تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 74 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         روائع قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 155 )           »          ‏تأملات في آيتين عجيبتين في كتاب الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الكلمة الطيِّبة (لا إله إلا الله ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أسد بن الفرات بن سنان رحمة الله فاتح صقلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          صدق الله فصدقه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          لماذا التأريخ بالهجرة لا بغيرها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الهجرة النبويّة فن التخطيط والإعداد وبراعة الأخذ بالأسباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          معاهدة محمد الثالث مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أمية بن أبي الصلت الداني (460-529هـ/1067-1134م) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          فرق كبير بين الصالح والمصلح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #731  
قديم 14-07-2025, 12:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المزمل
من صــ 51 الى صــ60
الحلقة (731)



وفي : متقاربة في مثل هذا الموضع ؛ قال الله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي في يوم القيامة. وقيل : "به" أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل : منفطر بالله ، أي بأمره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة ؛ لأن مجازها السقف ؛ تقول : هذا سماء البيت ؛ قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
وفي التنزيل : {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} . وقال الفراء : السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} . وقال أبو علي أيضا : أي السماء ذات انفطار ؛ كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات إرضاع ، فجرى على طريق النسب. {كَانَ وَعْدُهُ} أي بالقيامة والحساب والجزاء {مَفْعُولاً} كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل : آيات القرآن ، إذ هو كالسورة الواحدة. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ} أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه {سَبِيلاً} أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له ؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال الثعلبي : والأشبه أنه غير منسوخ.
20-
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فيه ثلاث عشر مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} هذه الآية تفسير لقوله تعالى : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} كما تقدم ، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. {تَقُومُ} معناه تصلي و {أَدْنَى} أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام {ثُلُثَيِ} بإسكان اللام. {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثُلُثَيِ} ؛ المعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ كقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون "وَنِصٌفِهِ وَثُلُثِهِ" بالنصب عطفا على {أَدْنَى} التقدير : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء : وهو أشبه بالصواب ؛ لأنه قال أقل من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف ؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم : إنما افترض الله عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
الثانية- قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل : أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح ؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره : لما نزلت : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتقخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فرحمهم الله وخفف عنهم ؛ فقال تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} و "أن" مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنكم لن تحصوه ؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا ، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
الثالثة- قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل : أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم ؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري ، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل : معنى {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يخلقهما مقدرين ؛ كقوله تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} . ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم ، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف ، التكليف.
الرابعة- قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فيه قولان : أحدهما أن المراد نفس القراءة ؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي : مائة آية. الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد : خمسون آية.
قلت : قول كعب أصح ؛ لقول عليه السلام : "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" خرجه أبو داود
الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآنا ؛ كقوله تعالى : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر. ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأنه عن الصلاة أخبر ، وإليها يرجع القول.
قلت : الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز ؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
الخامسة- قال بعض العلماء : قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا ؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره ؛ وذلك لقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} فاحتمل قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين ، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
السادسة- قال القشيري أبو نصر : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب ؛ كقوله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فالهدي لا بد منه ، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل ، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي ، وعلى هذا فقد قال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم : نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا ؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا
فقوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك ، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله : {نَافِلَةً لَكَ} محمول على حقيقة النفل. ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة ؛ كقوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، وقوله : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة ، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ} كانت عامة له ولغيره. وقد قيل : إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة ، ونسخت بالمدينة ؛ لقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وإنما فرض القتال بالمدينة ؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} . وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} وجوب صلاة الليل.
السابعة- قوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الآية ؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليهم قيام الليل ، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و "أن" في "أن سيكون" مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنه سيكون.
الثامنة- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله ، والإحسان والإفضال ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت"
منزلته عند الله منزلة الشهداء "ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية. وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي ، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط ، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة ، وكتب إلى وكيله : بع الطعام يوم تدخل البصرة ، ولا تؤخره إلى غد ، فوافق سعة في السعر ؛ فقال التجار للوكيل : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه ، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله ، فكتب إلى صاحبه بذلك ، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا ، وقد جنيت علينا جناية ، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة ، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد ، فافتقده ابن عمر ، فمشى إلى بيته ، فقالت أمه : هو على طعام له يبيعه ؛ فلقيه فقال له : يا بني! ما لك وللطعام ؟ فهلا إبلا ، فهلا بقرا ، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل ، وصاحب الماشية يحب الغيث."
التاسعة- قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي صلوا ما أمكن ؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم : إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية ؛ قال البخاري وغيره ، وعقد بابا ذكر فيه حديث "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى أنحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث"
النفس كسلان "وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال :" أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه ، وينام عن الصلاة المكتوبة ". وحديث عبدالله بن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال :" ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه "فقال ابن العربي : فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة ؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له ، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري : قال عبدالله بن عمرو : وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عبدالله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل "ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم ، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاما شابا عزبا ، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار. قال : ولقينا ملك آخر ، فقال لي : لم ترع. فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :" نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل "فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك : لم ترع. والله أعلم."
العاشرة- إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة ؛ فقال مالك والشافعي : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها ، ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة ، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث
آيات ؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي ، على ما بيناه في سورة "الفاتحة" أول الكتاب والحمد لله. وقيل : إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة ؛ قال الماوردي : فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب ، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين ؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب ؛ ليقف بقراءته على إعجازه ، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال : أحدها جميع القرآن ؛ لأن الله تعالى يسره على عباده ؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن ؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية ؛ قال السدي. الرابع مائة آية ؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة ؛ قاله أبو خالد الكناني.
الحادي عشرة- قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} الواجبة في أموالكم ؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل : صدقة التطوع. وقيل : كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس : طاعة الله والإخلاص له.
الثانية عشر- قوله تعالى : {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة "الحديد" بيانه. وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله.
الثالثة عشرة- قوله تعالى : {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا ؟ فقال عمر : لكن رب المسكين يدري
ما هو وكأنه تأول : {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي مما تركتم وخلفتم ، ومن الشح والتقصير. {وَأَعْظَمَ أَجْراً} قال أبو هريرة : الجنة ؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا ؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب "خيرا وأعظم" على المفعول الثاني "لتجدوه" و "هو" : فضل عند البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له من الإعراب. و "أجرا" تمييز. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما كان قبل التوبة {رَحِيمٌ} لكم بعدها ؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.
سورة المدثر
مكية في قول الجميع . وهي ست وخمسون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .

2-
{قُمْ فَأَنْذِرْ} .

3-
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} .

4-
{وثيابك فطهر}

فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ونام ، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي {الْمُدَّثِّرُ} على الأصل.
وقال مقاتل : معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه : "فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض" .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فجئثت منه فرقا ، فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} " في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال : "ثم تتابع الوحي" . خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح. قال مسلم : وحدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي قال : سمعت يحيى يقول : سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} "فقلت : أو {أقرأ} . فقال : سألت جابر بن عبدالله أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت : أو" أقرأ "فقال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :" جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي ، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا ، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة ، فأتيت خديجة فقلت دثروني ، فدثروني فصبوا علي ماء ، فأنزل الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} "خرجه البخاري وقال فيه :" فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ابن العربي : وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة (بن ربيعة) أمر ، فرجع إلى منزله مغموما ، فقلق واضطجع ، فنزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر : وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر ، فوجد من ذلك غما وحم ، فتدثر بثيابه ، فقال الله تعالى : {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي لا تفكر في قولهم ، وبلغهم الرسالة.
وقيل : اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا : قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج ، وهم يتساءلون عن أمر محمد ، وقد اختلفتم في الإخبار عنه ؛ فمن قائل يقول مجنون ،





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #732  
قديم 14-07-2025, 12:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المدثر
من صــ 61 الى صــ70
الحلقة (732)



وآخر يقول كاهن ، وآخر يقول شاعر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به ، فقام منهم رجل فقال : شاعر ؛ فقال الوليد : سمعت كلام ابن الأبرص ، وأمية بن أبي الصلت ، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما ؛ فقالوا : كاهن. فقال : الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط ؛ فقام آخر فقال : مجنون ؛ فقال الوليد : المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته ، فقالوا : صبأ الوليد بن المغيرة ؛ فدخل عليه أبو جهل وقال : مالك يا أبا عبد شمس! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت. فقال الوليد : ما لي إلى ذلك حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : ما يكون من الساحر ؟ فقيل : يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فقلت : إنه ساحر. شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون : إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة ، ونزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . وقال عكرمة : معنى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي المدثر بالنبوة وأثقالها. ابن العربي : وهذا مجاز بعيد ؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد. وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل.
الثانية- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة "المزمل" . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد : "قم أبا تراب" وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه ؛ خرجه مسلم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق : "قم يا نومان" وقد تقدم.
الثالثة- {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا. وقيل : الإنذار هنا إعلامهم بنبوته ؛ لأنه مقدمة الرسالة. وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد ؛ لأنه المقصود بها. وقال الفراء : قم فصل وأمر بالصلاة.
الرابعة- {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد. وفي حديث أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة ؟
فنزلت : {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي وصفه بأنه أكبر. قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة ، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه ، لخلع الأنداد والأصنام دونه ، ولا تتخذ وليا غيره ، ولا تعبد سواه ، ولا ترى لغيره فعلا إلا له ، ولا نعمة إلا منه. وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد : اعل هبل ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا الله أعلى وأجل" وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله : "الله أكبر" وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد ؛ منها قوله : "تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم" والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك ، وإعلانا باسمه في النسك ، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك.
قلت : قد تقدم في أول سورة "البقرة" أن هذا اللفظ "الله أكبر" هو المتعبد به في الصلاة ، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير : أنه لما نزل قوله تعالى : {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "الله أكبر" فكبرت خديجة ، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى ؛ ذكره القشيري.
الخامسة- الفاء في قوله تعالى : {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في {فَأَنْذِرْ} أي قم فأنذر وقم فكبر ربك ؛ قاله الزجاج. وقال ابن جني : هو كقولك زيدا فاضرب ؛ أي زيدا اضرب ، فالفاء زائدة.
السادسة- قوله تعالى : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فيه ثمانية أقوال : أحدهما : أن المراد بالثياب العمل. الثاني : القلب. الثالث : النفس. الرابع : الجسم. الخامس : الأهل. السادس : الخلق. السابع : الدين. الثامن : الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول
قال : تأويل الآية وعملك فأصلح ؛ قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال : يقول وعملك فأصلح ؛ قال : وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب ، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب ؛ ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر :
لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم
ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما" يعني عمله الصالح والطالح ؛ ذكره الماوردي. ومن ذهب إلى القول الثاني قال : إن تأويل الآية وقلبك فطهر ؛ قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ؛ دليله قول امرئ القيس :
فسُلِّي ثيابي من ثيابك تنسل
أي قلبي من قلبك. قال الماوردي : ولهم في تأويل الآية وجهان : أحدهما : معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي ؛ قاله ابن عباس وقتادة. الثاني : وقلبك فطهر من الغدر ؛ أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس ، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي :
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
ومن ذهب إلى القول الثالث قال : تأويل الآية ونفسك فطهر ؛ أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب ؛ قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
وقال امرؤ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقال :
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران
أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال : تأويل الآية وجسمك فطهر ؛ أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى ، وذكرت إبلا :
رموها بأثياب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلا النعام المنفرا
أي ركبوها فرموها بأنفسهم. ومن ذهب إلى القول الخامس قال : تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب ؛ والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا ؛ قال الله تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} الماوردي : ولهم في تأويل الآية وجهان : أحدهما : معناه ونساءك فطهر ، باختيار المؤمنات العفائف. الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر ، في الطهر لا في الحيض. حكاه ابن بحر. ومن ذهب إلى القول السادس قال : تأويل الآية وخلقك فحسن قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه. وقال الشاعر :
ويحيى لا يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر
أي حسن الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال : تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال : "ورأيت الناس وعليهم ثياب ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما دون ذلك ، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره" . قالوا : يا رسول الله فما أولت ذلك ؟ قال : "الدين" . وروى ابن وهب عن مالك أنه قال : ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق ، قال الله تعالى : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين. وقد روى عبدالله بن نافع عن أبي بكر بن عبدالعزيز بن عبدالله
ابن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي لا تلبسها على غدرة ؛ ومنه قول أبي كبشة :
ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران
يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم من الدناءات ، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما ؛ قال ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ؛ قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر :
أو ذم جحافي ثياب دسم
أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة :
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يُحَيون بالريحان يوم السباسب
ومن ذهب إلى القول الثامن قال : إن المراد بها الثياب الملبوسات ، فلهم في تأويله أربعة أوجه : أحدهما : معناه وثيابك فأنق ؛ ومنه قول امرئ القيس :
ثياب بني عوف طهارى نقية
الثاني : وثيابك فشمر وقصر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة ، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها ، قال الزجاج وطاوس. الثالث : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} من النجاسة بالماء ؛ قال محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه : ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين : أحدهما : تقصير الأذيال ؛ لأنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا : ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار" فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أذيالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم ، وهذه حالة الكبر ، وقائدة العجب ، (وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" ولفظ الصحيح : "من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" . قال أبو بكر : يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لست ممن يصنعه خيلاء" فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي ، واستثنى الصديق ، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء ، وليس ذلك لهم.
والمعنى الثاني : غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها ، صحيح فيها. المهدوي : وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ؛ قال ابن سيرين وابن زيد : لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض ، وكذلك طهارة البدن ، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة "التوبة" مستوفى.
5-
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}

قوله تعالى : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال مجاهد وعكرمة : يعني الأوثان ؛ دليله قوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . قاله ابن عباس وابن زيد. وعن ابن عباس أيضا : والمأثم فاهجر ؛ أي فاترك. وكذا روى مغيرة عن إبراهيم النخعي قال : الرجز الإثم. وقال قتادة : الرجز : إساف ونائلة ، صنمان كانا عند البيت. وقيل : الرجز العذاب ، على تقدير حذف
المضاف ؛ المعنى : وعمل الرجز فاهجر ، أو العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب ، قال الله تعالى : {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} . وقال تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} . فسميت الأوثان رجزا ؛ لأنها تؤدي إلى العذاب. وقراءة العامة "الرِّجزَ" بكسر الراء. وقرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم "والرُّجزَ" بضم الراء وهما لغتان مثل الذكر والذكر. وقال أبو العالية والربيع والكسائي : الرُّجز بالضم : الصنم ، وبالكسر : النجاسة والمعصية. وقال الكسائي أيضا : بالضم : الوثن ، وبالكسر : العذاب. وقال السدي : الرجز ينصب الراء : الوعيد.
6-
{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}

فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} فيه أحد عشر تأويلا ؛ الأول : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة ، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها ؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك : هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق ، وأباحه لأمته ؛ وقال مجاهد. الثالث : عن مجاهد أيضا لا تضعف أن تستكثر من الخير ؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا ؛ ودليله قراءة ابن مسعود "ولا تمنن تستكثر من الخير" . الرابع : عن مجاهد أيضا والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير ، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك ؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس : قال الحسن : لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس : لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع : قال القرظي : لا تعط مالك مصانعة. الثامن : قال زيد بن أسلم : إذا
أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع : لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر : لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها ، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر : لا تفعل الخير لترائي به الناس.
الثانية : هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس : لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال ؛ يقال : مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة ؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا ، ولهذا قال : "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" . وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين ؛ ولهذا لم يورث ؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء ، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا ؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية ، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال : "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت" ابن العربي : وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة ، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب ؛ لأنها باب من أبواب المذلة ، وكذلك قول من قال : إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها ، فإن الانتظار تعلق بالأطماع ، وذلك في حيزه بحكم الامتناع ، وقد قال الله تعالى له : {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . وذلك جائز لسائر الخلق ؛ لأنه من متاع الدنيا ، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح ؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.
الثالثة- قوله تعالى : {وَلا تَمْنُنْ} قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن "ولا تمن" مدغمة مفتوحة. {تَسْتَكْثِرُ} : قراءة العامة
بالرفع وهو في معنى الحال ، تقول : جاء زيد يركض أي راكضا ؛ أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء ؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من "تمنن" كأنه قال : لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال : لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيى "تستكثرَ" بالنصب ، توهم لام كي ، كأنه قال : ولا تمنن لتستكثر. وقيل : هو بإضمار "أن" كقوله :
(ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى)
ويؤيده قراءة ابن مسعود "ولا تمنن أن تستكثر" . قال الكسائي : فإذا حذف "أن" رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم ، فيرجع إلى القول الثاني : ، ويعضده قوله تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } وقد يكون مرادا في هذه الآية. والله أعلم.
7-
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}

قوله تعالى : {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد : على ما أوذيت. وقال ابن زيد : حملت أمرا عظيما ؛ محاربة العرب والعجم ، فاصبر عليه لله. وقيل : فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى.
وقيل : فاصبر على البلوى ؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل : على أوامره ونواهيه. وقيل : على فراق الأهل والأوطان.
8-
{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} .

9-
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} .

10-
{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} .

قوله تعالى : {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} إذا نفخ في الصور. والناقور : فاعول من النقر ، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت ، والنقر في كلام العرب : الصوت ؛ ومنه قول امرئ القيس :
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفا غير خاف غضيض
وهم يقولون : نقر باسم الرجل إذ دعاه مختص له بدعائه. وقال مجاهد وغيره : هو كهيئة البوق ، ويعني به النفخة الثانية. وقيل : الأولى ؛ لأنها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في "النمل" و "الأنعام" وفي كتاب "التذكرة" ، والحمد لله. وعن أبي حبان قال : أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} خر ميتا. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي فذلك اليوم يوم شديد {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم {غَيْرُ يَسِيرٍ} أي ، غير سهل ولا هين ؛ وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها ، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و "يومئذ" نصب ، على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل : جر بتقدير حرف جر ، مجازه : فذلك في يومئذ. وقيل : يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن.
11-
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} .

12-
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} .

13-
{وَبَنِينَ شُهُوداً} .

14-
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} .

15-
{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} .

16-
{كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} .

17-
{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} .

قوله تعالى : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} "ذرني" أي دعني ؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. "ومن خلقت" أي دعني والذي خلقته وحيدا ؛ فـ "وحيدا" على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف ، أي خلقته وحده ، لا مال له ولا ولد ، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #733  
قديم 14-07-2025, 12:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المدثر
من صــ 71 الى صــ80
الحلقة (733)






والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي ، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام ، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس : كان الوليد يقول : أنا الوحيد بن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي المغيرة نظير ، وكان يسمى الوحيد ؛ فقال الله تعالى : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} بزعمه "وحيدا" لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم : إن قوله تعالى : {وَحِيداً} يرجع إلى الرب تعالى على معنيين : أحدهما : ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني : أني أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد ، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه ؛ "فوحيدا" على هذا حال من ضمير الفاعل ، وهو التاء في "خلقت" والأول قول مجاهد ، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد ، فأنعمت عليه فكفر ؛ فقوله : "وحيدا" على هذا يرجع إلى الوليد ، أي لم يكن له شيء فملكته. وقيل : أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل : الوحيد الذي لا يعرف أبوه ، وكان الوليد معروفا بأنه دعي ، كما ذكرنا في قوله تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} وهو في صفة الوليد أيضا.
قوله تعالى : {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} أي خولته وأعطيته مالا ممدودا ، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم والجنان والعبيد والجواري ، كذا كان ابن عباس يقول : وقال مجاهد : غلة ألف دينار ، قال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة : ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة : أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا : ألف ألف دينار. مقاتل : كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه : "وجعلت له مالا ممدودا" غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم : أرضا يزرع فيها. القشيري : والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه ، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة.
قوله تعالى : {وَبَنِينَ شُهُوداً} أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة : كانوا عشرة. وقيل : اثنا عشر ؛ قال السدي والضحاك. قال الضحاك : سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل : كانوا سبعة كلهم رجال ، اسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل : شهودا ، أي إذا ذكر ذكروا معه ؛ قاله ابن عباس. وقيل : شهودا ، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده ، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي ، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.
قوله تعالى : {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} أي بسطت له في العيش بسطا ، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب : التوطئة والتهيئة ؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس : {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله تعالى : {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره : أي ثم يطمع أن أدخله الجنة ، وكان الوليد يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي ؛ فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له : {كَلَّا} أي لست أزيده ، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و "ثم" في قوله تعالى : {ثُمَّ يَطْمَعُ} ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب ، وهي كقوله تعالى : {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وذلك كما تقول : أعطيتك ثم أنت تجفوني ؛ كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه ؛ وذلك أنه كان يقول : إن محمدا مبتور ؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل : أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و "كلا" قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة ؛ فيكون متصلا بالكلام الأول.
وقيل : "كلا" بمعنى حقا ويكون ابتداء "إنه" يعني الوليد "كان لآياتنا عنيدا" أي معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وما جاء به ؛ يقال : عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس ؛ قال مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند : البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع ؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي :
إذا ركبت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا
وقال أبو صالح : "عنيدا" معناه مباعدا ؛ قال الشاعر :
أرانا على حال تفرق بيننا ... نوى غربة إن الفراق عنود
قتادة : جاحدا. مقاتل : معرضا. ابن عباس : جحودا. وقيل : إنه المجاهر بعدوانه.
وعن مجاهد أيضا قال : مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول : عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل ، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس والعنيد من التجبر. وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه. كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة "إبراهيم" . وجمع العنيد عند ، مثل رغيف ورغف.
قوله تعالى : {سَأُرْهِقُهُ} أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول : سألجئه ؛ والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان على الشيء. {صَعُوداً} (الصعود : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا) رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال : صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت ، قال : فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع ، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها ، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة "قل أوحي" وفي التفسير : أنه صخرة ملساء
يكلف صعودها فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم ، فيقوم يهوي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم ، يحترق في كل يوم سبعين مرة ثم يعاد خلقا جديدا. وقال ابن عباس : المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل : إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه.
18-
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} . 19- {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} .

20-
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} . 21 - {ثُمَّ نَظَرَ} .

22-
{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} 23 - {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} .

24-
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} 25- { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}

قوله تعالى : {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و "قدر" أي هيأ الكلام في نفسه ، والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته ، وذلك أنه لما نزل : {حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى قوله : {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} سمعه الوليد يقرؤها فقال : والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش : صبا الوليد لتصبون قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش ؛ فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا ؟ فقال له : مالي أراك حزينا. فقال له : ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ؛ فغضب الوليد وتكبر ، وقال : أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه ، فأنتم تعرفون قدر مالي ، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك ، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق ؟ قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله. قال : فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط ؟ قالوا : لا والله.
قال : فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط ، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل رأيتموه كذلك ؟ قالوا : لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ ففكر في نفسه ، ثم نظر ، ثم عبس ، فقال ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ فذلك قوله تعالى : "إنه فكر" أي في أمر محمد والقرآن "وقدر" في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. "فقتل" أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول : معناها فقهر وغلب ، وكل مذلل مقتل ؛ قال الشاعر :
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وقال الزهري : عذب ؛ وهو من باب الدعاء. {كَيْفَ قَدَّرَ} قال ناس : {كَيْفَ} تعجيب ؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه : كيف فعلت هذا ؟ وذلك كقوله : {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} . {ثُمَّ قُتِلَ} أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل : فقتل بضرب من العقوبة ، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة {كَيْفَ قَدَّرَ} أي على أي حال قدر. {ثُمَّ نَظَرَ} بأي شيء يرد الحق ويدفعه. {ثُمَّ عَبَسَ} أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين ؛ وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر ، مر على جماعة من المسلمين ، فدعوه إلى الإسلام ، فعبس في وجوههم.. قيل : عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعبس مخففا مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا : إذا قطب. والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها ؛ قال أبو النجم :
كأن في أذنابهن الشول ... من عبس الصيف قرون الأيل
قوله تعالى : {وَبَسَرَ} أي كلح وجهه وتغير لونه ؛ قال قتادة والسدي ؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم :
صبحنا تميما غداة الجفار ... بشهباء ملمومة باسره
وقال آخر :
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل : إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم : "بسر" وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا : وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب ، فلم يجيء ولم يذهب : قد بسر المركب ، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول : وجه باسر بين البسور : إذا تغير واسود. {ثُمَّ أَدْبَرَ} أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. {وَاسْتَكْبَرَ} أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل : أدبر عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه. {فَقَالَ إِنْ هَذَا} أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يأثره عن غيره. والسحر : الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة (البقرة) . وقال قوم : السحر : إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك ؛ ومنه قيل : حديث مأثور : أي ينقله خلف عن سلف ؛ قال امرؤ القيس :
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ... ل يؤثر عني يد المسند
يريد : آخر الدهر ، وقال الأعشى :
إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والآثر
ويروى : بين . {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} أي ما هذا إلا كلام المخلوقين ، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر ، قال السدي : يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي ، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم
فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. وقيل : أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل : عن مسيلمة. وقيل : عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل : إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله ، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير : إن هذا إلا أمر سحر يؤثر ؛ أي يورث.
26-
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} .

27-
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} .

28-
{لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} .

29-
{لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} .

قوله تعالى : {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس : إذا أذابته ولوحته ، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس : هي الطبق السادس من جهنم. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "سأل موسى ربه فقال : أي رب ، أي عبادك أفقر ؟ قال صاحب سقر" ذكره الثعلبي : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} ؟ هذه مبالغة في وصفها ؛ أي وما أعلمك أي شيء هي ؟ وهي كلمة تعظيم ، ثم فسر حالها فقال : {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته. وقيل : لا تبقي منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا ، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا. وقال مجاهد : لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا ، تحرقهم كلما جددوا. وقال السدي : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أي مغيرة من لاحه إذا غيره. وقراءة العامة "لواحة" بالرفع نعت لـ "سقر" في قوله تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} وقرأ عطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر "لواحةً" بالنصب على الاختصاص ، للتهويل. وقال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل ؛ وقاله مجاهد. والعرب تقول : لاحه البرد والحر والسقم والحزن : إذا غيره ، ومنه قول الشاعر :
تقول ما لا حك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
وقال آخر :
وتعجب هند أن رأتني شاحبا ... تقول لشيء لوحته السمائم
وقال رؤبة بن العجاج :
لوح منه بعد بدن وسنق ... تلويحك الضامر يطوى للسبق
وقيل : إن اللوح شدة العطش ؛ يقال : لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لأهلها ؛ قاله الأخفش ؛ وأنشد :
سقتني على لوح من الماء شربة ... سقاها بها الله الرهام الغواديا
يعني باللوح شدة العطش ، والتاح أي عطش ، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس : "لواحة" أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان : تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره : {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} وفي البشر وجهان : أحدهما : أنه الإنس من أهل النار ؛ قاله الأخفش والأكثرون. الثاني : أنه جمع بشرة ، وهي جلدة الإنسان الظاهرة ؛ قال مجاهد وقتادة ، وجمع البشر أبشار ، وهذا على التفسير الأول ، وأما على تفسير ابن عباس فلا يستقيم فيه إلا الناس لا الجلود ؛ لأنه من لاح الشيء يلوح ، إذا لمع.
30-
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} .

31-
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .

قوله تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي على سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل : على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها ؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا ، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي : ولا ينكر هذا ، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال : "فكأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصياصي ، يجرون أشعارهم ، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين ، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل ، فيرميهم في النار ، ويرمي فوقهم الجبل" .
قلت : وذكر ابن المبارك قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الأزرق بن قيس ، عن رجل من بني تميم قال : كنا عند أبي العوام ، فقرأ هذه الآية : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} فقال ما تسعة عشر ؟ تسعة عشر ألف ملك ، أو تسعة عشر ملكا ؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكا. فقال : وأنى تعلم ذلك ؟ فقلت : لقول الله عز وجل : {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} قال : صدقت هم تسعة عشر ملكا ، بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان ، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار : كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. خرج الترمذي عن جابر بن عبدالله. قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ؛ فقال : "وماذا غلبوا" ؟ قال : سألهم يهود : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قال : "فماذا قالوا" قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا. قال : "أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا أرنا الله جهرة ، علي بأعداء الله! إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك" . فلما جاؤوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال : "هكذا وهكذا" في مرة عشرة وفي مرة تسعة. قالوا : نعم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "ما تربة الجنة" قال : فسكتوا هنيهة ثم قالوا : أخبزة يا أبا القاسم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الخبز من الدرمك" . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر. وذكر ابن وهب قال : حدثنا عبدالرحمن بن زيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم : "ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب" .
وقال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة ، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم.
قلت : والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء والنقباء ، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها ؛ كما قال الله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} وقد ثبت في الصحيح عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم! أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر ، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم! قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #734  
قديم 14-07-2025, 12:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المدثر
من صــ 81 الى صــ90
الحلقة (734)


إلى الجنة ؛ يقولها مستهزئا. في رواية : أن الحرث بن كلدة قال أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين. وقيل : إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، ثم تخرجون من النار ؟ فنزل قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال : ضلالة للذين كفروا ، يريد أبا جهل وذويه. وقيل : إلا عذابا ، كما قال تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب. وفي "تسعة عشر" سبع قراءات : قراءة العامة "تسعة عشر" . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان "تسعة عشر" بإسكان العين. وعن ابن عباس "تسعة عشر" بضم الهاء. وعن أنس بن مالك "تسعة وعشر" وعنه أيضا "تسعة وعشر" . وعنه أيضا "تسعة أعشر" ذكرها المهدوي وقال : من قرأ "تسعة عشر" أسكن العين لتوالي الحركات. ومن قرأ "تسعة وعشر" جاء به على الأصل قبل التركيب ، وعطف عشرا على تسعة ، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال ، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها. ومن قرأ "تسعة عشر" فكأنه من التداخل ؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب ، فرفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء وأسكن. وأما "تسعة أعشر" : فغير معروف ، وقد أنكرها أبو حاتم. وكذلك "تسعة وعشر" لأنها محمولة على "تسعة أعشر" والواو بدل من الهمزة ، وليس لذلك وجه عند النحويين. الزمخشري : وقرئ : "تسعة أعشر" جمع عشير ، مثل يمين وأيمن.
قوله تعالى : {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ؛ قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} بذلك ؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. {وَلا يَرْتَابَ} أي ولا يشك {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي أعطوا الكتاب "والمؤمنون" أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة ، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل : المعنى ؛ أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. {وَالْكَافِرُونَ} أي اليهود والنصارى {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و "الكافرون" أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم : "ماذا أراد الله" أي ما أراد "بهذا" العدد الذي ذكره حديثا ، أي ما هذا من الحديث. قال الليث : المثل الحديث ؛ ومنه : "مثل الجنة التي وعد المتقون" أي حديثها والخبر عنها {كَذَلِكَ} أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم {يُضِلُّ اللَّهُ} أي يخزي ويعمي {مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي} أي ويرشد {مَنْ يَشَاءُ} كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ" عن الجنة "من يشاء ويهدي" إليها "من يشاء" . {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار "إلا هو" أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر! وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين ، فأتاه جبريل فجلس عنده ، فأتى ملك فقال : إن ربك يأمرك
بكذا وكذا ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا ، فقال : "يا جبريل أتعرفه" ؟ فقال : هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف. وقال الأوزاعي : قال موسى : "يا رب من في السماء ؟ قال ملائكتي. قال كم عدتهم يا رب ؟ قال : اثني عشر سبطا. قال : كم عدة كل سبط ؟ قال : عدد التراب" ذكرهما الثعلبي. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم : "أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا" .
قوله تعالى : {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل : "وما هي" أي وما هذه النار التي هي سقر "إلا ذكري" أي عظة "للبشر" أي للخلق. وقيل : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل : أي ما هذه العدة "إلا ذكرى للبشر" أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار ؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى : {وَمَا هِيَ} ترجع إلى الجنود ؛ لأنه أقرب مذكور.
32-
{كَلَّا وَالْقَمَرِ} . 33- {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} .

34-
{وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} . 35- {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} .

36-
{نذيرا للبشر} . 37- {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .

38-
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . 39- {إلا أصحاب اليمين} .

40-
{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} . 41- {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} .

42-
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} . 43- {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} .

44-
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} . 45- {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} .

46-
{ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 47- {حتى أتانا اليقين} .

48-
{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .

قوله تعالى : {كَلَّا وَالْقَمَرِ} قال الفراء : "كلا" صلة للقسم ، التقدير أي والقمر. وقيل : المعنى حقا والقمر ؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على "كلا" وأجاز الطبري الوقف عليها ، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم ؛ أي ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده ، فقال : {وَاللَّيْلِ إِذْا أَدْبَرَ} أي ولى وكذلك "دبر" . وقرأ نافع وحمزة وحفص "إذ أدبر" الباقون "إذا" بألف و "دبر" بغير ألف وهما لغتان بمعنى ؛ يقال دبر وأدبر ، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا : أمس الدابر والمدابر ؛ قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي :
ولقد قتلناكم ثناء وموحدا ... وتركت مرة مثل أمس الدابر
ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش.
وقال بعض أهل اللغة : دبر الليل : إذا مضى ، وأدبر : أخذ في الإدبار. وقال مجاهد : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذْا أَدْبَرَ} فسكت حتى إذا دبر قال : يا مجاهد ، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع "والليل إذا أدبر" بألفين ، وكذلك في مصحف عبدالله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ "دبر" فيعني أقبل ، من قول العرب دبر فلان : إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو : وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه : الصواب : "أدبر" ، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد : "إذا أدبر" قال : لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه ؛ ألا تراه يقول : {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} ، فكيف يكون أحدهما "إذ" والآخر "إذا" وليس في القرآن قسم تعقبه "إذ" وإنما يتعقبه "إذا" . ومعنى "أسفر" : ضاء. وقراءة العامة "أسفر" بالألف. وقرأ ابن السميقع : "سفر" . وهما لغتان. يقال : سفر وجه فلان وأسفر : إذا أضاء.
وفي الحديث : "أسفروا بالفجر ، فإنه أعظم للأجر" أي صلوا صلاة الصبح مسفرين ، ويقال : طولوها إلى الإسفار ، والإسفار : الإنارة. وأسفر وجهه حسنا أي أشرق ، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافر. ويجوز أن يكون (من) سفر الظلام أي كنسه ، كما يسفر البيت ، أي يكنس ؛ ومنه السفير : لما سقط من ورق الشجر وتحات ؛ يقال : إنما سمي سفيرا لأن الريح تسفره أي تكنسه. والمسفرة : المكنسة.
قوله تعالى : {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جواب القسم ؛ أي إن هذه النار "لإحدى الكبر" أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل "الكبر" : اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس "إنها" أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم "لإحدى الكبر" أي لكبيرة من الكبائر. وقيل : أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر : هي العظائم من العقوبات ؛ قال الراجز :
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدهر وصماء الغير
وواحدة (الكبر) ، كبرى مثل الصغرى والصغر ، والعظمى والعظم. وقرأ العامة (لإحدى) وهو اسم بني ابتداء للتأنيث ، وليس مبنيا على المذكر ؛ نحو عقبى وأخرى ، وألفه ألف قطع ، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير "إنها لحدى الكبر" بحذف الهمزة. "نذيرا للبشر" يريد النار ؛ أي أن هذه النار الموصوفة {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} فهو نصب على الحال من المضمر في "إنها" قال الزجاج. وذكر ؛ لأن معناه معنى العذاب ، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب ؛ كقولهم : امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل : النذير : مصدر كالنكير ، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن : والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل : المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي قم نذيرا للبشر ، أي مخوفا لهم "فنذيرا" حال من "قم" في أول السورة حين قال : {قُمْ فَأَنْذِرْ} قال أبو علي الفارسي وابن زيد ، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري : وقال بعض المفسرين معناه "يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر" . وهذا قبيح ؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير : حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين "نذيرا للبشر" قال : يقول الله عز وجل : أنا لكم منها نذير فاتقوها. و(نذيرا) على هذا نصب على الحال ؛ أي {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} منذرا بذلك البشر. وقيل : هو حال من "هو" في قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} . وقيل : هو في موضع المصدر ، كأنه قال : إنذار للبشر. قال الفراء : يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار ، أي أنذر إنذارا ؛ فهو كقوله تعالى : {فَكَيْفَ كَانَ نَذِيرِ} أي إنذاري ؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى
أول السورة ؛ أي {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي إنذارا. وقيل : هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة "نذير" بالرفع على إضمار هو. وقيل : أي إن القرآن نذير للبشر ، لما تضمنه من الوعد والوعيد.
قوله تعالى : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} اللام متعلقة "بنذيرا" ، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة ، أو يتأخر إلى الشر والمعصية ؛ نظيره : {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} أي في الخير {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} عنه. قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر ؛ كقوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . وقال بعض أهل التأويل : معناه لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر ، فالمشيئة متصلة بالله جل ثناؤه ، والتقديم الإيمان ، والتأخير الكفر. وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع.
وقال السدي : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} إلى النار المتقدم ذكرها ، {أَوْ يَتَأَخَّرَ} عنها إلى الجنة.
قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي مرتهنة بكسبها ، مأخوذة بعملها ، إما خلصها وإما أوبقها. وليست "رهينة" تأنيث رهين في قوله تعالى : {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} لتأنيث النفس ؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين ؛ لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وإنما هو اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم ؛ كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهين ؛ ومنه بيت الحماسة :
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال رهن رمس. والمعنى : كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك {إِلاَّ أَصْحَاب الْيَمِينِ} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم ؛ فقال ابن عباس : الملائكة.
علي بن أبي طالب : أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك : الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، ونحوه عن ابن جريج ؛ قال : كل نفس بعملها محاسبة "إلا أصحاب اليمين" وهم أهل الجنة ، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا : هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين ؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : هم المسلمون. وقيل : إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان. وقيل : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم : هم الذين اختارهم الله لخدمته ، فلم يدخلوا في الرهن ، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم : كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر ، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة ، دون الكسب والخدمة ، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون ، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. {فِي جَنَّاتٍ} أي في بساتين {يَتَسَاءَلُونَ} أي يسألون {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أي المشركين {مَا سَلَكَكُمْ} أي أدخلكم {فِي سَقَرَ} كما تقول : سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي : فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه ، فيقول له : يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير "يا فلان ما سلكك في سقر" ؟ وعنه قال : قرأ عمر بن الخطاب "يا فلان ما سلككم في سقر" وهي قراءة على التفسير ؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن ؛ قال أبو بكر بن الأنباري.
وقيل : إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم : "ما سلككم في سقر" . قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان ؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. {قَالُوا} يعني أهل النار {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي المؤمنين الذين يصلون. {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أي لم نك نتصدق. {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد : نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن ، مجنون ، شاعر ، ساحر.
وقال السدي : أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه : وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي لم نك نصدق بيوم القيامة ، يوم الجزاء والحكم. {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أي جاءنا ونزل بنا الموت ؛ ومنه قوله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
قوله تعالى : {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين ؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم ، ثم شفع فيهم ، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة ، فأخرجوا من النار ، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم.
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة : جبريل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى أو عيسى ، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم ، فيقال لهم : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالوا لم نك من المصلين. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} إلى قوله : {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} قال عبدالله بن مسعود : فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم ؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب (التذكرة) .
49-
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} .

50-
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} .

51-
{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .

52-
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} .

53-
{كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} .

قوله تعالى : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل : الإعراض عن القرآن من وجهين : أحدهما الجحود والإنكار ، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و "معرضين" نصب على الحال من الهاء والميم في "لهم" وفي اللام معنى الفعل ؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل. {كَأَنَّهُمْ} أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} قال ابن عباس : أراد الحمر الوحشية.
وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء ، أي منفرة مذعورة ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر ، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى ؛ مثل عجبت واستعجبت ، وسخرت واستسخرت ، وأنشد الفراء :
أمسك حمارك إنه مستنفر ... في إثر أحمرة عمدن لغرب
قوله تعالى : {فَرَّتْ} أي نفرت وهربت {مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي من رماة يرمونها.
وقال بعض أهل اللغة : إن القسورة الرامي ، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : القسورة : هم الرماة والصيادون ، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ظبيان] عن أبي موسى الأشعري. وقيل : إنه الأسد ؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة : من العسر بمعنى القهر أي ؛ إنه يقهر السباع ، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال : ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب ، ولكنها عصب الرجال ؛ قال : فالقسورة جمع الرجال ، وأنشد :
يا بنت كوني خيرة لخيرة ... أخوالها الجن وأهل القسورة
وعنه : ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا : "فرت من قسورة" أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا : القسورة بلسان العرب : الأسد ، وبلسان الحبشة : الرماة ؛ وبلسان فارس : شير ، وبلسان النبط : أريا. وقال ابن الأعرابي : القسورة : أول الليل ؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل : هو أول سواد الليل ، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم : من رجال أقوياء ، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة :
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العائدون القساور
قوله تعالى : {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} أي يعطى كتبا مفتوحة ؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها : إني قد أرسلت إليكم محمدا ، صلى الله عليه وسلم. نظيره : {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} . وقال ابن عباس : كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق : أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال الكلبي : قال المشركون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته ، فأتنا بمثل ذلك. وقال مجاهد : أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل : إلى فلان بن فلان. وقيل : المعنى أن يذكر بذكر جميل ، فجعلت الصحف موضع الذكر مجازا. وقالوا : إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه فما بالنا لا نرى ذلك ؟ {كَلَّا} أي ليس يكون ذلك. وقيل : حقا. والأول أجود ؛ لأنه رد لقولهم. {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} أي لا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة ، اغترارا بالدنيا. وقرأ سعيد بن جبير "صحفا منشرة" بسكون الحاء والنون ، فأما تسكين الحاء فتخفيف ، وأما النون فشاذ. إنما يقال : نشرت الثوب وشبهه ولا يقال أنشرت. ويجوز أن يكون شبه الصحيفة بالميت كأنها ميتة بطيها ، فإذا نشرت حييت ، فجاء على أنشر الله الميت ، كما شبه إحياء الميت بنشر الثوب ، فقيل فيه نشر الله الميت ، فهي لغة فيه.
54-
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} .

55-
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} .

56-
{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}

قوله تعالى : {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي حقا إن القرآن عظة. {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي اتعظ به. {وَمَا يَذْكُرُونَ} أي وما يتعظون {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة "يذكرون" بالياء واختاره أبو عبيد ؛ لقوله تعالى : "كلا بل لا يخافون الآخرة" . وقرأ نافع ويعقوب بالتاء ، واختاره أبو حاتم ، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" في الترمذي وسنن ابن ماجة عن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #735  
قديم 14-07-2025, 12:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ القيامة

من صــ 91 الى صــ100
الحلقة (735)



أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} قال : "قال الله تبارك وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له" لفظ الترمذي ، وقال فيه : حديث حسن غريب. وفي بعض التفسير : هو أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبار ، وأهل المغفرة أيضا للذنوب الصغار ، باجتناب الذنوب الكبار.
وقال محمد بن نصر : أنا أهل أن يتقيني عبدي ، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [وأرحمه ، وأنا الغفور الرحيم] .
سورة القيامة
مكية ، وهي تسع وثلاثون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .

2-
{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} .

3-
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} .

4-
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} .

5-
{بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} .

6-
{يسئل أيان يوم القيامة} .

قوله تعالى : {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قيل : إن "لا" صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة ؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حكم كلام واحد ؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى ؛ كقوله تعالى : {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} . وجوابه في سورة أخرى : {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . ومعنى الكلام : أقسم بيوم القيامة ؛ قال ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ؛ ومثله قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... فكاد صميم القلب لا يتقطع
وحكى أبو الليث السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى "لا أقسم" : أقسم. واختلفوا في تفسير : "لا" قال بعضهم : "لا" زيادة في الكلام للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة (لا) كما قال في آية أخرى : {قال ما منعك أن لا تسجد} . يعني أن تسجد ، وقال بعضهم : "لا" : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم.
قلت : وهذا قول الفراء ؛ قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون "لا" صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم (في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل "فلا" رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمى :
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء : وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ "لأقسم" بغير ألف ؛ كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم ، وهو صواب ؛ لأن العرب تقول : لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} لا خلاف في هذا بين القراء ، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه (ولم يقسم بالنفس) . وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل : {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي : والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى : {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه ، يقول : ما أردت بكذا ؟ فلا تراه
إلا وهو يعاتب نفسه ؛ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلامى ؟ ما أردت بأكلي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل : إنها ذات اللوم.
وقيل : إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها ؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة ، وهو صفة مدح ؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير : إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل : اللوامة بمعنى الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما ؛ إذ ليس للعاصي خطر يقسم به ، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء : ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها ؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا ، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا. قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة : ليجمعن العظام للبعث ، فهذا جواب القسم. وقال النحاس : جواب القسم محذوف أي لتبعثن ؛ ودل عليه قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} للإحياء والبعث. والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث. الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : حدثني عن يوم القيامة متى تكون ، وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أأمن به ، أو يجمع الله العظام ؟ ! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة ، والأخنس بن شريق" . وقيل : نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت. وذكر العظام والمراد نفسه كلها ؛ لأن العظام قالب الخلق. {بَلَى} وقف حسن ثم تبتدئ {قَادِرِينَ} . قال سيبويه : على معنى نجمعها قادرين ، "فقادرين" حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه
من التقدير. وقيل : المعنى بل نقدر قادرين. قال الفراء : "قادرين" نصب على الخروج من "نجمع" أي نقدر ونقوى "قادرين" على أكثر من ذلك. وقال أيضا : يصلح نصبه على التكرير أي "بلى" فليحسبنا قادرين. وقيل : المضمر (كنا) أي كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع "بلى قادرون" بتأويل نحن قادرون. {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} البنان عند العرب : الأصابع ، واحدها بنانة ؛ قال النابغة :
بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد
وقال عنترة :
وأن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء. وأيضا فإنها أصغر العظام ، فخصها بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام ؛ فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها ، ونؤلف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر. وقال ابن عباس وعامة المفسرين : المعنى {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلف الخنزير ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا ، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء. وكان الحسن يقول : جعل لك أصابع فأنت تبسطهن ، وتقبضهن بهن ، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك. وقيل : أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ؛ وهو كقوله تعالى : {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ } .
قلت : والتأويل الأول أشبه بمساق الآية. والله أعلم.
قوله تعالى : {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال ابن عباس : يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب. وقال عبدالرحمن بن زيد ؛ ودليله : {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}
أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب. فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب ، ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره : أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقب إبله ودبرها ، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله ؛ فقال الأعرابي :
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
يعني إن كان كذبني فيما ذكرت. وعن ابن عباس أيضا : يعجل المعصية ويسوف التوبة. وفي بعض الحديث قال : يقول سوف أتوب ولا يتوب ؛ فهو قد أخلف فكذب. وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير ، يقول : سوف أتوب ، سوف أتوب ، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله. وقال الضحاك : هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت. وقيل : أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة. فالهاء على هذه الأقوال للإنسان. وقيل : الهاء ليوم القيامة. والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. والفجور أصله الميل عن الحق. {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي متى يوم القيامة.
7-
{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} .

8-
{وَخَسَفَ الْقَمَرُ} .

9-
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} .

10-
{يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} .

11-
{كَلَّا لا وَزَرَ} .

12-
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .

13-
{يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .

قوله تعالى : {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} قرأ نافع وأبان عن عاصم "برق" بفتح الراء ، معناه : لمع بصره من شدة شخوصه ، فتراه لا يطرف. قال مجاهد وغيره : هذا عند الموت. وقال الحسن :
هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة "إذا برق البصر. وخسف القمر" والباقون بالكسر "برق" ومعناه : تحير فلم يطرف ؛ قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمة :
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كاد يبرق
الفراء والخليل : "برق" بالكسر : فزع وبهت وتحير. والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت : قد برق فهو برق ؛ وأنشد الفراء :
فنفسك فانع ولا تنعني ... وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك. وقيل : برق يبرق بالفتح : شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد قول الكلابي :
لما أتاني ابن عمير راغبا ... أعطيته عيشا صهابا فبرق
أي فتح عينيه. وقيل : إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى.
قوله تعالى : {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي ذهب ضوئه. والخسوف في الدنيا إلى انجلاء ، بخلاف الآخرة ، فإنه لا يعود ضوئه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب ؛ ومنه قوله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج : {وَخُسِفَ الْقَمَرُ} بضم الخاء وكسر السين يدل عليه "وجمع الشمس والقمر" . وقال أبو حاتم محمد بن إدريس : إذا ذهب بعضه فهو الكسوف ، وإذا ذهب كله فهو الخسوف. {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما ، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه ؛ قاله الفراء والزجاج.
قال الفراء : ولم يقل جمعت ؛ لأن المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة : هو على تغليب المذكر. وقال الكسائي : هو محمول على المعنى ، كأنه قال الضوءان. المبرد : التأنيث
غير حقيقي. وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة "الأنعام" . وفي قراءة عبدالله "وجمع بين الشمس والقمر" وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى. وقال علي وابن عباس : يجعلان في (نور) الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم ؛ لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد ، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس ابن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار" . وقيل : هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان ، ويقربان من الناس ، فيلحقهم العرق لشدة الحر ؛ فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل : يجمع الشمس والقمر ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار.
قوله تعالى : {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي يقول ابن آدم ، ويقال : أبو جهل ؛ أي أين المهرب ؟ قال الشاعر :
أين المفر والكباش تنتطح ... وأي كبش حاد عنها يفتضح
الماوردي : ويحتمل وجهين : أحدهما "أين المفر" من الله استحياء منه. الثاني "أين المفر" من جهنم حذرا منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن ؛ لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة "المفر" بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ؛ لأنه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم ؛ قال الكسائي : هما لغتان مثل مدب ومدب ، ومصح ومصح. وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء. المهدوي : من فتح الميم والفاء من "المفر" فهو مصدر
بمعنى الفرار ، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار ؛ فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك.
قلت : ومنه قول امرئ القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معا
يريد أنه حسن الكر والفر جيده. {كَلَّا} أي لا مفر ف "كلا" رد وهو من قول الله تعالى.. ثم فسر هذا الرد فقال : {لا وَزَرَ} أي لا ملجأ من النار. وكان ابن مسعود يقول : لا حصن. وكان الحسن يقول : لا جبل. وابن عباس يقول : لا ملجأ. وابن جبير : لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما ؛ قال الشاعر :
لعمري ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر
قال السدي : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال ، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذ مني ؛ قال طرفة :
ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلوا الرأي وفي الروع وزر
أي ملجأ للخائف. ويروى : وقر. {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي المنتهى ؛ قال قتادة نظيره : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} . وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع. قيل : أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى ؛ إذ هو الحاكم بينهم.
وقيل : إن "كلا" من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه : {كَلَّا لا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .
قوله تعالى : {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ} أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا {بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} : أي بما أسلف من عمل سيء أو صالح ، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده ؛ قاله ابن عباس وابن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال : ينبأ بأول عمله وآخره. وقاله النخعي. وقال ابن عباس أيضا : أي بما قدم من المعصية ، وأخر من الطاعة. وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد : {بِمَا قَدَّمَ} من أمواله لنفسه {وَأَخَّرَ} : خلف للورثة. وقال الضحاك : ينبأ بما قدم من فرض ، وأخر من فرض. قال القشيري : وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت.
قلت : والأول أظهر ؛ لما خرجه ابن ماجة في سننه من حديث الزهري ، حدثني أبو عبدالله الأغر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته" وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره : من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته" فقوله : "بعد موته وهو في قبره" نص على أن ذلك لا يكون عند الموت ، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله ، وإن كان يبشر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضا قوله الحق : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقوله تعالى : {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم.
وفي الصحيح : "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" .
14-
{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} .

15-
{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .

قوله تعالى : {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قال الأخفش : جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس : "بصيرة" أي شاهد ، وهو شهود جوارحه
عليه : يداه بما بطش بهما ، ورجلاه بما مشى عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة : الشاهد. وأنشد الفراء :
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح ، لأنها شاهدة على نفس الإنسان ؛ فكأنه قال : بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة ؛ قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون : هذه الهاء في قوله : "بصيرة" هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كالهاء في قولهم : داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر ؛ يدل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك. وقال بعض أهل التفسير : المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة ؛ أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون "بصيرة" نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره : بل الإنسان على نفسه عين بصيرة ؛ وأنشد الفراء :
كأن على ذي العقل عينا بصيرة
وقال الحسن في قوله تعالى : {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يعني بصير بعيوب غيره ، جاهل بعيوب نفسه. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن : معذار ؛ قاله الضحاك وقال الشاعر :
ولكنها ضنت بمنزل ساعة ... علينا وأطت فوقها بالمعاذر
قال الزجاج : المعاذر : الستور ، والواحد معذار ؛ أي وإن أرخى ستره ؛ يريد أن يخفى عمله ، فنفسه شاهدة عليه. وقيل : أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا ، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه ، فعليه شاهد يكذب




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #736  
قديم 14-07-2025, 12:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ القيامة

من صــ 101 الى صــ110
الحلقة (736)



عذره ؛ قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل : أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى : {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} وقوله : {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} فالمعاذير على هذا : مأخوذ من العذر ؛ قال الشاعر :
وإياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له : قد عذرتك غير معتذر ، إن المعاذير يشوبها الكذب. وقال ابن عباس : {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي.
قلت : والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب ؛ ومنه قول النابغة :
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها مشارك الكند
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقوله تعالى في المنافقين : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} . وفي الصحيح أنه يقول : "يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع" الحديث. وقد تقدم في "حم السجدة" وغيرها. والمعاذير والمعاذر : جمع معذرة ؛ ويقال : عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا ، والاسم المعذرة والعذري ؛ قال الشاعر :
إني حددت ولا عذرى لمحدود
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة ؛ قال النابغة :
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد
وتضمنت هذه الآية خمس مسائل :
الآولى- قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى : {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ؛ لأنها بشهادة منه عليها ؛ قال الله سبحانه وتعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولا خلاف فيه ؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه ؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه ، وهي
الثانية- وقد قال سبحانه في كتابه الكريم : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ثم قال تعالى : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} وهو في الآثار كثير ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها" . فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون ، فيقول أحدهم : إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه ، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد ، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه ، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك : وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار ، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه ، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار ، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق ، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها
وينكر ذلك الورثة ، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم ، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه ، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه ، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.
الثالثة- لا يصح الإقرار إلا من مكلف ، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط ، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار : إحداهما : في ابتدائه ، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية : في انتهائه ، وذلك مثل إبهام الإقرار ، وله صور كثيرة وأمهاتها ست : الصورة الأولى : أن يقول له عندي شيء ، قال الشافعي : لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر ، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية : أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة : لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة : أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب ، (فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء) فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء ، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله ، وقال بعض أصحاب الشافعي : يلزم الخمر والخنزير ، وهو قول باطل.
وقال أبو حنيفة : إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون ، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف ؛ فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة : إذا قال له : عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين ، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه.
الصورة الخامسة : أن يقول له : عندي مال كثير أو عظيم ؛ فقال الشافعي : يقبل في الحبة. وقال أبو حنيفة : لا يقبل إلا في نصاب الزكاة. وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة ، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة ،
لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد : إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له : ومن أين تقول ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح ؛ لأنه أخرج حنينا منها ، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين ، وقد قال الله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ، وقال : {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } ، وقال : {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} . الصورة السادسة : إذا قال له : عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه ، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا ؛ كقوله : مائة وخمسون درهما ؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين ، والخمسين تفسير للمائة. وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي : الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء.
المسألة الرابعة- قوله تعالى : {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله ؛ فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة : يقبل رجوعه بعد الإقرار. وقال به مالك في أحد قوليه ، وقال في القول الآخر : لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا.
والصحيح جواز الرجوع مطلقا ؛ لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه ، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "أبك جنون" قال : لا. قال : "أحصنت" قال : نعم. وفي حديث البخاري : "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" . وفي النسائي وأبي داود : حتى قال له في الخامسة "أجامعتها" قال : نعم. قال : "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها" قال : نعم. قال : "كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر" . قال : نعم. ثم قال : "هل تدري ما الزنى" قال : نعم ، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال : "فما تريد مني" ؟
قال : أريد أن تطهرني. قال : فأمر به فرجم. قال الترمذي وأبو داود : فلما وجد مس الحجارة فر يشتد ، فضربه رجل بلحى جمل ، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هلا تركتموه" وقال أبو داود والنسائي : ليثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله. وفي قوله عليه السلام : "لعلك قبلت أو غمزت" إشارة إلى قول مالك : إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.
الخامسة- وهذا في الحر المالك لأمر نفسه ، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين : إما أن يقر على بدنه ، أو على ما في يده وذمته ؛ فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه. وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد ، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد" . المعنى : أن محل العقوبة أصل الخلقة ، وهي (الدمية) في الآدمية ، ولا حق للسيد فيها ، وإنما حقه في الوصف والتبع ، وهي المالية الطارئة عليه ؛ ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل ، حتى قال أبو حنيفة : إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له. وقال علماؤنا : السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق ؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا ، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه ، لا سيما وأبو حنيفة يقول : إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك ، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.
16-
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} .

17-
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} .

18-
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} .

19-
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .

20-
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} .

21-
{وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} .

قوله تعالى : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} في الترمذي : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله تبارك وتعالى : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال : فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، كان يحرك شفتيه ، فقال لي ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما ؛ فقال سعيد : أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما ، فحرك شفتيه ؛ فأنزل الله عز وجل : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه ؛ قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع ، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه ؛ خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وقد تقدم. وقال عامر الشعبي : إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له ، وحلاوته في لسانه ، فنهى عن ذلك حتى يجتمع ؛ لأن بعضه مرتبط ببعض ، وقيل : كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه ، فنزلت {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ونزل : {سنقرئك فلا تنسى} ونزل : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قاله ابن عباس : "وقرآنه" أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران. وقال قتادة : {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فاتبع شرائعه وأحكامه. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام ؛ قاله قتادة. وقيل : ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما وقيل : أي إن علينا أن نبينه بلسانك. {كَلَّا} قال ابن عباس : أي إن
أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه. وقيل : أي {كَلَّا} لا يصلون ولا يذكون يريد كفار مكة. {كَلَّا بَلْ} أي بل تحبون يا كفار أهل مكة {الْعَاجِلَةَ} أي الدار الدنيا والحياة فيها {وَتَذَرُونَ} أي تدعون {الْآخِرَةَ} والعمل لها. وفي بعض التفسير قال : الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون "بل تحبون" "وتذرون" بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد ؛ قال : ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء ؛ لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر ، وهو اختيار أبي حاتم ، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى : {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ} وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع ؛ لأن ذلك أبلغ في المقصود ؛ نظيره : {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .
22-
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} .

23-
{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

24-
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} .

25-
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .

قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة. والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة ؛ يقال : نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى ؛ ومنه الحديث "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها" . "إلى ربها" إلى خالقها ومالكها "ناظرة" من النظر أي تنظر إلى ربها ؛ على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في "يونس" عند قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وكان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ؛ ثم تلا هذه الآية : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال : تنظر إلى ربها نظرا. وكان الحسن يقول : نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم.
وقيل : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. وروي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة : تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا. وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وهذا القول ضعيف جدا ، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار. وفي الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال هذا حديث غريب. وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" . وروى جرير بن عبدالله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا ، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" . ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} متفق عليه. وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه ؟ قال ابن معاذ : مخليا به يوم القيامة ؟ قال : "نعم يا أبا رزين" قال : وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : "يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر" قال ابن معاذ : ليلة البدر مخليا به. قلنا : بلى . قال : "فالله أعظم" (قال ابن معاذ قال) : "فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم" . وفي كتاب النسائي عن صهيب قال : "فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ، ولا أقر لأعينهم" وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه ، فيخرون له سجدا ، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة"
قال الثعلبي : وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه ، فتأويل مدخول ، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته ؛ كما قال تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ، و {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى ، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان. وقال الأزهري : إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذلك تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون نظرت إليه : إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ؛ قال :
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني ، ولم يقل تنظران إلي ؛ وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه ؛ قال :
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال
وقال آخر :
نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرج عارم
وقال آخر :
إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي إني أنظر إليك بذل ؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول ؛ فأما ما استدلوا به من قوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فإنما ذلك
في الدنيا. وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى. وقال عطية العوفي : ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، ونظره يحيط بها ؛ يدل عليه : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} قال القشيري أبو نصر : وقيل : "إلى" واحد الآلاء : أي نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل ؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء ، ثم الآلاء : نعمه الدفع ، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم ، والمنتظر للشيء متنغص العيش ، فلا يوصف أهل الجنة بذلك. وقيل : أضاف النظر إلى الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والماء يجري في النهر لا النهر. ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين ؛ قال الله تعالى : {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} أي على عينيه. ثم لا يبعد قلب العادة غدا ، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} ، فقيل : يا رسول الله! كيف يمشون في النار على وجوههم ؟ قال : "الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم" . {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة. وفي الصحاح : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها من غير ضبعة. وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح ؛ يقال : عبس وبسر. وقال السدي : {بَاسِرَةٌ} أي متغيرة والمعنى واحد. {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أي توقن وتعلم ، والفاقرة : الداهية والأمر العظيم ؛ يقال : فقرته الفاقرة : أي كسرت فقار ظهره. قال معناه مجاهد وغيره. وقال قتادة : الفاقرة الشر. السدي : الهلاك. ابن عباس وابن زيد : دخول النار. والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم ؛ قاله الأصمعي. يقال : فقرت أنف البعير : إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي ، لتذلله بذلك وتروضه ؛ ومنه قولهم : قد عمل به الفاقرة. وقال النابغة :
أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره
أي كاسرة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #737  
قديم 14-07-2025, 12:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنسان

من صــ 111 الى صــ120
الحلقة (737)



26-
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} .

27-
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} .

28-
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} .

29-
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} .

30-
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} .

قوله تعالى : {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} {كَلَّا} ردع وزجر ؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ؛ ثم استأنف فقال : {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي بلغت النفس أو الروح التراقي ؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر ، لعلم المخاطب به ؛ كقوله تعالى : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وقوله تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وقد تقدم. وقيل : {كَلَّا} معناه حقا ؛ أي حقا أن المساق إلى الله {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي. وكان ابن عباس يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر ، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر ، موضع الحشرجة ؛ قال دريد بن الصمة.
ورب عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي ، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت.
قوله تعالى : {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} اختلف فيه ؛ فقيل : هو من الرقية ؛ عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما. روي سماك عن عكرمة قال : من راق يرقي : أي يشفي. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس : أي هل من طبيب يشفيه ؛ وقال أبو قلابة وقتادة ؛ وقال الشاعر :
هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من راق
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس ؛ أي من يقدر أن يرقي من الموت.
وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى : إذا صعد ، والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل : إن ملك الموت يقول من راق ؟ أي من يرقى بهذه النفس ؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها ، فيقول ملك الموت : يا فلان اصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى : {مَنْ رَاقٍ} واللام في قوله : {بَلْ رَانَ} لئلا يشبه مراق وهو بائع المرقة ، وبران في تثنية البر. والصحيح ترك الإظهار ، وكسرة القاف في {مَنْ رَاقٍ} ، وفتحة النون في {بَلْ رَانَ} تكفي في زوال اللبس. وأمثل مما ذكر : قصد الوقف على "من" و "بل" ، فأظهرهما ؛ قاله القشيري.
قوله تعالى : {وَظَنَّ} أي أيقن الإنسان {أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد ، وذلك حين عاين الملائكة. قال الشاعر :
فراق ليس يشبهه فراق ... قد انقطع الرجاء عن التلاق
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي فاتصلت الشدة بالشدة ؛ شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره : المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب. وقال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضا : ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه ، ولقد كان عليهما جوالا. قال النحاس : القول الأول أحسنها. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال : آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله ؛ أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع ؛ والدليل على هذا قوله تعالى : {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} وقال مجاهد : بلاء ببلاء. يقول : تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وابن زيد : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن
والشدائد العظام ؛ ومنه قولهم : قامت الدنيا على ساق ، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر :
وقامت الحرب بنا على ساق
وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة {نْ وَالْقَلَمِ} . وقال قوم : الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه ، فهذه الساق الأولى ، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده : {إِلَى رَبِّكَ} أي إلى خالقك {يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {الْمَسَاقُ} أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال : يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمساق : المصدر من ساق يسوق ، كالمقال من قال يقول.
31-
{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} .

32-
{وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} .

33-
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} .

34-
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .

35-
{ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .

قوله تعالى : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل. وقيل : يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة ، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة "ولا صلى" ودعا لربه ، وصلى على رسوله. وقال قتادة : فلا صدق بكتاب الله ، ولا صلى لله. وقيل : ولا صدق بمال له ، ذخرا له عند الله ، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي : "لا" بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره ؛ تقول العرب : لا عبدالله خارج ولا فلان ، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل ، وقوله تعالى : {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ليس من هذا القبيل ؛ لأن معناه أفلا أقتحم ؛ أي فهلا اقتحم ، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش : "فلا صدق" أي لم يصدق ؛ كقوله : {فَلا اقْتَحَمَ} أي لم يقتحم ، ولم يشترط أن يعقبه
بشيء آخر ، والعرب تقول : لا ذهب ، أي لم يذهب ، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل ؛ ومنه قول زهير :
فلا هو أبداها ولم يتقدم
قوله تعالى : {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي يتبختر ، افتخارا بذلك ؛ قال مجاهد وغيره. مجاهد : المراد به أبو جهل. وقيل : "يتمطى" من المطا وهو الظهر ، والمعنى يلوي مطاه. وقيل : أصله يتمطط ، وهو التمدد من التكسل والتثاقل ، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق ؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف ، والتمطي يدل على قلة الاكتراث ، وهو التمدد ، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض ؛ لأنه يتمطى أي يتمدد ؛ وفي الخبر : (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم ". والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي."
قوله تعالى : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة ؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال : "فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى" أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن ، كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال : فإن قوله : {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} خصلة خامسة ؛ فإنا نقول : تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي ، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره. وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده ، فهزه أو مرتين ثم قال : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال : ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا ، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه ، وقتله شر قتلة.
وقيل : معناه : الويل لك ؛ ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت ؛ وعلى هذا التأويل قيل : هو من المقلوب ؛ كأنه قيل : أويل ، ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار ؛ وهذا التكرير كما قال :
لك الويلات إنك مرجلي
أي لك الويل ، ثم الويل ، ثم الويل ، وضعف هذا القول. وقيل : معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي "أولى" في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول : قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ؛ وأصله من الولي ، وهو القرب ؛
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} أي يقربون منكم ؛ وأنشد الأصمعي :
وأولى أن يكون له الولاء
أي قارب أن يكون له ؛ وأنشد أيضا :
أولى لمن هاجت له أن يكمدا
أي قد دنا صاحبها [من] الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول : ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس : العرب تقول أولى لك : كدت تهلك ثم أفلت ، وكأن تقديره : أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال : ولا تكون أولى (أفعل منك) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال : الوعيد أولى له من غيره ؛ لأن أبا زيد قد حكى : أولاة الآن : إذا أوعدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و "لك" خبر عن "أولى" . ولم ينصرف "أولى" لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد. وقيل : التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول ، ثم على الثاني ، والثالث ، والرابع ، كما تقدم.
36-
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} .

37-
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} .

38-
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} .

39-
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} .

40-
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .

قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ} أي يظن ابن آدم {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي أن يخلى مهملا ، فلا يؤمر ولا ينهى ؛ قال ابن زيد ومجاهد ، ومنه إبل سدى : ترعى بلا راع.
وقيل : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث. وقال الشاعر :
فأقسم بالله جهد اليميـ ... ــن ما ترك الله شيئا سدى
قوله تعالى : {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} أي من قطرة ماء تمنى في الرحم ، أي تراق فيه ؛ ولذلك سميت (مني) لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة : الماء القليل ؛ يقال : نطف الماء : إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة.
وقرأ حفص "من مني يمنى" بالياء ، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو ، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة ، واختاره أبو حاتم. {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أي دما بعد النطفة ، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال : {فَخَلَقَ} أي فقدر {فَسَوَّى} أي فسواه تسوية ، وعدله تعديلا ، بجعل الروح فيه {فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان. وقيل : من المني. {الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة "الشورى" أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة "النساء" أيضا القول فيه ، وذكرنا في آية المواريث حكمه ، فلا معنى لإعادته. {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : "سبحانك اللهم ، بلى" وقال ابن عباس. من قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} إماما كان أوغيره فليقل : "سبحان ربي الأعلى" ومن قرأ {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل : "سبحانك اللهم بلى" ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.
سورة الإنسان
وهي إحدى وثلاثون آية
مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور : مدنية. وقيل : فيها مكي ، من قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} إلى آخر السورة ، وما تقدمه مدني.
وذكر ابن وهب قال : وحدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له عمر بن الخطاب : لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "دعه يا ابن الخطاب" قال : فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده ، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة" وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ ، وسيأتي. وقال القشيري : إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} .

2-
{إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .

3-
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .

قوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} "هل" : بمعنى قد ؛ قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكي عن سيبويه "هل" بمعنى قد.
قال الفراء : هل تكون جحدا ، وتكون خبرا ، فهذا من الخبر ؛ لأنك تقول : هل أعطيتك ؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ وقيل : هي بمنزلة الاستفهام ، والمعنى : أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام ؛ قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي. وروي عن ابن عباس. {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أربعون سنة مرت به ، قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين ، فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال : أقام وهو من تراب أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ، ثم نفخ فيه الروح. وقيل : الحين المذكور ها هنا : لا يعرف مقداره ؛ عن ابن عباس أيضا ، حكاه الماوردي. {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} قال الضحاك عن ابن عباس : لا في السماء ولا في الأرض. وقيل : أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا ، لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح ، فصار مذكورا ؛ قاله الفراء وقطرب وثعلب. وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.
وقيل : ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار ، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم ، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر ؛ تقول : فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة ، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال ، ظهر فضله على الكل ، فصار مذكورا. قال القشيري : وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق ، وإن كان مذكورا لله. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء : "لم يكن شيئا" قال : كان شيئا ولم يكن مذكورا. وقال قوم : النفي يرجع إلى الشيء ؛ أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة ؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة ، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى : قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل : قال قتادة : إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة
كانت بعد الإنسان. وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيوانا.
وقد قيل : "الإنسان" في قوله تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ} عني به الجنس من ذرية آدم ، وأن الحين تسعة أشهر ، مدة حمل الإنسان في بطن أمه {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} : إذ كان علقة ومضغة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له. وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية : ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك ، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فقال ليتها تمت.
قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} أي ابن آدم من غير خلاف {مِنْ نُطْفَةٍ} أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه :
مالي أراك تكرهين الجنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه
وجمعها : نطف ونطاف. {أَمْشَاجٍ} أخلاط. واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ؛ قال : رؤبة :
يطرحن كل معجل نشاج ... لم يُكس جلدا في دم أمشاج
ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ؛ مثل مخلوط وخليط. وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ؛ يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ؛ قال الشماخ :
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #738  
قديم 14-07-2025, 12:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنسان

من صــ 121 الى صــ130
الحلقة (738)



قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ؛ قال الهذلي :
كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج
وعن ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روي هذا مرفوعا ؛ ذكره البزار.
وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة. وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان. وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء. وقال ابن عباس : خلق من ألوان ؛ خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ؛ كما قال في سورة "المؤمنون" {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية. وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ؛ كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : "ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت" فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة "البقرة" .
قوله تعالى : {نَبْتَلِيهِ} أي نختبره. وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان : أحدهما :
نختبره بالخير والشر ؛ قال الكلبي. الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء ؛ قال الحسن. وقيل : "نبتليه" نكلفه. وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق ؛ قال مقاتل. الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي. وروي عن ابن عباس : "نبتليه" : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر. وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير.
قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقيل : {جَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى.
قوله تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال ، والخير والشر ببعث الرسل ، فآمن أو كفر ؛ كقوله تعالى : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقال مجاهد : أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي : السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون : "إن" ها هنا تكون جزاء و "ما" زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون ؛ إذ لا تدخل "إن" للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل : أي هديناه الرشد ، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه ؛ ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن ، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول : قد نصحت لك ، إن شئت فاقبل ، وإن شئت فاترك ؛ أي فإن شئت ، فتحذف الفاء. وكذا "إما شاكرا" والله أعلم. ويقال : هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في "الفاتحة" وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور ، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة ؛ نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر ؛ لأن شكر الله تعالى لا يؤدى ، فانتفت عنه المبالغة ، ولم تنتف عن الكفر المبالغة ، فقل شكره ، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.
4-
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً}

قوله تعالى : {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} بين حال الفريقين ، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم ، فمن كفر فله العقاب ، ومن وحد وشكر فله الثواب. والسلاسل : القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في "الحاقة" . وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر "سلاسلا" منونا. الباقون بغير تنوين. ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف. الباقون بالألف. فأما "قوارير" الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، ولم ينون الباقون. ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف. والباقون بالألف. وأما "قوارير" الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر ، ولم ينون الباقون. فمن نون قرأها بالألف ، ومن لم ينون أسقط منها الألف ، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة ، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف ؛ قال : رأيت في مصحف عثمان "سلاسلا" بالألف و "وقواريرا" الأول بالألف ، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. فمن صرف فله أربع حجج : أحدها : أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد ، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت. الثانية : أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك ، وكذا قال الكسائي والفراء : هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه ؛ وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :
كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لا عبينا
وقال لبيد :
وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أجسامها
وقال لبيد أيضا :
فضلا وذو كرم يعين على الندى ... سمح كسوب رغائب غنامها
فصرف مخاريق ومغالق ورغائب ، وسبيلها ألا تصرف. والحجة الثالثة : أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية ، ورؤوس الآي جاءت بالنون ، كقوله جل وعز : {مَذْكُوراً} . {سَمِيعاً بَصِيراً} فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي ، ونونا الثاني على الجوار للأول. والحجة الرابعة : اتباع المصاحف ، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال : إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة ؛ فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك : قناديل ودنانير ومناديل ، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل : {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} لأن بعد الألف منه حرفين ، وكذلك قوله : {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب. وقال خلف : سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال : في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف ؛ فهذا حجة لمذهب حمزة. وقال خلف : رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف. وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا ؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف ؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين ؛ قال الفراء وغيره.
قوله تعالى : {وَأَغْلالاً} جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم. وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول : ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال. قال الحسن : إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار ؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا. {وَسَعِيراً} تقدم القول فيه.
5-
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} .

6-
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} .

قوله تعالى : {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} الأبرار : أهل الصدق واحدهم بر ، وهو من امتثل أمر الله تعالى. وقيل : البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد ، وقيل : هو جمع بر مثل نهر وأنهار ؛ وفي الصحاح : وجمع البر الأبرار ، وجمع البار البررة ، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه ، والأم برة بولدها. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سماهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا" . وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر. وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر.
وفي الحديث : "الأبرار الذين لا يؤذون أحدا" . {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} أي من إناء فيه الشراب. قال ابن عباس : يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب : وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا. قال عمرو بن كلثوم :
صَبْنتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وقال الأصمعي : يقال صبنت عنا الهدية أو ما كان من معروف تصبن صبنا : بمعنى كففت ؛ قاله الجوهري. {كَانَ مِزَاجُهَا} أي شوبها وخلطها ، قال حسان :
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
ومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. {كَافُوراً} قال ابن عباس : هو اسم عين ماء في الجنة ، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا. وقال سعيد عن قتادة : تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك. وقال مجاهد. وقال عكرمة : مزاجها طعمها. وقيل : إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل : أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ؛ لأن الكافور لا يشرب ؛ كقوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي كنار. وقال ابن كيسان : طيب بالمسك والكافور والزنجبيل. وقال
مقاتل : ليس بكافور الدنيا. ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله : {كَانَ مِزَاجُهَا} "كان" زائدة أي من كأس مزاجها كافور. {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} قال الفراء : إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة ؛ "فعينا" بدل من كافور على هذا. وقيل : بدل من كأس على الموضع. وقيل : هي حال من المضمر في "مزاجها" . وقيل : (نصب على المدح ؛ كما يذكر الرجل فتقول : العاقل اللبيب ؛ أي ذكرتم العاقل اللبيب فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عينا. وقال الزجاج المعنى من عين. ويقال : كافور وقافور. والكافور أيضا : وعاء طلع النخل وكذلك الكفرى ؛ قاله الأصمعي. وأما قول الراعي :
تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج
فإن الظبي الذي يكون منه المسك إنما يرعى سنبل الطيب فجعله كافورا. {يَشْرَبُ بِهَا} قال الفراء : يشرب بها ويشربها سواء في المعنى ، وكأن يشرب بها يروى بها وينقع ؛ وأنشد :
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
قال : ومثله فلان يتكلم بكلام حسن ، ويتكم كلاما حسنا. وقيل : المعنى يشربها والباء زائدة وقيل : الباء بدل "من" تقديره يشرب منها ؛ قاله القتبي. {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} فيقال : إن الرجل منهم ليمشي في بيوتاته ويصعد إلى قصوره ، وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره ؛ وذلك قوله تعالى : {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} أي يشققونها شقا كما يفجر الرجل النهر ها هنا وها هنا إلى حيث يريد. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} يقودونها حيث شاؤوا وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم. وروى
أبو مقاتل عن أبي صالح عن سعد عن أبي سهل عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكر الله {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [والأخرى الزنجبيل] "
والأخريان نضاختان من فوق العرش إحداهما التي ذكر الله [عينا فيها تسمى] {سَلْسَبِيلاً} والأخرى التسنيم "ذكره الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول ". وقال : فالتسنيم للمقربين خاصة شربا لهم ، والكافور للأبرار شربا لهم ؛ يمزج للأبرار من التسنيم شرابهم ، وأما الزنجبيل والسلسبيل فللأبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل وسكت عن ذكر ذلك لمن هي شرب ، فما كان للإبرار مزاج فهو للمقربين صرف ، وما كان للإبرار صرف فهو لسائر أهل الجنة مزاج. والأبرار هم الصادقون ، والمقربون : هم الصديقون."
7-
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .

8-
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} .

9-
{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}

قوله تعالى : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي لا يخلفون إذا نذروا. وقال معمر عن قتادة : بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات. وقال مجاهد وعكرمة : يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه. وقال الفراء والجرجاني : وفي الكلام إضمار ؛ أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة "كان" وتحذف أخرى. والنذر : حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده : النذر : هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وقال الكلبي : "يوفون بالنذر" أي يتممون العهود والمعنى واحد ؛ وقد قال الله تعالى :
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة.
وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله ؛ قال القشيري.
وروى أشهب عن مالك أنه قال : "يوفون بالنذر" هو نذر العتق والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبدالعزيز قال مالك. "يوفون بالنذر" قال : النذر : هو اليمين.
قوله تعالى : {وَيَخَافُونَ} أي يحذرون {يَوْماً} أي يوم القيامة. {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي عاليا داهيا فاشيا وهو في اللغة ممتدا ؛ والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال : إذا امتد ؛ قال الأعشى :
وبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صدعا على نأيها مستطيرا
ويقال : استطار الحريق : إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.
وقال حسان :
وهان على سراء بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وكان قتادة يقول : استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
وقال مقاتل : كان شره فاشيا في السموات فانشقت ، وتناثرت الكواكب ، وفزعت الملائكة ، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه.
قوله تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} قال ابن عباس ومجاهد : على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له. وقال الداراني : على حب الله. وقال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال : أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. {مِسْكِيناً} أي ذا مسكنة. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو الطواف يسألك مالك {وَيَتِيماً} أي من يتامى المسلمين. وروى منصور عن الحسن : أن
يتيما كان يحضر طعام ابن عمر ، فدعا ذات يوم بطعامه ، وطلب اليتيم فلم يجده ، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام ، فدعا له بسويق وعسل ؛ فقال : دونك هذا ، فوالله ما غبنت ؛ قال الحسن وابن عمر : والله ما غبن.
{وَأَسِيراً} أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقال قتادة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء : هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة : لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم ، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
وقال عكرمة : الأسير العبد. وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة ، يدل عليه قوله عليه السلام : "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم" أي أسيرات. وقال أبو سعيد الخدري : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} فقال : "المسكين الفقير ، واليتيم الذي لا أب له ، والأسير المملوك والمسجون" ذكره الثعلبي. وقيل : نسخ إطعام المسكين آية الصدقات ؛ وإطعام الأسير (آية) السيف ؛ قال سعيد بن جبير. وقال غيره : بل هو ثابت الحكم ، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الإمام. الماوردي : ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل ؛ لأنه في أسر خبله وجنونه ، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام ؛ وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال : الأمير من أهل القبلة وغيرهم.
قلت : وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال ، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا. والله أعلم.
ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في "البقرة" مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً} أي مكافأة. {وَلا شُكُوراً} أي ولا أن تثنوا علينا بذلك ؛ قال ابن عباس : كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال : أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم ؛ ليرغب في ذلك راغب. وقال سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري. وقيل : إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به. وقيل : نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين : أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم ؛ ذكره الماوردي. وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا. وقال أبو حمزة الثمالي : بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود ؛ فقال : "والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب" فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله ؛ وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالت المرأة : اطعمه واسقه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال : يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال : "ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب" فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة : أطعمه واسقه ، فأطعمه. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال : يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال : "والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب" فجاء الأنصاري فطلب ، فقالت المرأة : أطعمه واسقه. فنزلت : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ذكره الثعلبي. وقال أهل التفسير : نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة.
قلت : والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلا حسنا ؛ فهي عامة.
وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت ، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قال :






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #739  
قديم 14-07-2025, 12:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنسان

من صــ 131 الى صــ140
الحلقة (739)




مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعادهما عامة العرب ؛ فقالوا : يا أبا الحسن - ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال : مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا أبا الحسن - رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا ، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء. فقال رضي الله عنه : إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية : إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك. وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين : علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير ، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري ، وكان يهوديا ، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير ، فجاء به ، فوضعه ناحية البيت ، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه. وفي حديث الجعفي : فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص ، لكل واحد منهم قرص ، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش ؛ إذ أتاهم مسكين ، فوقف بالباب وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنا والله جائع ؛ أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه ، فأنشأ يقول :
فاطم ذات الفضل اليقين ... يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين ... قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين ... يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ بكسبه رهين ... وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين ... حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين ... تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين ... من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول :
أمرك عندي يا ابن عم طاعه ... ما بي من لؤم ولا وضاعه
غديت في الخبز له صناعه ... أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذا أشبعت ذا المجاعه ... أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الجنة لي شفاعه
فأطعموه الطعام ، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح ، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم ؛ فوقف بالباب يتيم فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول :
فاطم بنت السيد الكريم ... بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم ... من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل الجنة أي سليم ... قد حرم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم ... يزل في النار إلى الجحيم
شرابه الصديد والحميم
فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول :
أطعمه اليوم ولا أبالي ... وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهمُ أشبالي ... أصغرهم يقتل في القتال
بكر بلا يقتل باغتيال ... يا ويل للقاتل مع وبال
تهوي به النار إلى سفال ... وفي يديه الغل والأغلال
كبولة زادت على الأكبال
فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح ؛ فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى المنزل ، فوضع الطعام بين أيديهم ؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول :
فاطم يا بنت النبي أحمد ... بنت نبي سيد مسود
وسماه الله فهو محمد ... قد زانه الله بحسن أغيد
هذا أسير للنبي المهتد ... مثقل في غله مقيد
ينكو إلينا الجوع قد تمدد ... من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد ... ما يزرع الزارع سوف يحصد
أعطيه لا لا تجعليه أقعد
فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول :
لم يبق مما جاء غير صاع ... قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله هما جياع ... يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع ... يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين شديد الباع ... وما على رأسي من قناع
إلا قناعا نسجه أنساع
فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح ، فلما أن كان في اليوم الرابع ، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن ، وبيده اليسرى الحسين ، وأقبل نحو
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ؛ فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة" فانطلقوا إليها وهي في محرابها ، وقد لصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها من شدة الجوع ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال : "واغوثاه يا الله ، أهل بيت محمد يموتون جوعا" فهبط جبريل عليه السلام وقال : السلام عليك ، ربك يقرئك السلام يا محمد ، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال : "وما أخذ يا جبريل" فأقرأه {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ} إلى قوله : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول : فهذا حديث مزوق مزيف ، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين ، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة ، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم ؛ وقد قال الله تعالى في تنزيله : {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك ، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" . "وابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن ؟ حتى تضوروا من الجوع ، وغارت العيون منهم ؛ لخلاء أجوافهم ، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل ، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك ؟ ! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن ؟ ! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال ؛ أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة ، وإجابة كل واحد منهما صاحبه ، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة ؟
فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى بلغني أن قوما
يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة ، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه ، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة ، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها ، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة ، وآفة الدين وكيده أكثر.
10-
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .

11-
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}

قوله تعالى : {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} {عَبُوساً} من صفة اليوم ، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس. وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس : العبوس : الضيق ، والقمطرير : الطويل ؛ قال الشاعر :
شديدا عبوسا قمطريرا
وقيل : القمطرير الشديد ؛ تقول العرب : يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى ؛ وأنشد الفراء :
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر
بضم القاف. وقمطر إذا اشتد. وقال الأخفش : القمطرير : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ؛ قال الشاعر :
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال الكسائي : يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا ، وهو القمطرير والزمهرير ، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا ؛ قال الهذلي :
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
وقال مجاهد : إن العبوس بالشفتين ، والقمطرير بالجبهة والحاجبين ؛ فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم ؛ وأنشد ابن الأعرابي :
يغدو على الصيد يعود منكسر ... ويقمطر ساعة ويكفهر
وقال أبو عبيدة : يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين. وقال الزجاج : يقال أقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ، وزمت بأنفها ؛ فاشتقه من القطر ، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة :
واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشطر قمطرير الصباح
قوله تعالى : {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} أي دفع عنهم {شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أي بأسه وشدته وعذابه
"ولقاهم" أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه {نَضْرَةً} أي حسنا {وَسُرُوراً} أي حبورا. قال الحسن ومجاهد : {نَضْرَةً} في وجوههم {وَسُرُوراً} في قلوبهم. وفي النضرة ثلاثة أوجه : أحدها أنها البياض والنقاء ؛ قال الضحاك. الثاني الحسن والبهاء ؛ قال ابن جبير. الثالث أنها أثر النعمة ؛ قال ابن زيد.
12-
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} .

13-
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} .

14-
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} .

قوله تعالى : {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} على الفقر. وقال القرظي : على الصوم. وقال عطاء : على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر. وقيل : بصبرهم على طاعة الله ، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. و "ما" : مصدرية ، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر فقال : "الصبر أربعة : أولها الصبر عند الصدمة الأولى ، والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب" . {جَنَّةً وَحَرِيراً} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى
بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة [وفيه] ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم : أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها.
قوله تعالى : {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي في الجنة ؛ ونصب "متكئين" على الحال من الهاء والميم في "جزاهم" والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها "صبروا" ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. وقال الفراء. وإن شئت جعلت "متكئين" تابعا ، كأنه قال جزاهم جنة "متكئين فيها" . {عَلَى الْأَرَائِكِ} السرر في الحجال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير ، ومنها السجل ، وهو الدلو الممتلئ ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلا ، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ ، والكأس لا تسمو ، كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى ، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان ؛ قال ذو الرمة :
خدود جفت في السير حتى كأنما ... يباشرن بالمعزاء مس الأرائك
أي الفرش على السرر. {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس {وَلا زَمْهَرِيراً} أي ولا بردا مفرطا ؛ قال الأعشى :
منعمة طفلة كالمهاة ... لم تر شمسا ولا زمهريرا
وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف ، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف"
من سمومها ". وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن هواء الجنة سجسج : لا حر ولا برد "والسجسج : الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رؤوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود : هو لون من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم :"
أو كنت ريحا كنت زمهريرا
وقال ثعلب : الزمهرير : القمر بلغة طيي ؛ قال شاعرهم :
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى : ما ظهر ؛ أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا ، أي إنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار ؛ لأن ضوء النهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة "مريم" عند قوله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} . وقال ابن عباس : بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة ، فيقولون : قال ربنا : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} فما هذا النور ؟ فيقول لهم رضوان : ليست هذه شمس ولا قمر ، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} وأنشد :
أنا مولى لفتى ... أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى ... وابن عم المصطفى
قوله تعالى : {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار ، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم ؛ كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ،
وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال : إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت "دانية" على الحال عطفا على "متكئين" كما تقول : في الدار عبدالله متكئا ومرسلة عليه الحجال. وقيل : انتصبت نعتا للجنة ؛ أي وجزاهم جنة دانية ، فهي ، صفة لموصوف محذوف. وقيل : على موضع {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} ويرون دانية ، وقيل : على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. "ظلالها" الظلال مرفوعة بدانية ، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز ، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في "وجزاهم" وقد قرئ بذلك. وفي قراءة عبدالله "ودانيا عليهم" لتقدم الفعل. وفي حرف أبي "ودان" رفع على الاستئناف {وَذُلِّلَتْ} أي سخرت لهم "قُطُوفُهَا" أي ثمارها "تَذْلِيلاً" أي تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع ، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك ؛ قاله قتادة. وقال مجاهد : إن قام أحدا ارتفعت له ، وإن جلس تدلت عليه ، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا : أرض الجنة من ورق ، وترابها الزعفران ، وطيبها مسك أذفر ، وأصول شجرها ذهب وورق ، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، والثمر تحت ذلك كله ؛ فمن أكل منها قائما لم تؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه ، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقال ابن عباس : إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد ، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف : الثمار ، الواحد قطف بكسر القاف ، سمي به لأنه يقطف ، كما سمي الجنى لأنه يجنى. {تَذْلِيلاً} تأكيد لما وصف به من الذل ؛ كقوله : {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . الماوردي : ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها ، وتخلص لهم من نواها.
قلت : وفي هذا بعد ؛ فقد روى ابن المبارك ، قال : أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء ، أشد
بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزبد ليس فيه عجم. قال أبو جعفر النحاس : ويقال المذلل الذي قد ذلّله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته ، ويقال المذلل المسوى ؛ لأن أهل الحجاز يقولون : ذلل نخلك أي سوه ، ويقال المذلل القريب المتناول ، من قولهم : حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس :
وساق كأنبوب السقي المذلل
15-
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} .

16-
{قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} .

17-
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} .

18-
{عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} .

قوله تعالى : {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ؛ أي ما في الجنة أشرف وأعلى وأنقى. ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى يسقون في أواني الفضة ، وقد يسقون في أواني الذهب. وقد قال تعالى : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} . وقيل : نبه بذكر الفضة على الذهب ؛ كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل : 81] أي والبرد ؛ فنبه بذكر أحدهما على الثاني. والأكواب : الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى ، الواحد منها كوب ؛ وقال عدي :
متكئا تقرع أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقد مضى في "الزخرف" . "قوارير من فضة" أي في صفاء القوارير وبياض الفضة ؛ فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة. وقيل : أرض الجنة





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #740  
قديم 14-07-2025, 12:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الإنسان

من صــ 141 الى صــ150
الحلقة (740)






من فضة ، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس وقال : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه ، إلا القوارير من فضة. وقال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء ، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قراءة العامة بفتح القاف والدال ؛ أي قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريهم ، بغير زيادة ولا نقصان. الكلبى : وذلك ألذ وأشهى ؛ والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم. وعن ابن عباس أيضا : قدروها على ملء الكف لا تزيد ولا تنقص ، حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر. وقيل : إن الشاربين قدروا لها مقادير في أنفسهم على ما اشتهوا وقدروا. وقرأ عبيد بن عمير والشعبي وابن سيرين "قدروها" بضم القاف وكسر الدال ؛ أي جعلت لهم على قدر إرادتهم. وذكر هذه القراءة المهدوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما ؛ وقال : ومن قرأ "قدروها" فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى ، وكأن الأصل قدروا عليها فحذف الجر ؛ والمعنى قدرت عليهم ؛ وأنشد سيبويه :
آليت حب العراق الدهر آكله ... والحب يأكله في القرية السوس
وذهب إلى أن المعنى على حب العراق. وقيل : هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشارب ؛ وذلك قوله تعالى : {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي لا يفضل عن الري لا ينقص منه ، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهى حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر هذا القول الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" .
قوله تعالى : {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} وهي الخمر في الإناء. {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} "كان" صلة ؛ أي مزاجها زنجبيل ، أو كان في حكم الله زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من
الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ؛ لأنه يحذو اللسان ، ويهضم المأكول ، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب. وقال المسيب عن علس يصف ثغر المرأة :
وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
ويروى. الكرم. وقال آخر :
كأن جنيا من الزنجبيـ ... ـل بات بفيها وأريا مشورا
ونحوه قول الأعشى :
كأن القرنفل والزنجبيـ ... ــــل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال مجاهد : الزنجبيل اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار. وكذا قال قتادة : والزنجبيل اسم العين التي يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة. وقيل : هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل. وقيل : إن فيه معنى الشراب الممزوج بالزنجبيل. والمعنى كأن فيها زنجبيلا. {عَيْناً} بدل من كأس. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل أي يسقون عينا. ويجوز نصبه بإسقاط الخافض أي من عين على ما تقدم في قوله تعالى : {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . {فِيهَا} أي في الجنة {تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} السلسبيل الشراب اللذيذ ، وهو فعليل من السلالة ؛ تقول العرب : هذا شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل بمعنى ؛ أي طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح : وتسلسل الماء في الحلق جرى ، وسلسلته أنا صببته فيه ، وماء سلسل وسلسال : سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه ، والسلاسل بالضم مثله. وقال الزجاج : السلسبيل في اللغة : اسم لما كان في غاية السلاسة ؛ فكأن العين سميت بصفتها. وعن مجاهد قال : سلسبيلا : حديدة الجرية تسيل في حلوقهم انسلالا.
ونحوه عن ابن عباس : إنها الحديدة الجري. ذكره الماوردي ؛ ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو العالية ومقاتل : إنما سميت سلسبيلا ؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم ، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنة. وقال قتادة : سلسة منقاد ماؤها حيث شاؤوا. ونحوه عن عكرمة. وقال القفال : أي تلك عين شريفة فسل سبيلا إليها. وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقوله : "تسمى" أي إنها مذكورة عند الملائكة وعند الأبرار وأهل الجنة بهذا الاسم. وصرف سلسبيل ؛ لأنه رأس آية ؛ كقوله تعالى : {الظُّنُونَا} و {السَّبِيلا} .
19-
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} .

20-
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} .

21-
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} .

22-
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} .

قوله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} بين من الذي يطوف عليهم بالآنية ؛ أي ويخدمهم ولدان مخلدون ، فإنهم أخف في الخدمة. ثم قال : {مُخَلَّدُونَ} أي باقون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن ، لا يهرمون ولا يتغيرون ، ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة. وقيل : مخلدون لا يموتون. وقيل : مسورون مقرطون ؛ أي محلون والتخليد التحلية. وقد تقدم هذا. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم : لؤلؤا مفرقا في عرصة المجلس ، واللؤلؤ إذا نثر على بساط كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل ، وهو
على بساط منسوج من ذهب ، وقد نثرت عليه نساء دار الخليفة اللؤلؤ ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال : لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول :
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقيل : إنما شبههم بالمنثور ؛ لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين إذ شبههن باللؤلؤ المكنون المخزون ؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة.
قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} "ثم" : ظرف مكان أي هناك في الجنة ، والعامل في "ثم" معنى "رأيت" أي وإذا رأيت ببصرك "ثم" . وقال الفراء : في الكلام "ما" مضمرة ؛ أي وإذا رأيت ما ثم ؛ كقوله تعالى : {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي ما بينكم. وقال الزجاج : "ما" موصولة "بثم" على ما ذكره الفراء ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة ، ولكن "رأيت" يتعدى في المعنى إلى "ثم" والمعنى : إذا رأيت ببصرك "ثم" ويعني "بثم" الجنة ، وقد ذكر الفراء هذا أيضا.
والنعيم : سائر ما يتنعم به. والملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ؛ قال السدي وغيره. قال الكلبي : هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله ، فيستأذن عليه ؛ فذلك الملك العظيم. وقاله مقاتل بن سليمان. وقيل : الملك الكبير : هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجبا ، حاجبا دون حاجب ، فبينما ولي الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه ملك من عند الله ، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفة من رب العالمين لم يرها ذلك الولي في الجنة قط ، فيقول للحاجب الخارج : استأذن على ولي الله فإن معي كتابا وهدية من رب العالمين. فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه : هذا رسول من رب العالمين ، معه كتاب وهدية يستأذن على ولي الله ؛ فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي ولي الله فيقول له : يا ولي الله! هذا رسول من رب العالمين يستأذن عليك ، معه كتاب وتحفة من رب العالمين أفيؤذن له ؟ فيقول : نعم! فأذنوا له. فيقول ذلك الحاجب الذي يليه : نعم فأذنوا له. فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ
الحاجب الآخر. فيقول له : نعم أيها الملك ؛ قد أذن لك ، فيدخل فيسلم عليه ويقول : السلام يقرئك السلام ، وهذه تحفة ، وهذا كتاب من رب العالمين إليك. فإذا هو مكتوب عليه : من الحي الذي لا يموت ، إلى الحي الذي يموت. فيفتحه فإذا فيه : سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي ، يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربك ؟ فيستخفه الشوق فيركب البراق فيطير به البراق شوقا إلى زيادة علام الغيوب ، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال سفيان الثوري : بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم ؛ دليله قوله تعالى : {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وقيل : الملك الكبير كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك. وقال الترمذي الحكيم : يعني ملك التكوين ، فإذا أرادوا شيئا قالوا له كن. وقال أبو بكر الوراق : ملك لا يتعقبه هلك. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الملك الكبير هو - أن - أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه" قال : "وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربه تعالى كل يوم مرتين" سبحان المنعم.
قوله تعالى : {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} قرأ نافع وحمزة وابن محيصن "عاليهم" ساكنة الياء ، واختاره أبو عبيد أعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما "عاليتهم" وبتفسير ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها. الفراء : وهو مرفوع بالابتداء وخبره "ثياب سندس" واسم الفاعل يراد به الجمع. ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و "ثياب" مرتفعة به وسدت مسد الخبر ، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص ، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة. وقرأ الباقون "عاليهم" بالنصب. وقال الفراء : هو كقولك فوقهم ، والعرب تقول : قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف ، لأنه محل. وأنكر الزجاج هذا وقال : هو مما لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء. ولكنه بالنصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله :
"يطوف عليهم" أي على الأبرار "ولدان" عاليا الأبرار ثياب سندس ؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال ، والثاني : أن يكون حالا من الولدان ؛ أي {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} في حال علو الثياب أبدانهم. وقال أبو علي : العامل في الحال إما {لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} وإما {جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} قال : ويجوز أن يكون ظرفا فصرف. المهدوي : ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا ؛ كقولك هو ناحية من الدار ، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم "خضر" بالجر على نعت السندس "وإستبرق" بالرفع نسقا على الثياب ، ومعناه عاليهم [ثياب] سندس وإستبرق. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب "خضر" رفعا نعتا للثياب "وإستبرق" بالخفض نعتا للسندس ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه ؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة ، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس ، والمعنى : عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق ، أي من هذين النوعين. وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون "خضر" نعتا للثياب ؛ لأنهما جميعا بلفظ الجمع "وإستبرق" عطفا على الثياب. وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله : "خضر" نعتا للسندس ، والسندس اسم جنس ، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له ؛ وتقول : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ؛ ولكنه مستبعد في الكلام. والمعنى على هذه القراءة : عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق. وكلهم صرف الإستبرق ، إلا ابن محيصن ، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ "وإستبرق" نصبا في موضع الجر ، على منع الصرف ، لأنه أعجمي ، وهو غلط ؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ؛ تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ابن محيصن] أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ "واستبرق" بوصل الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضا ، لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبرك والسندس : ما رق من الديباج. والإستبرق : ما غلظ منه. وقد تقدم.
قوله تعالى : {وَحُلُّوا} عطف على "ويطوف" . {أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} وفي سورة الحج {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} ، فقيل : حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب. وقيل : تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل : يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ ، ليجتمع لهم محاسن الجنة ؛ قاله سعيد بن المسيب. وقيل : أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم. {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تتغير أبشارهم ، ولا تتشعث أشعارهم أبدا ، ثم يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من الأذى ، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وقال النخعي وأبو قلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم ، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك ، وضمرت بطونهم. وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة ، تنبع من ساق شجرة ، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد ، وما كان في جوفه من أذى وقذر. وهذا معنى ما روي عن علي ، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة ، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر. وقد مضى بيانه في سورة "الفرقان" والحمد لله. وقال طيب الجمال : صليت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} وجعل يحرك شفتيه وفمه ، كأنه يمص شيئا ، فلما فرغ قيل له : أتشرب أم تقرأ ؟ فقال : والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته.
قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} أي يقال لهم : إنما هذا جزاء لكم أي ثواب. "وكان سعيكم" أي عملكم {مَشْكُوراً} أي من قبل الله ، وشكره للعبد قبول طاعته ، وثناؤه عليه ، وإثابته إياه. وروى سعيد عن قتادة قال : غفر لهم الذنب وشكر لهم الحسنى. وقال
مجاهد : {مَشْكُوراً} أي مقبولا والمعنى متقارب ؛ فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره ، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل ؛ إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم. روي عن ابن عمر : أن رجلا حبشيا قال : يا رسول الله! فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به ، وعملت بما عملت ، أكائن أنا معك في الجنة ؟ قال : "نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عهد ، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" ، فقال الرجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال : "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله. فتجيء النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته" . قال : ثم نزلت {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى قوله : {وَمُلْكاً كَبِيراً} قال الحبشي : يا رسول الله! وإن عيني لترى ما ترى ، عيناك في الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم" فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته ويقول : {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} قلنا : يا رسول الله وما هو ؟ قال : "والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضن وجهك ولأبوئنك من الجنة حيث شئت ، فنعم أجر العاملين" .
23-
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} .

24-
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} .

25-
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .

26-
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}

قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} ما افتريته ولا جئت به من عندك ، ولا من تلقاء نفسك ، كما يدعيه المشركون. ووجه اتصال هذه الآية بنا قيل أنه سبحانه لما ذكر أصناف الوعد والوعيد ، بين أن هذا الكتاب يتضمن ما بالناس حاجة إليه ، فليس بسحر
ولا كهانة ، ولا شعر ، وأنه حق. وقال ابن عباس : أنزل القرآن متفرقا : آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة ؛ فلذلك قال "نزلنا" وقد مضى القول في هذا مبينا والحمد لله.
قوله تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي لقضاء ربك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : اصبر على أذى المشركين ؛ هكذا قضيت. ثم نسخ بآية القتال. وقيل : أي اصبر لما حكم به عليك من الطاعات ، أو انتظر حكم الله إذ وعدك أنه ينصرك عليهم ، ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة. {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي ذا إثم {أَوْ كَفُوراً} أي لا تطع الكفار. فروى معمر عن قتادة قال : قال أبو جهل : إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه. فأنزل الله عز وجل : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} .
ويقال : نزلت في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ، وكانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج ، على أن يترك ذكر النبوة ، ففيهما نزلت : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} قال مقاتل : الذي عرض التزويج عتبة بن ربيعة ؛ قال : إن بناتي من أجمل نساء قريش ، فأنا أزوجك ابنتي من غير مهر وارجع عن هذا الأمر. وقال الوليد : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل المال ، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر ؛ فنزلت. ثم قيل : "أو" في قوله تعالى : {آثِماً أَوْ كَفُوراً} أوكد من الواو ؛ لأن الواو إذا قلت : لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص ؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين ، فإذا قال : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} "فأو" قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي ؛ كما أنك إذا قلت : لا تخالف الحسن أو ابن سيرين ، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت : هذان أهل أن يتبعا وكل واحد منهما أهل لأن يتبع ؛ قاله الزجاج. وقال الفراء : "أو" هنا بمنزلة "لا" كأنه قال : ولا كفورا ؛ قال الشاعر :
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع
أو وجد شيخ أضل ناقته ... يوم توافى الحجيج فاندفعوا
أراد ولا وجد شيخ. وقيل : الآثم المنافق ، والكفور الكافر الذي يظهر الكفر ؛ أي لا تطع منهم آثما ولا كفورا. وهو قريب من قول الفراء.
قوله تعالى : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي صل لربك أول النهار وآخره ، ففي أوله صلاة الصبح وفي آخره صلاة الظهر والعصر. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني التطوع في الليل ؛ قاله ابن حبيب. وقال ابن عباس وسفيان : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. وقيل : هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها وقال ابن زيد وغيره : إن قوله : {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} منسوخ بالصلوات الخمس وقيل : هو ندب. وقيل : هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم القول في مثله في سورة "المزمل" وقول ابن حبيب حسن. وجمع الأصيل : الأصائل والأصل ؛ كقولك سفائن وسفن ؛ قال : ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقال في الأصائل ، وهو جمع الجمع :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقد مضى في آخر "الأعراف" مستوفى. ودخلت "من" على الظرف للتبعيض ، كما دخلت على المفعول في قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
27-
{إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .

28-
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} .

قوله تعالى : {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} توبيخ وتقريع ؛ والمراد أهل مكة. والعجلة الدنيا {وَيَذَرُونَ} أي ويدعون {وَرَاءَهُمْ} أي بين أيديهم {يَوْماً ثَقِيلاً}




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 385.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 379.52 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]