التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 180 - عددالزوار : 129154 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14215 - عددالزوار : 752887 )           »          15 صورة ترصد أجواء المتعة والبهجة لسياح العالم فى معالم الأقصر الأثرية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          عون المعبود شرح سنن أبي داود- الشيخ/ سعيد السواح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 732 - عددالزوار : 95470 )           »          إنه ينادينا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 462 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 381 - عددالزوار : 83329 )           »          إنها صلاة الضحى… صلاة الأوّابين. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          فضائل وآداب يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          عيادة المريض: عبادة ورحمة وطريق إلى الجنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          لماذا لا نتغير بالقرآن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 27-10-2022, 10:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,702
الدولة : Egypt
افتراضي التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون

التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون


د. إبراهيم عوض





كثيرًا ما نقول: إن العمل الأدبي يتألف من شكل ومضمون، مما قد يوحي بأن من الممكن فصل كل منهما عن الآخر، بَيْدَ أن شكل العمل الأدبي في الواقع لا يمكن أن ينفصل عن مضمونه، وإن اضطررنا في حديثنا النظري إلى الكلام عن كل منهما وكأنه مستقل عن صاحبه، ويترتب على هذا أننا حين نتذوق العمل الأدبي فإنما نتذوقه كله لا شكله فحسب، وهذا من الوضوح بمكان، بَيْدَ أن بعض الدارسين الذين يكتبون في هذا الموضوع يتوهمون أو يحاولون أن يوهمونا أن التذوق، والنقد الصحيح من ثم، ينبغي أن ينصبَّ فقط على الناحية الشكلية؛ أي: الجانب الفني، من العمل الأدبي، بغض النظر عن مضمونه، ولنضرب مثلًا توضيحيًّا مِن عالم الطعام فنقول: إننا لا نستطيع تذوق طبق من الأطباق إلا إذا أكلناه، أما مجرد معرفة الطريقة الفنية التي تم بها إعداده فلا يوصلنا إلى شيء، وبنفس الطريقة نقول: إننا حين نقرأ قصيدة أو قصة مثلًا فإن تذوقنا لها ونقدنا إياها لا يقتصر على الجانب الفني وحده من موسيقا وتصوير وسرد حوار وعقدة وما إلى ذلك؛ لأن هذا الجانب الفني لا وجود له في الحقيقة بعيدًا عن مضمون القصيدة أو القصة، ترى كيف يمكن أن توجد عقدة القصة مثلًا دون أن تكون هناك أحداثٌ تُرتب على هذا النحو أو ذاك؟ وكيف يمكن أن تكون هناك موسيقا في القصيدة منفصلة عن الألفاظ وتنسيقها بطريقة معينة؟ وهذه الألفاظ بدورها كيف يمكن الفصل بينها وبين ما تشير إليه مِن أشياء أو تدل عليه من أفكار أو تعبِّر عنه من مشاعر؟ العمل الأدبي إذًا كِيان واحد، كتلة واحدة، وإن استلزم الأمر في المناقشات النظرية أن نتحدث عن شكله ومضمونه بطريقة قد يُفهم منها إمكانُ انفصال كل منهما عن صاحبه.

وعلى هذا، فإن التذوقَ الأدبي يشمل الجانبين معًا؛ أي: إنني حين أقرأ - على سبيل المثال - مسرحية أو مقالة أدبية فإن تذوقي لها لا يقف، ولا يمكن أن يقف، عند التشكيل اللغوي أو البناء الدارمي... فحسب، بل يمتدُّ إلى كل شيء في العمل من لغة وموسيقا وبناء فني وأفكار وعواطف وخيالات وقيَم اجتماعية أو سياسية أو دينية... وهلم جرًّا، ومِن هنا يراني القارئ دائمًا أقول وأكرر القول بأنه لا يوجد ذلك المنهج النقدي الذي يستطيع الزعم بأنه هو وحده المنهج الذي يمكننا من خلاله فهم النص الأدبي والتغلغل إلى كل أسراره الإبداعية، إن كل منهج من المناهج النقدية إنما يختص في العادة بجانب من العمل الأدبي، ومن هنا كان لا بد من الاستعانة بالمناهج النقدية جميعًا إذا أردنا أن يكون فهمنا وتذوقنا له أعمق، وإن لم يمنع هذا أن يعكف ناقد من النقاد في دراسة له، لهذا السبب أو ذاك، على جانب واحد أو اثنين مثلًا من ذلك العمل، لكن ذلك لا يعني، ولا ينبغي أن يعني، أن هذا هو كل ما هنالك مما يمكن أن يقال.

إننا، لكي نتذوق أي نص أدبي، لا بد لنا من فهمه أولًا، وكلما كان فهمنا له أعمقَ كان تذوقنا له أقوى وأقرب ما يكون إلى المراد، وهذا الفهم يتطلَّب فَهْمَ ألفاظه وعباراته وتراكيبه وصوره، وما يتعرض له من موضوعات وقضايا، وما يصِفه من مناظر وأوضاع ومواقف... إلخ، وأي عجز عن فهم شيء من هذا سوف يؤثر سلبًا على عملية التذوق دون جدال، وعلى ذلك فنحن محتاجون إلى الاستعانة بالمنهج النفسي مثلما نحن محتاجون إلى الاستعانة بالمنهج الاجتماعي، ونفس الكلام ينطبق على المنهج اللغوي أو المنهج البنائي... إلخ، لكن هذا لا يعني أبدًا، كما يزعم ضيِّقو الأفق مِن النقاد الذين يريدون منا أن نتعبدَ مثلهم لمنهج نقدي بعينه، أن ما نقوم به في هذه الحالة هو عملية تلفيق بين مناهج لا يمكن التوفيق بينها بحال، بحجة أن كلًّا منها يستند إلى رؤية فلسفية لا تلتقي مع المناهج الأخرى؛ ذلك أننا لا نقول بأخذ هذه المناهج كما هي، بل على الناقد أن يَفرِزَ عناصرها فيُبقيَ على ما يراه صالحًا ويهمل الباقي، ثم يكون من جماع هذه العناصر الصالحة منهجه التكاملي، والحياة، وإن قامت على الفردية في جانب منها، تقوم في ذات الوقت على الجماعية والتعاون في الجانب الآخر، بل التضافر والتلاحم في كثير من الأحيان، فلماذا يشِذُّ النقد، أو بالأحرى يراد له أن يشِذَّ، عن سنَّة الحياة؟!
ولعل من المفيد في هذا السياق أن أورد رأي جيروم ستولنتز فيما يجب على الناقد عمله تجاه العمل الأدبي الذي يدرسه؛ إذ "لا بد له، لكي يبين أن العمل جيد، من أن يوضح ما الذي يسهم في قيمته من بين عناصره، وهو قد يتحدث في هذا الصدد عن جماله الحسي أو وضوح بنائه الشكلي أو عن عمق الانفعال الذي يثيره أو دقة الحقيقة التي يعبر عنها، ولا بد له أن يتحدث في عناصر العمل فرادى، وكذلك في علاقتها بعضها ببعض"[1].

والآن ما الذي يشدنا إلى الأدب ويثير شهيتنا إلى تذوقه؟ الواقع أنها أشياء كثيرة: فمثلًا عندما أقرأ "ملحمة جلجامش" أو "الإلياذة" أو بعض قصائد الشعر الجاهلي أو "ألف ليلة وليلة" فإنني أطَّلِع من خلالها على العالم الفكري والاعتقادي والاجتماعي والسياسي عند البابليين والإغريق وعرب الجاهلية ومسلمي العصور المتأخرة على التوالي، إن مثلَ هذه الأعمال تشبع فضولي الفكري، وتهيِّئ لي سوانح للعيش مع أولئك الأقوام والتغلغل في طوايا عقولهم ووجداناتهم وقيَمهم، مما يختلف كثيرًا أو قليلًا عما لديَّ، وهو ما من شأنه أن يُغنيَ حياتي وثقافتي ويغذِّي تطلعي الفطري إلى التعرف على أشياءَ جديدة كانت مجهولة لي، فضلًا عن اختلاف أوضاعها عما أعرفه، وما يؤدي إليه ذلك، ولو مؤقتًا، مِن القضاء على الملل والضِّيق الناتج من جَرْي الأمور حولي على وتيرة واحدة، لا تتغيَّر إلا ببطء شديد في العادة.

إن حياتنا اليومية محكومة بأوضاع توشك أن تخنُقَ الخيال وتمنعه من الرفرفة في فضاء الله العريض، وإن قراءتنا لهذا اللون من الإبداع الأدبي يحررنا، ولو إلى حين، من هذه القيود المزعجة، فنعاشر السيكلوب، ذلك المخلوق الوحشي القبيح ذا العين الواحدة الذي يتصدى للبطل محاولًا أن يمسك به ويفترسه[2]، ونشاهد الحصان المجنَّح الذي يطير بصاحبه في الهواء، ونرى البلورة السحرية التي يشاهد فيها الأخ أخاه الموجود في بلاد سحيقة، ونصاحب الشاعر الجاهلي وهو واقف على أطلال حبيبته لا يرى من حوله إلا الرمال وبضعة مخلفات تافهة تركتها قبيلة الحبيبة وراءها لا قيمة لها في ذاتها، لكنها قادرة رغم هذا على زلزلة وجدانه، وإلا غرابًا أبقعَ هنا أو بقرة وحشية هناك مما أصبح جزءًا من الماضي الذي ولَّى واندثر ولم يعُدْ من المستطاع عودته بحال.

ولا تقتصر هذه الجاذبية على الأعمال الأدبية التي تنقلنا إلى العصور الماضية لنعيش معها أساطيرها وخرافاتها وخوارقها وأوضاع مجتمعاتها البائدة، بل تمتد لتشمل كذلك الإبداعات التي تصور مجتمعات من عصرنا الحديث تختلف عن مجتمعاتنا، لنأخذ على سبيل المثال روايات القُصاص الإنجليز مثل "جوزيف أندروز" لفيلدنج، و"مرتفعات وذرنج" لإميلي برونتي، و"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردي، إن هذه الروايات هي بمثابة نوافذ تنفتح أمامنا لنطل منها على عوالم كانت مغلقة في وجوهنا، عوالم يتحدث الناس فيها لغة مختلفة، ولهم عادات وتقاليد مختلفة، ويتحركون في أماكن ذات مناظر مختلفة: بأمطارها التي لا تكاد تكف عن الهطول، وثلوجها التي تغطي الحقول والبيوت بلونها الأبيض العجيب، وأشجارها وغاباتها التي ليست لنا بها معرفة، ويعيشون كذلك في بيوت مختلفة لها مداخنُ ومدافئ لا تعرفها بيوتنا... إلخ.

وتمثِّل كتب الرحلات رافدًا آخر في هذا المجال، مَنْ مِنَ الذين قرؤوا رحلة ابن فضلان أو رحلة ابن جبير أو رحلة ابن بطوطة يستطيع أن ينسى النشوة التي استشعرها في صحبة هؤلاء المؤلفين العظام وهم يصِفون مشاهداتهم وتجارِبهم وأحاسيسهم وآراءهم لدى مرورهم بالبلاد التي جابوها أو اندماجهم مع أهليها، والمواقف التي عاشوها بين أظهُرهم، والمفارقات التي نتجت من اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية عما يحيط بهم من أوضاع جديدة؟ بل إن كتب الرحلات التي وضعها الغرباء عنا وعن بلادنا ومجتمعاتنا لا تقل فتنة عن تلك التي كُتبت عن البلاد والأمم الأخرى، إن هؤلاء الغرباء، وإن لم يحدثونا عن أشياءَ جديدة علينا، يتناولون هذا الذي نعرفه، ولكن من زاوية جديدة وبإحساس لم نخبُرْه من قبل، ويلتفتون إلى أشياء لم تجذب أنظارنا قط، خالعين عليها أبعادًا تخالف ما تعودنا عليه... وهلم جرًّا، ولقد قرأت عددًا غير قليل من هذه الرحلات لمستشرقين ومبشرين وصحافيين ورجال سياسة من أمريكان وبريطانيين وفرنسيين وروس... إلخ، فكنت أشعر وكأنهم يتحدثون عن أمة أخرى غير الأمة التي أنتمي إليها؛ ذلك أن العادةَ التي أماتت دهشتنا تجاه الأشياء والأوضاع من حولنا ليس لها تأثير على هؤلاء الرحالة الأجانب الذين أصبحنا نرى الآن بأعينهم ونسمع بآذانهم، فإذا بنا نعود فنرحل بدورنا معهم إلى أوطاننا التي نعيش فيها منذ أن رأينا نور الدنيا، ونكتشفها من جديد كأنها بلاد لم يكن لنا بها علم ولا عهد من قبل، إن العبرة هنا بالإحساس والرؤية لا بالأشياء في حد ذاتها فقط.

بل إن في المجتمعات التي ننتمي إليها بيئاتٍ لا نعرف عنها ولا عن تقاليدها وقيمها إلا القليل، وتتكفل الأعمال الأدبية التي تعرض لها بتجليتها وإطلاعنا منها على أشياء لم تكن متاحة لنا، كما هو الحال مثلًا في روايات إحسان عبدالقدوس عن بعض البيئات القاهرية التي لم يكن لنا نحن الآتين من الريف بها من صلة، ولا نعرف شيئًا عما يسود العلاقات بين الشبان والفتيات فيها من حرية غريبة علينا، وكما هو الحال أيضًا في بعض روايات نجيب محفوظ التي تصوِّر عالم الدعارة واللصوصية والإجرام، وكما هو الحال في رواية فتحي غانم "الرجل الذي فقد ظله"، التي تزيح الستار عن كثير من الخبايا والمؤامرات في عالم الصحافة والصحافيين، أو روايته الأخرى "الجبل" التي تعرِض جانبًا من جوانب الحياة في الصعيد مما نكاد نجهله نحن أهل الوجه البحري جهلًا تامًّا، وكما هو الحال في "النهر" لعبدالله الطوخي، الذي يقص علينا في عمله هذا تجرِبة السفر في النيل على سفينة شراعية برفقة بعض المراكبية من جنوب البلاد... إلخ، حتى الريف الذي ولدت ونشأت فيه وأعرف الكثير جدًّا عنه يستحيل على يد المازني في صورته الفكاهية التي يقدمها لنا عن حلاق القرية شيئًا جديدًا، إن هذا الحلاق الذي ظل يقص لنا شعورنا أعوامًا طوالًا نفاجأ به وقد أعاد قلم المازني تشكيله من جديد، فكأنه لم يحلق لنا قط ولم يسبق لنا أن رأيناه.

إن هذه كلها وكثيرًا غيرها من المعلومات نجنيها من قراءة الإبداعات الأدبية، وهي، كما قلت، إحدى المُتَع التي تزودنا بها هذه الأعمال، ولعل من يتسرع فيعترض علينا بقوله: إننا نستطيع الحصول على مثل هذه المعلومات من الكتب غير الأدبية على نحو أسرع وأسهل وأكثر مباشرة، لكن هذا المتسرع ينسى شيئًا في غاية الأهمية، ألا وهو أن الكتب غير الأدبية تعرَى عن تلك الفتنة التي تزودنا بها إبداعات الأدب؛ إذ لا تمدنا إلا بمعلومات مجردة باردة، على عكس ما نجده في الأعمال الأدبية التي إنما تقدم لنا الحياة ذاتها بلحمها ودمها وسخونتها وصخبها وروائحها، فضلًا عن أننا حين ننظر أو نسمع فإنما يكون نظرنا وسمعنا من خلال عين الأديب وأُذنه، فهي رؤية عجيبة وسماع عجيب لا يستطيع الذين ليسوا بأدباء أن يخبُروهما بأنفسهم، لقد قرأت في بداية اهتمامي بالعقاد وإقبالي على مؤلفاته ورغبتي في معرفة سيرة حياته أنه كانت له تجرِبة غرامية مع فتاة شامية لعوب، تركت أثرًا لا يمحى على رأيه في المرأة، ثم قرأتُ بعد ذلك روايته "سارة"، التي بسط فيها تلك التجرِبة ذاتها، فهل هذه هي تلك؟ شتان ثم شتان! لقد كنت في الأولى أقرأ قراءة العقل النائي، أما في الثانية فقد وجدت نفسي في قلب المعمعة: أبتهج لابتهاج العقاد، وأحبس أنفاسي معه حين تمسك الحيرة بتلابيبه وتكاد أن تخنقه، وأتلظى في جحيم الشك كما يتلظى، ثم أشعر في نهاية المطاف بزوال الكابوس الجاثم على صدري عندما أراه، بعد العذاب الرهيب الطويل، قد استطاع أن يضع قلبه تحت قدمه مؤثِرًا على حبه التمسك بكرامته، فيا لها من ساعات مليئة - بل مشحونة - عشتها مع الرواية! فأين من هذا تلك المعلومات الفاترة التي لا تخاطب مني في العادة غير العقل الهادئ؟ ومع ذلك يصدِّع أدمغتنا هذه الأيام بعضُ النقاد، زاعمين أن لغة الإبداع الأدبي هي لغة تشكيل فقط، بخلاف لغة الحياة اليومية التي ليست سوى لغة توصيل كما يقولون، ترى بالله إذا لم تكن الإبداعات الأدبية تقوم، إلى جانب ما فيها من تشكيل جمالي، بمهمة التوصيل، فماذا نسمي هذا الذي نقرؤه في تلك الإبداعات مما أشرنا إلى بعضه لتوِّنا؟ إن مِن البشر فريقًا قد جُبلوا على الجدال والمماحكة والإصرار على إنكار البدهيات التي يراها حتى الأعمى، ويسمعها حتى الأصم! ولله في خَلْقه شؤون!

ومما يعمَل الأديب أيضًا على توصيله، ويحرص القارئ على معرفته ويستمتع به، آراؤه في قضايا الحياة من دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية وأخلاقية... إلخ، إن الأدباء هم من صفوة أهل الفكر والثقافة، أو هكذا ينبغي أن يكونوا، أو على الأقل هذا ما يتوقعه القارئ منهم، أو يُسعده أن يكونوه، ومن هنا كان حرصه على الإلمام بآرائهم وأفكارهم ومواقفهم نحو المسائل التي تَشغَله وتَشغَل الناس من حوله، وبخاصة أن عرضهم لهذه المسائل ليس عرضًا جافًّا كالذي يجده في الكتب العلمية والدراسات التحليلية، كما أنه لا يقوم على الترتيب المنطقي المفصل للمقدمات والنتائج وبسط الأدلة والجدال دونها في نزعة منطقية لا تخاطب إلا الذهن، وتتطلب منه اليقظة الشديدة، وقد تسبِّب له الإرهاق، فضلًا عن أنها لا تضع المشاعر في حسبانها، أو تعمل على فك الطاقات الخيالية من قيودها لتسبح في عالمها الرحيب العجيب، بل هو عرض حي يستولي على النفوس استيلاءً، فيوقظ الأحاسيس الغافية، ويؤجج الخيال المكبول، ويبعث في النفس نشوة وسحرًا[3].

ومِن هذا الوادي مسرحية "أوديب ملكا"، التي أراد سوفوكليس أن يعبر فيها عن رأيه في القدر، وأنه واقعٌ واقعٌ لا محالة بصاحبه حتى لو اطلع عليه مسبقًا واحترس منه غاية الاحتراس واتخذ له جميع الاحتياطات الممكنة، وتمثِّل معلقة زهير بن أبي سُلمى موقفه من الحرب التي مزقت قبيلتي عبس وذبيان، ورغبته في إطفاء نارها التي كادت تأتي على الأخضر واليابس، كما تعرض رسالة "حي بن يقظان" لفيلسوفنا العربي المسلم ابن الطُّفيل رأيه في إمكان استقلال العقل البشري بمعرفة وجود الله وعظَمته وقدرته المطلقة، واليوم الآخر بما فيه من ثواب وعقاب، فضلًا عن مقدرة الإنسان، بوساطة هذا العقل، على مواجهة مشاكل الحياة والتغلُّب على الصعوبات التي تنجم كل يوم، وبالمثل تتضمن "رسالة التوابع والزوابع" لابن شُهيد أفكاره حول عدد من الموضوعات الأدبية والنقدية التي كانت تَشغَل رجال القلم في عصره، وفي رواية "سيلاس مارنر" نجد الكاتبة البريطانية الملقبة بـ"جورج إليوت" تحاول أن تنتصر للرأي القائل بأن العبرة في الأبوة ليست في مجرد الإنجاب، بل فيمَن يهتم بالطفل ويربيه ويحبه ويحوطه بألوان الرعاية حتى يكبَرَ، أما الأبُ الذي يتخلى عن ابنه وهو طفل صغير ولا يقوم بواجبات الأبوة فليس له الحق في أن يعود بعد أن يكبَرَ الطفل ويصبح رجلا ملء السمع والبصر والفؤاد، فيطالب باسترداده من ذلك الشخص الذي ظل طول عمره يؤوي ويُطعم ويسهر ويمرِّض ويغدق الحنان، والذي بهذا وبغيره يُضحِي هو الأبَ الفعلي لذلك الابن، وإن لم يكن أباه إنجابًا.

وعندنا خُطب عبدالله النديم أثناء المعارك التي دارت رحاها بين العُرابيِّين والجيش البريطاني عشية احتلال الإنجليز لمصر عام 1982م، ثم خُطب مصطفى كامل بعد أن وقعت الواقعة ودنَّس هؤلاء الملاعين الأنجاسُ أرض الكنانة، وأطبق اليأس على القلوب، لقد بذل كل من الزعيمين غاية جهده لإشعال جذوة الوطنية في النفوس، وتحريض الناس على مقاومة المعتدي الغشوم، وبث الأمل في قلوبهم واستنهاض عزائمهم، ولنأخذ أيضًا قصة "الثائر الأحمر"، التي كتبها باكثير في الأربعينيات من القرن الماضي، وجسد فيها موقفه من الفكر الشيوعي الذي كان له آنذاك بريقٌ وهاجٌ يُعشي أبصار بعض المفكرين والأدباء العرب؛ إذ بيَّن أن المظالم الاجتماعية والسياسية من شأنها أن تشحن قلوب المكتوين بنارها حقدًا ورغبة في التدمير، وتزيغ عقولهم وتدفعهم إلى التمرد والعدوان على الدِّين والسلطان والرعية جميعًا بما يؤدي إليه ذلك من خسائر رهيبة في الأرواح والأموال، وأننا إذا أردنا أن نقضي على مثل هذه الآفة المُبيرة فلا بد من إشاعة العدل والرحمة والعمل على توزيع الثروة توزيعًا إنسانيًّا يضمن لكل فرد حقَّه في الحياة الحرة الكريمة، وهناك مسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم وما تصور مِن رأيه في أن الحاكم المثالي هو الذي إذا ألفى نفسَه فريسة للصراع بين العُنُوِّ للحق والخضوع للقانون وبين الرغبة في اللجوء للقوة لفرض هيمنته على رعيته بالباطل، لا تأخذه العزة بالإثم، بل ينتصر للقانون على القوة الغشوم.
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 28-10-2022 الساعة 12:34 PM.
رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 126.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 124.58 كيلو بايت... تم توفير 1.70 كيلو بايت...بمعدل (1.35%)]