجنيد: يقول ـ في تعليقه على هذه القاعدة القرآنية: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }ـ: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة؛ لنهدينهم سبل الإخلاص. ولأهل العلم نصيب من هذه القاعدة، يقول أحمد بن أبي الحواري: حدثني عباس بن أحمد ـ في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } قال: الذين يعملون بما يعلمون، نهديهم إلى ما لا يعلمون. وهذا الذي ذكره هذا العالم الجليل هو معنى ما روي في الأثر: من علم بما عمل، ورّثه الله علم ما لم يعمل، وشاهد هذا في كتاب الله: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد]. وكان عمر بن عبدالعزيز: يقول: "جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو عملنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا وغلق ما لا تهتدي إليه آمالنا (درء التعارض 4/358). وفي واقع المسلمين أحوال تحتاج إلى استشعار معنى هذه القاعدة القرآنية: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }: فمن له والدان كبيران مريضان، بحاجة أن يستشعر هذه القاعدة.. ومن سلك طريق طلب العلم، فطال عليه بعض الشيء بحاجة أن يتأمل معاني هذه القاعدة.. ومن فرّغ جزءً من وقته لتربية النشء، والشباب، أو لتعليم أبناء وبنات المسلمين كتابَ الله عز وجل -وقد دبّ عليه الفتور- هو بحاجة ماسّة ليتدبر هذه القاعدة.. وبالجملة، فكلُّ من نصب نفسه لعمل صالح، سواء كان قاصرًا أم متعديًا، فعليه أن يتدبر هذه القاعدة كثيرًا، فإنها بلسمٍ شافٍ في طريق السائرين إلى ربهم، ويوشك المؤمن أن ينسى كلَّ ما واجهه من تعب ونصب، إذا وضع قدمه على أول عتبة من عتابات الجنة، جعلني الله وإياكم -ووالدينا وذرياتنا- من أهلها، ومن الدعاة إلى دخولها. يتبع
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() القاعدة الخامسة والعشرون : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا مرتع خصب، وروضة غناء، نتفيأ في ظلالها معنىً من معاني كلام الله عز وجل، ومع قاعدة من القواعد التي تتصل بفقه السنن الإلهية في الأمم والمجتمعات، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } [الإسراء:59]. وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان المراد بهذه الآيات التي يرسلها ربنا تعالى، فمن قائل: هو الموت المتفشي الذي يكون بسب وباء أو مرض، ومن قائل: هي معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفا للمكذبين، وثالث يقول: آيات الانتقام تخويفًا من المعاصي. وهذا الإمام ابن خزيمة: يبوب على أحاديث الكسوف بقوله: باب ذكر الخبر الدال على أن كسوفهما تخويف من الله لعباده، قال الله عز وجل: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } (صحيح ابن خزيمة:2/309). وكل هذه العبارات ـ في تنوعها ـ تشير إلى أن الآيات لا يمكن حصرها في شيء واحد، وما ذكره السلف رحمهم الله إنما هو عبارة عن أمثلة لهذه الآيات، وليس مرادهم بذلك حصر الآيات في نوع واحد منها، وهذه هي عادة السلف في أمثال هذه المواضع عندما يفسرونها. والمهم هنا ـ أيها الفضلاء ـ أن يتأمل المؤمن والمؤمنة كثيرًا في الحكمة من إرسال هذه الآيات ألا وهي التخويف، أي: حتى يكون الإنسان خائفًا وجلًا من عقوبة قد تنزل به. يقول قتادة: في بيان معنى هذه القاعدة القرآنية: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } "إن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكرون، أو يرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه" (تفسير الطبري.). وروى ابن أبي شيبة: في مصنفه من طريق صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي، فلم يدر، قال: فخطب عمر الناس وقال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم. وهذا التوارد في كلمات السلف في بيان معنى هذه الآية يؤكد أن السبب الأكبر في إرسال الآيات: هو تخويف العباد، وترهيبهم مما يقع منهم من ذنوب ومعاصٍ، لعلهم يرجعون إلى ربهم الذي أرسل لهم هذه الآيات والنذر، وإن لم يرجعو فإن هذه علامة قسوة في القلب -عياذًا بالله تعالى- كما قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام]. وكما قال ربنا عز وجل: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون]. فإن قلتَ: ما الجواب عما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال - لما سمع بخسف -: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا! (شرح مشكل الآثار (9/6)). فالجواب أن مراد ابن مسعود رضي الله عنه كما بينه الإمام الطحاوي: "أنا كنا نعدها بركة؛ لأنا نخاف بها فنزداد إيمانًا وعملًا، فيكون ذلك لنا بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا ولا تعملون معها عملًا، يكون لكم به بركة، ولم يكن ما قال عبد الله س عندنا مخالفًا لما جاء به كتاب الله عز وجل من قول الله عز وجل: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } أي: تخويفًا لكم بها لكي تزدادوا عملا،وإيمانا فيعود ذلك لكم بركة" (شرح مشكل الآثار (9/6)). أيها القارئ الفطن: ومع وضوح هذا المعنى الذي دلت عليه هذه القاعدة القرآنية: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }، ومع ظهوره، إلا أن من المؤسف جدًا أن يقرأ الإنسان أو يسمع بعض كتاب الصحف، أو المتحدثين على بعض المنابر الإعلامية من يسخرون أو يهوّنون من هذه المعاني الشرعية الظاهرة، ويريدون أن يختصروا الأسباب في وقوع الزلازل أو الفيضانات، أو الأعاصير ونحوها من الآيات العظام في أسباب مادة محضة، وهذا غلط عظيم! ونحن لا ننكر أن لزلزلة الأرض أسبابًا جيولوجية معروفة، وللفضيانات أسبابها، وللأعاصير أسبابها المادية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي أمر الأرض أن تتحرك وتضطرب؟ ومن الذي أذن للماء أن يزيد عن قدره المعتاد في بعض المناطق؟ ومن الذي أمر الرياح أن تتحرك بتلك السرعة العظيمة؟ أليس الله؟ أليس الذي أرسلها يريد من عباده أن يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله يصرف عنهم هذه الآيات؟! ولا أدري! ألم يتأمل هؤلاء دلالة هذه القاعدة من الناحية اللغوية؟ فإنها جاءت بأسلوب الحصر: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }، فهي في قوة الحصر الذي دلّ عليه قوله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران:62] ، وهي فقوة الحصر الذي دلّ عليه قوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود]، ونحوها من الآيات. ثم ماذا يصنع هؤلاء الذين يهوّنون من شأن هذه الآيات - شعروا أم لم يشعروا قصدوا أم لم يقصدوا - بمثل تلك التفسيرات المادية الباردة، ماذا يصنعون بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح، قال: « اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به » قالت: وإذا تخيلت السماء ـوهي سحابه فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرةـ تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته؟ فقال: « لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا }» [الأحقاف من الآية:24]، ( أخرجه الشيخان.). ولا أدري كيف يجيب هؤلاء -هداهم الله- عن قوله تعالى في حق قوم نوح: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)} [نوح]؟ يقول ابن كثير: في بيان معنى قوله عز وجل: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ }: أي: من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم: { أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } أي: نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار. وأما ما يورده بعض الناس من قولهم: هناك بلاد أشد معصية من تلك البلاد التي أصابها ذلك الزلزال، ويوجد دول أشد فجورًا من تلك التي ضربها ذاك الإعصار، فهذه الإيرادات لا ينبغي أن تورد أصلًا؛ لأنها كالاعتراض على حكمة الله تعالى في أفعاله وقضائه وقدره، فإن ربنا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، والله يقضي بالحق، وربنا لا يُسأل عما يفعل، وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة، والعلم التام، ومن وراء الابتلاءات حكم وأسرار تعجز عقولنا عن الإحاطة بها، فضلًا عن إدراكها. وبعد: فهل بعد هذا البيان والوضوح يستريب منصف في أهمية تدبر وتذكر هذه القاعدة القرآنية الكريمة: { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا }؟! نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار والادكار، والاتعاظ بما نوعظ به، ونعوذ بالله من قسوة القلب التي تحول دون الفهم عن الله وعن رسوله، والحمد لله رب العالمين. يتبع
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() القاعدة السابعة والعشرون : { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } الشيخ عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة القدر؛ لعظيم أثرها في حياة العبد، وقوة صلتها بتلك المضغة التي بين النبيصلى الله عليه وسلم أن صلاحها صلاح لبقية الجسد، وفسادها فساد له، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } [فاطر:18]. التزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، وهي تطلق ويراد بها معنيان: المعنى الأول: التطهير، ومنه قوله تعالى عن يحيى عليه السلام: { وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13)} [مريم]، فإن الله زكاه وطهر قلبه وفؤاده، وهذا تطهير معنوي، ويطلق على التطهير الحسي، يقال: زكيت الثوب إذا طهرته. والمعنى الثاني: هو الزيادة، يقال زكى المال يزكوا إذا نمى. وكلا المعنيين اللغويين مقصودان في الشرع، لأن تزكية النفس شاملة للأمرين: تطهيرها وتخليتها من الأدران والأوساخ الحسية والمعنوية، وتنميتها وتحليتها بالأوصاف الحميدة والفاضلة، فالزكاة باختصار تدور على أمرين: التخلية، والتحلية. والمقصود بالتخلية: أي تطهير القلب من أدران الذنوب والمعاصي. والمقصود بالتحلية: أي تحلية النفس بمكارم الأخلاق، وطيب الشمائل، وهما عمليتان تسيران جنبًا إلى جنب. فالمؤمن مطالب "بالتنقِّي من العيوب، كالرياء والكبر، والكذب والغش، والمكر والخداع والنفاق، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة، ومطالب بالتحلَّى بالأخلاق الجميلة، من الصدق، والإخلاص، والتواضع، ولين الجانب، والنصح للعباد، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق، فإن تزكيته يعود نفعها إليه، ويصل مقصودها إليه، ليس يضيع من عمله شيء" [تفسير السعدي: [687]]. وعلى هذا المعنى جاءت الآيات القرآنية بالأمر بتزكية النفس وتهذيبها، كقوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15)} [الأعلى]، وقال سبحانه: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس]. وكما في هذه القاعدة القرآنية التي نحن بصددها: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ }. وهذه الآية جاءت في سورة فاطر ضمن السياق التالي، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر]. قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: "وجملة { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } تذييلٌ جار مجرى المثل، وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيَّل داخل في التذييل بادىء ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يُخص العام به، فالمعنى: أن الذين خَشُوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممّن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم، فالمعنى: إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه. والمقصود من القصر في قوله: { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضراً على أنفسهم [التحرير والتنوير [43/12]]. معشر القراء الكرام: إن من تأمل نصوص القرآن وجد عناية عظيمة بمسألة تزكية النفوس: فهذا خليل الرحمن حينما دعا بأن يبعث من ذريته رسولًا، ذكر من جملة التعليلات: تزكية الناس الذين سيدعوهم، فقال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة]. وربنا تعالى يذكر عباده بمنته عليهم، حين استجاب دعوة خليله إبراهيم، وأن من أعظم وظائفه هي تزكية نفوسهم، فقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران]، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين (2)} [الجمعة]. ولما دعا نبي الله موسى فرعون اختصر له دعوته في جملتين كما قال عز وجل: { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات]. ومن تأمل سورة الشمس، أدرك عظيم هذه الغاية، وخطورة هذه العبادة الجليلة، فإن الله تعالى أقسم أحد عشر قسمًا متتابعًا على أن فلاح النفس لا يكون إلا بتزكيتها! ولا يوجد في القرآن نظير لهذا أعني تتابع أحد عشر قسمًا على مُقْسَمٍ واحد وهو بلا ريب دليل واضح، وبرهان ساطع على خطورة هذا الموضوع. أيها المتأمل! إن منطوق هذه القاعدة القرآنية: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } يدل بوضوح أن أعظم أثر لهذه التزكية هو أثرها على نفسي المتزكي، ومفهومها يتضمن تهديدًا: أنك إن لم تتزكَ يا عبدالله، فإن أعظم متضرر بإهمال التزكية هو أنت. ولئن كانت هذه القاعدة تعني كل مسلم يسمعها، فإن حظ الداعيةِ وطالبِ العلم منها أعظم وأوفر، لأن الأنظار إليه أسرع، والخطأ منه أوقع، والنقد عليه أشد، ودعوته يجب أن تكون بحاله قبل مقاله. ولعظيم منزلة تزكية النفس في الدين، كان الأئمة والعلماء المصنفون في العقائد يؤكدون على هذا الأمر بعبارات مختلفة، منها ما ذكره شيخ الإسلام ابنُ تيميه رحمه الله جملةً من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنّةِ ومن ذلك قولُه: "يأمرون بالصبر عند البلاء والشكرِ عند الرخاء،ويدعون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسن الأعمالِ، ويعتقدون معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خلقاُ » ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها" انتهى. وإنما نص أئمة الدين على ذلك؛ لأن هناك تلازمًا وثيقًا بين السلوك والاعتقاد: فالسلوك الظاهرُ مرتبطٌ بالاعتقادِ الباطن، فأيُّ انحرافٍِ في الأخلاقِ إنما هو من نقص الإيمان الباطن، قال ابنُ تيميه رحمه الله "إذا نقصت الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ، كانَ ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلاُ يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب، أن تُعدم الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ" [ينظر: مجموع الفتاوى [7/582]، [616]، [621]]. ويقول الشاطبيُّ رحمه الله: "الأعمالُ الظاهرةُ في الشرع دليلٌ على ما في الباطن فإذا كان الظاهرُ منخرمًا أو مستقيمًا حكم على الباطن بذلك" [الموافقات [1/233]]. فالسلوكُ والاعتقادُ متلازمان، كذلك فإن من الأخلاقِ والسلوك ما هو من شُعَبِ الإيمان. ولهذا لما ظن بعض الناس ومنهم بعض طلاب العلم أن أمر التزكية سهلٌ أو يسير أو من شأن الوعاظ فحسب يقال ذلك إما بلسان الحال أو بلسان المقال وُجِدَت صورٌ كثيرة من التناقضات والفصام النكد بين العلم والعمل! إن سؤالًا يتبادر إلى الذهن ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } كيف نزكي نفوسنا؟ والجواب عن هذا يطول جدًا، لكنني أشير باختصار إلى أهم وسائل تزكية النفس، فمن ذلك: 1- توحيد الله تعالى، وقوة التعلق به. 2- ملازمة قراءة القرآن، وتدبره. 3- كثرة الذكر عمومًا. 4- المحافظة على الصلاة المفروضة، وقيام الليل ولو قليلًا. 5- لزوم محاسبة النفس بين الفينة والأخرى. 6- حضور الآخرة في قلب العبد. 7- تذكر الموت، وزيارة القبور. 8- قراءة سير الصالحين. وفي مقابل هذا فإن العاقل من يتنبه لسد المنافذ التي قد تفسد عليه أثر تلك الوسائل؛ لأن القلب الذي يتلقى الوسائل والعوائق موضع واحد لا يمكن انفصاله. إذن لا يكفي أن يأتي الإنسان بالوسائل بل لا بد من الانتباه إلى العوائق، مثل: النظر إلى المحرمات، أو سماع المحرمات، اطلاق اللسان فيما لا يعني فضلًا عما حرم الله تعالى. اللهم إنا نسألك وندعوك بما دعاك به نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: « اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها » [صحيح مسلم [ح 2722]]. وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين. يتبع
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() القاعدة الثامنة والعشرون : { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } الشيخ عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عظيمة الصلة بواقع الناس، وازدادت الحاجة إلى التنويه بها في هذا العصر الذي اتسعت فيه وسائل نقل الأخبار، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [الأعراف:85]. وهذه القاعدة القرآنية الكريمة تكررت ثلاث مرات في كتاب الله عز وجل، كلها في قصة شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. ومن المعلوم للقراء الكرام أن من جملة الأمور التي وعظ بها شعيبٌ قومَه: مسألة التطفيف في الكيل والميزان، حيث كان هذا فاشيًا فيهم، ومنتشرًا بينهم. وهذا مثال ـمن جملة أمثلة كثيرةـ تدل على شمول دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لجميع مناحي الحياة، وأنهم كما يدعون إلى أصل الأصول وهو التوحيد فهم يدعون إلى تصحيح جميع المخالفات الشرعية مهما ظنّ بعض الناس بساطتها، إذ لا يتحقق كمال العبودية لله تعالى إلا بأن تكون أمور الدين والدنيا خاضعةً لسلطان الشرع. وأنت أيها المؤمن إذا تأملت هذه القاعدة القرآنية: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [الأعراف:85] وجدتها جاءت بعد عموم النهي عن نقص المكيال والميزان، فهو عموم بعد خصوص، ليشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير. قال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة؛ لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادَلة بين الأمّة، وإنَّما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمُنتج يزداد إنتاجًا وعَرْضًا في الأسواق، والطَّالبُ من تاجر أو مُستهلك يُقبِل على الأسواق آمِنًا لا يخشى غبنًا ولا خديعة ولا خِلابة، فتتوفّر السّلع في الأمّة، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نَماء المدينة والحضارة على أساس متين، ويَعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك" [التحرير والتنوير [451/5]] ا.هـ. وقال بعض المفسرين ـ مبينًا سعة مدلول هذه القاعدة ـ: "وهو عامّ في كل حق ثبت لأحد أن لا يهضم، وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفًا شرعيًا" [تفسير الكشاف [337/3]]. أيها القراء الأكارم: إذا تبين سعة مدلول هذه القاعدة، وأن من أخص ما يدخل فيها بخس الحقوق المالية، فإنه دلالتها تتسع لتشمل كلّ حق حسي أو معنوي ثبت لأحدٍ من الناس. أما الحقوق الحسية فكثيرة، منها -ما سبقت الإشارة إليه- كالحق الثابت للإنسان كالبيت والأرض والكتاب والشهادة الدراسية، ونحو ذلك. وأما الحقوق المعنوية، فأكثر من أن تحصر، ولو أردنا أن نستعرض ما يمكن أن تشمله هذه القاعدة لطال المقام، ولكن يمكن القول: إن هذه القاعدة القرآنية: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } كما هي قاعدة في أبواب المعاملات، فهي بعمومها قاعدة من قواعد الإنصاف مع الغير. والقرآن مليء بتقرير هذا المعنى -أعني الإنصاف- وعدم بخس الناس حقوقهم، تأمل مثلًا قول الله تعالى: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة:8] فتصور! ربك يأمرك أن تنصف عدوك، وألا يحملك بغضه على غمط حقه، أفتظن أن دينًا يأمرك بالإنصاف مع عدوك، لا يأمرك بالإنصاف مع أخيك المسلم؟! اللهم لا! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذه الآية: "فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفّار على ألّا يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع أو متأوّل من أهلالإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألّا يحمله ذلك على ألّا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له" [الفتاوى]. وفي واقع المسلمين ما يندى له الجبين من بخس للحقوق، وإجحاف وقلة الإنصاف، حتى أدى ذلك إلى قطيعة وتدابر، وصدق المتنبي يوم قال: ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة * بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس: يعلن شكواه قديمًا من هذه الآفة، فيقول: "ليس في الناس شيء أقل من الإنصاف". علّق ابن رشد على هذه الكلمة فقال: قال مالك هذا لما اختبره من أخلاق الناس. وفائدة الأخبار به التنبيه على الذم له لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق حقه [البيان والتحصيل [18/306]]. ولنعد إلى واقعنا أيها القراء الأكارم: يختلف أحدنا مع شخص آخر من أصدقائه، أو مع أحد من أهل الفضل والخير، فإذا غضب عليه أطاح به، ونسي جميع حسناته، وجميع فضائله، وإذا تكلم عنه تكلم عليه بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة والعياذ بالله! وقُلْ مثل ذلك في تعاملنا مع زلة العالم، أو خطأ الداعية، الذين عرف عنهم جميعًا تلمس الخير، والرغبة في الوصول إلى الحق، ولكن لم يوفق في هذه المرة أو تلك، فتجد بعض الناس ينسى أو ينسف تاريخه وبلاءه وجهاده ونفعه للإسلام وأهله، بسبب خطأ لم يحتمله ذلك المتكلم أو الناقد، مع أنه قد يكون معذورًا! ولنفترض أنه غير معذور، فما هكذا تورد الإبل، وما هكذا يربينا القرآن! بل إن هذه القاعدة القرآنية التي نحن بصدد الحديث عنها: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } تؤكد ضرورة الإنصاف، وعدم بخس الناس حقوقهم. أيها القارئ اللبيب! وثمة صورةٌ أخرى تتكرر يوميًا تقريبًا يغيب فيها الإنصاف، وهي أن بعض الكتاب والمتحدثين حينما ينتقد جهازًا حكوميًا، أو مسؤولًا عن أحد الوزارات، يحصل منه إجحاف وبخس للجوانب المشرقة في هذا الجهاز أو ذاك، ويبدأ الكاتب أو المتحدث بسبب النفسية التي دخل بها لا يتحدث إلا من زاوية الأخطاء، ناسيًا أو متناسيًا النظر من زاوية الصواب والحسنات الكثيرة التي وُفق لها ذاك المرفق الحكومي، أو ذلك الشخص المسؤول! وما هكذا يربي القرآن أهله، بل القرآن يربيهم على هذا المعنى العظيم الذي دلّت عليه هذه القاعدة المحكمة: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ }. وتلوح ههنا صورة مؤلمة في مجتمعنا، تقع من بعض الكفلاء الذين يبخسون حقوق خدمهم أو عمالهم حقوقهم، فيؤخرون رواتبهم، وربما حرموهم من إجازتهم المستحقة لهم، أو ضربوهم بغير حق، في سلسلة مؤلمة من أنواع الظلم والبخس! أفلا يتقي الله هؤلاء؟! { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}؟! [المطففين] ألا يخشون أن يُسَلّطَ عليهم بسبب ظلمهم لمن تحت أيديهم وبخسهم حقوق خدمهم وعمالهم؟! ألا يخشون من عقوبات دنيوية قبل الأخروية تصيبهم بما صنعوا؟! وختامًا: قد يقع البخس أحيانًا في تقييم الكتب أو المقالات على النحو الذي أشرنا إليه آنفًا، ولعل من أسباب غلبة البخس على بعض النقاد في هذه المقامات، أن الناقد يقرأ بنية تصيد الأخطاء والعيوب، لا بقصد التقييم المنصف، وإبراز الصواب من الخطأ، عندها يتضخم الخطأ، ويغيب الصواب، والله المستعان. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف من أنفسنا.. والإنصاف لغيرنا،وأن يجعلنا من المتأدبين بأدب القرآن العاملين به، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والحمد لله رب العالمين. يتبع
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() القاعدة الثلاثون : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } الشيخ عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وقاعدة إيمانية، تمتد جذورها في قلوب الموحدين، في غابر الزمان وحاضره، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3] والمعنى: أن من توكل على ربه ومولاه في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وفعل ما أمر به من الأسباب، مع كمال الثقة بتسهيل ذلك، وتيسيره { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به [ينظر: تفسير السعدي: [869]]. أيها القراء الكرام: إن هذه القاعدة القرآنية: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } جاءت في سياق الحديث عن آيات الطلاق في سورة الطلاق، لبيان جملة من المبشرات التي تنتظر من طبق شرع الله في أمر الطلاق، فقال تعالى: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق]. وأما مناسبة مجيء هذا المعنى بعد ذكر هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق، فلعل السر ـوالله أعلم ـ هو تضمنها للتحذير والتطمين! أما التحذير، فهو متجه لكل واحد من الزوجين اللذين قد تسول له نفسه مجاوزة حدود الله تعالى في أمر الطلاق، سواء فيما يتعلق بالعدة، أو النفقة، أو غير ذلك، خصوصًا وأن النفوس حال الطلاق قد تكون مشحونةً، وغير منضبطةٍ في تصرفاتها، وقد تتصرف بما تمليه حالة الغضب، بلا تجرد ولا إنصاف! وأما تضمن هذه القاعدة للتطمين، فهي لمن صدق مع الله في تطبيق شرع ربه في أمر الطلاق، وأنه وإن كيد به أو له، فإن الله معه، وناصره، وحافظ حقه، ودافع كيد من يريد به كيداً، والله أعلم بمراده. ومع أن هذه القاعدة وردت في سياق آيات الطلاق ـكما أسلفتُ ـ إلا أن معناها أعم وأشمل من أن يختصر في هذا الموضوع، وآيات القرآن الكريم طافحة بالحديث عن التوكل، وفضله، والثناء على أهله، وأثره على حياة العبد، وقبل الإشارة المجملة إلى ذلك، يحسن التذكير بأن النصوص دلّت على أن من كمال التوكلِ فعلَ الأسباب، وهذا بين ظاهرٌ، لكن نبه عليه؛ لأن بعض الناس قد يظن خطأ أن التوكل يعني تعطيل الأسباب، وهذا غلط بيّن، ومن تأمل قصة موسى عليه السلام لما واجه البحر، وقصة مريم عليها السلام لما ولدت، وغيرهم من الأولياء والصالحين، يجد أنهم جميعًا أمروا بفعل أدنى سبب، فموسى أمر بضرب الحجر، ومريم أمرت بهز الجذع، وما أحسن ما قيل: "الالتفاتُ إلى الأسباب بالكلية شركٌ منافٍ للتوحيد، وإنكار أن تكون أسبابًا بالكلية قدح في الشرع والحكمة، والإعراضُ عنها ـمع العلم بكونها أسبابًا نقصان في العقل ـ وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة" [المصدر السابق [1/244] بتصرف]. معشر القراء الفضلاء: إنّ التّوكّل على اللّه عزّ وجلّ مطلوب في كلّ شئون الحياة، بيد أنّ هناك مواطن كثيرة ورد فيها الحضّ على التّوكّل والأمر به للمصطفى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين! فيا أيها المؤمن : 1- إن طلبت النّصر والفرج فتوكّل عليه: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران]. 2- إذا أعرضتَ عن أعدائك فليكن رفيقك التّوكّل: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} [النساء]. 3- إذا أعرضَ عنك الخلقُ، فتوكّل على ربك: { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [التوبة:129]. 4- إذا تلي القرآن عليك، أو تلوته فاستند على التّوكّل: { وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال]. 5- إذا طلبت الصّلح والإصلاح بين قوم لا تتوسّل إلى ذلك إلّا بالتّوكّل: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الأنفال:61]. 6- إذا وصلت قوافل القضاء فاستقبلها بالتّوكّل: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة]. 7- وإذا نصبت الأعداء حبالات المكر فادخل أنت في أرض التّوكّل: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ } [يونس:71]. 8- وإذا عرفت أنّ مرجع الكلّ إلى اللّه وتقدير الكلّ فيها للّه فوطّن نفسك على فرش التّوكّل: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود:123]. 9- وإذا علمت أنّ اللّه هو الواحد على الحقيقة، فلا يكن اتّكالك إلّا عليه: { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30)} [الرعد]. 10- وإذا كانت الهداية من اللّه، فاستقبلها بالشّكر والتّوكّل: { وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم]. 11- وإذا خشيت بأس أعداء اللّه والشّيطان والغدّار فلا تلتجئ إلّا إلى باب اللّه: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل]. 12- وإذا أردت أن يكون اللّه وكيلك في كلّ حال، فتمسّك بالتّوكّل في كلّ حال: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} [النساء]. 13- وإذا أردت أن يكون الفردوس الأعلى منزلك فانزل في مقام التّوكّل: { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل]. 14- وإن شئت أن تنال محبّة اللّه فانزل أوّلا في مقام التّوكّل: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران]. 15- وإذا أردت أن يكون اللّه لك، وتكون للّه خالصا فعليك بالتّوكّل: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3]، { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل] [جميع ما تقدم من [1 – 15] من كلام الإمام اللغوي المفسر الفيروز آباديّ:، في كتابه: بصائر ذوي التمييز (2/313-315)]. وقبل أن نختم حديثنا عن هذه القاعدة القرآنية: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أود أن أنبه إلى ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله من أن كثيرًا من المتوكلين يكون مغبونًا في توكله! وبيان ذلك كما يقول رحمه الله: "أنك ترى بعض الناس يصرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، مع أنه يمكنه نيلها بأيسر شيء، وفي المقابل ينسى أو يغفل عن تفريغ قلبه للتوكل في: زيادة الإيمان، والعلم، ونصرة الدين، والتأثير في العالم خيرًا، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة، كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين" [ينظر: المصدر السابق [2/225] بتصرف] انتهى. وههنا ملحظ مهم يستفاد من كلامه رحمه الله، وهو: أن الواحد منا ـفي حال نشاطه وقوة إيمانه ـ قد يقع منه نسيان وغفلة عن التوكل على الله، اعتمادًا على ما في القلب من قوة ونشاط، وهذا غلط ينبغي التنبه إليه، والحذر منه، ومن تأمل في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم وجده دائم الافتقار إلى ربه، ضارعًا إلى ربه أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، حتى ربى أمته على هذا المعنى في شيءٍ قد يظنه البعض بسيطًا أو سهلًا، وهو أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله" عند سماع المؤذن في الحيعلتين! [أخرجه الشيخان : البخاري ح [588] ومسلم ح [385]، ولم أشأ أن أستشهد بالحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما: من حديث عبدالرحمن بن أبي بكرة أنه قال لأَبِيهِ : يَا أَبَةِ إِنِّى أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ اللَّهُمَّ عَافِنِى فِى بَدَنِى اللَّهُمَّ عَافِنِى فِى سَمْعِى اللَّهُمَّ عَافِنِى فِى بَصَرِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ تُعِيدُهَا ثَلاَثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِى. فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ. قَالَ عَبَّاسٌ فِيهِ وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ تُعِيدُهَا ثَلاَثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلاَثًا حِينَ تُمْسِى فَتَدْعُو بِهِنَّ فَأُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِى إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ »؛ لأن إسناده ضعيف، وينظر في تخريجه: مسند أبي داود الطيالسي [2/200] ح [909]، [910] ، والله أعلم]. وقد أجمع العلماء على أن التوفيق، ألّا يكل اللّه العبد إلى نفسه، وأن الخذلان كل الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه! اللهم إنا نبرأ من كل حول وقوة إلا من حولك وقوتك، اللهم إنا نعوذ بك أن نوكل إلى أنفسنا طرفة، وإلى هنا أضع القلم، وإلى أن ألقاكم في حلقة قادمة بإذن الله. يتبع
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |