|
فلسطين والأقصى الجريح ملتقى يختص بالقضية الفلسطينية واقصانا الجريح ( تابع آخر الأخبار في غزة ) |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة هاني مراد تكتنف العالم العربي قوتان إقليميتان ترغبان في الاستيلاء عليه تماما، بعد الاستيلاء على أجزاء كبرى منه بالفعل. والبلدان وإن كانا تابعين للمنطقة جغرافيا، فإنهما منفصلان لغويا، وحضاريا، ودينيا، وثقافيا، وينطلقان في عدائهما للمسلمين من عقيدة عنصرية، ترى العرب أقل شأنا، وترى تفوقا للجنس الفارسي واليهودي. وإذا كانت إسرائيل تحتل فلسطين رسميا، فإن إيران تحتل الأحواز، وجزر الخليج العربي الذي تسميه الخليج الفارسي. وإذا كانت إسرائيل تتغلغل بنفوذها العالمي ومخابراتها المتقدمة في العالم العربي، فإن إيران تمتد بجماعاتها المسلحة التي يصل نفوذها إلى احتلال أجزاء من العالم العربي، مثل العراق واليمن وسورية ولبنان. ومثلما تحاول إسرائيل فرض التطبيع بكل أنواعه على العالم العربي، فإن إيران تحاول فرض مذهبها الشيعي وفرض نفوذها الثقافي على بلاد المسلمين السنّة، بل لا يوجد في طهران مسجد واحد للمسلمين السنّة. ومثلما استولت إسرائيل على فلسطين بالقوة، وشنت حروب العصابات وارتكبت المذابح وأخلت مساحات هائلة من سكانها، فإن إيران شكلت جيش المهدي وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وجماعة الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان، وعملت على تغيير التركيبة السكانية في كل الدول التي تسيطر عليها. كما اشتهر البلدان ببناء جيوش قوية وترسانات أسلحة هائلة، والتحالف مع القوى العالمية الكبرى، لمحاربة المسلمين، منذ تحالف الشيعة مع المغول والصليبيين، لمحاربة الدولتين العباسية والعثمانية، ومنذ وعد بلفور لليهود وتأسيس دولة إسرائيل فالبلدان يسعيان إلى ابتلاع العالم العربي الإسلامي كله، بعد أن ابتلعا أجزاء كبرى منه بالفعل.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() اللورد كرومر وأصول التغريب البريطاني هاني مراد يقول اللورد كرومر، أول معتمد بريطاني على مصر، في كتابه مصر الحديثة "Modern Egypt" الذي يعتبر خطة عمل شاملة للقضاء على الهوية الإسلامية: "إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية على رأس هذه البلاد (مصر) هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن، بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس." عيّن كرومر القسيس "دانلوب" مستشارا لوزارة المعارف (التعليم)، حيث حرص على خفض رواتب المعلمين من خريجي الأزهر الشريف، دون غيرهم. وفي الوقت الذي كان فيه راتب مدرس اللغة العربية أربعة جنيهات فقط، كان مدرسو التخصصات الأخرى يتقاضون اثني عشر جنيها! فأدى ذلك إلى ضعف المكانة الاجتماعية لخريجي الأزهر ومدرسي اللغة العربية الذين أصبحوا مثار سخرية زملائهم! كما حرص "دانلوب" على أن تكون حصة التربية الدينية "غير الإلزامية" في نهاية الجدول الدراسي، حتى يستقبلها التلاميذ وهم في غاية التعب والضجر. وكان المنهج عبارة عن نصوص تُحفظ دون فهم! وشجع كرومر حملات التغريب وإقصاء اللغة العربية، وما كان يعرف باسم تيار التعقيل، وعلى رأسه أحمد لطفي السيد الذي استقال احتجاجا على إقاله طه حسين بعد طعنه في القرآن الكريم، حيث كان يستخدم الصحف، مثل "المقطم" و"الجريدة" و"اللطائف المصورة" كسلاح تغريبي يدعو من خلاله إلى: - نشر الشبهات عن الإسلام. - إقصاء اللغة العربية وتشجيع اللهجة المصرية العامية. - قصر التعليم على طبقة الأثرياء. - تشجيع القومية المصرية وقطع الانتماء إلى العربية أو الإسلام. - رفض مقاومة الإيطاليين الذي احتلوا ليبيا. - مواجهة السلطنة العثمانية. - نشر اللغة الإنجليزية على حساب اللغة العربية. لكن لم تعدم مصر الشرفاء من العلماء والأفراد الذين كانوا يواجهون هذه الحملات في كتاباتهم وصحفهم.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() المسجد الأقصى هو "هيكل سليمان!" كتبه/ عبد المنعم الشحات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فيدور نقاش محموم بيْن العرب واليهود حول مَن هو صاحب الحق التاريخي في بيت المقدس؟ فبينما يتمسك العرب بأن هذا المسجد بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبقي مِن يومها في سلطان المسلمين إلى يومنا هذا - يدعي اليهود أن المسجد أقامه المسلمون على أنقاض "هيكل سليمان!". ويقومون بعمليات حفر تحت المسجد الأقصى؛ لعلهم يجدون أحجارًا تعود إلى عصر نبي الله سليمان -عليه السلام-، وبطبيعة الحال تغيب الحقائق الشرعية في خِضَم هذا الصراع بيْن القوميين العرب، وبيْن اليهود. ولذلك أردنا أن ننبِّه على الحقائق الآتية: 1- مسألة الحق التاريخي مِن المنظور الشرعي: لا يقر المسلمون أحدًا على أرض كان عليها يومًا مِن الأيام، وفتحها المسلمون (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ) (الأعراف:128)، بل إن المسلمين لا يخفون عزمهم على تحرير الأرض -كل الأرض- مِن سلطان الكافرين متى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة:193). 2- المسلمون هم ورثة جميع الأنبياء: يستوي في ذلك أنبياء بني إسرائيل وغيرهم مِن الأنبياء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ) (متفق عليه)، وقال: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (متفق عليه). 3- المسجد الأقصى بُني مسجدًا مِن أول يوم: عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: (المَسْجِدُ الحَرَامُ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟، قَالَ: (ثُمَّ المَسْجِدُ الأَقْصَى) قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ) (متفق عليه). وثمة خلاف بيْن العلماء في تاريخ بناء المسجدين؛ إلا أن الراجح أن البناء المذكور هنا في الحديث هو رفع إبراهيم -عليه السلام- للقواعد مِن البيت الحرام؛ سواء قلنا أنه هو واضعها أو أنها وُضعت قبله، وأن بناء المسجد الأقصى كان بعد بناء إبراهيم -عليه السلام- للمسجد الحرام بأربعين عامًا، وبناه يعقوب -عليه السلام- مسجدًا لبني إسرائيل يصلون فيه لله، ويوحدون فيه الله. ولا ننكر أنه مِن الممكن أن يكون المسجد في لغة بني إسرائيل آنذاك يسمى هيكلاً، وإنما المقصود بيان أن حقيقته كما بيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان مسجدًا. وقد تعرَّض بنو إسرائيل عبْر تاريخهم لأزماتٍ كانوا يفرون فيها مِن الشام، تاركين المسجد الأقصى وراءهم لأعدائهم يهدمونه ويدنسونه! ثم عندما يتوبون إلى الله ويعودون إلى الجهاد في سبيله يعزهم الله -عز وجل-، وكانت أزهى عصور مُلكهم عصر نبي الله داود -عليه السلام-، ومِن هنا حصلت العناية بالمسجد الأقصى، وتم تجديده في عهد داود وسليمان -عليهما السلام- وهو المسمَّى عندهم بـ"هيكل سليمان". ومِن عجيب أمرهم: أن سليمان -عليه السلام- الذي يطالِبون بوراثة مسجده أو هيكله -على حد تعبيرهم!- عندهم أنه ارتد وعَبَدَ الأصنام في آخر حياته -حاشاه عليه السلام مِن ذلك!-، وقد ظلوا على هذه الفرية حتى أبطلها الله في القرآن المنزَّل على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (البقرة:102)؛ فمَن أولى بوراثته -عليه السلام-؟! ثم علا اليهود في الأرض مرة ثانية فقتلوا يحيى وزكريا -عليهما السلام-، وهمَّوا بقتل عيسى -عليه السلام- بمساعدة الرومان؛ فسلط الله عليهم الرومان في سنة 70 ميلادية، أي بعد نحو أربعين سنة مِن رفع عيسى -عليه السلام- "إن صحَّ أنه رُفع وعمره قريب مِن الثلاثين"، وتسلـَّط الرومان على المسجد الأقصى وجعلوه إسطبلاً للخيول حتى فتحه المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأعادوا بناءه وتنظيفه. أما القول بأن عمر -رضي الله عنه- بنى مسجدًا في غير المكان التاريخي للمسجد الأقصى هربًا مِن الإقرار لليهود بحقهم التاريخي في المسجد الأقصى؛ فقد بيَّنا -بحمد الله- أنه ليس لأحدٍ حق تاريخي "بل ولا حالي" في أي بقعةٍ مِن الأرض؛ لا سيما التي تحت سلطان المسلمين. فإن قال قائل: فإن القوم لا يستطيعون أن يتكلموا بتلك اللغة التي إن وسعت الإسلاميين -لا سيما المتشددين منهم- فلا يمكن بحالٍ مِن الأحوال أن تسع القوميين والعلمانيين؛ لا سيما المحبين للسلام منهم! فنقول: أما العودة إلى القانون الدولي الذي يتحاكمون إليه؛ فلقد اعتبر القانون الدولي الحدود القائمة حال إنشاء "عصبة الأمم"، ومِن بعدها "الأمم المتحدة" هي الحدود المعتبرة، ولم يعترف القانون الدولي بحقٍّ تاريخي للهنود الحمر في أمريكا مثلاً، ولا اعترف بحق للهنود غير الحمر في أوروبا "وهم صانعو حضارتها"؛ حيث إن الرومان ورثوا حضارتهم عن اليونان الذين هم في أصلهم هنود، ولم يعترف القانون الدولي بأي حق تاريخي لأحدٍ؛ اللهم إلا لليهود في بلاد المسلمين! وإذا كان ولا بد مِن اعترافٍ بحقٍّ تاريخي؛ فإلى أي فترةٍ مِن فترات التاريخ سيرجعون؟! وقد بيَّنا أن أقرب واقع للمسجد الأقصى هو هروب اليهود منه مِن أمام الروم -الذين يساعدونهم الآن في اغتصابه- وتدنيسهم له، ثم مجاهدة المسلمين مِن أجله وتعظيمهم له؛ فمَن أحق به؟! فمِن هنا يتبيَّن لك عدم استحقاق اليهود لوراثة أنبياء بني إسرائيل مِن الناحية الشرعية، ومِن ناحية مبادئ القانون الدولي المزعوم، ولكن "القوميين" هروبًا مِن محاولة نقض ما يراه خصمهم مِن الثوابت، وهي وراثتهم لأي شيءٍ كان يخص بني إسرائيل في أي فترةٍ مِن فترات الزمان؛ لجأوا إلى حيلةٍ مضحكةٍ، وهي: ادعاء أن المسجد الأقصى الحالي مسجد بناه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، لا علاقة له بالمسجد الأقصى الذي كان في زمن أنبياء بني إسرائيل المسمَّى عند اليهود بهيكل سليمان! فهل يا ترى أفحمتْ هذه الكذبة المزعومة اليهود؛ فراحوا ينقبون عن أي بقايا تثبت وجود بناءٍ في هذا المكان قبْل دخول المسلمين إليه؟! إن الجميع يَعلم أن اليهود لا يعترفون إلا بمنطق القوة، ومِن ثَمَّ فإن الذي صرفهم عن هدم المسجد وبناء معبدهم الكفري المزمع إقامته تحت مسمَّى: "هيكل سليمان"، هو خوفهم مِن قوة الإيمان الكامنة في نفوس المسلمين لو استثيرت استثارة بالغة كهذه؛ ولذلك يلجأون إلى الحفريات، وإلى غيرها مِن أنواع الاعتداءات: "كالحرائق - والهدم لبعض أجزائه" كبالونات اختبارٍ للأمة، ومتى وجدوا أن الفرصة سانحة سينقضون على المسجد، ولن يردعهم أصوات القوميين الخافتة، وهم ينادون: "ليس هذا هو مكان هيكل سليمان!". ونسأل الله -عز وجل- ألا يأتي هذا اليوم، ونسأله -تعالى- أن يرزق أبناء الأمة إيمانًا وثباتًا، وأن يُلقي في قلوب أعدائنا الرعب؛ فلا يجترئون على حرماتنا. اللهم آمين.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() تاريخ فلسطين قبْل الإسلام كما يرويه المؤرخون كتبه/ أحمد عبد الحميد عنوز الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فحينما نتعامل مع تاريخ "فلسطين"؛ فإننا نتعامل مع مادة شديدة الثراء، ويكون مِن عدم الموضوعية الادعاء بالوصول إلى نتائج عميقة شبه قطعية دون تكلُّف النظر العميق والتحليل، وفك الأحداث وإعادة تركيبها وضمها إلى بعضها مستخلصين مجموعة مِن النتائج المفيدة في فهم القضية. لذا فإننا سنمر مرورًا سريعًا على تاريخ فلسطين كما رواه المؤرخون؛ لنعرف ما يقول القوم، ومِن أي خلفية يتحركون، وسنقف وقتًا أطول مع التاريخ الذي رواه المسلمون عن هذه البلاد، ومنه بالقطع وقائع ثابتة منقولة عن الثقات، ومنه ما ثبت بالوحي المعصوم. وسيكون كل ذلك بلا ادعاء متكلف كما يفعل البعض مِن جمع بعض القصاصات إلى بعضها، ثم التفاخر -مثلاً- بأنه توصل إلى حقائق تاريخيةٍ مِن شأنها أن تقلب الصراع العربي الإسرائيلي رأسًا على عقب! تعتمد أغلب الدارسات التاريخية على نواحٍ مادية مِن حفريات وآثار باقية، ووثائق يمكن الاستئناس بها -كما سبق وبيَّنا-، ولكن دون انتحال نتائجها كمسَلَّماتٍ قطعيةٍ لا تجوز مناقشتها. ومِن جملة ذلك: أنهم يقسِّمون التاريخ القديم إلى عصورٍ باعتبار نوع المادة التي صُنعت منها الآلات المستخدمة فيه: "كالعصر الحجري - والبرونزي - والحديدي - والنحاسي". ولا عجب أن تجد في بلاد فلسطين مجموعة مِن الآثار التي تدل وفق قواعد الدارسين الغربيين على وجود حياة في هذه البقاع فيما يسمَّى بالعصر الحجري القديم، منذ 500 ألف سنة قبْل الميلاد، والرقم كما ترى به نوع مِن المجازفة التي تُلقي عليه بظلال الشك -كما سبق وبيَّنا-؛ فلا طائل إذن مِن مجرد الوقوف مع معلومات كهذه، ولنقفز إلى تاريخ أقرب نوعًا؛ وهو بدايات الألف الثالثة قبْل الميلاد حيث تدور أغلب نتائج الدراسات حول هجرة العديد مِن القبائل والبطون العربية وغيرها إلى بلاد الشام، حيث كانت البلاد -ولا زالت- تنعم بأنواعٍ مِن الخيرات جمة. وممن يُذكر اسمهم في هذه الهجرات: "العموريون - والكنعانيون - واليبوسيون"، ويرى كثيرٌ مِن المؤرخين أنهم مِن البطون والقبائل العربية، وأن مدينة "القدس" القديمة أنشأها "اليبوسيون" وأسموها: "يبوس"، ثم حولوا اسمها إلى: "أور سالم" وهو مِن ملوكهم، وهو الاسم الذي تحول بعد ذلك إلى "أور شاليم"، أي "مدينة سالم" أو "مدينة السلام". و"كنعان" هو جد بطن مِن بطون العرب القديمة، وتشير كتب أهل الكتاب إلى أنه الابن الهالك لنوح -عليه الصلاة والسلام-، والذي يشار إليه أحيانًا باسم "يام"، وليس "كنعان". ويبدو أن القبائل الكنعانية هي أكثر مِن استوطن "فلسطين" وشكلت سكانها الأصليين؛ بحيث عُرفتْ فلسطين باسم أرض كنعان، والتي مِن مدنها القديمة المعروفة مدن: "القدس - وأريحا - وبلاطة - ونابلس - وعسقلان - وحيفا - وغيرها... "، وإلى هذا يستند مَن ينادون بعروبة فلسطين، وأن سكانها الأصليين هم العرب، وأن بني إسرائيل هم مَن طرأوا عليهم بعد ذلك؛ مما يعطي للموضوع طابعًا قوميًّا وطنيًّا، بينما يدور كلام اليهود أن الأرض وعد إلهي لشعبٍ مختارٍ؛ مما يعطي الأمر طابعًا دينيًّا ينتحله حتى العلمانيون مِن اليهود. ومما يُذكر ضمن أحداث الألف الثانية قبْل الميلاد، هو صعود وهبوط حكم الهكسوس على هذه البلاد، وانتهاء الأمر إلى حكم الفراعنة. وكذلك مِن أهم أحداثها: هجرة قبائل مِن العمالقة أقوياء الأجساد، متطوري الأدوات الحضارية والحربية، جاءتْ مِن جزيرة "كريت" في البحر المتوسط لتسكن أرض كنعان وتستقر فيها، وتترك فيها آثارًا تشير إلى أن هذه القبائل كانت تُدعى "البلست"؛ مما يشير إلى السبب في تغلب اسم "فلسطين" على هذه الأرض بعد ذلك. وهنا نبيِّن أمرًا يوضِّح لنا طبيعة هذه الدراسات حتى يمكننا القياس على هذا النموذج: إن السبب الذي دعا المؤرخين للتأكيد على وجود قبائل "البلست" هذه في أرض فلسطين، ومِن ثَمَّ استنتاج سبب التسمية بفلسطين على غير الشائع قديمًا؛ هو ما عثر عليه مِن آثار في بلاد فلسطين وتطابقها مع آثار عُثر عليها في هذه الجزر المتوسطية، كجزيرة: "كريت"، ومِن أهم هذه الآثار: "الأواني الفخارية المستخدمة"؛ مما رجح عندهم حدوث هذا الانتقال مِن جزر المتوسط إلى أرض كنعان. وبشيءٍ مِن النظر يمكنك الوصول إلى احتمالاتٍ أخرى توضِّح سبب التواجد المشترك لهذه الأدوات في الأرضين، ومنها التبادل التجاري فحسب -على سبيل المثال-، بل وبسهولةٍ شديدةٍ يمكنك أن تقلب الصورة وتدعي بأن الحضارة في أرض كنعان كانت أقوى وأكثر تقدمًا، ومِن هذه البلاد خرجت قوات غازية؛ فاحتلت جزر المتوسط، ونشرت فيها ثقافتها، ومنها صدرتها إلى بقية بلاد الرومان. وما سبق هو مجرد نموذج لما تسير عليه الخلافات التاريخية التي لا تستند إلى حقائق محترمة موثوق بها؛ لذا لا تملك أمام كثيرٍ مِن هذه المعلومات إلا أن تقول: "ربما!". ومِن أبرز أحداث هذه الفترة: قدوم إبراهيم ولوط -عليها الصلاة والسلام- إلى أرض فلسطين بعد هجرتهما لقومهما، حيث وعد الله إبراهيم -عليه السلام- أن يكثِر ذريته، وأن يملكها الأرض لتعبده عليها، ومَن كفر؛ فإن الله غني عن العالمين. وهذا هو الوعد الذي يستند إليه اليهود في أحقيتهم بالأرض بغض النظر: هل هم مستحقون له بالفعل أم أنهم ممن كفر بالله، واستغنى الله عنه؟! وكذلك مِن أبرز أحداث هذه الفترة: بناء الكعبة، وبيت المقدس على الخلاف المعروف: فيمَن يعتبر أول مَن بنى الكعبة، وبيت المقدس؟ ومَن رفعهما بعد ذلك، أو جددهما وأعاد بناءهما؟ ومتى حدث كل ذلك؟ ثم تأتي الألف الأولى قبْل الميلاد، وفيها تتضح الأحداث بعض الشيء، وتزداد الدلائل التاريخية وضوحًا مقارنة بما سبق، ومِن أبرز أحداث هذه الألف: قيادة موسى -عليه الصلاة والسلام- لبني إسرائيل للخروج مِن مصر، والدخول إلى الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، والتي كان يسكنها الجبارون "البالست"، ويقص علينا القرآن كيف امتنع اليهود عن دخول الأرض المقدسة ونكصوا عن أمر نبيهم، وقالوا: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24). ثم الدخول الفعلي لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد موسى -عليه الصلاة والسلام-، ثم قيام مملكة داود -عليه الصلاة والسلام-، والذي يعتبره اليهود المؤسس الحقيقي لدولتهم على أرض فلسطين؛ حيث فتح "القدس"، وحررها مِن أيدي الكفرة والمرتدين، وأعد العدة ليبني "بيت المقدس" مرة أخرى، ولكنه قُضي قبْل أن يتمه؛ فعهد به إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام- ليتمه على أحسن وجه ليكون مسجدًا لله -سبحانه-، لكن مع الآلة الدعائية الصهيونية يتحول اسم المسجد إلى الهيكل أو المعبد أو خيمة الاجتماع؛ بحيث تطغى هذه المسميات على أدبيات وصف "الصراع" بيْن اليهود والمسلمين. ثم تتوالى الأحداث بعد ذلك بصورة يمكن الاقتراب منها أكثر حيث قرب العهد -ولو نسبيًّا-؛ بالإضافة إلى توفر المدونات التاريخية، والتي مِن بينها: "التوراة المحرفة" التي تداولها اليهود، والتي تعد مرجعًا لكثيرٍ ممن تصدَّى لدراسة التاريخ. وهنا -أيضًا- نموذج آخر لطبيعة خلافات دارسي التاريخ؛ حيث يميل بعضهم إلى التصديق التام لكل الأساطير المكذوبة التي وردتْ في "التوراة المحرفة" إيمانًا بها، ومحاولةً للاستدلال عليها بالأدلة المحايدة، في الوقت الذي يذهب الكثيرون إلى إنكار أكثر ما جاء فيها بما في ذلك القصص الثابت بالفعل، كقصة حبس الشمس لـ"يوشع بن نون" باعتبارها أسطورة أخرى أضافها بنو إسرائيل تمجيدًا لملوكهم وقادتهم! وأخيرًا: فبعد موت سليمان -عليه الصلاة والسلام- دخل بنو إسرائيل مرحلة الانقسامات السياسية، والردة الدينية المتكررة حتى دخلتْ فلسطين تحت حكم الآشوريين القادمين مِن العراق ثم مِن بعدهم البابليين، ومرحلة السبي البابلي، ثم الفرس، ثم اليونان، ثم السلوقيين، ثم في النهاية الرومان حوالي عام 64 ق.م؛ الذين ظل حكمهم على فلسطين ومصر، إلى أن جاء النور على أيدي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عن أصحابه؛ فأزالوا الرجس عن هذه البلاد في عام 636م. وفي هذه الفترات التي تعاقبتْ فيها الإمبراطوريات المختلفة على فلسطين تعرضت البلاد والمسجد الأقصى إلى التدمير والإحراق والتخريب أكثر مِن مرة؛ بحيث لم تسلم بقعة مِن هذه الأرض مِن تغيير معالمها وسكانها واسمها، وكان أبرز هذه التخريبات: ما وقع على يد الإمبراطور الروماني "هادريان" حوالي عام 130م حيث خرَّب مدينة "القدس" كلها، وغيـَّر اسمها إلى إيلياء، وهو مِن كلمة "إيليوس" وهو لقب عائلة هادريان. وقد أقام فيها هادريان معبدًا وثنيًّا لـ"جوبيتر" إله الرومان الرئيسي في نفس مكان المسجد، أو ما كان يسميه اليهود الهيكل الذي بناه سليمان -عليه الصلاة والسلام-.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() زيادة الصراع الدولي على أفريقيا بسبب الأزمة الأوكرانية كتبه/شريف ربيع لا تزال الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلالها على العالم أجمع، وتتوالى تطورات الوضع بمرور الوقت، خصوصًا في ظل موقف أوروبا الداعم لحكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتقديم مختلف أنواع الدعم من علاج وغذاء، إضافة إلى الأسلحة المتعددة، ومحاولات عزل روسيا وإخراجها من النظام المالي العالمي "سويفت"؛ ما يعد بداية حرب اقتصادية شاملة. وبطبيعة الحال فإن هذه الحرب سيكون لها تأثيرات على كثير من الأوضاع على مستوى العالم، تتمثل في الانعكاسات السياسية من خلال الاستقطاب وما يتبعه من ضغوط على بعض الدول، وخلافات كان أول مثال عليها ما حدث في مجلس الأمن منذ أيام حينما فشل في إيجاد موقف دولي موحد تجاه الأزمة الأوكرانية بعد أكثر من أسبوع على بدء العمل العسكري الروسي. وتتمثل تلك التأثيرات في الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها العالم لا سيما الدول والشعوب الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأوروبا نتيجة للأزمات المتوقعة بشأن توفر السلع الأساسية، خصوصًا مع التهديد الروسي باستخدام السلاح النووي ووضعه على أهبة الاستعداد؛ ما يجعل العالم كله يتوجس خيفة مما ينتظره من مصير مظلم إذا اتسع نطاق هذه الحرب. القرن الأفريقي منذ فترة طويلة وقارة أفريقيا خاصةً منطقة القرن الأفريقي –التي تشمل دول الصومال وإثيوبيا وإريتريا وجيبوتي- تمثل بؤرة كبيرة للصراع والتنافس بين الدول الغربية، ودخلت على الخط روسيا، وتعد تلك المنطقة ساحة للحرب الباردة الحديثة بين واشنطن وموسكو، وسط تبادل استهداف المصالح الاقتصادية والطرق الحيوية من كلا الطرفين؛ وهذا كله بسب موقع أفريقيا الجغرافي وما يتوافر بها من ثروات طبيعية. ولقارة أفريقيا أهمية كبرى لدى روسيا خاصةً في ظل تطورات هجومها العسكري على أوكرانيا، وبالتزامن مع التنافس الدولي على تلك القارة، والحديث عن هذه الأزمة خصوصًا ما يتعلق بمنطقة القرن الأفريقي لا بد أن يشمل التنوع السكاني والثقافي والديني بين شعوب هذه المنطقة، وتاريخ العداء بين تلك الشعوب والدول الغربية التي احتلتها سابقًا. والأزمة الأوكرانية الحالية إذا طال أمدها سينتج عنها استقطاب في أفريقيا ودول العالم الثالث كالذي حدث إبان الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا خلال القرن الماضي؛ أي أن ولاء الدول الأفريقية سوف ينقسم بين موسكو والغرب بقيادة واشنطن، والحرب الروسية الأوكرانية ستكون بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية؛ لما سوف تخلفه من آثار وتداعيات كبيرة على مستوى العالم ورغم أن أفريقيا مسرح تنافس دولي منذ القدم فإن روسيا استطاعت في الآونة الأخيرة إحداث تغييرات حقيقية؛ فقد قللت من نفوذ فرنسا وبريطانيا (قطبي العالم قديما قبل ظهور أمريكا على الساحة الدولية)، وبدأت موسكو في بناء نفوذها الحديث في شرق وغرب ووسط أفريقيا معتمدة على علاقات سابقة لها إبَّان عهد الاتحاد السوفيتي، واستفادت كذلك من التمرد الأفريقي المتصاعد ضد الدول الأوروبية التي احتلت أفريقيا لعهود طويلة، وحالة الرفض الشعبي لدى أفريقيا تجاه تلك الدول؛ ومن ثَمَّ استطاعت موسكو إيجاد موطء قدم لها في تلك القارة. زيادة التسابق الدولي وسوف تؤدي تطورات الأزمة الأوكرانية الحالية إلى زيادة التسابق الدولي على القارة الأفريقية لا سيما منطقة القرن الأفريقي؛ لأن اهتمام روسيا بتلك المنطقة لا يتوقف فقط على البعد الاقتصادي وأنها تعد سوقًا واعدة لبيع السلاح، بل يتسع اهتمامها ليشمل البعد الأمني الناجم عن حرصها على زيادة وجودها على سواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب، وتقوية نفوذها في تلك المناطق؛ وبِناءً على ذلك ستشمل تحركاتها السودان وكينيا وإثيوبيا وإريتريا والصومال وغيرهم من البلدان، وسوف تسعى جاهدة لإنشاء قواع عسكرية لها في العديد من البلدان الأفريقية؛ وكل هذه التحركات تهدف موسكو من ورائها عدم محاصرتها بواسطة التحالف الأمريكي الغربي في مناطق نفوذها الجديدة والقديمة. ولا يخفى علينا أن تحركات روسيا في القارة الأفريقية تتم بالتنسيق مع الصين، وفي غيرها من المناطق أيضًا من أجل خلق تحالف قوي يقابل التحالف الغربي، هذا بالإضافة إلى أهمية منطقة القرن الأفريقي سواء في البحر الأحمر أو خليج عدن والمحيط الهندي، وتحكمها في مضيق باب المندب وأهم الممرات المائية في العالم من الناحية التجارية والعسكرية؛ وكل تلك العوامل تضع المنطقة في دوائر الاهتمام الروسي والغربي والأمريكي؛ وبالتالي تكون عرضة لأي تجاذبات وصراعات دولية.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() بين التاريخ والجغرافيا... مقدمة لابد منها كتبه/ أحمد عبد الحميد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فقبل الشروع في بيان بعض أهم الجوانب التاريخية حول القدس لابد من بيان بعض المقدمات الهامة لفهم طبيعة التعامل مع مثل هذه الملفات وغيرها، لاسيما مع كثرة المعلومات المتوفرة التي تنطوي على أنواع من التناقضات التي تلقي ظلال الشك عليها جميعا إلا ما كان مصدره من وحي معصوم. وقد حظيت قضية القدس وفلسطين بقدر لا بأس به من ذلك كله بطبيعة الحال. وأول هذه المقدمات عن العلم الذي لا ينفع: فيولي الدارسون للتاريخ والجغرافيا أرض الشام عناية فائقة، إذ أن هذه الأرض منذ فجر التاريخ كانت ولا تزال محط رحال الكثيرين، وقامت حولها حضارات عدة على اختلاف أجناسها وألوانها، ولا عجب في ذلك فالأرض بها بقعة مباركة وخيرات، وهي ذات موقع يعتبر محوريا بالنسبة لبقاع الدنيا. وأكثر الدارسين للتاريخ والجغرافيا عموما يعتنون بنوعية من المعلومات تعتبر غير ذات قيمة كبيرة بالنسبة لنا نحن المسلمين، شأنهم كشأن كثير من الدارسين لأنواع من العلوم لا طائل تحتها، ولا تفيد في دنيا ولا أخرى؛ إلا نوعا من التباهي بمعلومات طريفة، والتظاهر بعلم عميق هو في حقيقة أمره أشبه بفضول الأطفال. فبينما العالم تأكله المجاعات والحروب تجد أعدادا كبيرة من أصحاب القبعات يطوفون الأرض بحثا عن إناء فخاري أو قطعة من الحجر، أو نوعا من الصخور ثم إذا بهم يهتفون بانتصار علمي جديد مفاده أن ديناصورا ما قد مر من هنا، أو أن على هذه الأرض قد عاش إنسان طويل القامة نوعا، أو أن صديقا مريخيا ترك بعض الآثار هنالك، أو أي شيء من هذه السخافات التي يفترض أن يقف العالم معها مشدوها متقطع الأنفاس حامدا الله على أن ساق له هذه المعجزات العلمية لتنقذه في الوقت المناسب بعد أن كاد يهلك. والإشكال أن تنحرف صورة العلم شيئا فشيئا وتصير هذه الأمور بمثابة المسلمات التي يلحق الذم بمن أنكرها أو تشكك فيها، بل وتسن القوانين الدولية وفق هذه التصورات الساذجة. ونموذج أرض الميعاد اليهودية والحق التاريخي في الأرض واحد من هذه النماذج، حيث تجد الحجج التي تساق في مثل هذه القضية هي مجموعة من الأحجار والأواني الفخارية والتراكيب الجيولوجية التي لا تدع مجالا للشك بأن هذه الأرض كانت ملك الجنس الفلاني أو العلاني، وهذا بالطبع مع بعض الحديث عن أنواع الأشعة المتطورة المستخدمة في الأبحاث، وكذلك الكربون المشع، مما يعطي الأمر طابعا علميا مهيبا يجعلك تسلم بلا جدال. وكأنه لو سلمنا مثلا بأن هذه الأرض سكنها بنو إسرائيل منذ آلاف السنين فينبغي علينا نحن المسلمين أن نترك لهم المسجد والأرض ليفعلوا بهما ما يشاءون، بينما نقف فخورين بروحنا العلمية المحايدة، أو لو سلم اليهود لنا بأن العرب الكنعانيين هم أول من سكن الأرض فسيعاملوننا بذات الطريقة. وهذا يقودنا إلى المقدمة الثانية؛ وهي أن الأرض لمن عبد الله عليها: إن الحق الذي لا مراء فيه أن بني آدم كلهم لآدم وحواء، رجل وامرأة وتفرق أبناؤهم في الأرض بعد ذلك، وقبل أن يوجدا لم يكن هناك بشري على الأرض، ولم يكن يحق لأحد الحديث عن ملكيته لهذه البقعة أو أحقيته في تلك. أهبط آدم وذريته لعبادة الله وإعمار الأرض بذلك، وجعل الله لهم الأرض متاعا إلى حين، ثم يعودون إلى ربهم وتبدل الأرض غير الأرض (قَالَاهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه:123-124)، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)(البقرة:36). فمن السخف إذاً الانشغال بمثل هذه التفاهات التي تجعل من الإنسان الضعيف العاجز سيدا للكون يتصرف فيه كما يشاء بالمنع والمنح. الحق الذي لا مراء فيه أن الأرض لمن عبد الله عليها، ومن غيـَّر أو بدل فالسنن لا تحابي أحدا (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)(الإسراء:7). وكما هو واضح من الآيات فإن الوجه الرئيسي للصراع على ظهر الأرض هو الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، بين الخير والشر كما يحلو للبعض التعبير. فلا مجال حينئذ للادعاء بأن الصراع بالأساس هو صراع اقتصادي أو اجتماعي أو جنسي وفقا للنظريات المتعددة التي صيغت بهذا الصدد. ولا شك أن البحث عن الموارد والرغبة في التملك كانا وقودا لكثير من الصراعات عبر التاريخ، ولكن المحرك الرئيسي للصراع هو الرغبة في الإفساد من قبل الشيطان وأعوانه، وما يقابل ذلك من الرغبة في الإصلاح من قبل أولياء الله. والمقدمة الثالثة هي عن منهجية التعامل مع التاريخ: يتعامل البعض مع التاريخ وكأنه رواية مسلية محبوكة متصلة الحلقات، بينما الواقع عكس ذلك، فتدوين التاريخ والاحتفاظ بالحقائق دون تشويه؛ يعد من أصعب الأمور، بل إن أغلب حلقات التاريخ غير مكتملة بالنسبة لنا، الأمر الذي يجعل طوائف كثيرة من المؤرخين تحاول سد هذه الثغرات بأنواع من الاستنتاجات يكون مردها إلى المكون الفكري للمؤرخ وطبيعة فهمه للأمور، وحتى على مستوى كل أمة بعينها فإن كتابة التاريخ تكون محكومة بالعديد من العوامل من بينها كون هذه الأمة مهزومة أو منتصرة مصونة الجوانب، وما يتبع ذلك من قدرتها على الاحتفاظ بمدوناتها دون أن تصل لها يد التحريف أو الإتلاف، وكذلك جوانب النهضة الفكرية والثقافية، ومدى أهلية من يتصدى لكتابة التاريخ، فضلا عن مدى حياديته وبعده عن لي أعناق الحقائق تحقيقا لأغراض معينة. وهذا الأمر الأخير يعد من أهم الاعتبارات التي يجب أن ينتبه لها كل دارس للتاريخ، وهو أن التاريخ في حقيقته هو سلسلة من الصراع، وإدراك طبيعة هذا الصراع يتوقف على رؤية الإنسان للحياة ومعتقداته فيها، الأمر الذي يتباين فيه الناس تباينا كبيرا. وكم من مؤلفات وبحوث صيغت وأقيمت حولها الندوات والمؤتمرات ليتضح في النهاية أن وراء هذه الأبحاث خلفية تسعى إلى تأكيد فكرة معينة بغض النظر عن مصداقيتها، أو أن هناك تمويلا ماليا يدفع نتائج هذه الأبحاث في اتجاه معين أو غير ذلك من الوسائل التي تؤثر في نتائج الأبحاث العلمية. وموضوع القدس بالذات حظي بقدر كبير جدا من التلاعب والدس في حقائق التاريخ، بل والجغرافيا كذلك، الأمر الذي يدعو الخائضين فيه من المسلمين إلى أن يتحسسوا مواطئ أقدامهم وألا ينزلقوا في التعاطي مع هذه الأمور وفق الرؤى الصهيونية التي صبغت العالم نتيجة للآلة الإعلامية اليهودية، والنفاق الأوروبي والأمريكي لليهود. فينبغي الانتباه إلى أن المنهجية الإسلامية في التعامل مع القضايا التاريخية تعتمد على قواعد وضوابط صارمة لا تتيح فرصة للأخبار المكذوبة أو الباطلة لاسيما في الأمور التي يترتب عليها أحكام شرعية، وإلا فأخبار التاريخ الغرض الأساسي منها هو الاتعاظ والاعتبار وقراءة السنن الكونية والشرعية قراءة سليمة. وبرغم ذلك فإنه لم يسلم حتى التاريخ الإسلامي من الكذب والتدليس والوضع لذا كان الواجب الانتباه لذلك حيث لم يتعامل كل المؤرخين مع التاريخ بنفس القواعد الصارمة التي وضعها علماء الحديث للحكم على المرويات، وبرغم هذا أيضا فإن التاريخ المدون لأمة الإسلام يعتبر أنقى وأفضل ما دون من تواريخ حتى على المستوى الفني للصنعة التاريخية؛ لأنه بقي في الأمة -بفضل الله- من يأتي على الأخبار فينخلها نخلا ولا يترك كذبة لتروج على الأمة فـتـُحرِف رؤيتها لأمر من الأمور. وأما عن أخبار الأمم السابقة التي اندرست معالمها فيستحيل تحصيلها بطريقة سالمة من الكذب والتضليل والدس؛ إلا إذا كانت من خلال وحي معصوم، أو نقل ثقة بطريقة منضبطة، والأمران لا يتحققان في غالب هذه الأخبار، حيث إن ما وردنا من طريق الوحي يقتصر على جوانب الاتعاظ والاعتبار، وهو العلم النافع في الدنيا والآخرة. قال -تعالى-: (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(هود:120)، وقال -تعالى-: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا . مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا)(طه:99-101)، (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(يوسف:1-3). فالغرض من قصص القرآن هو التنبيه من الغفلة، وهكذا ينبغي أن يكون كل قصص، وأما ما يروى من أخبار أهل الكتاب التي لا يـُعلم صدقها أو كذبها فإنها لا تصدق ولا تكذب، ويمكن الاستئناس بها، وكذا يمكن الاستئناس بنوع من الأخبار التي ترِد عن الأمم الأخرى بحيث لا يكون بها ما يخالف الثابت من الشرع أو ما يعارض الحس السليم. وعلى كل فلا ينبغي الانشغال بأمور تاريخية درست، ويمكن تجاوزها، بل لا نبالغ حين نقول إننا دوما نملك إمكانية البدء من جديد في التعامل مع الواقع دون النظر للخلفيات التاريخية والجغرافية.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() سقوط بيت المقدس كتبه/ علاء بكر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد استطاع المسلمون تحرير بيت المقدس مِن قبضة البيزنطيين الأوروبيين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وظلت القدس بعده -ولقرونٍ عديدة- ينعم بالسلام والأمان مَن فيها مِن المسلمين وغيرهم، ولما ضعفت الدولة العباسية بضعف خلفائها وضعف قبضتهم على ما تحت أيديهم؛ ظهرتْ نزعات انفصالية أقامت دويلات وإمارات مستقلة تدين اسمًا للخلافة، وتتحكم بالفعل فيما تحت أيديها مِن البلاد، وتتقاتل فيما بينها على الحكم والإمارة، وقد ترتب على ذلك تفكك الأمة وتفرق أجزائها فطمع فيها أعداؤها. فكانت الدولة "الطولونية" ثم الدولة "الأخشيدية" في مصر حتى دخلها الفاطميون، وكانت الدولة "الحمدانية" في حلب، ودولة "السلاجقة" في بغداد، وظهرت الدولة "السامانية" في شرق فارس، ثم الدولة "البويهية" في غربها، والدولة "الغزنوية" في أفغانستان والهند، وانتهزت أوروبا الفرصة لاحتلال الشام مِن جديدٍ واغتصاب بيت المقدس. بدأت الحملات الصليبية على الشام مِن عام "490هـ -1096م"، بتحريض مِن الباباوات، واستجابة مِن ملوك أوروبا، وقد استطاع الأوربيون حشد الجموع الكبيرة والتوجه بها إلى بلاد المسلمين الذين انشغل أمراؤهم بالصراع بينهم، وعجز الخليفة العباسي عن توحيد صفوفهم. يقول المؤرخ البريطاني "مونتجمري وات": "إنه في نهاية القرن الحادي عشر لم يكن هناك حكم مسلم قوي في المناطق التي هاجمها الصليبيون، بل كان هناك عددٌ مِن الحكام المحليين الصغار الذين أنفقوا الشطر الأول مِن وقتهم وطاقتهم في قتال جيرانهم"(1)، "وقد كان المسلمون -لو تكاتفوا- قادرين على إبادة هذه الجيوش الصليبية القادمة مِن أماكن بعيدةٍ ومتفرقة، وقد انتصر المسلمون قديمًا على أضعاف هذه الأعداد، ولكن ميراث الشك والعداوة بيْن حكام المنطقة، والتي غرسته وأنبتته طوال القرن السابق حروب ودسائس ومنازعات سادت المنطقة؛ جعل المسلمين عاجزين عن مواجهة قوات الصليبيين"(2). لقد حشدت أوروبا جموعها وزحفت إلى الشام علنًا، ولم يتحرك المسلمون لذلك، ولم يعدوا له العدة اللازمة؛ فبدوا وكأنهم فوجئوا بالصليبيين الغزاة، وتركوا كل صاحب بلد يقف بمفرده أمامهم، وقد خبت روح الجهاد فيهم، وتعلقوا بما في أيديهم مِن حطام الدنيا، حتى ظهر فيهم مَن يتألف هؤلاء الصليبيين بعد ذلك، ويستعين بهم في قتال إخوانه المسلمين، ونجح الصليبيون الغزاة في تكوين إماراتٍ لهم بالشام في "الرها" و"أنطاكية" و"طرابلس"، واتخذوها مراكز ينقضون منها على بلاد المسلمين حولهم، واستطاعوا فتح بيت المقدس في عام "492هـ - 1909م"، وارتكبوا يوم فتحه فظائع وشنائع يندى لها الجبين فأبادوا أهلها؛ لم يرحموا طفلًا أو امرأة أو عجوزًا، وأصبحت دماء المسلمين أنهارًا، وظلت الجثث مطروحة في الطرقات لا تجد مَن يواريها حتى تعفنت وفاحت رائحتها، وأبيحت المدينة للسلب والنهب عدة أيام. قال ابن كثير -رحمه الله-: "لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين مِن شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة(3) أخذت الفرنج -لعنهم الله-، بيت المقدس -شرفه الله-، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد مِن ستين ألف قتيل مِن المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرا"(4). ونقل عن ابن الجوزي قوله: "وذهب الناس على وجوههم هاربين مِن الشام إلى العراق، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة العباسي والسلطان"(5). "فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا"(6). "وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرِّضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل، وغير واحد مِن أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(7). دور الفاطميين في سقوط القدس: لم يكن ضعف خلفاء الدولة العباسية وتنافس الحكام والأمراء على الأطماع الدنيوية وإخماد روح الجهاد في النفوس فقط وراء سقوط القدس، بل كان للفاطميين دور كبير وراء هذا السقوط، والفاطميون يُنسبون أنفسهم إلى فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- وذلك مِن خلال انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقد افترق الفاطميون عن الشيعة الاثنى عشرية في إسماعيل هذا، فعند الاثنى عشرية أن الإمامة كانت لموسى الكاظم بن جعفر الصادق، ويجعلها الفاطميون في أخيه إسماعيل، وقد اختلف المؤرخون في صحة نسب مؤسس الدولة الفاطمية عبيد الله بن الحسين بن أحمد الملقب بالمهدي. ويرى المحققون منهم أن هؤلاء العبيديين كاذبون فيما زعموا مِن النسب، وإذا كان ثمة خلاف في صحة نسب هؤلاء الفاطميين فقد اتفق الجميع مِن أهل السُّنة، بل والشيعة الاثنى عشرية على فساد المذهب الإسماعيلي وخروجه عن الإسلام، وأنهم كفار وزنادقة، وبلغ بهم الكفر ادعاء الربوبية والألوهية في بعض أئمتهم! وقد تمكن الفاطميون مِن إقامة دولة كبيرة لهم، استولت على شمال إفريقيا والمغرب العربي ومصر، وبسطت نفوذها على الشام والحجاز، واتخذت مِن القاهرة عاصمة لها، والتي بناها جوهر الصقلي للمعز لدين الله الفاطمي الذي دخل مصر وأقام بها منذ عام 362هـ، وقد سعى غلاة الشيعة الفاطميون إلى إضعاف الأمة وإفسادها، وساهموا في دخول الصليبيين الشام وبيت المقدس، وتمكينهم فيها بعدة أمور. منها: 1- حرص حكام الدولة الفاطمية على إفساد عقيدة الأمة، ومحاولة فرض المذهب الشيعي الإسماعيلي بالقوة تارة، وبالإغراء تارة، ولم يتوانوا عن قتل علماء أهل السُّنة وفقهائهم، وسب الصحابة على المنابر، وادعاء الألوهية لبعض حكامهم، ومعلوم أن الأمة تقوى بتمسكها بعقيدة سلفها الصالح، وتضعف بالبُعد عنها. 2- حرص هذه الدولة على هدم الخلافة العباسية وإضعافها باقتطاع جزءٍ كبيرٍ منها، واستعداء أعدائها عليها، ومعاداة مَن يواليها مِن الحكام والأمراء. 3- حرص هذه الدولة على عزل مصر وشمال إفريقيا عن إخوانهم في الشام خلال غزو الصليبيين للشام، فلم يجد الصليبيون المقاومة القادرة على ردهم. 4- لم يشترك الفاطميون في رد الصليبيين وقتالهم رغم شدة الخطب، قال صاحب النجوم الزاهرة: "ولم ينهض الأفضل -قائد جيوش الفاطميين- بإخراج عساكر مصر، وما أدري ما كان السبب في عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال؟!"(8). أما ابن الأثير فقال عنهم: "إن أصحاب مصر مِن العلويين -يعني الشيعة الفاطميين- لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام حتى غزة... خافوا فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها"(9). ويقول مؤلفا "الطريق إلى بيت المقدس": "إن الفاطميين كانت لهم مراسلات وسفارات مع هؤلاء الصليبيين الغزاة، حيث أرسلوا إلى معسكر الصليبيين عند أنطاكيا عام 492هـ، يعرضون عليهم اقتراحًا يتضمن اقتسام أملاك السلاجقة المسلمين، فيكون للصليبيين أنطاكيا وشمال الشام، ويكون للفاطميين فلسطين!"(10). وقد فطن المخلصون مِن هذه الأمة إلى هذه الأمور: فعالجوها، واستطاع "عماد الدين زنكي" وابنه "نور الدين محمود"، ومِن بعدهما "صلاح الدين الأيوبي" أن يبثوا روح الجهاد مِن جديدٍ، ويوحدوا مصر والشام، ويسقطوا الدولة الفاطمية، ويعيدوا ولاء المسلمين شرقًا وغربًا للخليفة العباسي في بغداد، ويعدوا الجيوش الكبيرة القادرة على صد الصليبيين ودفع شرورهم، ثم إخراجهم مِن ممالكهم، وتحرير القدس مِن أيديهم -ولله الحمد والمنة-. وما أشبه الليلة بالبارحة لو فطن لها مخلصو الأمة ومصلحوها. ولله الأمر مِن قبْل ومِن بعد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) "السلطان صلاح الدين": مركز السيرة والسُّنة -المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1425هـ - 2004م، ص:16 نقلًا عن: "800 عام على حطين صلاح الدين" ط. دار الشروق 1987م. (2) "الناصر صلاح الدين بطل حطين". أ د. حمزة النشرتي، الشيخ/ عبد الحفيظ فرغلي، أ د. عبد الحميد مصطفى - جـ1/29- 30. (3) وذلك قبْل ميلاد صلاح الدين الأيوبي بأربعين سنة. (4، 5، 6، 7) "البداية والنهاية لابن كثير" طـ. دار الغد العربي، المجلد السادس: ص:649- 650. (8) "السلطان صلاح الدين" مركز السيرة والسنة، ص:16 نقلاً عن ابن تغر بردي في النجوم الزاهرة جـ5/ ص:147. (9) المصدر السابق: ص17 نقلاً عن الكامل لابن الأثير في حوادث سنة 491هـ، وانظر الحروب الصليبية لسعيد عاشور جـ1/ ص:176. (10) "الطريق إلى بيت المقدس" د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار التوزيع والنشر الإسلامية -القاهرة- ط. الثانية جـ1/ ص:68.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ألا إن نصر الله قريب إن الناظر في أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد من المصائب التي حلت بأمة الإسلام ما ينقبض له صدره، ويتفطَّر له فؤاده. وهذا الهم علامة تدل على إيمان المتحلِّي به، وصدق ولائه للمسلمين؛ إلا أن بعض أولئك الغيورين، ربما أشجاه الحُزْنُ بغُصَّته؛ لكثرة ما يسمع من هاتيك الخطوب وتلك النوازل، فساوره شيءٌ من اليأس من ظهور الدين الحق على الدين كله، وهذا موطئ منكرٌ في الدين، ومغْمَزٌ يَبْهَجُ له العدو ويفرح. وفي هذا المقال ذكرٌ لبعض ما يجب التعامل به في مثل هذه النوازل؛ فأقول: أولاً: لنعلم يقيناً لا شك فيه، أن الله - سبحانه - ناصرٌ دينه والمؤمنين، كما قال - تعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. لكنَّ الله - سبحانه - يؤخر النصر؛ ابتلاءً لعباده، وتمحيصاً لهم، كما قال - تعالى -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] وقال: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]. أما الظن بخلاف ذلك، فهو من الظن السَّوْءِ، كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالةً مستقرةً، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله"[1]. ويقول العلامة عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "واليوم وإن كان المسلمون مصابين بضعف شديد، والأعداء يتربصون بهم الدوائر، هذه الحالة أوجدت من بينهم أناساً ضعيفي الإيمان، ضعيفي الرأي والقوة والشجاعة، يتشاءمون بأن الأمل في رفعة الإسلام قد ضاع، وأن المسلمين إلى ذهاب واضمحلال، فهؤلاء قد غلطوا أشد غلط؛ فإن هذا الضعف عارضٌ له أسباب، وبالسعي في زوال أسبابه تعود صحة الإسلام كما كانت، وتعود إليه قوته التي فقدها منذ أجيال، وما ضعف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتنكَّبوا السنن الكونية التي جعلها الله - بحكمته - مادة حياة الأمم ورقيها في هذه الحياة، فإذا رجعوا إلى ما مهَّده لهم دينهم، وإلى تعاليمه النافعة، وإرشاداته العالية؛ فإنهم لابد أن يصلوا إلى الغاية كلها، أو بعضها. وهذا المذهب المهين - مذهب التشاؤم - لا يرتضيه الإسلام؛ بل يحذر منه أشد تحذير، ويبين للناس أن النجاح مأمول، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]... فليتق الله هؤلاء المتشائمون، وليعلموا أن المسلمين أقرب الأمم إلى النجاح الحقيقي والرقي الصحيح)[2]. ثانياً: أنه ينبغي لنا أن نشيع روح التفاؤل، في مثل هذه الأوقات القاسية، وأن ننبذ اليأس عنا مكاناً قصياً، وأن نوقن بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، وهذا منهج أرشدنا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهنا موقفان يبينان ذلك: الموقف الأول: حين أتى خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مكروب النفس، محزون الصدر، قلق الخاطر، من شدة ما لاقى من المشركين، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - متوسداً بُرْدَةً في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرٌّ وجهه، فقال: «لقد كان مَن قبلكم ليمشَّط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[3]. فتأمل كيف فاجأ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهذا الخبر الذي تتهلل له الوجوه بشراً، وتتدفق سروراً، في ظل هذا الضغط الرهيب من المشركين، الذي جعل بعض النفوس تستبطئ النصر. الموقف الثاني: ثم شرع ابن الأثير يذكر تفاصيلها، وكان مما قال: "وهؤلاء - يعني: التتار- لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعمَّ ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح...". ثم ذكر ابن الأثير من أفعال التتار أشياء مروعة، وكان مما قال: "ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذِّب بها، من الخوف الذي ألقى الله - سبحانه وتعالى - في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم - أي: التتار- كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتلهم به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح. فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً، فقتله به!. و حكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا: ليكتِّف بعضكم بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلتُ لهم: هذا واحد، فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف، فقلتُ: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله أن يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير". ومن أراد الزيادة، فليرجع إلى الكتاب المذكور. ثالثاً: كما ينبغي لنا إذا أردنا النصر الحقيقي - ألا نكتفي بمجرد الأماني والتخيلات، والتفاؤل غير المصحوب بالعمل؛ بل لابد أن نفعل الأسباب، ونطرق الباب، فذلك سبيل النصر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وإن أمة الإسلام لن تنتصر ما لم تأخذ بأسباب النصر، فتقيم شعائر الإسلام ظاهرة وباطنة، وتخلع رِبْقة الترف الفكري والاجتماعي من عقول أبنائها، ويكون عند أبنائها الاستعداد التام للتضحية؛ لأجل هذا الدين، كلٌّ حسب استطاعته وقدرته. ومع إيقاننا بأن البلاء حتمي؛ وأن هذه النوازل من أقدار الله؛ فإنه لا يعني هذا أن نتواكل ونستسلم للذل والهوان، كلا؛ بل ندافع أقدار الله بأقداره، ونستفيد من هذه الأحداث، بأن نعود إلى ربنا، ونجدِّد إيماننا، ونَصْدق في توبتنا؛ وهذه من حِكَم البلاء، وقد قال ربنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]. وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. حين كان المسلمون يحفرون الخندق، وهم يترقبون عدواً قادماً عليهم، يتربص بهم الدوائر، قد أوعدهم، وألَّب عليهم الناس، فلا يدرون في أي لحظة ينقض عليهم، وفي هذه الأثناء عرضت لهم - وهم يحفرون الخندق - صخرة لا تأخذ فيها المعاول،قال: فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، فقال: «بسم الله». فضرب ضربةً، فكسر ثلث الحجر، وقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا»!. ثم قال: «بسم الله» وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا»!. ثم قال: «بسم الله» وضرب ضربةً أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»![4]. فانظر إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - كيف ينقل أصحابه من هذا العناء والرَّهَق، إلى السعة والدعة، بمجرد أحرف يسيرة، فيثوب إلى أحدهم نشاطه في عمله، كأنما يتفيأ ظلال الراحة. إن الأمة بحاجة إلى أن يشاع فيها التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرُّ بها اليوم، مما يشدُّ من عَضُدها، ويثبِّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر بإذن الله. إن اليأس لا يصنع شيئاً سوى سقوط الهمة، وتخاذل العزم، والرضا بالتخلف والدُّون. ولقد مرَّ في تاريخ الإسلام حوادث عظيمة نكبت بها الأمة، وتجاوزتها بسلام، ولو ذهبنا نستقري التاريخ؛ لطال بنا المقام، وإليكم إحدى هذه الحوادث، نتبين من خلالها أن أمة الإسلام تمرض، لكنها لا تموت، ألا وهي غزو التتار بلاد الإسلام، وأُفسح المجال للمؤرخ الكبير أبي الحسن ابن الأثير ليحدثنا في كتابه "الكامل"[5]عن هذه الحادثة، فيقول: "لقد بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلاً وأُؤخر أخرى، فمَنْ الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَنْ الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنتُ نسياً منسياً إلا أني حثَّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق، وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله - سبحانه وتعالى - آدم - وإلى الآن - لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها". إن النصر مدَّخرٌ للذين يَؤمُّون معالي الأمور، فلا يرضون بالهون صاحباً، ولا يقيمون على المذلة، ولا تنحني رؤوسهم للعاصفة، وهو مدَّخرٌ لأولئك للذين لا يخامرهم ريب في نصر الله، ولا تعترضهم فيه شبهة يأس. وليس الله - سبحانه - عاجزاً عن نصرة الحق بغير فعل الأسباب، وهو الذي يقول للشيء: "كن" فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وحكمته، وهكذا تجري سنَّته. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتوكلين، كان أوعى الناس لهذه السنَّة، وهذا خبرٌ واحدٌ يدل على أخذه - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب: يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القِبْلَة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض». فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله - عزَّ وجل -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [6][الأنفال: 9]. والشاهد منه: أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم، وهو الموعود من ربه؛ إما بالنصر والغنيمة من قريش، أو الاستيلاء على عِير قريش التي تحمل تجارتهم، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية. [الأنفال: 7] - فعل الأسباب، وألحَّ على ربه بالدعاء؛ فجاءه النصر. رابعاً: والقلب في ذروة الشدة يتلقَّن درساً لا ينساه، ويستجلي قنواتٍ إصلاحية ربما لا تكون لولا تلك الشدة، ويكون عنده من الإقبال على الله، والتألُّه له ما لا يكون في غير تلك الشدة، قال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وعندها يأتي النصر، وتنكشف الغمَّة، كما قال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. ألا وإن مما يُستدفع به هذا البلاء، أن يراجع كلٌّ منا نفسه عن تقصيره في جنب الله، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، قال - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30]، وقال: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41]. وتأمل رحمة الله بعباده؛ إذ قال: (بعض)، ولم يقل: (كل)!!. وقال - سبحانه -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. وقد عاتب الله أصحاب نبيه عن استفسارهم عن سبب هزيمتهم في غزوة أحد، فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. خامساً: كما ينبغي للمسلم عند وقوع هذه الأزمات أن يكون بعيد النظر؛ فلا يستبطئ النصر، ولا يستعجل ثمراته، متأسِّياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وهذا موقفٌ من مواقفه في ذلك: سألته عائشة - رضي الله عنها - يوماً: هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئتَ فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشَبَيْن»؟. فماذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ هل قال: هذه فرصةٌ تُهْتَبل، ونصرٌ كبيرٌ بلا مؤونة؟ أو قال: هذه ساعةٌ أنتقم فيها من أعدائي؟ وأشفي فيها فؤادي؟ كلا! لم يقل ذلك كلَّه، إنما قال: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً»!![7]. سبحان الله، أيُّ صبر في سبيل الدعوة أجلُّ من هذا الصبر؟! تقرع الأحزان ساحته - صلى الله عليه وسلم - فيبددها بإيمانه، فترتد حسيرة، كأن لم تكن. إنه الإيمان الراسخ رسوخ الجبال الراسية، والجَنَان الثابت الموقن بنصر الله. فلم تكن تلك الشدائد - مع قسوتها - تحول بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين استشراف المستقبل، وإحسان الظن بالله. ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن غاية المؤمن أن يعمل، لا أن يرى النصر؛ بل قد تراه الأجيال بعده، وخير شاهد على ذلك قصة الغلام والساحر[8]؛ حيث أسلم الناس لما ضحَّى الغلام بنفسه؛ فوقع النصر بعد موته، وكان ما فعل تثبيتاً للناس في أن ما دعاهم إليه هو الحق، ووقع ما يخشاه الملك من إيمان الناس إيماناً حقيقياً؛ أُدخلوا لأجله في الأخاديد المضرمة بالنيران، فصبروا واقتحموا. وقال خَبَّاب - رضي الله عنه -: "هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نريد وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله، فمنَّا مَنْ مضى، لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عُمَيْر: قُتل يوم أحد، وترك نَمِرَةً، فكنَّا إذا غطَّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطَّينا رجليه بدا رأسه، فأمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه، ونجعل على رِجْلَيْه شيئاً من إِذْخِر! ومنَّا مَنْ أينعت له ثمرته، فهو يَهْدِبُها"[9]. اللهم إنك تشاهدنا في سرَّائنا وضرائنا، وتطَّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلَغ بصائرنا، أسرارنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، نسألك برحمتك التي وسعت كل شيءٍ أن تهب لنا من لدنك نصراً عزيزاً، وفتحاً مبيناً، وعزّاً ظاهراً، وعيشاً نقيّاً، ومردّاً غير مخزٍ ولا فاضح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] زاد المعاد: 3 / 204. [2] منقول بتصرف يسير من رسالة له بعنوان: " وجوب التعاون بين المسلمين "، ص 11. [3] أخرجه البخاري: ( 3852). [4] أخرجه أحمد 38 / 133 والنسائي في الكبرى (8858) من حديث البَرَاء بن عازب. [5] الكامل 12 / 358 - 500 - 501. [6] أخرجه مسلم: (1763). [7] أخرجه البخاري: (3059)، ومسلم: (1795). [8] أخرجها مسلم: (3005). [9] أخرجه البخاري (3897) ومسلم (940). __________________________________________________ ________ الكاتب: د. صالح بن فريح البهلال
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() يوم كنا ويوم كنتم! هدى رفاعي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مَـلكْـنا فكان العَفْـو منَّا سَجـيَّـةً فـلمَّـا ملكْـتُـمْ سـالَ بالـدَّمِ أبْــطَــحُ وحَلَّلْـتُـمُ قتلَ الأسـارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح فحسْبُكُمُ هـذا التّـَفـاوتُ بيْـنَـنا وكـلُّ إِنـاءٍ بالـذي فـيـهِ يَنـْـضَــحُ من الأمور المعلومة لدى المختصين بالتاريخ، والمتتبعين لأحواله: أنه لا بد فيه من نزاعات وحروب بين الدول والأمم والشعوب، فصفحاته مُضَرَّجَةٌ بالدماء، ومساحته تتناثر فيها الأشلاء، ولا زال المشهد يتجدد إلى يومنا هذا، فيطل علينا ذلك الاجتياح الروسي لأوكرانيا؛ ذلك المشهد الذي يعيد القوة الروسية إلى الواجهة من جديد؛ ليؤكِّد تغيير ميزان القوى الدولية، ويعكس بشكل واضح نهاية الهيمنة أحادية القطبية للولايات المتحدة؛ والتي لا تختلف عن مثيلاتها من الدول التي تسعي للسيطرة على العالم، والتي تحكمها مصالحها دون الالتفات لأية قِيَم أو حقوق إنسانية، أو مبادئ ومواثيق دولية؛ هذه المواثيق الدولية والحقوق الإنسانية التي تظل حبيسة السجلات يتشدقون ويلوحون بها في المواقف التي تخدم مصالحهم! فمشهد الاعتداء على أطفال أوكرانيا ومدنها، واستخدام القنابل الفراغية؛ ما هو إلا صورة مصغَّرة من جملة الاعتداءات على المسلمين في أنحاء العالم، وهو تجسيد لبغي وعدوان هذه الدول حين امتلكت بعض القوة؛ فكيف لو ملكوا قوة كاملة، وحكموا بها العالم وحدهم دون غيرهم؟! وهذا فارق ما بينهم وبين المسلمين الذين اتهموهم بالإرهاب تارة، وبالعنف تارة أخرى، والذي نشاهده الآن برهان أكيد على أن دعاوى الإرهاب والعنف التي تُلصَق بالمسلمين ليل نهار هم منها برآء، والقوم أحق بها وأهلها! فيوم ملكوا القوة بغوا وطغوا، وجرائمهم ملأت السهل والوادي، وهم مَن أججوا الإرهاب، وصدَّروه للعالم. أما المسلمون فيوم ملكوا القوة وحكموا العالم وخاضوا حروبًا ومعارك، فلم يصنعوا صنيع هؤلاء، ولم يرتكبوا مثل جرائمهم؛ فعل المسلمون ذلك اتباعًا لدينهم، واقتداءً بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعملًا بوصايا خلفاء نبيهم وقادتهم، فقد قال الله تعالى: "*فَمَنِ *اعْتَدَى *عَلَيْكُمْ *فَاعْتَدُوا *عَلَيْهِ *بِمِثْلِ *مَا *اعْتَدَى *عَلَيْكُمْ *وَاتَّقُوا *اللَّهَ *وَاعْلَمُوا *أَنَّ *اللَّهَ *مَعَ *الْمُتَّقِينَ"، ومن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومَن معه مِن المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، *اغْزُوا *وَلَا *تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا"، ومن وصايا خلفاء نبيهم رضي الله عنهم: "لا تقتلن امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن، شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلًا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن". فالتاريخ الإسلامي شهد حقًّا ما يُسَمَّى بالفتح النبيل؛ تلك الفتوحات التي راعت حقوق النساء والأطفال، بل وحتى الحيوان، بل وحافظت على وجه الحياة الجميلة؛ مما دفع الناس للدخول في دين الله أفواجًا. فالحقيقة: إنه مِن الخطأ البيِّن أن توضع الفتوحات الإسلامية الراقية في مقارنة بينها وبين الحروب البربرية العدوانية ذات الأهداف الاستعلائية!
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() فلسطين من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر كتبه/ محمود عبد الحميد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فإن الوجود الإسلامي في بيت المقدس وبلاد الشام بدأ مع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وفي السنة الخامسة عشر من الهجرة النبوية الشريفة، وفي خلافة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وتم الفتح بقوَّاد لم يعرف التاريخ مثلهم أمثال أبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن أبي السرح، ويزيد بن أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، وغيرهم من قواد المسلمين العظماء. ففي السنة الخامسة عشر من الهجرة النبوية انطلقت أربع فرق من جيش المسلمين، إحداها بقيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين، والأخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، والثالثة بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، والرابعة بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح ووجهته حمص. ولقد استنفرت البدايات الأولى للانتصارات التي حققتها هذه الفرق القيادة البيزنطية التي أخذت تدرك أكثر فأكثر خطورة الدول الإسلامية الناشئة على وجودها في بلاد الشام. فحشد الإمبراطور هرقل جيشا كبيرا، ولَّى قيادته أخاه فردريك الذي تحرك صوب أواسط الشام، فكان على قادة الفرق الأربع أن يستشيروا القيادة المركزية في المدينة، فكان جواب أبي بكر -رضي الله عنه-: أن اجتمعوا عسكرًا واحدًا، والْقوا زحف المشركين بزحفكم فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره. وعند اليرموك، في أواسط سوريا تم اللقاء الحاسم بين الطرفين؛ وإذ طال اللقاء دون ظهور نتيجة نهايته أصدر أبو بكر -رضي الله عنه- أمره المعروف إلى خالد أن يغادر جبهة العراق، ويهرع لنجدة إخوانه في الشام، فقرر خالد اختزال الزمن ذي الأهمية الكبيرة في الحروب واجتياز الصحراء عبر خط مستقيم إلى هدفه بدلا من الطريق التقليدي الطويل. وبعد أيام قلائل لقيت فيها قوات خالد المصاعب والمتاعب وصل معسكر إخوانه في اليرموك، وتولى قيادة المعركة الحاسمة التي انتهت بسحق القوات البيزنطية وفتح الطريق أمام المسلمين لاجتياح المواقع والمدن الشامية الواحدة تلو الأخرى. وفي فلسطين تمكن عمرو بن العاص عند "أجنادين" من تحقيق انتصار لا يقل أهمية عن اليرموك، فقد فتح طريق لفتح المدن الفلسطينية وحصار القدس، ثم استسلامها أخيرا وتوقيعها شروط الصلح بحضور الخليفة عمر بن الخطاب نفسه الذي ما لبث أن عقد مع كبار قادته مؤتمرا في الجابية؛ لتحديد إستراتيجيات الفتوحات في المرحلة التالية، فانطلق عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ففتح مصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس، وفتح أبو عبيدة -رضي الله عنه- دمشق واستخلف عليها يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وكانت موقعة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، وتم فتح المدائن، وفتحت همذان ثم الري ثم أذربيجان. وتم أول قتال بحري في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقد سمح لابن أبي سرح ومعاوية أن يبنيا أسطولا إسلاميا تمكن خلال سنوات قلائل من تحقيق عددا من الانتصارات كان أبرزها فتح قبرص ورودس، ومعركة "ذات الصواري" التي تم فيها سحق الأسطول البيزنطي المكون من خمسمائة قطعة بحرية، ولقد عاش المسلمون حياة العز في القرون الخيرية وملكوا أعظم دولة في التاريخ امتدت من الصين شرقا إلى فرنسا غربا وذلك في زمن وجيز فبعد ثلاث وثمانين سنة من وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قتيبة بن مسلم قد دخل أرض الصين. ثم ما لبث أن دب الضعف في الدولة الإسلامية لانشغال الناس بالدنيا عن الآخرة، وانتشار الترف والمعاصي وظهور المناهج الفلسفية والفرق النارية، مما أدى إلى طمع الدول الكافرة في بلاد المسلمين ففي القرن الخامس الهجري كان حال الدولة الإسلامية سيء للغاية... فالخلافة في بغداد ضعيفة وليس للخليفة إلا الاسم، والعبيديون يحكمون مصر، وهم ليس عندهم أي حماس للدفاع عن الإسلام، والشام يحكمه عدد من الأمراء الضعفاء والحرب قائمة بينهم، وانتشرت البدع، فطمعت الدول المجاورة لبلاد الإسلام في دولة الإسلام فبدأت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وكانت الحملة الأولى سنة 1097م، إلى سنة 1099م، والتي انتهت بالاستيلاء على الرها وأنطاكية وبيت المقدس، وقتل آلاف المسلمين وعمل مذبحة عظيمة بالقدس قتل فيها 70 ألف مسلم. وذلك أنه في مارس سنة 1095م أرسل "ألكسيوس الأول" مرسليه إلى مجمع "بياشنزا" ليطلب من البابا "أوربانوس" المساعدة ضد الأتراك، تلقى البابا "أوربانوس" طلب الإمبراطور بكثير من الحفاوة، فكان يتمنى أن يلتئم الشرخ بين الكنيستين الذي كان عمره 40 عاما، وأراد إعادة توحيد الكنيسة تحت السلطة البابوية كرئيس أساقفة العالم، وذلك بمساعدة الكنائس الشرقية لدى استصراخها. وفي مجمع "كليرمون"، الذي عقد في وسط فرنسا في نوفمبر 1095 م، ألقى "أوربانوس" خطبة مليئة بالعواطف لحشد كبير من النبلاء ورجال الدين الفرنسيين، فدعى الحضور إلى انتزاع السيطرة على القدس من يد المسلمين، وقال: إن فرنسا قد اكتظت بالبشر، وأن أرض كنعان تفيض حليبا وعسلا، وتحدث حول مشاكل العنف لدى النبلاء، وأن الحل هو تحويل السيوف لخدمة الرب، فقال: "دعوا اللصوص يصبحون فرسانا"، وتحدث عن العطايا في الأرض كما في السماء، بينما كان محو الخطايا مقدما لكل من قد يموت أثناء محاولة السيطرة. ونشر "أوربان" الرسالة في أنحاء فرنسا، وحث أساقفته وكهنته بأن يعظوا في أسقفياتهم في بقية مناطق فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفي النهاية انضم أعداد كبيرة من الفقراء والفارين من اضطهاد حياتهم اليومية، فتحركت هذه الجموع في أغسطس 1096م، من "اللورين" بقيادة "جودفري" وانضم إليها أتباعه (أخوه الأكبر "الكونت يفتسافي" من "بولون" وأخوه الأصغر "بلدوين" من "بولون" أيضا، كما انضم إليه ابن عمه "جودفري"، و"الكونت بودوان" من "اينو" و"الكونت رينو" من "تول") على أثر الدعوة التي انطلقت لها حملة الفقراء. فمشت هذه الفصائل على طريق الراين -الدانوب التي سارت عليها قبلهم فصائل الفلاحين الفقراء- حتى وصلت القسطنطينية نهاية عام 1096. وفي مايو اجتمعت القوات الصليبية بعد عبورها مضيق "البسفور" لحصار مدينة "نيقية"، وقدم إمبراطور القسطنطينية "ألكسيوس كومينن" الإمدادات للصليبيين من المؤنة إلى آلات الحصار الذي استمر حتى 26 يونيو حيث استسلمت المدينة لقوات "ألكسيوس"، ومنع "ألكسيوس" قوات الصليبيين من دخول المدينة ونهبها، وامتصاصا لغضبهم قدم لهم الهبات والمنح للأمراء وطبقات الفرسان، وأمر بتوزيع قطع نحاسية على المشاة. بعد تسليم المدينة للقوات البيزنطية تقدمت قوات الصليبيين إلى القدس، وخلال المسير تقرر تقسيم الجيش إلى قسمين نظرا لكثرته، على أن تكون المسافة الفاصلة بينهما مسيرة يومين. وفي هذه الأثناء حشد "قلج أرسلان" حاكم "قونية" جموعه لصد الصليبيين بعدما اخذوا منه "نيقية" إلا أنه تعرض لهزيمة شديدة في معركة "ضورليوم"، ومهد هذا النصر للصليبيين الاستيلاء على مدن وحصون عديدة في الأناضول بسبب إخلاء السلاجقة لها ومعاونة الأرمن لهم. وقبل مسير الصليبيين إلى أنطاكية لحصارها انفصل "بلدوين" عن الجيش الرئيسي مصطحبا معه ثمانون فارسا بعدما طلب منه أهالي الرها القدوم إليهم لنجدتهم. وكانت الرها تحكم من قبل أمير أرمني يسمى "طوروس" الذي كان يخضع للسلاجقة الذي أراد أن يكون "بلدوين" وفرسانه جندا له بعدما سمع بانتصارات الصليبيين، إلا أن فكرة أن يكون "بلدوين" وفرسانه جندا لـ"طوروس" لم يتقبلها "بلدوين" فتقرر أن يتبنى "طوروس" "بلدوين" كابنٍ له لاسيما كون "طوروس" رجلا عقيما ومسنا. ولكن قامت بعدها ثورة في الرها أسفرت عن مقتل "طوروس" وتنصيب "بلدوين" حاكما على الرها كوريث لـ"طوروس". أما الجيش الرئيسي للصليبيين فتابع مسيرته حتى أنطاكية حيث استمر في حصارها طوال ثمانية أشهر ابتداء من 20 أكتوبر حتى 3 يوليو، حيث دخل الصليبيون أنطاكية بعد خيانة أحد المستحفظين على الأبراج، ويدعى "فيروز"، الذي مهد لهم للصعود إلى أحد الأبراج وفتح الأبواب والدخول إلى المدينة. وأسفرت الحملة الأولى عن احتلال القدس عام 1099 وقيام مملكة القدس اللاتينية بالإضافة إلى عدّة مناطق حكم صليبية أخرى ، كالرها (أديسا) وإمارة أنطاكية وطرابلس بالشام. ولعبت الخلافات بين حكام المسلمين المحليين دورا كبيرا في الهزيمة التي تعرضوا لها، كالخلافات بين الفاطميين بالقاهرة، والسلاجقة الأتراك بنيقية بالأناضول وقتها. وباءت المحاولات لطرد الصليبيين بالفشل، كمحاولة الوزير الأفضل الفاطمي الذي وصل عسقلان، ولكنه فر بعدها أمام جيوش الصليبيين التي استكملت السيطرة على غالبية الأراضي المقدسة. ثم توالت الحملات على بلاد المسلمين للسيطرة على البلاد وتحويل المسلمين عن دينهم، فكانت الحملة الصليبية الثانية 1147 إلى 1149م قادها "لويس السابع" ملك فرنسا و"كنراد الثاني" إمبراطور ألمانيا، وتصدى لهم نور الدين زنكي، وقتل عددا كثيرا منهم في آسيا الصغرى، ثم ردت الحملة على أعقابها. وفي عام 1187م وقعت موقعة حطين الشهيرة بقيادة البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، وانتهت بهزيمة الصليبيين وإعادة بيت المقدس والإمارات الأخرى التي احتلها الصليبيين في الحملة الأولى. ثم كانت الحملة الثالثة 1189 إلى 1192م التي قادها "فردريك برباروسا" إمبراطور ألمانيا و"ريتشارد قلب الأسد" ملك إنجلترا و"فيليب أغسطس" ملك فرنسا، وتصدى لها المسلمون وأفشلوا هذه الحملة وانتهت بعقد صلح "الرملة" 1192م. ثم كانت الحملة الصليبية الرابعة 1202 إلى 1204م والتي قادها أمير فرنسا، وكان من نتائجها أنها عادت أدراجها بعد الفشل الذريع التي منيت به هذه الحملة. ثم كانت الحملة الصليبية الخامسة 1218 إلى 1221م والتي قادها الملك "يوحنا دي برين" ملك الجزء المتبقي من بيت المقدس، تساعده أوروبا، وفشلت هذه الحملة، وعجزت عن الاستيلاء على مصر، ثم عقد صلح انسحبت على أثره الحملة الصليبية. ثم كانت الحملة الصليبية السادسة 1228 إلى 1229م قادها "فردريك الثاني"، وانتهت بعقد صلح بين الملك الكامل والصليبيين، سلم على أثره بيت المقدس وبيت لحم والناصرة للصليبيين عشر سنوات. وفي سنة 1244م تمكن المسلمون من إعادة بيت المقدس بقيادة الملك الصالح نجم الدين، ثم كانت الحملة الصليبية السابقة 1248 إلى 1250م والتي قادها "لويس التاسع" ملك فرنسا وانتهت بهزيمة الصليبيين وأسر لويس التاسع. وتوالت بعدها حملات صليبية أدت بعدها إلى تقسيم البلاد الإسلامية وخضوعها للبلاد الصليبية وكانت هناك جهود مخلصة من بعض قواد المسلمين وصالحيهم وبطولات وقف عندها التاريخ طويلا، كجهود عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود بن زنكي، وأسد الدين شيركوه، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم. نتحدث عنهم في حلقات قادمة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |