|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تفسير إبن باز للقرآن الكريم سورة الفاتحة حسام بن سعيد الدعيس مقدمة: إن الحمد لله نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا. ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ï´¾ [آل عمران: 102] ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ï´¾ [النساء: 1] ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ï´¾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد: فهذا تفسير سماحة العلامة الشيخ ابن باز لسورة الفاتحة، تم جمعه من دروسه وفتاويه، وقد اشتمل هذا التفسير على فوائد منها: • فضل سورة الفاتحة. • حكم الاستعاذة والبسملة. • حكم قراءة الفاتحة على الإمام والمنفرد والمأموم. • فائدة في مخرج الضاد والظاء. ♦ ♦ ♦ ï´؟ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 1 - 7]. فضل سورة الفاتحة: قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في فضل سورة الفاتحة بعد ذكر ابن كثير الحديث الوارد في فضلها[1]: وهذا يدل على فضلها العظيم، وأنها أعظمُ سورة في كتاب الله هذه الفاتحة؛ لِما اشتملت عليه من المعاني العظيمة التي يرجع إليها جميع القرآن؛ ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في كتاب الله، وأنها السبع المثاني والقرآن العظيم، وهذا يدل على أنها أنزلت في مكة؛ لأن الحجر من السور المكية، وفيها: ï´؟ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ï´¾ [الحجر:87]، وهذا يدل على عِظم شأنها، ومَن تأمَّلها وجد ذلك، فإن فيها الثناء على الله وبيان صفاته العظيمة التي ترجع إليها جميع الصفات، وبيان حقه على عباده وهو العبادة، وإلى هذا ترجع جميع الآيات، فإنها ترجع إلى الأوامر والنواهي، وبيان حق الله، وكله داخل في ï´؟ إِيَّاكَ نَعبد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 5]، ثم إرشاده سبحانه لعباده أن يطلبوه الهداية ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ï´¾ [الفاتحة: 6]، وهذا أيضًا شأنه عظيم؛ لأن طلبهم الهداية من ربهم عز وجل سبب لقيامهم بحقه الذي خلقهم من أجله، وهو عبادته سبحانه وتعالى، فهذه السورة هي أم القرآن وهي القرآن العظيم، وهي السبع المثاني وهي الشفاء والرقية، فينبغي للمؤمن أن يتدبرها كثيرًا، ومن رحمة الله أن شرعها لنا في اليوم والليلة سبع عشرة مرة فرضًا في الفرائض الخمس مع ما يحصل من قراءتها في النوافل، وفي غير ذلك، تذكيرًا لمعناها العظيم، وهكذا الالتزام بما دلت عليه من أن العبادة لله والاستعانة بالله وطلبه الهداية مع الثناء عليه، والإيمان بأنه الرحمن الرحيم، وبأنه الإله الحق، وبأنه رب العالمين، وبأنه مالك يوم الدين، فاجتمع فيها كل شيء[2]. حكم الاستعاذة والبسملة: الجمهور على أنها سنة مؤكدة عند بدء القراءة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أما البسملة، فهي متأكدة أكثر في أول كل سورة ما عدا براءة، حتى قال بعض أهل العلم: إنها آية من كل سورة، فلا بدَّ من قراءتها، وقال آخرون: إنها آية من الفاتحة دون غيرها. والصواب أنها آية مستقلة ليست من الفاتحة ولا من غيرها، لكن مستقلة بدءًا للسور وفتحًا للسور، وتبركًا باسمه سبحانه وتعالى عند بدء كل سورة ما عدا براءة، فإن الصحابة لما جمعوا القرآن شكُّوا في الأنفال وبراءة هل هما سورتان أم سورة واحدة؟ ولهذا لم يكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم كما قال عثمان، فينبغي للمؤمن أن يقرأ البسملة في أول كل سورة، وينبغي لها أن يتعوذ أيضًا قبل ذلك حتى يجمع بين السنتين، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم. وأما قول عطاء بالوجوب، فله قوة لظاهر الأوامر، فينبغي للمؤمن ألا يدعها أبدًا؛ لأن الله أمر بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم فعلها، واستمر عليها، فينبغي للمؤمن إذا أراد القراءة أن يبدأ بالقراءة بالله من الشيطان الرجيم، ثم يضم إليها البسملة إن كان من أول السورة، وإن كان من أثناء السورة، فالأمر واسع إن أتى بالبسملة فلا بأس، وإن اكتفى بالاستعاذة كفى، وظاهر الآية الكريمة أنه يُكتفى بالاستعاذة إلا إذا أراد أن يبدأ بالسورة بدأها بالاستعاذة، ثم التسمية، حتى يجمع بين السنتين[3]. حكم قراءة الفاتحة على الإمام والمنفرد والمأموم: قراءة الفاتحة فرض على الإمام والمنفرد النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، فهي خداج غير تمام)، هذا الذي عليه جمهور أهل العلم فرض على الإمام والمنفرد، لكن اختلفوا في المأموم هل تجب عليه أم لا، على أقوال ثلاثة: قال بعضهم تجب على المأموم في السرية دون الجهرية، وقال بعضهم: تجب عليه مطلقًا في السرية والجهرية، وقال بعضهم: لا تجب لا في السرية ولا في الجهرية، فهذه أقوال ثلاث، أرجحها فيما يظهر من الأحاديث الوجوب مطلقًا هذا أظهرها، ولا ينبغي تركها للمأموم، كما أنه لا يترك الإمام والمنفرد، بل يقرؤها المأموم ولو على قراءة الإمام يقرؤها في نفسه، ثم ينصت، والظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في السرية ظاهر، وفي الجهرية يقرؤها بعد الإحرام بعد الفاتحة بحسب ما تيسر له[4]. ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ï´¾ [الفاتحة: 2]: الحمد يكون على الجميل الاختياري: كإحسانه إلينا، وإرساله الرسل، ونحو ذلك مما تفضَّل به علينا سبحانه، ويكون الحمد أيضًا بالأسماء والصِّفات اللازمة: كالعزيز، والحكيم، والقدير، والقهار، وأشباه ذلك، فالحمد يكون بالصفات اللازمة، وبالصفات المتعدية، هذا هو الصواب. فالله يُحمد سبحانه لذاته العظيمة، ولأسمائه الحسنى، ولصفاته الكريمة، ويُحمد أيضًا لإحسانه، وجوده، وكرمه على عباده، فالذي سلكه الشارحُ[5] تابع فيه غيره، والصواب ما هو أعمُّ من ذلك[6]. ï´؟ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ï´¾ [الفاتحة: 2 - 4]. في رب العالمين الإشارة إلى أنه المتصرف فيهم ومالكهم ومدبر أمورهم، فيه ترهيب لهم من عصيانه، وأنه قادر على إهلاك من يشاء وتعذيب من يشاء، ثم قال: ï´؟ الرحمن الرحيم ï´¾ ترغيبًا لهم في رحمته واللجأ إليه، والاستقامة على أمره وطاعته سبحانه؛ لتحصل لهم الرحمة. ثم جاء بـï´؟ مالك يوم الدين ï´¾ للجمع بين الرجاء والخوف. المعنى أنه مالك يوم الحساب والجزاء، ويُطلق الدين على الطاعة: ï´؟ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ï´¾ [آل عمران: 19]؛ يعني الطاعة والعبادة عند الله الإسلام، ولكن هنا المراد به الحساب أن الله يجازيهم بأعمالهم ويُحاسبهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر[7]. ï´؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 5]: يعني نعبدك وحدك لا بقوتنا، ولكن بحولك وقوتك وإعانتك ربنا، فالمعنى نعبدك وحدك مستعينين بك، لا حول لنا ولا قوة على ذلك إلا بك يا ربنا، فهو المعين، وهو الموفق سبحانه وتعالى[8]. ï´؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ï´¾ [الفاتحة: 6 - 7]. أرشد عباده إلى أن يسألوه الهداية إلى صراطه المستقيم، ثم بيَّن ذلك فقال: ï´؟ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ï´¾ [الفاتحة: 7]، فأوضح سبحانه أن الصراط المستقيم هو صراط المنعم عليهم، وهم الذين وفَّقهم الله للعلم والعمل، هم أهل العلم النافع والعمل الصالح، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون المذكورون في سورة النساء في قوله عز وجل: ï´؟ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ï´¾ [النساء: 69]، هؤلاء هم المنعم عليهم، وهم أهل العلم والعمل الذين وفَّقهم الله، فعرَفوا الحق وعمِلوا به، وساروا عليه فصاروا بذلك موصوفين بهذا الوصف العظيم المنعم عليهم، ويدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون جميعًا، والرسل يدخل فيهم المؤمنون في كل أمة، ويدخل فيهم من يسمى بالمسلمين، فالمسلم أعم من المؤمن، وصراط المنعم عليهم هم الذين عرفوا الحق واستقاموا عليه، فاسأل ربك أن يهديك صراطهم؛ حتى تكون سائرًا في سبيلهم، وموافقًا لهم في طريقهم. ثم استثنى المغضوب عليهم والضالين؛ لأنهم ليسوا كذلك، فالمغضوب عليهم عرفوا ولم يعملوا، فحادوا عن الطريق، والضالون جهلوا ولم يعلموا وتعبدوا على جهالة، فهؤلاء ليسوا من أهل الصراط المستقيم، ليس من المنعم عليهم، أما اليهود وأشباههم من علماء السوء؛ فلأنهم عرفوا ولم يعملوا، فلم يوفَّقوا للنعمة الكاملة، وأُعطوا نعمة ناقصة نعمة العلم دون العمل، نعوذ بالله، فصار حجة عليهم وصار وبالًا. والقسم الثاني تعبَّدوا وعملوا، لكن على جهل وعلى غير هدى كالنصارى وأشباههم من الرهبان وعبَّاد السوء، فهؤلاء ليسوا من المنعم عليهم، وإنما المنعم عليهم هم الذين تفقهوا في الدين، وتبصروا فيه، وعرَفوا دين الله وحقَّه ثم عملوا، الله يجعلنا وإياكم منهم[9]. فائدة في مخرج الضاد والظاء: وكثير من الناس قد يتكلف في الضاد والظاء، والمؤلف[10] يُبين أن الأمر في هذا واسع؛ لأن مخرجيهما متقارب، فيغتفر تحرير ذلك في غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فلا ينبغي التشديد في ذلك[11]. [1] قال ابن كثير في تفسيره: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عبدالرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي قَالَ: ألم يقل الله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ï´¾ [الْأَنْفَالِ: 24]، ثُمَّ قَالَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قبل أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: نَعَمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ. [2] (صوتي) تعليق ابن باز على تفسير ابن كثير لسورة الفاتحة. [3] المصدر السابق. [4] أسئلة وأجوبة الجامع الكبير المجموعة الثانية رقم السؤال (333). [5] يقصد صاحب فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد. [6] فتاوى الدروس من موقع الشيخ: السؤال: ما الصواب في معنى الحمد؟ [7] (صوتي) تعليق ابن باز على تفسير ابن كثير لسورة الفاتحة بتصرف يسير. [8] المصدر السابق. [9] المصدر السابق. [10] يعني ابن كثير رحمه الله [11] المصدر السابق.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() تفسير ابن باز لسورة البقرة (الآيات: 1 – 10) فضل قراءة سورة البقرة في البيت حسام بن سعيد الدعيس قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله معلقًا على الأحاديث والآثار التي ساقها ابن كثير في فضل سورة البقرة: "وهذا يدل على فضل هذه السورة العظيمة، والأحاديث فيها كثيرة، وهي سورة عظيمة، أطول سورة في كتاب الله عز وجل، وفيها من الأحكام العظيمة والبيان عن أسماء الله وصفاته وعن رسوله عليه الصلاة والسلام وأحكامها العظيمة - ما هي جديرة بهذا الفضل العظيم"[1]. ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم؛ فإن الشيطان يفرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة))، هذا يدل على أن قراءة سورة البقرة، وقراءة القرآن والإكثار من الذكر - من أسباب طرد الشيطان والحماية من شرِّه، فيشرع للمرأة وللرجل أن يكون لهم نصيبٌ من القراءة في البيت من قراءة القرآن، والإكثار من ذكر الله؛ لأن ذلك من أسباب السلامة من شرِّ عدو الله الشيطان[2]. ﴿ الم ﴾ [البقرة: 1]: القول الصحيح في الأحرف المقطعة في القرآن: الله سبحانه وتعالى ذكرها للتنبيه على عظم شأن القرآن، وأن هذا القرآن العظيم المعجز المشتمل على الأحكام العظيمة، والأخبار الصادقة المتنوعة مركبٌ من هذه الحروف التي تقرؤونها وتعرفونها (أ، ب، ت، ث، ج، ح)، فهي حروف معروفة لهم، مركبٌ منها الكلام، فهذا الكلام العظيم الذي جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام هو مركب من هذه الحروف المجموعة من هذه الحروف، واشتمل على هذه المعاني العظيمة، أما معانيها، فالصحيح في هذا أنه يُقال في هذا: الله أعلم. والأقوال التي ذكرها[3] كلها ليس عليها دليل واضح، لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع؛ فلهذا يُقال فيها: الله أعلم؛ لِما هو السر فيما هو معناها في النص في (الم، والمص، وحم، والمر، وإلى آخره)، فالله جل وعلا أعلم بالمعنى من ذكرها في كتابه العظيم سبحانه وتعالى. وأما أن فيها تنبيهًا على أن هذا كتاب عظيم الذي أنتم تتلونه وتقرؤونه، مركب من هذه الحروف التي يتخاطب بها الناس، هذا هو معناها من جهة الحكمة. ولكن الخلاصة في هذا أن الحروف المقطعة ليس في النص ما يدل على معناها، فالصواب في هذا ما قاله أهل القول الأول، وهو أن الله جل وعلا أنزلها لحكمة عظيمة ولفائدة كبيرة، وهذا المعنى الله أعلم به سبحانه وتعالى[4]. ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]: ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ لا شكَّ فيه؛ يعني: هذا كتاب لا ريب فيه أنه من عند الله، وأنه كلام الله سبحانه وتعالى، ثم بعد هذا هو ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾؛ يعني: هاديًا للمتقين؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، و"فيه" خبر (لا)، "لا ريب فيه" جملة تامة. وهو في الحقيقة هدًى للناس جميعًا، هدًى للجن والإنس جميعًا؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، ولكن لمَّا لم ينتفع به إلا أهل الإيمان، صار كأنه هدًى لهم خاصة؛ لأن أولئك لم ينتفعوا به ولم يهتدوا به، فقد حُرِموا من هدايته، فصار كأنه ليس بهادٍ لهم، وصار كأنه إنما جاء هاديًا لهؤلاء الذين وفِّقوا له وهم المؤمنون، وإلا فهو في نفسه هدًى للجميع لو اهتدوا به، وتدبروا وتعقلوا، ووفقوا لاهتدَوا[5]. ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]: الإيمان بالغيب معناه: التصديق بكل ما أخبر الله به من أمور الغيب؛ ما أخبر به عن ذاته، وعن أسمائه وصفاته، وعن الجنة والنار، وعما يكون في آخر الزمان، وعما يكون يوم القيامة من الأهوال والحساب والجزاء، كله غيب، والمؤمن يؤمن بهذا كله، وبكل ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ثم هذا الإيمان بقلبه ما هو إيمان مجرد، إيمان معه عمل، معه خشية الله وتعظيم الله، وتعظيم أوامره وتعظيم نواهيه، والعمل بما أمر به من اجتهاد وصوم، وزكاة وحج وجهاد، وغير هذا، وترك ما نهى عنه؛ ترك الشرك، وترك الزنا، ترك الفواحش، ترك العقوق، ترك كل ما حرم الله، كله داخل في الإيمان بالغيب، الذين يؤمنون بالغيب إيمانًا تامًّا يشمل: تصديق القلوب، وتصديق اللسان، وتصديق الجوارح بالعمل. والمؤمنون بالغيب كما آمنوا بالشهادة وأشد، وثمرة إيمانهم بالغيب خشية الله وتعظيمه، وأداء حقه، وترك معصيته، والقيام بحق المؤمنين وحق غيرهم؛ لأن إيمانهم يدعوهم إلى هذا ويقتضي هذا، كما أن إيمانك بأن لفلان عليك حقًّا وله عليك دَيْنًا، يقتضي أن تؤديَه حقه، إيمانك بأن لفلان عليك حقَّ قصاصٍ حق دية، يقتضي أن تسدد حقه وتعطيَه حقه، وهكذا إيمانك بأن عليك أن تصليَ كذا وكذا في اليوم والليلة، يجب عليك أن تؤديَ هذا الحق، إيمانك بأن عليك زكاة، يجب أن تؤديَ هذه الزكاة، إيمانك بأن عليك برَّ الوالدين يقتضي أن تبرَّ والديك، فهكذا الإيمان يقتضي العمل بالذي آمنت به[6]. ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 3]: المعنى أن إقامة الصلاة تشمل كل ما يتعلق بها من جهة الوقت، ومن جهة الطهارة، ومن جهة الأداء كما شرع الله، فالمؤمنون يقيمونها كما شرع الله، ويؤدونها قائمة كاملة تامة في وقتها وطهارتها وشرائطها وفرائضها، وجميع ما شرع الله فيها لهم بها عناية، وهكذا المؤمن وهكذا المؤمنة؛ كما في الآية الأخرى قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ [التوبة: 71]، وهذا جاء في عدة آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة ﴾ [البينة: 5]، ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11]، في آيات كثيرة جدًّا، وهذا يوجب للمؤمن العناية ... جل وعلا فرض ذلك كثيرًا: ثناءً وأمرًا ... وهذا يوجب للمؤمن لا سيما طالب العلم المقتدى به أن يعتنيَ بهذا الأمر، وأن تكون صلاته مقامة؛ حتى يتأسى به زميله ومَن يشاهده مِن أهل بيته وغير ذلك في خشوعه، في طمأنينته، في إحسان القراءة في الخشوع، وغير هذا من وجوب أمر الصلاة وشأن الطهارة، والبدار إلى الجماعة، البدار في الوقت بما يتعلق بالنساء في البيت، إلى غير هذا من وجوه العناية والإقامة[7]. ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]: ومن أهم ما يُنفَق وأعظم ما ينفق الزكاةُ، هذا أعظم شيء، ركن الإسلام، فأهم شيء هو الزكاة ... ينفقون غير الزكاة في أهليهم، وفي ضيوفهم، وفي الفقراء والمساكين إلى غير هذا، هكذا أهل الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]، وقال تعالى: ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 7]، فهذا لا يخص الزكاة بل يعم الزكاة وغيرها، والمؤمن ليس قاصرًا على الزكاة، ولا مكتفيًا بالزكاة، بل ينفق في البر والإحسان، ويواسي الفقير، ويصل الرحم، وينفق على أولاده وأهله، ويكرم الضيف، ويعمر المساجد، ويعمر المدارس، وينفق في شتى أعمال الخير، فهكذا المؤمن؛ لأنه مثل ما قال قتادة: "هذه الأموال أمانات وودائع، سوف تنتقل عنها وتتنقل عنك"؛ فبادر وسارع وأنفق قبل أن تحل بك كارثة أو بمالك أو بكما جميعًا، فالمؤمن والعاقل ذو الرشد ينتهز الفرص وينفق ويحسن حسب طاقته، وحسب ما آتاه الله[8]. ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 4، 5]: وهذه بشارة من الله جل وعلا لأهل الإيمان والهدى والاستقامة أنهم قد استقروا على الهدى، وثبتوا على الهدى، وأنهم الفائزون بالفلاح والظفر، والحصول على الخير في العاجل والآجل؛ يعني: هم المتقون الذين آمنوا بالغيب وما غاب عنهم من أمر الله وصفاته، وأمر الآخرة، والمغيبات كلها التي أخبر بها الرب عز وجل، أو أخبر بها رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهم مصدقون بذلك مؤمنون بذلك، وهم مع هذا يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله من الزكاة وغيرها، وهم مع ذلك يؤمنون بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وما أُنزل من قبله على الرسل الماضين، وهم مع هذا أيضًا بالآخرة موقنون مصدقون يقينًا حملهم على أداء الفرائض والابتعاد عن المحارم؛ لأن اليقين والإيمان الصادق يقتضي التنفيذ؛ يعني: مقتضى هذا الإيمان العظيم بالغيب هو اليقين بالآخرة والتصديق بالمنزل، مقتضى هذا الإيمان وموجبه أداء ما فرضه الله، وترك ما حرمه الله، والاستعداد الكامل لهذا الأمر الذي وُعدوا به وسوف ينتقلون إليه وهو أمر الآخرة، هؤلاء الذين هم هذه صفاتهم على هدًى من ربهم: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾؛ يعني: أولئك قد استقروا وثبتوا على الهدى؛ قال: "﴿ عَلَى هُدًى ﴾: يعني: استقروا عليه وثبتوا عليه". ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾: يعني: على نور وعلى هداية وعلى بصيرة، وهم أهل الفلاح؛ يعني: الفلاح الكامل؛ ولهذا حصر الفلاح فيهم فقال: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ كأنه لا مفلحَ غيرهم؛ لكمال فلاحهم ولكمال ظفرهم بالخير، وحصولهم على أسباب السعادة، جعلهم كأنهم هم الفالحون وحدهم؛ لأنه أتى بها في جملة اسمية مؤكدة بواو الفصل: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾: يعني: هم أهل الفلاح، والفلاح في لغة العرب: الحصول على المطلوب، فمن حصل على مطلوبه أفلح، ومن حصل على الجنة والسلامة والنجاة من النار فقد أفلح[9]. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6]: مَن سبق في علم الله أنه ليس بمهتدٍ، فلا تنفع فيه النذارة، وإنما على الرسل البلاغ، الرسل يبلغون والله الذي يعلم أحوال الناس سبحانه وتعالى، وقد سبق في علمه مَن يؤمن ومَن لا يؤمن، ومَن يهتدي ومن لا يهتدي، فلا يضرنَّ الرسل كُفْرُ مَن كَفَرَ، وهكذا الدعاة بعدهم إلى الله لا يحزنهم ذلك، إنما على الرسل والمبلغين بعدهم وعلى إثرهم - إنما عليهم البلاغ والدعوة والتوجيه، ومَن سبق في علم الله أنه لا يهتدي، فلا حيلة فيه وليس معروفًا لهم، الله الذي يعلم الغيب سبحانه وتعالى، إنما على الرسل وعلى أتباعهم البلاغ والبيان والدعوة، وبعد ذلك لا يحزن المؤمن من ضلَّ بعد ذلك: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]، ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]، ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]، فالبلاغ واجب ومتحتم، وأما كونه يهتدي بسببك أو يقبل منك أو ما يقبل، فهذا ليس إليك إنما هو إلى الله؛ فلهذا وجَّه الله نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا؛ حتى لا يحزن، حتى يطمئن قلبه، فليس الأمر إليه، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، وهكذا الدعاة إلى الله في أي مكان، لا يحزنون إذا لم يسمع الناس منهم، ولا تذهب أنفسهم عليهم حسرات؛ فالأمر ليس إليهم، إنما الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، إنما عليك البلاغ فقط والتوجيه والإرشاد والتنبيه والنصيحة، أما كونه يقبله منك ويهتدي وينتفع، فهذا ليس إليك، بل إلى الله، ومَن سبق في علم الله أنه لا يهتدي، فلستَ بهادٍ له: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 6، 7]، وهذا مما يجعل الداعية إلى الله يطمئن ويرتاح ضميره، يبلِّغ ويجتهد، ويزيل الشبهة، ويقيم الحجة، ويصبر على الأذى، وليس بعد ذلك عليه شيء[10]. ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7]: والمعنى: أنهم بسبب إعراضهم عن الحق وتكبرهم وتماديهم في الباطل؛ ختم على قلوبهم، فالختم والطبع نتيجة لما حصل منهم من البلاء والفساد، والإعراض والغفلة، والتكبر عن الحق؛ ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، كسبهم الخبيث وأعمالهم الخبيثة جرَّت الران والختم والطبع نسأل الله العافية: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، فإعراضهم عن الهدى، واستكبارهم عن الحق، وتماديهم في الباطل - أوجب هذا الران، وهذا الطبع، وهذا الختم، وهذا الزيغ، نسأل الله العافية[11]. ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8، 9]: مَن أظهر خلاف ما يبطن يسمى مخادعًا، وهو بهذا مخادع لنفسه وللمؤمنين، ومخادع لله بإظهاره خلاف ما شرع؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾ [النساء: 142]، وقال: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 9]، فمَن أظهر خلاف ما أبطن، فهو مخادع مع الله ومع عباده، وهكذا المنافق وكذا الخائن يظهر أنه ناصح وأنه مؤدي الواجب، وهو على غير ذلك، ولهذا صار المنافق أقبح من الكافر المعلن؛ فإن المعلن أتى أمرًا واضحًا، أما هؤلاء فلبَّسوا وغيَّروا، وأظهروا للناس خلاف الحقيقة؛ فحصل بهم من الضرر والفساد ما لم يحصل من الكافر المعلن؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]، نسأل الله العافية، فهم مع المسلمين في الظاهر يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون معهم ونحو ذلك، ولكنهم في الباطن مكذبون مستهزئون، عندهم من الشك والريب ما منعهم من التصديق، نسأل الله العافية[12]. ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]: قال ابن كثير: "وقوله ﴿ بِما كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ وقُرِئَ "يُكَذِّبُونَ"، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كَذَبَةً، ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا". قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز: "هذا وصفهم: التكذيب والكذب؛ فهم يكذِّبون بالحق وينكرونه، ويكْذِبون على الناس في دعواهم الإسلام، وقولهم: إنهم مسلمون وإنهم مصدقون هو كذب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، ومرض التكذيب والشك أعظم المرض، مرض البدن سهل، مرض البدن يُعطَى عليه أجرًا، ويُثاب عليه، ويُحطُّ به الخطايا، لكن مرض الشك يسبب الولوج في النار، نعوذ بالله وغضب الجبار، وكلما زاد شكه، زاد مرضه، كلما كذب بآية أو شك في آية أو في حديث، زاد مرضه؛ ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، بما يوحي إلى نبيِّه من الآيات والأحاديث والأحكام، كلما جاء شيء، زاد مرضه نسأل الله العافية، بخلاف المؤمنين، فإنه يزداد إيمانهم ويزداد هداهم، فهؤلاء ضد هؤلاء، نسأل الله العافية[13]. [1] (صوتي)، تعليق ابن باز على تفسير ابن كثير لسورة البقرة، بتصرف يسير. [2] نور على الدرب، فضل قراءة سورة البقرة في البيت، بتصرف يسير. [3] يعني: ابن كثير في تفسيره. [4] (صوتي)، تعليق ابن باز على تفسير ابن كثير لسورة البقرة، بتصرف يسير. [5] المصدر السابق. [6] المصدر السابق. [7] المصدر السابق. [8] المصدر السابق. [9] المصدر السابق. [10] المصدر السابق. [11] المصدر السابق. [12] المصدر السابق. [13] المصدر السابق.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() تفسير ابن باز لسورة البقرة (الآيات: 11 – 20) حسام بن سعيد الدعيس ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 11 - 13]. وهذا مما يسن للمؤمن الداعي إلى الله على بصيرة؛ حيث يقول له أعداء الله: إنه سفيه أو إنه أحمق، أو إنه ناقص العقل، أو ما أشبه ذلك، فإن هؤلاء لهم قدوة بهؤلاء المنافقين والمؤمن له قدوة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يضيره قول أهل النفاق والكفر بالله في حقه، وأن يستهزؤوا به، أو يسخروا به، أو يرموه بأنه ضعيف البصيرة، أو ضعيف العقل أو جاهل، أو ما أشبه ذلك لا يضره ذلك، بل عليه أن يصبر وأن يحتسب، وأن يلزم الحق وأن يثبت عليه، ولو قال أعداء الله أنه سفيه أو جاهل أو أحمق، أو ما أشبه ذلك، فهذا من قبلنا من الأخيار، وهم خيرة هذه الأمة، وهم أفضل القرون، يقول لهم المنافقون أنهم السفهاء أنؤمن كما آمن السفهاء، فهذا فيه الحث العظيم والترغيب في الصبر والثبات على الحق، وألا يزعزعه ما يقوله أعداء الله، أو يشككه ما يقوله أعداء الله بما هو عليه من الحق، بل لا يبالي بهم ولا يرفع بهم رأسًا، ويحمد الله الذي عافاه مما ابتلاهم به، ومع هذا يستمر في الدعوة والتوجيه والإرشاد: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42][1]. ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 14- 15]. وهذا لا يمنع من استهزائه بهم في الدنيا، فهو يستهزئ بهم في الدنيا وفي الآخرة، ويمدهم في طغيانهم يعمهون، فاستهزاؤه بهم في الدنيا ستره عليهم في بعض الأحيان، وعدم إظهار نفاقهم وإملاؤهم، وعدم المعاجلة بالعقوبة، هذا من المكر بهم والاستهزاء بهم، كون إملائه لهم ولم يعجل لهم العقوبة، حتى يستمروا بما هم عليه من الباطل .... وربما ظنوا بهذا أنهم على هدى لما أنظرهم الله وأمهلهم، فهذا نوع من الاستهزاء بهم والمكر بهم، ويوم القيامة كذلك يظهر لهم نورًا، ويظنون أنهم ناجون، ثم يسخر منهم، ويساقون إلى النار، نسأل الله العافية، فهذا خداع لهم وسخرية بهم كما فعلوا في الدنيا جزاءً وفاقًا، فهذا الوصف لله في هذا المعنى حق؛ لأنه استهزاء بهم في محله وفي مقابله بخلاف الاستهزاء الظالم، فإن الله ينزه عنه سبحانه وتعالى، أما استهزاؤه به ومكره بهم، وخداعه لهم وكيده لهم كما فعلوا بالحق، فهذا لا نقص فيه[2]. ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16] والمعنى أنهم اعتاضوا هذا أخذوا الضلال عوضًا من الهدى نسأل الله العافية، سماه شراءً لأنه مبادلة، تركوا الهدى وأخذوا الضلالة نسأل الله العافية، إيثارًا للباطل على الحق؛ لأن القلوب قد عمِيت، ولهذا آثرت الباطل على الحق، نسأل الله العافية، ﴿ فإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ﴾؛ أي: دللْناهم، الهداية هنا بمعنى الدلالة، يعني بُلِّغوا ودُلُّوا إلى الخير، ولكنهم ﴿ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ﴾ [فُصِّلَتْ: 17]؛ يعني اعتاضوا هذا عن هذا نسأل الله العافية[3]. قال جل وعلا: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 17-20]. هذه حال المنافقين، فمنهم الأعمى الذي لا حيلة له، بل هو في ضلالٍ بعيدٍ، وفي ظلمةٍ دامسةٍ، يكون في ضلاله وإصراره على الباطل، ومنهم مَن يتردد ويتحير: فتارةً يفيق، وتارةً يرجع إلى باطله، مثل صاحب الضوء الذي تارةً تشب وتنور، وتارة تطفأ. والمقصود أنهم أقسام، فمنهم: المُطْبِق في نفاقه، المعادي لله ولرسوله، الكافر في باطن أمره، المعادي للحق، فهذا في ظلمةٍ دائمةٍ، ومنهم مَن تارةً وتارةً، فتارةً يحصل عنده شيءٌ من الإقبال، وتارةً يعمى ويصدُّ عن الحق، وتارةً يبقى مذبذبًا متحيرًا. فالواجب الحذر من هذه الصفات، وأن يكون المؤمن في غاية من اليقين والاطمئنان للحق، والثبات عليه بأدلته الشرعية؛ حتى لا يُشابه أعداء الله المنافقين الحائرين، وهذا يحصل بالتَّفقه في الدين، والتعلم، والعناية بالقرآن، والإقبال عليه، والإكثار من تلاوته، وبهذا يظهر الحق ويتضح، وهكذا صحبة الأخيار الطيبين وملازمتهم، والحذر من صحبة الأشرار. فهذه أسباب السعادة والطُّمأنينة والإيمان الصادق، أمَّا إذا تساهل العبدُ، وصاحب الأشرار، وأعرض عن العلم؛ فإنه يبقى في الحيرة والظلمة والشك والنفاق إلى أن يمنَّ الله عليه بالهداية، أو يتوفَّاه على هذه الحالة السيئة، نسأل الله العافية. ولا شكَّ أنَّ هذا يُنذر أصحاب القلوب الحية، ويُحذرهم من التساهل، وعدم العناية بأمر الدين، وأنَّ الواجب على كل مؤمنٍ أن يتفقَّه في الدين، وأن يتبصَّر، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين))، فلا بدَّ من التفقه والإقبال على الحق، والنصح لله ولعباده، وعدم صحبة الأشرار، ويكون مع الأخيار، ويصبر على صحبتهم، وعلى التفقه معهم في الدين، وعلى لزوم الحق، وترك الباطل؛ لعله يبقى على هذا، ويموت على هذا. رزق الله الجميع التوفيق والهداية[4]. [1] (صوتي) تعليق ابن باز على تفسير ابن كثير لسورة البقرة بتصرف. [2] المصدر السابق. [3] المصدر السابق. [4] (صوتي) تعليق الشيخ على الوابل الصيب الشريط السادس: عند قوله: والله سبحانه يقرن ين الحياة والنور؛ انظر: موقع الشيخ ابن باز الرسمي.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |