|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#71
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) [البقرة: 2] قوله: ï´؟ ذَلِكَ الْكِتَابُ ï´¾ "ذا": اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب، وهو عامٌّ لكل من يصح خطابه. والمراد بـï´؟ الْكِتَابُ ï´¾ القرآن الكريم، وهو على وزن "فعال" بمعنى "مفعول"؛ أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ، وهو أيضًا مكتوب بالصحف التي بأيدي الملائكة، كما قال تعالى: ï´؟ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ï´¾ [عبس: 13 - 16]. وهو مكتوب بالمصاحف التي بأيدي المؤمنين. وأشار إليه بإشارة البعيد "ذلك"؛ لعظيم شرفه، وعلو منزلته، فهو أعظم وأشرف الكتب على الإطلاق، وأفضل كتب الله عز وجل؛ لما اشتمل عليه من الإعجاز في ألفاظه ومعانيه، وأحكامه وأخباره، كما قال تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ï´¾ [الحجر: 87]، وقال تعالى: ï´؟ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ï´¾ [ق: 1]، وقال تعالى: ï´؟ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ï´¾ [البروج: 21، 22]، وقال تعالى: ï´؟ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [ص: 29]، وقال تعالى: ï´؟ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [الأنعام: 155]، وقال تعالى: ï´؟ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ï´¾ [الواقعة: 77]، وقال تعالى: ï´؟ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ï´¾ [الإسراء: 9]، وقال تعالى: ï´؟ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ï´¾ [النحل: 89]، وقال تعالى: ï´؟ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ï´¾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ï´؟ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ï´¾ [الحشر: 21]، وقال تعالى: ï´؟ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ï´¾ [المائدة: 48]. ï´؟ لَا رَيْبَ فِيهِ ï´¾: الريب: الشكُّ؛ أي: لا شك فيه أبدًا، لا قليل ولا كثير، بأي وجه من الوجوه، فالجملة خبرية، والنفيُ فيها على بابه، وعلى عمومه وإطلاقه، فالقرآن بذاته حقٌّ لا شك فيه، ينزل من عند الله يقينًا وحقًّا، وكل ما جاء فيه حق وصدق، كما قال تعالى: ï´؟ الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [السجدة: 1، 2]، وقال تعالى: ï´؟ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ï´¾ [الإسراء: 105]، وقال تعالى: ï´؟ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ï´¾ [فصلت: 42]، وقال تعالى: ï´؟ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ï´¾ [الشعراء: 193، 194]، وقال تعالى: ï´؟ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ï´¾ [الحجر: 9]، وقال تعالى: ï´؟ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ï´¾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام. ولا يقدح في عموم نفيِ الشك في القرآن وإطلاقه شكُّ مَن شَكَّ فيه مِن أهل الكفر والزيغ والضلال؛ فقد يُنكِرُ الأعمى ضوءَ الشمس، والمريضُ طعمَ الماء، كما قيل: قد تُنكِرُ العينُ ضوءَ الشمس مِن رَمَدٍ *** ويُنكِرُ الفمُ طعمَ الماءِ مِن سَقَمِ[1] وقال المتنبي: ومَن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ *** يجدْ مُرًّا به الماء الزُّلالا[2] وأيضًا فالجملة وإن كانت خبرية تدلُّ على نفي الريب والشك مطلقًا في القرآن، فهي متضمِّنة لمعنى النهي عن الشكِّ فيه. [1] البيت للبوصيري. انظر: "ديوانه" ص247. [2] انظر: "ديوان المتنبي" ص141.
__________________
|
#72
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ï´؟ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ï´¾ [البقرة: 2]: "هدى" خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو هدى للمتقين؛ أي: نور وبيان لهم يدُلُّهم إلى الطريق المستقيم، وسبب لتوفيق الله لهم في الدنيا والآخرة. و"المتقين" جمع مُتَّقٍ؛ أي: الذين اتقوا الله، وخافوا عذابه. والتقوى هي أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقايةً؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، و"التقوى" أصلها "وَقْوى"؛ قُلِبت الواو تاءً لعلة تصريفية، فقيل: "تقوى"، وهي مأخوذة من الوقاية من الضرر والشيء المَخُوفِ؛ كالوقاية من البرد والحرِّ والشوك، ونحو ذلك. وأعظم ذلك الوقايةُ من عذاب الله تعالى؛ بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وهي تَجمَعُ بين العلم والعمل والاحتساب، كما قال طَلْقُ بن حبيب في بيان معنى التقوى: "أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله"[1]. قال الشاعر: لَعَمرُك ما يدري الفتى كيف يتقي ♦♦♦ إذا هو لم يجعل له اللهُ واقيَا[2] وخُصَّتِ الهداية للمتقين؛ لأنهم هم المنتفعون بالقرآن، الموفَّقون للاهتداء والعمل به، كما قال تعالى: ï´؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ï´¾ [فصلت: 44]، وقال تعالى: ï´؟ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ï´¾ [الإسراء: 82]، وقال تعالى: ï´؟ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ï´¾ [النحل: 89]. قال ابن القيم: "فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ، تفوق هدايته هداية أخرى، وفوق تلك الهدايةِ هدايةٌ أخرى إلى غير غاية، فكلما اتقى العبد ربَّه ارتقى إلى هداية أخرى، فهو في مزيد هداية، ما دام في مزيد من التقوى، وكلما فوَّتَ حظًّا من التقوى فاتهُ حظٌّ من الهداية بحسَبِه، فكلما اتقى زاد هُداه، وكلما اهتدى زادتْ تقواه"[3]. وإلا فإن القرآن هدى هداية عامة للناس جميعًا، كما قال تعالى: ï´؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ï´¾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ï´؟ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ï´¾ [إبراهيم: 1]، وقال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [يونس: 57]. [1] أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (473)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 64) وابن أبي شيبة في "كتاب الإيمان" ص (99). [2] البيت لأفنون التغلبي. انظر: "لسان العرب" مادة "وقى"، "الصناعتين" ص217. [3] انظر "بدائع التفسير" (1/ 261).
__________________
|
#73
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قوله تعالى: ï´؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ï´¾ [البقرة: 3، 4]. ذكر الله عز وجل في الآية السابقة أن القرآن هدًى للمتقين؛ لأنهم هم الذين يهتدون وينتفعون به، ثم أَتْبع ذلك بذِكرِ صفاتهم، فقال تعالى: ï´؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ï´¾، وهذه هي الصفة الأولى. والإيمان في اللغة: التصديق، كما قال تعالى: ï´؟ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [التوبة: 61]، وقال إخوة يوسف فيما حكى الله عنهم: ï´؟ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ï´¾ [يوسف: 17]؛ أي: وما أنت بمصدِّقٍ لنا. والإيمان في الشرع: قول باللسان، واعتقاد بالجَنان وهو القلب، وعمل بالأركان، وهي الجوارح. ï´؟ بِالْغَيْبِ ï´¾ الغيب: ما غاب عن العباد فلم يُدرِكوه بحواسِّهم، كما قال تعالى عن نفسه: ï´؟ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ï´¾ [الأنعام: 103]. والمعنى: الذي يصدِّقون ويُقِرُّون بما أخبر الله به عز وجل في كتابه، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب؛ كأركان الإيمان الستة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشرِّه، كما قال تعالى: ï´؟ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ï´¾ [البقرة: 177]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه))[1]. وكذلك الإيمان بكل ما أخبَرَ الله به ورسوله من أمور الغيب السابقة واللاحقة؛ كأخبار الأمم السابقة، وعلامات الساعة، والجنة والنار، وغير ذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجَدوا قومًا يذكرون الله تنادَوا: هلُموا إلى حاجتكم، قال: فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربُّهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون يسبِّحونك ويكبِّرونك، ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا وتحميدًا، وكذلك تسبيحًا... الحديث))[2]. وإنما بدأ بذكر الإيمان بالغيب؛ لأنه ركن الدين الركين، وأسُّه المتين، فالله غيب، وملائكته غيب، وكتبه ورسله غيب، واليوم الآخر غيب، والجنة والنار غيب، فمن لم يؤمن بالغيب، مما أخبَرتْ به الرسلُ، وجاءت به الكتب من عند الله، فليس بمؤمن، كأهل الإلحاد والكفر، وأهل البدع من المعتزلة والجهمية وأتباعهم من العقلانيين وغيرهم. وما ضلَّ أكثرُ الخلق إلا بسبب عدم الإيمان بالغيب، وتحكيمِ الحواس والإدراك، مما يدل على مدى ضعف الإنسان وقلة علمه، كما قال تعالى: ï´؟ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 85]؛ ولهذا لمَّا قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: ((نورٌ أنى أراه؟!))[3]. [1] أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 20)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم أيضًا من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الدعوات (6408)، ومسلم في الذكر والدعاء (2689)، والترمذي في الدعوات (3600)، وأحمد (2/ 251). [3] أخرجه النسائي في السهو (1305)، من حديث عمَّار بن ياسر رضي الله عنه.
__________________
|
#74
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) ï´؟ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ï´¾ [البقرة: 3]: هذه الصفة الثانية من صفات المتقين، فبعد أن ذكر إيمانهم وتصديقهم بالغيب، أَتْبَعَ ذلك ببيان إتْباعِهم ذلك بالعمل؛ لأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، فقال: ï´؟ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ï´¾. أي: ويقيمون الصلاة إقامةً تامة بشروطها وأركانها، وواجباتها وسننها، ويأتي التعبير غالبًا في القرآن الكريم والسُّنة النبوية بإقامة الصلاة، دون أن يقال: (يصلُّون)؛ لأن المهم في الصلاة إقامتُها إقامة تامة كما شرَعَها الله عز وجل. والمراد بالصلاة ما يعم الفرائض والنوافل. والصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: ï´؟ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ï´¾ [التوبة: 103]؛ أي: ادعُ لهم، وقال تعالى: ï´؟ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ï´¾ [البقرة: 157]. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم صلِّ على آل أبي أوفى))[1]. وفي الحديث: هل بقي من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة عليهما، والاستغفار لهما))[2]. وقال الشاعر: تقول بنتي وقد قرَّبْتُ مرتحلًا ![]() يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصابَ والوجَعَا ![]() عليكِ مِثلُ الذي صلَّيْتِ فاغتمضي ![]() نومًا فإنَّ لِجَنْبِ المرء مضطجعَا[3] ![]() والصلاة في الشرع: التعبُّد لله عز وجل بأقوال وأفعال مخصوصة معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. وبدأ بذكر الصلاة؛ لأنها أعظم العبادات، وفيها كمال التعظيم لله عز وجل، والتذلُّل والخضوع له، وهي عمود الإسلام وقاعدته التي يدور عليها رحاه، فمن أقامها وحفظها حَفِظَه الله ووفَّقه في دينه ودنياه وأخراه، فلا تسأل عن سعادته، ومن ضيَّعها خَسِر دينه ودنياه وأخراه، فلا تسأل عن شقائه[4]. ï´؟ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ï´¾ [البقرة: 3]: هذه هي الصفة الثالثة من صفات المتقين، وهي الإنفاق مما رزَقَهم الله، فوصفهم بإقام الصلاة، التي هي حق الله تعالى، وفيها يتجلى كمالُ الخضوع له، والإحسان في عبادته، ثم وصفهم بالإنفاق مما رزقهم، وفيه يتجلى كمالُ الإحسان إلى الخلق. و((ما)) في قوله ï´؟ وَمِمَّا ï´¾ موصولة، أو مصدرية؛ أي: ومن الذي أعطيناهم، أو ومِن عطائنا يُنفِقون، والرزق هو العطاء؛ أي: ومن الذي أعطيناهم من الرزق والخير يُنفِقون. والإنفاق: إخراج المال وبذلُه، والمراد به هنا بذل المال في وجوهه المشروعة، ومن أعظم ذلك وأهمِّه الزكاةُ الواجبة، فهي أعظم العبادات بعد الصلاة، وأعظم العبادات المالية مطلقًا، وهما من أعظم أركان الإسلام ومبانيه العِظام؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت))[5]. وفي قوله: ï´؟ رَزَقْنَاهُمْ ï´¾ تذكير بأن ما لديهم من رزق وعطاء هو من الله عز وجل، وأن المال مال الله عز وجل، لا يجوز البخلُ به، ومنعُ حقوق الله فيه، بل يجب إخراج النفقات الواجبة فيه؛ كالزكاة، والنفقة على الأهل والأولاد، ونحو ذلك، كما ينبغي التصدُّقُ منه في الوجوه المستحبة؛ قال تعالى: ï´؟ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ï´¾ [الحديد: 7]، وقال تعالى: ï´؟ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ï´¾ [النور: 33]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: أَنفِقْ أُنفِقْ عليك))[6]، وقال صلى الله عليه وسلم لأسماءَ رضي الله عنها: ((أَنفِقي، ولا تُحصِي فيُحصيَ الله عليك، ولا تُوعي فيُوعيَ الله عليك))[7]. وقد أحسَنَ القائل: وما المالُ والأهلُونَ إلا ودائعٌ = ولا بد يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ[8] وقال الآخر: أصُونُ عِرضي بمالـي لا أدنِّسُهُ = لا بارَكَ الله بعد العِرضِ بالمالِ[9] وقال الآخر: المالُ كالماء إنْ تَحبِسْ سواقيَهُ ![]() يَأسِنْ وإن يجرِ يعذُبْ منه سَلسالُ ![]() اللهُ أعطاك فابذُلْ مِن عطيِته ![]() فالمالُ عارية والعمرُ رحَّاُل ![]() أحتالُ للمال إنْ أودى فأجمعه ![]() ولست للعِرض إنْ أودى بمُحتالِ ![]() البخلُ يودي بأقوامٍ ذوي حسَبٍ ![]() ويقتدي بلئامِ الأصل أنذالُ ![]() [1] أخرجه البخاري في الزكاة (1498)، ومسلم في الزكاة (1078)، وأبو داود في الزكاة (1590)، والنسائي في الزكاة (2459)، وابن ماجه في الزكاة (1796)، وأحمد (4/ 353، 354) من حديث عبدالله بن أبي أوفى. [2] أخرجه أبو داود في الأدب (5142)، وابن ماجه في الأدب (2664)، من حديث مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه. [3] البيتان للأعشى، انظر "ديوانه" ص (151). [4] انظر الكلام على قوله تعالى: ï´؟ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ï´¾ [البقرة: 238]. [5] أخرجه البخاري في الإيمان (8)، ومسلم في الإيمان (16)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5001)، والترمذي في الإيمان (2609). [6] أخرجه البخاري في تفسير سورة هود (4684)، ومسلم في الزكاة (993). [7] أخرجه البخاري في الهبة (2591)، ومسلم في الزكاة (1029)، وأبو داود في الزكاة (1699)، والنسائي في الزكاة (2551)، والترمذي في البر والصلة (1960)، من حديث أسماء رضي الله عنها. [8] البيت للبيد. انظر: "ديوانه" ص170. [9] البيت لحسان رضي الله عنه. انظر: "ديوانه" ص 192.
__________________
|
#75
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4] ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4]: هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين؛ أي: والذين من صفتهم أنهم يُصدِّقون بالذي أُنزِل إليك، وهو القرآن الكريم، ويعملون بما فيه، وبدأ بالقرآن - وهو خاتم كتبِه عز وجل وآخرُها - لأنه أفضل كتب الله عز وجل، مهيمن عليها، وناسخ لها. ﴿ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾؛ أي: ويصدِّقون بالذي أُنزِل مِن قبلِك من الكتب السماوية السابقة؛ كالتوراة والإنجيل والزَّبور، وصُحُفِ إبراهيم وموسى، وغيرها، وأن الله عز وجل أنزَلَها على رسله عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى في آخر السورة: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ [النساء: 152]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [النساء: 136]، وقال تعالى: ﴿ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ﴾ [العنكبوت: 46]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما حدَّثَكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم، وقولوا: آمنَّا بالله ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدِّقوه، وإن كان حقًّا لم تكذِّبوه))[1]. ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4]: هذه هي الصفة الخامسة من صفات المتقين، وهي إيقانُهم بالآخرة، ونص عليه وخصَّه بالذِّكر مع دخوله في الإيمان بالغيب؛ لأهميته؛ لأن الإيمان بالآخرة من أعظم ما يَحمِلُ على امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن فيه المجازاة على الأعمال، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لولا الإيمان باليوم الآخر، لرأيتَ من الناس غير ما ترى"؛ أي: لَتهالَكَ الناس على الشهوات والمناهي، وتَنكَّر بعضهم لبعض. والآخرة: الدار الآخرة التي بعد الدنيا والبعث، سمِّيت بذلك؛ لأنها متأخرة من حيث الزمن بعد الدنيا، وهي الدار الحقة، التي ينبغي أن يعمل ويستعد لها، ويُحسَب لها كلُّ حساب؛ لأنها هي الحياة الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]. واليقين: الإيمان والعلم الجازم الذي لا يتطرق إليه شكٌّ؛ أي: يؤمنون إيمانًا جازمًا بالبعث بعد الموت، والحساب والجزاء على الأعمال، بالثواب والعقاب، والجنة والنار، ويستعدُّون لذلك بفعل المأمورات وترك المنهيَّات. [1] أخرجه أبو داود في العلم (3644)، وأحمد (4/ 136)، من حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه.
__________________
|
#76
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ﴾ قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5]. الإشارة إلى المتقين المتصفين بالصفات المذكورة، وأشار إليهم بإشارة البعيد ﴿ أُولَئِكَ ﴾ في الموضعين؛ تعظيمًا لشأنهم، وبيانًا لرفعة مرتبتهم، وعلوِّ منزلتهم. ﴿ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾؛ أي: على هداية من ربِّهم؛ هداية علم وبيان بكتابه الذي هو هدى للمتقين، وهداية توفيق، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54]؛ أي: دالُّهم ومرشدُهم ومنوِّر قلوبهم بالإيمان والعلم النافع، وموفِّقهم للعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]. وجاء في التعبير بـ((على)) الدالة على الاستعلاء؛ لأن صاحب الهدى مستعلٍ بالهدى مرتفعٌ به، ونكَّر ((هدى)) للتعظيم؛ أي: هدى عظيم، وفي قوله: ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ تعظيم أيضًا للهدى الذي منَحَهم الله إياه، وامتنان عليهم به؛ لأنه من ربِّهم، خالقهم ومالكهم ومربِّيهم بربوبيته الخاصة بأوليائه، فأَعظِمْ به من هدى، وأَكرِمْ بها من مِنَّة! ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾: الفلاح: الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب. أي: أولئك هم الفائزون بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ الفائزون بالجنة، الناجون من النار، وقد أكَّد هذا الوعدَ لهم، وحصَرَه فيهم بكون الجملة اسمية، معرَّفة الطرفين، وبضمير الفصل ((هم)). الفوائد والأحكام: 1- إثبات إعجاز القرآن الكريم وعظمته، والتحدي بفصاحته وبلاغته وإعجازه؛ لقوله تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ [البقرة: 1، 2]. 2- أن القرآن العظيم مكتوب في اللوح المحفوظ، وبالصحف التي بأيدي الملائكة، وبالمصاحف؛ لقوله تعالى: ﴿ الْكِتَابُ ﴾. 3- أن القرآن العظيم أعظمُ الكتب، وأعظم كتب الله تعالى، وإذا أُطلق بالتعريف ﴿ الْكِتَابُ ﴾ فالمراد بذلك القرآن الكريم؛ لقوله تعالى: ﴿ الْكِتَابُ ﴾، ولا يقدح في هذا إطلاق ﴿ الكِتَاب ﴾ على التوراة؛ لأنها كانت أعظم كتب الله تعالى المنزَّلة قبل القرآن الكريم، فلما نزل القرآن الكريم صار هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، والحاكم عليها، وأعظمها وأفضلها، كما قال تعالى في سورة المائدة بعدما امتدح التوراة والإنجيل: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]. 4- أن القرآن الكريم حقٌّ وصدق لا شك فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2]. وبهذا يُرَدُّ على القول بتعدُّد نزول بعض السور وتكرُّره، بناءً على آثار رويتْ في ذلك صحَّتْ أو لم تصحَّ. كما يُرد بهذا على قول من قال: إن ترتيب السور كان اجتهادًا من الصحابة رضي الله عنهم. كما يُرد بهذا قول من قال: إن البسملة لم تكتب في مطلع سورة براءة؛ لاختلاف الصحابة: هل هي والأنفال سورة واحدة أو سورتان؟ وهذا باطل؛ فالصحيح أنها لم تكتب في مطلع براءة؛ لأنها لم تنزل مع هذه السورة، ولو نزَلتْ لَحُفظت، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. كما يُرد بهذا قول من قال: إن للقرآن الكريم تَنزُّلَين: الأول: من السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ومن ثم نزل مفرَّقًا بعد ذلك. والصحيح: أن القرآن نزل مرة واحدة؛ نزل من السماء السابعة من عند الله تعالى بواسطة جبريل مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول نزوله في رمضان، ثم تتابَعَ نزوله بعد ذلك مفرَّقًا. 5- أن القرآن هدى وبيان وإرشاد للمتقين؛ لقوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]. 6- فضل التقوى والترغيب فيها، وعظم مكانة المتقين؛ لأن الله خصَّهم بهداية القرآن الكريم الخاصة، وإلا فهو من حيث العموم هدى لجميع الناس. 7- الثناء على المتقين بذكر صفاتهم والتنويه والترغيب فيها؛ من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق مما رزَقَهم الله، والإيمان بالقرآن والكتب المنزلة قبله، والإيقان بالآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 3، 4]. 8- عظم مكانة الإيمان بالغيب من الإيمان؛ فهو أصل الإيمان، ومن أعظم واجباته وأركانه، فالإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر كلُّ ذلك من الإيمان بالغيب؛ لهذا جُعل من أخصِّ وأول صفات المتقين الإيمانُ بالغيب، وفي هذا ردٌّ على المعتزلة ومن سار على منهجهم من العقلانيين الذي لا يوقنون إلا بالمُشاهَد المحسوس. 9- عظم مكانة الصلاة في الدين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 3]، ولا غرو في هذا؛ فهي عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه بعد الشهادتين، وأعظم العبادات، والصلة بين العبد وبين ربِّه؛ لأن الله جعلها أول صفات المتقين بعد الإيمان بالغيب. 10- فضل الإنفاق من رزق الله في الواجب والمستحب؛ لأن الله ثنَّى بالإنفاق بعد إقام الصلاة؛ ولهذا فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي أعظم العبادات المالية، وأعظم العبادات بعد الصلاة. 11- لا بد من الإيمان بجميع ما أُنزِل على الرسل، فبهذا يصح الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4]. 12- إثبات أن الله عز وجل عالٍ على خلقه، بائنٌ منهم، له علوُّ الذات وعلوُّ الصفات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4]، والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل. 13- إثبات أن القرآن الكريم منزَّلٌ من عند الله عز وجل غير مخلوق، وكذا غيره من كتب الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [البقرة: 4]. 14- وجوب الإيقان بالآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4]. 15- جمَعَ التشريع الإسلامي بين طهارة الباطن والظاهر، وأعمال القلوب الباطنة، وأعمال الجوارح الظاهرة، بين الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله. 16- حصر هداية الله تعالى في المتقين المتصفين بالصفات المذكورة، وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 5]. 17- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 5]. 18- حصر الفلاح والفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة وتأكيده للمتقين الموصوفين بما ذكر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5].
__________________
|
#77
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 6، 7]. عظَّم الله عز وجل كتابَه العزيز في مطلع السورة، وبيَّن أنه هدى للمتقين المتصفين بالصفات المذكورة، وأكَّد وحصر الهداية والفلاح فيهم، ثم ذكَرَ عز وجل الذين لم يهتدوا بالقرآن، ففاتَهم هدى ربِّهم وتوفيقُه. وهم قسمان: قوم أظهَروا الكفر، ذكَرَهم عز وجل بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ الآيتين [6، 7]، وقوم أظهَروا الإيمان وأبطَنوا الكفر، وهم المنافقون، ذكرهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8] الآيات، إلى قوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]، وهكذا جاء تقسيم الناس في سورة النور إلى ثلاثة أقسام: مؤمنين، وكفار، ومنافقين. قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ الكفر معناه في اللغة: الستر والتغطية، ومنه سمي الزارع كافرًا؛ لأنه يستر البذر ويغطيه في الأرض، قال تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد: 20]؛ أي: أعجب الزراعَ، ومنه سميت الكفارة كفارة؛ لأنها تستُر الذنبَ وتغطيه، وسمي الليل كافرًا؛ لأنه يستر الكونَ بظلامه، وسمي وعاء طلع النخل "الكُفُرَّى"؛ لأنه يستر ما بداخله من الطلع. وهو في الشرع نوعان: كفر أكبر، مضادٌّ للإيمان، ومخرِج من المِلَّة، وموجب للخلود في النار. وقد قسَّمه ابن القيم إلى خمسة أقسام[1]: 1- كفر تكذيب وجحود، وهو اعتقاد كذب الرسل فيما جاؤوا به من عند الله، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 47]. 2- كفر استكبار وإباء - مع التصديق - ككفر إبليس - لعنه الله - كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، ومنه كفر اليهود كما قال تعالى عنهم: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89]. 3- كفر إعراض، بأن يُعرِضَ الإنسان عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسمعه وقلبه، ولا يصدِّقه ولا يكذِّبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء إليه البتة. 4- كفر الشك، بأن لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، بل يشكُّ في أمره، قال ابن القيم: "وهذا لا يستمر شكُّه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملةً". 5- كفر النفاق، وهو أن يُظهِر الإيمان بلسانه، وينطوي بقلبه على التكذيب، وهذا هو المنافق. والنوع الثاني من الكفر: الكفر الأصغر، الذي لا يضاد الإيمان بالكلية، ولا يُخرِج من الملة، ولا يخلد صاحبه في النار؛ وإنما يوجب استحقاق الوعيد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر))[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت))[4]. ومن الكفر الأصغر: الرياء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((أخوَفُ ما أخاف عليكم الشركُ الأصغر))، فسئل عنه فقال: ((الرياء))[5]. ومنه كفر النعمة وعدم شكرها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]. قوله: ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [البقرة: 6]؛ أي: مستوٍ عليهم. ﴿ أَأَنْذَرْتَهُمْ ﴾ [البقرة: 6]: الهمزة للاستفهام والتسوية، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والإنذار: الإعلام مع التخويف، كما قال لقيط الإيادي مخبرًا ومحذِّرًا قومَه غزوَ كسرى[6]: أَبلِغْ إيادًا، وخلّل في سَراتِهمُ ![]() إني أرى الرأيَ إن لم أُعصَ قد نصعَا ![]() يا قومُ لا تأمَنوا إن كنتمُ غُيُرًا ![]() على نسائِكمُ كسرى وما جمَعَا ![]() هذا كتابي إليكم والنذير معًا ![]() لمن رأى رأيَه منكم ومَن سَمِعَا ![]() وقد بذَلتُ لكم نُصحي بلا دَخَلٍ ![]() فاستيقِظوا إنَّ خيرَ العلمِ ما نفَعَا ![]() وهو صلى الله عليه وسلم منذِرٌ ومحذِّر للكافرين، ومبشِّر للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الفتح: 8]. ﴿ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ﴾ [البقرة: 6] "أم": حرف عطف؛ أي: أم لم تُعلمهم وتُخوفهم. والمعنى: مستوٍ على هؤلاء الكفار المعاندين، أأنذرتَهم وخوَّفتَهم عقابَ الله تعالى وعذابه أم لم تخوِّفهم؛ أي: يستوي ويعتدل عندهم إنذارُك لهم وعدم إنذارك؛ أي يستوي عندهم الأمران، كما قال الأعشى[7]: وليل يقول المرءُ مِن ظلُماتِه: *** سواءٌ بصيراتُ العيونِ وعُورُها وكما في قول بثينة: سواءٌ علينا يا جميلُ بن معمر *** إذا متَّ بأساءُ الحياةِ ولِينُها[8] قوله: ﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6] أي: لا يُصدِّقون بما جئتَ به، ولا ينقادون له، كما قال تعالى عن المعانِدين من أهل الكتاب: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ [البقرة: 145]، وفي هذا تسليةٌ له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حريصٌ على أن يؤمِن جميعُ الناس. [1] في "مدارج السالكين" (1/ 375- 379). وانظر "مجموع الفتاوى" (12/ 335) "الدرر السنية" (2/ 70- 71، "عقيدة التوحيد" ص (1- 101)، وانظر لسان العرب مادة "كفر". [2] أخرجه البخاري في الإيمان (48) ومسلم في الإيمان (64)، والنسائي في تحريم الدم (4105)، والترمذي في البر والصلة (1983)، وابن ماجه في المقدمة (69) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [3] أخرجه البخاري في العلم (12)، ومسلم في الإيمان (65)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942) من حديث جرير رضي الله عنه. [4] أخرجه مسلم في الإيمان (67) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [5] أخرجه أحمد (5/ 429) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. [6] من قصيدة له بعنوان "صرخة غيور"؛ انظر: "ديوانه" ص4، "الذخائر والعبقريات" 2 /222. [7] انظر "ديوانه" ص (373). [8] انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة 1 /433.
__________________
|
#78
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم قوله تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ قوله: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ هذا تعليل لما قبله، وهو عدم إيمانهم؛ أي: لأن الله ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾ [الزمر: 19]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يس: 7]. والخَتْمُ: الطبعُ والتغطية والإغلاق؛ أي: طبع الله على قلوبها، وغطى عليها وأغلقها، فلا تفقه ولا تعي الآيات والإنذار، ولا يصل إليها أيُّ خير، ولا يصدر منها، كما قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88]. ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾[البقرة: 7] معطوف على قوله: ﴿ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [البقرة: 7]؛ أي: وختم على سمعهم، فلا يسمعون الإنذار والآيات، ولا ينتفعون بذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ [الأنعام: 25، الإسراء: 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ [الكهف: 57]. ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [البقرة: 7] الواو استئنافية، والغشاوة: الغطاء؛ أي: وعلى أبصارهم غطاء يحُول بينها وبين النظر، فلا يشاهدون الآيات الشرعية والكونية، ولا ينتفعون بها. فانسدَّتْ أمامهم طرقُ الهداية والإيمان كلُّها بالختم على قلوبهم فلا تفقه ولا تعي، وعلى أسماعهم فلا تسمع ولا تنتفع، وعلى أبصارهم غشاوة فلا تبصر. وبدأ بالقلوب؛ لأن القلب محلُّ الصلاح أو الفساد، وهو سيد الجوارح وأميرها، وأَتْبَعَ ذلك بذكر السمع والأبصار؛ لأن السمع والبصر طريقَا وصولِ العلم والهدى إلى القلب، وهذه الأعضاء هي وسائل المعرفة عند الإنسان. ولهذا ذمَّ الله عز وجل الكفار؛ لعدم استفادتهم منها، فقال تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، وقال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ [الجاثية: 23]، وهو ما أقَرُّوا به بقولهم: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5]. وذلك بسببٍ منهم، لا بظلمِ الله لهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [النحل: 33]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ﴾ [الزخرف: 76]. ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[البقرة: 7]؛ أي: ولهؤلاء الكفار ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ من حيث نوعه وكمُّه وكيفه، وإذا كان الله عز وجل وصَفَه بالعظيم، فلا يقدر قدر عظمته إلا هو سبحانه وتعالى. وهو عذاب حسيٌّ للأبدان، وعذاب معنويٌّ للقلوب، عذاب في الدنيا للأبدان بالقتل والجراح ونحو ذلك، على أيدي المؤمنين، وبما يصيبهم من العقوبات والمصائب بسبب كفرهم، وعذاب معنويٌّ للقلوب؛ لما هم عليه من الشقاء الدنيوي، والاضطراب النفسي، والحيرة والتبلبل؛ بسبب ما هم عليه من الكفر. وعذاب في الآخرة حسيٌّ للأبدان، ومعنويٌّ للقلوب في النار وما فيها من الجحيم والزمهرير، والحميم والزقوم، وما فيها من التوبيخ والتقريع؛ كقوله تعالى: ﴿ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الطور: 16]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 108 - 115]. وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر: 36، 37]. والعذاب المعنويُّ لا يقل عن العذاب الحسيِّ؛ لما فيه من تحطيم القلوب والمعنويات، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ [الهمزة: 4 - 7]؛ أي: التي تحطم كلَّ ما يُلقى فيها، وتشرف على القلوب فتحطمها تحطيما معنويًّا. قال ابن القيم: "ومعلوم أن هذا ليس حكمًا يعمُّ جميعَ الكفار، بل الذين آمنوا وصدَّقوا الرسل كان أكثرهم كفارًا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، فهذه الآيات في حقِّ أقوام مخصوصين من الكفار؛ فعل الله بهم ذلك عقوبةً منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقَبَ بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقِب بالطمس على القلوب، كما يعاقِب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقِب بالضلال عن الحق عقوبةً دائمة مستمرة، وقد يعاقِب به إلى وقتٍ ثم يُعافي عبده ويهديه، كما يعاقِب بالعذاب كذلك"[1]. الفوائد والأحكام: 1- انقسام الناس تجاه هداية الكتاب والإنذار والإيمان إلى قسمين: متقين مؤمنين، ذكَرَ الله صفاتهم في الآيات السابقة، وكفارٍ، منهم كفار خلص كفرهم صريح، ذكَرَهم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [البقرة: 6] إلى قوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7]، وكفار منافقون يُظهِرون الإيمان ويُبطِنون الكفر، ذكَرَهم في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8] إلى قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]. 2- من يضلل الله فلا هادي له؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6]. 3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم أمام تجبُّر قومه وعنادهم وكفرهم؛ لئلا تذهب نفسه عليهم حسراتٍ. 4- أن على الرسول صلى الله عليه وسلم الإنذارَ والتخويف والتحذير، وهدايةُ القلوب بيد علام الغيوب. 5- استواء الإنذار وعدمه عند من عميتْ بصيرتُه، نسأل الله الهداية. 6- عقوبة الله تعالى للكفار بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وبالغشاوة على أبصارهم، فلا ينفذ الإنذار إلى قلوبهم، ولا إلى أسماعهم، ولا ترى طريقَ الحق والآيات أبصارُهم، فانغلقت لديهم أبوابُ الاهتداء وطرقه بسبب كفرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [البقرة: 7]. 7- الوعيد للذين كفروا بالعذاب العظيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7]. [1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 265).
__________________
|
#79
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 8 - 16]. ذكَرَ الله عز وجل المؤمنين وصفاتِهم، وما هم عليه من الهداية والفلاح، في خمس آيات في مطلع هذه السورة، ثم ذكَر الذين كفروا وما هم عليه من الإصرار على الكفر وعدم الإيمان، وتوعدهم بالعذاب العظيم، في آيتين، ثم أَتْبَع ذلك بذِكر الفريق المذبذب بين المؤمنين والكافرين، وهم المنافقون، وبيان ما هم عليه من دعوى الإيمان، والكذب والمخادعة ومرض القلوب، والإفساد في الأرض، والمكابرة والسفه والضلال، وما هم فيه من الظلمات والحيرة وشدة الخوف، مبيِّنًا إحاطتَه عز وجل بهم، متوعدًا لهم بالعذاب الأليم، في ثلاث عشرة آية، من قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 8]، إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]. فبدأ عز وجل بذِكر الطيِّب، ثم الخبيث، ثم الأخبث منه، نزولًا من الأعلى إلى الأسفل؛ فبدأ عز وجل بذِكر المتقين وصفاتهم؛ تعظيمًا لشأنهم، وتشريفًا وتكريمًا لهم، ثم ثنَّى بذِكر الكافرين، وقدَّمهم على المنافقين؛ لأن كفرهم دون كفر المنافقين، ثم ختم بذِكر المنافقين، وما هم عليه من الكفر والنفاق، وأخَّرهم، وأطال في ذكر أعمالهم السيئة؛ تحقيرًا لهم، وتحذيرًا منهم، وبيانًا لما هم عليه من الصفات الذميمة؛ إذ جمَعوا بين الكفر والنفاق، والكذب وسيِّئ الأخلاق. قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]. الواو: عاطفة، أو استئنافية، و"مِن" للتبعيض؛ أي: وبعض الناس ﴿ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾، وهم المنافقون، ولم يصفهم بإيمان ولا كفر؛ لأنهم مذبذبون بين ذلك، كما قال تعالى: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾ [النساء: 143]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]. و "الناس" أصلها الأناس، فخفِّفت بحذف الهمزة لكثرة الاستعمال، قال الشاعر: إنَّ المنايا يَطَّلِعْـ *** ـنَ على الأُناسِ الآمِنينَا[1] وهو مأخوذ من "النوس" وهي الحركة، أو من "الإيناس" وهو المشاهدة، أو من "الأنس"؛ لأنهم يأنس بعضهم ببعض، وكلُّ هذه المعاني فيهم، فهم ينوسون ويتحركون لقضاء حوائجهم، وهم يشاهَدون أي غير مستترين كالجن، وهم أيضًا يأنس بعضهم ببعض؛ لأن الإنسان - كما قال ابن خلدون -: "مدني بالطبع". أما القول بأنه مشتق من النسيان كما قيل: وما سمِّي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ *** ولا القلبُ إلا أنه يَتقلَّبُ فهذا ليس بصحيح؛ قال ابن القيم: "لأنه لو كان الإنسان مشتقًّا من النسيان، لقيل: (نسيان) لا (إنسان)"[2]. و"من" في قوله: ﴿ مَنْ يَقُولُ ﴾ موصولة؛ أي: الذين يقولون بألسنتهم: صدَّقْنا بالله وباليوم الآخر، ولفظ الجلالة "الله" علَمٌ على الربِّ عز وجل، ومعناه: المألوه المعبود بحقٍّ محبة وتعظيمًا، والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه. ﴿ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 8] أُعيدَ حرف الجر للتوكيد، واليوم الآخر: يوم القيامة وما فيه من بعث الأجساد والحساب والجزاء على الأعمال، ويدخل فيه كلُّ ما أخبَر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ من فتنة القبر وعذابه ونعيمه وغير ذلك، وسمي اليوم الآخِر؛ لأنه يأتي بعد نهاية الدنيا. ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8] الواو حالية، و"ما" نافية، والباء لتأكيد النفي؛ أي: وما هم بمؤمنين بقلوبهم، بل هم كفرة مكذِّبون، كما قال تعالى: ﴿ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [المائدة: 41]، وقال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 137]، وقال تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 47]، فنفى عنهم الإيمان؛ لأنهم ادعَوُا الإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، ولم تَنقَدْ جوارحهم، والإيمانُ قولٌ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعملٌ بالجوارح. فهؤلاء الصنف ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكفار الخلص، بل هم بين هؤلاء وهؤلاء، يُظهِرون الإيمان ويبطنون الكفر، كما قال تعالى: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾ [النساء: 143]. وسمُّوا بالمنافقين أخذًا من نافقاء اليربوع، وهو دويبة صغيرة، يَحفِر جحرًا في الأرض، ويجعل في نهايته مخرجًا للطوارئ، عليه قشرة رقيقة من التراب، فإذا داهَمَه عدوٌّ من باب جحره المسمى بالقاصعاء، ضرب هذه النافقاء برأسه وخرج. وهكذا المنافقون يأتون المؤمنين بوجه، ويقولون: نحن منكم، ويأتون الكفار بوجه آخر ويقولون: نحن معكم، كما ذكر الله عنهم: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]. وهذا هو النفاق الاعتقادي الذي يخلد أصحابه في النار، وهم أشد كفرًا من أهل الكفر الظاهر؛ لأنهم جمَعوا بين الكفر والتكذيب، ودعوى الإيمان، وهم أشد الناس عذابًا، فهم في الدرك الأسفل من النار، وهم أشد خطرًا على الأمَّة؛ لوجودهم بين ظَهْرانَيِ المسلمين؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ [المنافقون: 4]، فحصر العداوة فيهم. ولم يوجد النفاق أولَ الأمر في مكة، بل الذي وُجد خلافه، وهو إخفاء الإيمان خوفًا من بطش المشركين وتعذيبهم، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وأعزَّ الله الإسلام بعد وقعة بَدْرٍ، أظهَرَ أناس من أهل المدينة ومن أهل الكتاب ومن الأعراب الإيمان نفاقًا، وأبطَنوا الكفر؛ حفاظًا على أنفسهم وأموالهم، وكيدًا للإسلام؛ كعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ، ففضَحَهم الله وأظهر عوارهم في هذه الآيات، وفي غيرها من الآيات في القرآن الكريم. [1] البيت لذي جرن الحميري. انظر "اشتقاق أسماء الله الحسنى" ص (32)، "لسان العرب" مادة "نوس". [2] انظر "بدائع الفوائد" (2/ 264).
__________________
|
#80
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ قوله تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]. قوله: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾: المخادَعة: المفاعَلة من الخدع، أو الخداع، وهو التغرير. أي: يعتقدون أنهم يَخدَعون اللهَ بإظهارهم الإيمانَ وإبطانهم الكفرَ، وأن ذلك نافِعُهم عنده، وأن ذلك يرُوج عليه كما يرُوج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [المجادلة: 18]. ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾: معطوف على لفظ الجلالة "الله"؛ أي: ويُخادِعون الذين آمنوا بما يُظهِرون من الإيمان مع كفرهم في الباطن، مداهنةً لِيأمَنوا على أنفسهم وأموالهم، ويعيشوا عيش البهائم. ﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "يُخادِعون" بضم الياء وألف بعد الخاء وكسر الدال، وقرأ الباقون "يَخْدَعون" بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الدال من غير ألف. الواو: حالية، و"ما" نافية في الموضعين، و"إلا" أداة حصر؛ أي: وما يَخدَعون في الحقيقة ويضُرُّون بهذا النفاق إلا أنفسَهم، فضررُ خداعِهم محصورٌ فيهم، وعلى أنفسهم، ولا يضرون اللهَ شيئًا، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]. لأن الله عز وجل يعلم سِرَّهم وعلانيتهم، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أعمالهم، كما أنهم إنْ خدَعوا المؤمنين في الظاهر، فعاقبةُ خداعهم ونهايته عليهم، وهم المتضررون به لا غيرهم. ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾: الواو: حالية، أو عاطفة، أي: وما يُحِسُّون، وما يدركون؛ لضعف أحاسيسهم، وموت شعورهم، وجهلهم أنهم في مخادعتهم اللهَ والمؤمنين إنما يَخدَعون أنفسهم، حيث مَنَّوْها الأمانيَّ الكاذبة، وأَورَدوها موارد الشقاء والهلاك والرَّدى. وهذا لعمرُ الله من أدهى المصائب وأعظم البليات؛ أن يَخدَع الإنسان نفسَه وهو لا يشعر.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |