فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 7 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5085 - عددالزوار : 2327268 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4671 - عددالزوار : 1620256 )           »          تربية الأطفال بهدوء.. 6 نصائح تساعد الأمهات في السيطرة على انفعالها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          4 خطوات بسيطة تساعد الطلاب على الموازنة بين الدراسة وأنشطتهم المختلفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 82 )           »          طريقة عمل كب كيك في البيت بمكونات سهلة وسريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 78 )           »          5 خطوات تساعدك على مقاومة الرغبة في النوم بعد الاستيقاظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 86 )           »          وصفة طبيعية لتحضير زبدة الشفاه في المنزل.. هتحتاجيها في الخريف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          4 تريندات مكياج متصدرة في 2025.. الروج البرجندي وبشرة طبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          5 خطوات تساعدك فى إدارة وقتك على السوشيال ميديا والاهتمام بالمذاكرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          5 طرق فعالة هتساعدك في علاج شعرك من الجفاف.. لو لسه راجعة من البحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-02-2022, 05:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (61)

من صــ 161 الى صـ
ـ 168

(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ بِالْفِعْلِ وَهِيَ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ وَصُومُوا مَعَ الصَّائِمِينَ {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالصَّلَاةُ كُلُّهَا تُفْعَلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ. قِيلَ: خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تُدْرَكُ بِهِ الصَّلَاةُ فَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ فَأَمَرَ بِمَا يُدْرَكُ بِهِ الرَّكْعَةُ كَمَا قَالَ لِمَرْيَمَ: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: اُقْنُتِي مَعَ الْقَانِتِينَ لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الْقِيَامِ وَلَوْ قِيلَ: اُسْجُدِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا سُنَّةٌ وَقِيلَ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقِيلَ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فَفِي حَالِ الْأَمْنِ أَوْلَى وَآكَدُ.

وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَهَذَا أَمْرٌ بِهَا.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَجِبْ وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً}وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {عَبَسَ وَتَوَلَّى} {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِمُؤْمِنِ فِي تَرْكِهَا.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ: " {لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ}. وَفِي رِوَايَةٍ " {لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ} فَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ فَإِنَّ تَعْذِيبَ أُولَئِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ كَانَ لِأَجْلِ نِفَاقِهِمْ. فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُهُمْ لِأَجْلِ النِّفَاقِ بَلْ لَا يُعَاقِبُهُمْ إلَّا بِذَنْبِ ظَاهِرٍ فَلَوْلَا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ لَمَا عَاقَبَهُمْ. وَالْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ يُتْرَكُ لَهَا أَكْثَرُ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِهَا فَلَوْلَا وُجُوبُهَا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ.

[فصل البرهان السادس والثلاثون " وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " والجواب عليه]
فَصْلٌ
قَالَ الرَّافِضِيُّ: " الْبُرْهَانُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 43] مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٍّ خَاصَّةً»، وَهُمَا أَوَّلُ مَنْ صَلَّى وَرَكَعَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ ".

الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ فِي سِيَاقِ مُخَاطَبَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ خِطَابٌ أُنْزِلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ أَنْ كَثُرَ الْمُصَلُّونَ وَالرَّاكِعُونَ، وَلَمْ تَنْزِلْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَوَّلِ مَنْ صَلَّى وَرَكَعَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} صِيغَةُ جَمْعٍ، وَلَوْ أُرِيدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ ; لَقِيلَ مَعَ الرَّاكِعَيْنِ، بِالتَّثْنِيَةِ. وَصِيغَةُ الْجَمْعِ لَا يُرَادُ بِهَا اثْنَانِ فَقَطْ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، بَلْ إِمَّا الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا، وَإِمَّا الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَمَّا إِرَادَةُ اثْنَيْنِ فَقَطْ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْيَمَ: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 43] وَمَرْيَمُ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ رَاكِعُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ فِيهِمْ عَلِيٌّ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَاكِعُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ فِيهِمْ عَلِيٌّ وَصِيغَةُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدَةٌ؟.
السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ لَا تَخُصُّ شَخْصًا بِعَيْنِهِ، بَلْ أُمِرَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّ الرَّكْعَةَ لَا تُدْرَكَ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الرُّكُوعَ مَعَهُمَا لَا نَقْطَعُ حُكْمَهَا بِمَوْتِهِمَا، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مَأْمُورًا أَنْ يَرْكَعَ مَعَ الرَّاكِعِينَ.
الثَّامِنُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: [عَلِيٌّ] أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَمْنُوعٌ. بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى قَبْلَهُ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا بِالرُّكُوعِ مَعَهُ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ رَكَعَ مَعَهُ يَكُونُ هُوَ الْإِمَامَ، فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَرْكَعُ مَعَهُ.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:

فِي الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. وقَوْله تَعَالَى {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وَقَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِكَثِيرِ مِنْهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَنْعِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذْ مَنَعُوا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ أَوْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ يَدْخُلُهَا وَلَمْ يَنْفُوا الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ.
وَأَيْضًا: فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ: فِيهَا - اسْتِشْفَاعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِيُقْضَى بَيْنَهُمْ وَفِيهِمْ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ شَفَاعَةٍ لِلْكُفَّارِ.
وَأَيْضًا: فَفِي الصَّحِيحِ {عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءِ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْت {الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنْ نَارٍ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضِحْضَاحٍ}. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ}. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لِشَفَاعَتِهِ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ بَلْ فِي أَنْ يُجْعَلَ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ}. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ} وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ يُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا}.
وَهَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي يُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ تَأَوَّلَ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ. . . (1)
فَيُقَالُ: الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهِيَ أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ إلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فَأَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ فَشَفَعَ؛ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالشَّفَاعَةِ بَلْ يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ أَيْ تَابِعًا لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَتَكُونُ شَفَاعَتُهُ مَقْبُولَةً وَيَكُونُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلْآمِرِ الْمَسْئُولِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ. وَأَمَّا نَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ: فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إذَا كَانَتْ بِإِذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْ دُونِهِ كَمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِإِذْنِهِ لَيْسَتْ مِنْ دُونِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ}. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَذَمَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ إذْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَتِلْكَ فَهِيَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ نَفَى يَوْمَئِذٍ الْخُلَّةَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى الْخُلَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَنَفْعَهَا الْمَعْرُوفَ كَمَا يَنْفَعُ الصَّدِيقُ الصَّدِيقَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَقَالَ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ خُلَّةٌ نَافِعَةٌ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} الْآيَاتُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ} وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي}. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ عَائِدٌ إلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ وَلَا يَضُرُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَيَتَبَرَّأُ كُلُّ مُدَّعٍ مِنْ دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَبْقَى مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ مَعَهُ شِرْكًا فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ إلَهِيَّتِهِ وَلَا مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبٌّ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ اتَّخَذَ غَيْرَهُ رَبًّا وَإِلَهًا وَادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعُونَ.
__________

Q (1) بياض بالأصل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-02-2022, 07:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (71)

من صــ 241 الى صـ
ـ 248



الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خُصُوصًا، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: أَنْتُمْ أَذَلُّ الْأُمَمِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ فَهُوَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَهَلْ تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، فَيَبْعَثُهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حَتَّى يَصِيرَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مَنْصُورًا ظَاهِرًا بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.
وَيُقَالُ لِلنَّصَارَى: أَنْتُمْ لَمْ تُخَلِّصُوا دِينَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ، بَلْ أَخَذْتُمْ مِنْ أُصُولِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَدْخَلْتُمُوهُ فِي دِينِكُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى أَكْثَرِ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَلَا يَدٌ قَهْرِيَّةٌ، بَلْ لِلْكُفَّارِ فِي
قُلُوبِكُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ وَالتَّعْظِيمِ مَا أَنْتُمْ بِهِ مِنْ أَضْعَفِ الْأُمَمِ حُجَّةً وَأَضْيَقِهَا مَحَجَّةً، وَأَبْعَدِهَا عَنِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، وَأَعْجَزِهَا عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ تَارَةً تَخَافُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُعَطِّلِينَ، فَإِمَّا أَنْ تُوَافِقُوهُمْ عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَخْضَعُوا لَهُمْ مُتَوَاضِعِينَ، وَتَارَةً تَخَافُونَ مِنْ سُيُوفِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا بَعْضَ دِينِكُمْ لِأَجْلِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ تَذِلُّوا لَهُمْ خَاضِعِينَ.
ففيكم من ضعف سلطان الحجة، وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة. هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة.
ومثل هذا لا يرد على المسلمين، فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة" " وفي لفظ " "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره" ".
الوجه الثامن: أن يقال لأهل الكتاب: لليهود: أنتم لما كنتم متبعين لموسى - عليه السلام - كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين، ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال - تعالى -:{قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون - قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 59 - 60].
وقوله - تعالى -: {وعبد الطاغوت} [المائدة: 60] معطوف على (لعنه الله) أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت، ليس هو داخلا في خبر " جعل "، حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس.
وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات، وقتلوا الأنبياء.
وقال - تعالى -:
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا - فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا - ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا - إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا - عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} [الإسراء: 4 - 8].
وهم معترفون بأن بيت المقدس خرب مرتين.
فالخراب الأول لما جاء " بختنصر " وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة، والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة، وقد قيل: هذا تأويل قوله:
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} [المائدة: 78].
فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك. وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار، وبعث المسيح - عليه الصلاة والسلام - وهم كذلك.

ويقال للنصارى: أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض، حتى ظهر قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف، وقتل من خالفه من المشركين واليهود. لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين المسيح - عليه السلام - ومع هذا فكانت أرض العراق وفارس كفارا - المجوس وغيرهم - مجوسا ومشركين. وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون النصارى على بلادهم، وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم، وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض اليمن والحجاز والشام والعراق، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم، ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء، وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور، وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم، فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه، ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار، ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال: - تعالى -.:
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب} [التوبة: 29]. .

أما اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم، وذكر عيوب نزههم الله عنها، ما هو معروف. حتى إن منهم من يقول أن سليمان كان ساحرا، وداود كان منجما لم يكن نبيا، إلى أمثال ذلك.
مما يطول وصفه. ففيهم من الكفر بالأنبياء، من جنس ما كان في سلفهم الخبيث. .

وأما النصارى - فمع غلوهم في المسيح وأتباعه - يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل إبراهيم وموسى أو أفضل منهم، وتارة يقولون - كما قال اليهود -: " إن سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة "، وتارة يجعلون ما خاطب الله به داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به المسيح، مع أن اللفظ لا يدل على ذلك، بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم، وتارة يقولون: إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة، صار مثل واحد من الأنبياء، ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله، وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم. فعامة أهل الأرض مع محمد - صلى الله عليه وسلم -: إما مؤمن به باطنا وظاهرا - وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون - وإما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته، وهم المنافقون.
وإما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة - وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض - وإما خائفون من أمته.
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه، كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا، يعرف فضله على كل من سواه.
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ لما خص الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته من الهدى ودين الحق. وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل. فهل يقول من عنده علم وعدل: إنه لا فائدة في إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته؟!

الوجه التاسع: أن يقال: هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع، فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم، وأنه عظم المسيح. ورد على اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده، ثم هو - مع ذلك - قال: إن الله أرسله وأمره بذلك.

فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار، ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم، الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء، فإنه أزال دين المشركين، ودين المجوس، وقمع اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليها أحد قبله من الأنبياء والمرسلين.
وإن كان صادقا؛ فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من الأمم، وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به. وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف، فيقال لكل صنف من الأمم: أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين محمد - صلى الله عليه وسلم - كان خيرا لهم مما هم عليه؛ فاليهود معترفة بأن النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين النصارى، والنصارى معترفون بأن اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين اليهود، وأهل الكتاب اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-03-2022, 07:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (81)

من صــ 321 الى صـ
ـ 328

وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِهَا فَإِنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ:أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْهُنُودِ.
وَالْعِلْمُ يُنَالُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَا يُحَصَّلُ بِهِمَا وَبِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَلِهَذَا قِيلَ: الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ الْبَصَرُ، وَالنَّظَرُ، وَالْخَبَرُ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ وَالْوَحْيُ: الْحِسُّ وَالْقِيَاسُ، وَالنُّبُوَّةُ.

فَأَهْلُ الْكِتَابِ امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ.
وَالْمُسْلِمُونَ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ.
فَكَيْفَ يُظَنُّ مَعَ هَذَا بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ:وَيُقَالُ: ثَانِيًا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ حُرِّفَتْ بَعْدَ انْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا، وَلَكِنَّ جَمِيعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا.
وَهَذَا مِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى جَمِيعُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.
وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى فِي فِرَقِهِمْ، أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِيمَا تُفَسِّرُ بِهِ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى تُفَسِّرُ التَّوْرَاةَ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْإِنْجِيلِ بِمَا يُخَالِفُ مَعَانِيهَا وَأَنَّهَا بَدَّلَتْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فَصَارَ تَبْدِيلُ كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى.
وَأَمَّا تَغْيِيرُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بُدِّلَ بَعْضُ أَلْفَاظِهَا، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَهُمْ كُتُبَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَمَا لا تسمع دعوى التبديل فيه، فكذلك في كتبهم - قياس باطل في معناه ولفظه.
أما معناه: فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا، بل معلوما بالاضطرار من دينه، فإن الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ووجوب العدل والصدق، وتحريم الشرك والفواحش والظلم، بل وتحريم الخمر والميسر والربا، وغير ذلك منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك.
ومن هذا الباب عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -) وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم.
فالمسلمون - عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا - ثلاثة أمور: لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن.
كما قال - تعالى -:{كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة} [البقرة: 151].
وقال - تعالى -:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113].
وقال - تعالى -:
{واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} [البقرة: 231].
وقال - تعالى -:
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} [الأحزاب: 34].
وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى - هو وإسماعيل - الكعبة بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال - تعالى -:
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127] (127) {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} [البقرة: 128] (128) {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: («ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»).
فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل: كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، وكون المغرب ثلاث ركعات، وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر، ومثل كون الركعة فيها سجدتين، وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك.
وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا».
يقول: ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة، فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور.
والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف، وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف، لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف، وأنكروا ذلك.
وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل، ويغير بعضها، ويعرضها على كثير من علمائهم، ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم.
ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير.
(وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله، وليس هذا لأهل الكتاب).
وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة; فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره.
وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية، بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك.
وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد، حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى، بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها.
ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن، مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر، مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق، بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن، ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر.
وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها، ولكن لما كان الأنبياء - عليهم السلام - فيهم موجودين، كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب، فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير.

فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح - عليه السلام - بعد رفعه بقليل من الزمان، وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء، وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم -.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-03-2022, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (91)

من صــ 401 الى صـ
ـ 408

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي فِطْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ لِنَظِيرِهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْتَلُ وَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا يُقْتَلُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} - أَيْ فِي التَّوْرَاةِ - {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الْآيَةَ.
إذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْعِ يَعْرِفُهُ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ؟. قِيلَ لَهُمْ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَسَاوِي دِمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُتَكَافِئَةٌ لَيْسَ لِشَرِيفِهِمْ مَزِيَّةٌ عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَّا الطَّوَائِفُ الْخَارِجُونَ عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَدْ لَا يَقْتُلُونَ الشَّرِيفَ وَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ عَادِلًا فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ تَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فَحَكَمَ أَيْضًا فِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِتَكَافُؤِ دِمَائِهِمْ فَالْمُسْلِمُ الْحُرُّ يُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ الْحُرِّ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِآيَةِ التَّوْرَاةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلَ بِالذِّمِّيِّ لِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} و " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا " فَإِنَّهُ يُقَالُ: الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّ النَّفْسَ مِنْهُمْ بِالنَّفْسِ مِنْهُمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِرٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرِيعَتِهِمْ إبْقَاءُ كَافِرٍ بَيْنَهُمْ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَهَذَا مِثْلُ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَتَيْنِ أَنَّ دَمَ الْكَافِرِ يُكَافِئُ دَمَ الْمُسْلِمِ؛ بَلْ جَعْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْوَاجِبُ لِلْمُكَافَآتِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ - سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا - لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِلْمُكَافَأَةِ فِيهِ؛ نَعَمْ يُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ؛ بَلْ مَا رُوِيَ {مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ بِهِ} وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ ظَالِمًا كَانَ الْإِمَامُ وَلِيَّ دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتول إذا كان حرا فكذلك لا يكون ولي دمه إذا كان عبدا؛ بل هذا أولى كيف يكون ولي دمه وهو القاتل؟ بل لا يكون ولي دمه؛ بل ورثة القاتل السيد؛ لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام. وحينئذ فللإمام قتله فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله. و " أيضا " فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقتله أشد أنواع المثل فلا يموت إلا حرا؛ لكن حريته لم تثبت في حال الحياة حتى يرثه عصبته؛ بل حريته ثبتت حكما وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين فيكون الإمام هو وليه فله قتل قاتل عبده.
وقد يحتج بهذا من يقول: إن قاتل عبد غيره لسيده قتله وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: من قتل ولا ولي له كان الإمام ولي دمه فله أن يقتل وله أن يعفو على الدية؛ لا مجانا. يؤيد هذا أن من قال: لا يقتل حر بعبد يقول: إنه لا يقتل الذمي الحر بالعبد المسلم. قال الله تعالى في كتابه: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} فالعبد المؤمن خير من الذمي المشرك فكيف لا يقتل به والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات كما دلت عليه هذه الآية وهو قول جماهير السلف والخلف وهذا قوي على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر؛ بخلاف الذمي فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم}.
(ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون (179)
فصل:
والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة؛ فإذا قطع يده اليمنى من مفصل فله أن يقطع يده كذلك. وإذا قلع سنه فله أن يقلع سنه. وإذا شجه في رأسه أو وجهه فأوضح العظم فله أن يشجه كذلك. وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا أو يشجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص؛ بل تجب الدية المحدودة أو الأرش.

وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه مثل أن يلطمه أو يلكمه أو يضربه بعصا ونحو ذلك: فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لا قصاص فيه؛ بل فيه التعزير لأنه لا تمكن المساواة فيه. والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. قال أبو فراس: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر حديثا قال فيه: ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم؛ ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم.
فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه فوثب عمرو بن العاص فقال يا أمير المؤمنين: إن كان رجل من المسلمين أمر على رعية فأدب رعيته أإنك لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده إذا لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم. رواه الإمام أحمد وغيره. ومعنى هذا إذا ضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز. فأما الضرب المشروع فلا قصاص فيه بالإجماع إذ هو واجب أو مستحب أو جائز.
(ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)
(فصل في الحكمة من تحريم بعض المفطرات)

(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

جماع معنى الصيام في أصل اللغة: الكف والإمساك والامتناع, وذلك هو السكون, وضده الحركة, ولهذا قرن الله تعالى بين الصوم والصلاة؛ لأن الصلاة حركة إلى الحق, والصوم سكون عن الشهوات, فيعم الإمساك عن القول والعمل من الناس والدواب وغيرها.
قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.
وقال الخليل: الصيام قيام بلا عمل, والصيام الإمساك عن الطعام, وقد قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} [مريم: 26]؛ أي: صمتا, ويقال: صام الفرس: إذا قام على غير اعتلاف, ويقال: هو الذي أمسك عن الصهيل, قال النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
ومصام الفرس ومصامته موقوفه, وصامت الريح إذا ركدت فلم تتحرك, وصامت البكرة إذا لم تدر, وصام النهار صوما إذا قام قائم الظهيرة واعتدل كأن الشمس سكنت عن الحركة في رأي العين.
ثم خص في لسان الشرع والعرف الغالب ببعض أنواعه, وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع, ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث والجهل وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه؛ فإن الإمساك عن هذه الأشياء في زمن الصوم أوكد منه في غير زمن الصوم, وإذا كان هذا الوقت قد حظر فيه المباح في غيره؛ فالمحظور في غيره أولى؛ كالحرم والإحرام والشهر الحرام, وقد يتبعه الاعتكاف؛ لأنه حبس النفس في مكان مخصوص؛ فهو من جنس الصوم, يقال منه: صام يصوم صوما وصياما.
وسمي الصيام الصبر.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر تعدل صوم الدهر».
وقد قيل: إنه عني بقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن شهواتها.
وسمي أيضا السياحة.
(فصل: تحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

وتحريم الجماع والفطر به لحكمة والفطر بالحيض لحكمة فإن الحيض لا يقال فيه إنه يحرم وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض كذلك تنقسم عللها. فنقول: أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام - كما سنبينه إن شاء الله تعالى - فإنه من نوع الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {عن الله تعالى: قال: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي} فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها هو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات فهذا المعنى في الجماع أبلغ فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم؛ بل الجماع هو غاية الشهوات وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع لأن هذا أغلظ وداعيه أقوى والمفسدة به أشد. فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع.
وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى فصار فيهما كالأكل والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض. فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس فنقول: إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء.
والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور ونهى عن الوصال وقال: " {أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى} فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية.

فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل وقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث. وإذا كان كذلك فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى وإلا فإذا مكن من هذا ضره وكان متعديا في عبادته لا عادلا.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-04-2022, 01:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (101)

من صــ 481 الى صـ
ـ 488



وَقَالَ أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه وقال: " {إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها - من عظم حقه عليها} ولما أتي علي بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.
فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا في الأرض وفسادا كفرعون ونحوه ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير. فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالح في حياته وحضوره وبين سؤاله في مماته ومغيبه ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم؛ لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف.
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه: ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك؛ لا في مغيبه ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب؛ فإن الكذب مقرون بالشرك وقد قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله. مرتين أو ثلاثا} وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} وقال الخليل عليه السلام {أئفكا آلهة دون الله تريدون} {فما ظنكم برب العالمين}. فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا. وقد تغويهم الشياطين كما تغوي عباد الأصنام كما كان يجري في العرب في أصنامهم ولعباد الكواكب وطلاسمها: من الشرك والسحر كما يجري للتتار والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين: من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك
فكثير من هؤلاء قد يجري له نوع من ذلك لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك: افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس؛ لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: " {اللهم: إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة.
يا محمد: يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفعه في} فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: " {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة.
خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. قالوا ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا قال الله تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} ونحو قوله: {كان على ربك وعدا مسئولا} وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " {يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم قال. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم} وقد جاء في غير حديث: " {كان حقا على الله كذا وكذا} كقوله: " {من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال - قيل: وما طينة الخبال؟ قال:{عصارة أهل النار}.
وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه؛ بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما في الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - {أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل. فادع الله لنا أن يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم: حوالينا ولا علينا. اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال: وأقلعت فخرجنا نمشي في الشمس} ففي هذا الحديث أنه قال: ادع الله لنا أن يمسكها عنا.
وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر قال: إني لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون. وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا.
فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية. والدعاء مخ العبادة. والعبادة مبناها على السنة والاتباع لا على الأهواء والابتداع وإنما يعبد الله بما شرع لا يعبد بالأهواء والبدع قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور.
(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)

جماع معنى الاعتكاف والاحتباس والوقوف والمقام.
يقال: عكف على الشيء يعكف ويعكف عكوفا, وربما قيل: عكفا: إذا أقبل عليه مواظبا. ومنه قوله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: آية 138]. وقوله سبحانه حكاية عن إبراهيم عليه السلام {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52] وقوله أيضا: {قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 71].
فعداه باللام؛ لأن المعنى: أنتم لها عابدون ولها قانتون.

777 - ومر علي رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟!
ويقال: فلان عاكف على فرج حرام
وعكف حول الشيء: استداروا.
وقال الطرماح:
فبات بنات اليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-02-2022, 05:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (62)

من صــ 169 الى صـ
ـ 176

وَفِي الدُّنْيَا يَشْفَعُ الشَّافِعُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَيَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَيَكُونُ خَلِيلَهُ فَيُعِينُهُ وَيَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْ الشَّرِّ فَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا، النُّفُوسُ يُنْتَفَعُ بِهَا تَارَةً بِالِاسْتِقْلَالِ وَتَارَةً بِالْإِعَانَةِ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَالْأَمْوَالُ بِالْفِدَاءِ فَنَفَى اللَّهُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَقَالَ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} كَمَا قَالَ: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}.
فَهَذَا هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَادَ مَا نَفَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَاعَةِ إلَى تَحْقِيقِ أَصْلَيْ الْإِيمَانِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَقَوْلِهِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَقَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبٍ فِي التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا.

مِنْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَتَانِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَمُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {قَالَ سَلْمَانُ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْت مَعَهُمْ فَذَكَرَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ}. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا رُوِيَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ {إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ بِمَا لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ خِلَافًا عَنْ السَّلَفِ؛ لَكِنْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الْآيَةَ وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِلَفْظِ النَّسْخِ رَفْعَ مَا يُظَنُّ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَهُوَ كَافِرٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُهُ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلَخْ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَغَلِطُوا ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَنَاقِضَةٍ.
[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى أَنَّ الْقُرْآنَ سَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ]
قَالُوا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

فَسَاوَى بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ: الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ:
أَوَّلًا: لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَطْلُوبِكُمْ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ، وَأَنْتُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كُفَّارٌ مِنْ حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُ.
وَكَذَلِكَ الصَّابِئُونَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ كُفَّارٌ. فَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مَدْحٌ لِدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ فَفِيهَا مَدْحُ دِينِ الْيَهُودِ أَيْضًا، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَدْحُ الْيَهُودِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَلَيْسَ فِيهَا مَدْحٌ لِدِينِ النَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْيَهُودِيِّ، إِنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّصَارَى يُكَفِّرُونَ الْيَهُودَ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُمْ حَقًّا لَزِمَ كُفْرُ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَزِمَ بُطْلَانُ دِينِهِمْ فَلَابُدَّ مِنْ بُطْلَانِ أَحَدِ الدِّينَيْنِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَحَتْهُمَا، وَقَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا.
فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَمْدَحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالَّذِينَ هَادُوا الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرْعِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَالصَّابِئِينَ وَهُمُ الصَّابِئُونَ الْحُنَفَاءُ، كَالَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ قَبْلَ التَّبْدِيلِ وَالنَّسْخِ.
فَإِنَّ الْعَرَبَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرِهِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ كَانُوا حُنَفَاءَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ غَيَّرَ دِينَهُ بَعْضُ وُلَاةِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ بِالشِّرْكِ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ - أَيْ أَمْعَاءَهُ - فِي النَّارِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ».
وَكَذَلِكَ بَنُو إِسْحَاقَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُوسَى مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ السُّعَدَاءِ الْمَحْمُودِينَ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَإِبْرَاهِيمَ، وَنَحْوُهُمْ هُمُ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

فَأَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَيْسُوا مِمَّنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَفَّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا دِينَ مُوسَى وَالْمَسِيحِ، وَكَذَّبُوا بِالْمَسِيحِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتِلْكَ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ، وَنُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى سَلَكُوا فِي الْقُرْآنِ مَا سَلَكُوهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَدَعُونَ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ الصَّرِيحَةَ الْبَيِّنَةَ الْوَاضِحَةَ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمُحْتَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
فَصْلٌ:

قَسَّمَ اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ إلَى مُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ حَيْثُ يَقُولُ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}.
وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ لِمَنْ رَكِبَ سَنَنَهُمْ مِنْ أُمَّتِنَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِر: " قَوْمٌ " يُحَرِّفُونَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى وَهُمْ النَّافُونَ لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُحُودًا وَتَعْطِيلًا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الْقَاضِي عَلَى السَّمْعِ. و " قَوْمٌ " لَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ النُّصُوصِ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ السَّمْعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ فَهْمَ هَذِهِ النُّصُوصِ فَهُمْ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} أَيْ تِلَاوَةً {وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ}.
ثُمَّ يُصَنِّفُ أَقْوَامٌ عُلُومًا يَقُولُونَ: إنَّهَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهَا وَالْعَقْلَ وَهِيَ دِينُ اللَّهِ؛ مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أُولَئِكَ:

{أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} حَالُ مَنْ يَكْتُمُ النُّصُوصَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مُنَازِعُهُ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ كِتْمَانُ الْقُرْآنِ لَكَتَمُوهُ لَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مِنْهُ وُجُوهَ دَلَالَتِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ وَيُعَوِّضُونَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُضِيفُونَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-02-2022, 06:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (63)

من صــ 177 الى صـ
ـ 184

[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى قَوْلِ النَّصَارَى كَيْفَ يُمْكِنُ تَغْيِيرُ كُتُبِنَا الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا]
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَيْفَ يُمْكِنُ تَغْيِيرُ كُتُبِنَا الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا وَفِي كُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا أَلْفِ مُصْحَفٍ وَمَضَى عَلَيْهَا إِلَى مَجِيءِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ؟

فَيُقَالُ: أَمَّا بَعْدَ انْتِشَارِهَا هَذَا الِانْتِشَارَ فَلَمْ يَقُلِ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ وَلَا طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْهُمْ إِنَّ أَلْفَاظَ جَمِيعِ كُلِّ نُسْخَةٍ فِي الْعَالَمِ غُيِّرَتْ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ فِي أَلْفَاظِهَا مَا غُيِّرَ إِنَّمَا يَدَّعُونَ تَغْيِيرَ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا قَبْلَ الْمَبْعَثِ، أَوْ تَغْيِيرَ بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ لَا تَغْيِيرَ جَمِيعِ النُّسَخِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إِنَّ مِنْهَا مَا غُيِّرَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ غُيِّرَ كُلُّ نُسْخَةٍ فِي الْعَالَمِ، بَلْ يَقُولُونَ غُيِّرَ بَعْضُ النُّسَخِ دُونَ الْبَعْضِ وَظَهَرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ النُّسَخُ الْمُبَدَّلَةُ دُونَ الَّتِي لَمْ تُبَدَّلْ.
وَالنُّسَخُ الَّتِي لَمْ تُبَدَّلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ نُسْخَةٍ فِي الْعَالَمِ بِكُلِّ لِسَانٍ مُطَابِقٌ لَفْظُهَا سَائِرَ النُّسَخِ بِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِذَلِكَ وَهُمْ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أُخِذَتِ الْأَنَاجِيلُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، اثْنَانِ مِنْهُمْ لَمْ يَرَيَا الْمَسِيحَ، بَلْ إِنَّمَا رَآهُ اثْنَانِ مِنْ نَقَلَةِ الْإِنْجِيلِ مَتَّى وَيُوحَنَّا.
وَمَعْلُومٌ إِمْكَانُ التَّغَيُّرِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِالْعِبْرِيَّةِ كَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ كَانَ مَخْتُونًا خُتِنَ بَعْدَ السَّابِعِ كَمَا يَخْتِنُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي إِلَى الشَّرْقِ وَلَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى الشَّرْقِ.
وَمَنْ قَالَ إِنَّ لِسَانَهُ كَانَ سُرْيَانِيًّا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَهُوَ غَالِطٌ فَالْكَلَامُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الْأَنَاجِيلِ إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ عِبْرِيًّا ثُمَّ تُرْجِمَ مِنْ تِلْكَ اللُّغَةِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَالتَّرْجَمَةُ يَقَعُ فِيهَا الْغَلَطُ كَثِيرًا كَمَا وَجَدْنَا فِي زَمَانِنَا مَنْ يُتَرْجِمُ التَّوْرَاةَ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَيَظْهَرُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ الْغَلَطِ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْحُذَّاقُ الصَّادِقُونَ مِمَّنْ يَعْرِفُ اللُّغَتَيْنِ.
وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ إِنَّمَا كُتِبَتْ بِأَرْبَعِ لُغَاتٍ: (بِالْعِبْرِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ).
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا كُتِبَتْ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً، فَهَذَا إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّمَا كُتِبَتْ بَعْدَ أَنْ كُتِبَتْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةُ فَإِذَا كَانَ الْغَلَطُ وَقَعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ، لَمْ يَرْفَعْهُ بَعْدَ ذَلِكَ كِتَابَتُهَا بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا كُتِبَتْ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً غُيِّرَ لَفْظُهَا فِي جَمِيعِ الْأَلْسُنِ (لِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً فِي كُلِّ نُسْخَةٍ مِنْ ذَلِكَ).
وَإِنَّمَا يُقَالُ التَّغْيِيرُ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فِي سَائِرِ مَا وَرَدَ عَنِ الْمَسِيحِ وَمُوسَى (وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - مِنَ الْحَدِيثِ مِثْلَ سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَحَادِيثِ السُّنَنِ، وَالْمَسَانِدِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِي الْعَالَمِ بِكُلِّ كِتَابٍ مِنْهَا نُسَخٌ كَثِيرَةٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّرَ مِنْهَا فَصْلٌ طَوِيلٌ، وَلَكِنْ فِي نَفْسِ السِّيرَةِ وَقَعَ غَلَطٌ فِي مَوَاضِعَ وَأَحَادِيثَ وَقَعَتْ فِي السُّنَنِ هِيَ غَلَطٌ فِي الْأَصْلِ (فَاشْتِهَارُ النُّسَخِ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْغَلَطِ فِي الْأَصْلِ) وَهَذِهِ كُتُبُ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالدَّقَائِقِ، مَا مِنْ كِتَابٍ إِلَّا وَبِهِ نُسَخٌ كَثِيرَةٌ فِي الْعَالَمِ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ فَصْلٍ طَوِيلٍ مِنْهَا وَفِيهَا أَحَادِيثُ غَلَطٌ فِي الْأَصْلِ.
وَالْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى تُشْبِهُ هَذَا، وَلِهَذَا أُمِرُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا فِيهَا فَإِنَّ فِيهَا أَحْكَامَ اللَّهِ وَعَامَّةُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يُبَدَّلْ لَفْظُهُ وَإِنَّمَا بُدِّلَتْ بَعْضُ أَلْفَاظِ الْخَبَرِيَّاتِ وَبَعْضُ مَعَانِي الْأَمْرِيَّاتِ كَمَا نُؤْمَرُ نَحْنُ أَنْ نَعْمَلَ بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اعْتَنَوْا بِضَبْطِهَا أَكْثَرَ مِنَ اعْتِنَائِهِمْ بِضَبْطِ الْخَبَرِيَّاتِ كَأَحَادِيثِ الزُّهْدِ وَالْقِصَصِ وَالْفَضَائِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذْ حَاجَةُ الْأُمَمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ بِالْخَبَرِيَّاتِ الَّتِي يُكْتَفَى بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ بِهَا.
وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَلَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، إِذِ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفَصَّلًا، وَالْمَحْظُورُ الَّذِي يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لَابُدَّ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115].
وَالنَّصَارَى لَا يَحْتَاجُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ إِلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرْعٍ مَنْقُولٍ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعِنْدَهُمْ لِأَكَابِرِهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا دِينًا لَمْ يَشْرَعْهُ الْمَسِيحُ، وَيَقُولُونَ: مَا شَرَعَهُ هَؤُلَاءِ فَقَدْ شَرَعَهُ الْمَسِيحُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِنَايَةٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ بِشَرْعِ الْمَسِيحِ، كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ عِنَايَةٌ وَمَعْرِفَةٌ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ.

مِنْهَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الْآيَةَ، ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ يَمُوتُ عَلَيْهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ. قُلْت: الصَّوَابُ ذِكْرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَعِيفٌ فَالْحُجَّةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَهُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ لِمُوَافَقَتِهَا قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخْطَأَ فِيهَا الْكَاتِبُ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَوَاتُرِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَأَمَّا قَبْلُ تَوَاتُرِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُسْتَتَابُ؛ لَكِنْ يُبَيَّنُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهَا: فِقْهًا وَتَصَوُّفًا وَاعْتِقَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ} إلَخْ وَاَلَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ يُسَمَّى " رَيْنًا " و " طَبْعًا " و " خَتْمًا " و " قَفْلًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ. و " إحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ " إحْدَاقُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَهَذَا هُوَ الْبَسْلُ بِمَا كَسَبَتْ نَفْسُهُ أَيْ: تُحْبَسُ عَمَّا فِيهِ نَجَاتُهَا فِي الدَّارَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ قَيْدٌ وَحَبْسٌ لِصَاحِبِهَا عَنْ الْجَوَلَانِ فِي فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ جَنْيِ ثِمَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَذَّبُ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَزِنُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَزْنِ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ السَّيِّئَةِ بِالشِّرْكِ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَايَرَ بَيْنَ الْمَكْسُوبِ وَالْمُحِيطِ فَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يُغَايِرْ وَالْمُشْرِكُ لَهُ خَطَايَا غَيْرُ الشِّرْكِ أَحَاطَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا.
و " أَيْضًا " قَوْلُهُ (سَيِّئَةً نَكِرَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّيِّئَاتِ بِالِاتِّفَاقِ. و " أَيْضًا " لَفْظُ (السَّيِّئَةِ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكَ وَقَوْلُهُ: (سَيِّئَةً أَيْ حَالٌ سَيِّئَةٌ أَوْ مَكَانٌ سَيِّئَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ حَالًا حَسَنَةً تَعَمٍّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَكُونُ صِفَةً وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: سَاءَ هَذَا الْأَمْرُ أَيْ قَبُحَ وَيُقَالُ: سَاءَنِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} عَمِلُوا الشِّرْكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذَا فَقَطْ وَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَكَذَا لَمَّا قَالَ: (كَسَبَ سَيِّئَةً) لَمْ يَذْكُرْ حَسَنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أَيْ فَعَلُوا الْحُسْنَى وَهُوَ مَا أُمِرُوا بِهِ كَذَلِكَ (السَّيِّئَةُ) تَتَنَاوَلُ الْمَحْظُورَ فَيَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
[فَصْلٌ: بَيَانُ مَعْنَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَدَفْعُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أُلُوهِيَّتَهُ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] فَهُوَ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى تَأْيِيدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] وَقَالَ - تَعَالَى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] وَقَالَ - تَعَالَى -: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]وَقَالَ - تَعَالَى -: فِي الْقُرْآنِ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وَقَالَ - تَعَالَى -: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] وَقَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا} [البقرة: 97] فَرُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ هُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَهُوَ جِبْرِيلُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: " أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: " إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: " اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ».




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-02-2022, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (64)

من صــ 185 الى صـ
ـ 192

فَهَذَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَاحِدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا نَافَحَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَجَا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ اللَّاهُوتَ مُتَّحِدًا بِنَاسُوتِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ فَعُلِمَ أَنَّ إِخْبَارَهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْيِيدَ بِرُوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَسِيحِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ مُؤَيَّدًا بِرُوحِ الْقُدُسِ كَدَاوُدَ وَغَيْرِهِ بَلْ يَقُولُونَ إِنَّ الْحَوَارِيِّينَ كَانَتْ فِيهِمْ رُوحُ الْقُدُسِ وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ بَلْ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ كَذِبِهِمْ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا التَّأْيِيدُ نَظِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:

{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] فَهَذَا التَّأْيِيدُ بِرُوحٍ مِنْهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَهُ بَلْ يُحِبُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا أَجَانِبَ وَيُبْغِضُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ وَهَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ.

وَقَالَ - تَعَالَى -: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] (26) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27] (27) {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] وَقَالَ:
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وَهَذَا التَّأْيِيدُ بِرُوحِ الْقُدُسِ لِمَنْ يَنْصُرُ الرُّسُلَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ نَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ الَّذِي أُيِّدَ بِهِ الْمَسِيحُ هُوَ صِفَةُ اللَّهِ الْقَائِمَةُ بِهِ وَهِيَ حَيَاتُهُ وَلَا أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ رَبٌّ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ فَلَيْسَ رُوحُ الْقُدُسِ هِيَ اللَّهُ وَلَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بَلْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ صِفَةَ اللَّهِ الْقَائِمَةَ بِهِ تُسَمَّى ابْنًا وَلَا رُوحَ الْقُدُسِ.
فَإِذَا تَأَوَّلَ النَّصَارَى قَوْلَ الْمَسِيحِ عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ عَلَى أَنَّ الِابْنَ صِفَتُهُ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَرُوحُ الْقُدُسِ صِفَتُهُ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ كَانَ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا عَلَى الْمَسِيحِ فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِهِ وَلَا كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَسْمِيَةُ اللَّهِ وَلَا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ ابْنًا وَلَا حَيَاتُهُ رُوحَ الْقُدُسِ.
وَأَيْضًا فَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي الْأَمَانَةِ أَنَّ الْمَسِيحَ تَجَسَّدَ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَرْسَلَ رُوحَهُ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ فَنَفَخَ فِي مَرْيَمَ فَحَمَلَتْ بِالْمَسِيحِ فَكَانَ الْمَسِيحُ مُتَجَسِّدًا مَخْلُوقًا مِنْ أُمِّهِ وَمِنْ ذَلِكَ الرُّوحِ وَهَذَا الرُّوحُ لَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ لَا حَيَاتَهُ وَلَا غَيْرَهَا بَلْ رُوحُ الْقُدُسِ قَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَيُرَادُ بِهَا إِمَّا الْمَلَكُ وَإِمَّا مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْهُدَى وَالتَّأْيِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] وَقَالَ - تَعَالَى -: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] فَسَمَّى الْمَلَكَ رُوحًا وَسَمَّى مَا يَنْزِلُ بِهِ الْمَلَكُ رُوحًا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَالْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُؤَيَّدٌ بِهَذَا وَهَذَا.
وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: بَعْضُهُمْ إِنَّهُ الْوَحْيُ وَهَذَا كَلَفْظِ النَّامُوسِ يُرَادُ بِهِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ كَمَا يُرَادُ بِالْجَاسُوسِ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ فَيَكُونُ النَّامُوسُ جِبْرِيلُ وَيُرَادُ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالشَّرْعِ وَلَمَّا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِلنَّبِيِّ: " هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى " فَسَّرَ النَّامُوسَ بِهَذَا وَهَذَا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ".
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] قال قتادة وغيره " كانت اليهود تقوله استهزاء، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم "؛ وقال أيضا: " كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك، يستهزءون بذلك وكانت في اليهود قبيحة ".

وروى أحمد عن عطية قال " كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود ".

وقال عطاء " كانت لغة في الأنصار في الجاهلية ".
وقال أبو العالية " إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك؛ فنهوا عن ذلك " وكذلك قال الضحاك.
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نُهي المسلمون عن قولها؛ لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم.
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
وَسُئِلَ:
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ.
فَأَجَابَ:
أَمَّا قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: (أَوْ نُنْسِهَا) أَيْ نُنْسِيكُمْ إيَّاهَا: أَيْ نَسَخْنَا مَا أَنْزَلْنَاهُ أَوْ اخْتَرْنَا تَنْزِيلَ مَا نُرِيدُ أَنْ نُنَزِّلُهُ نَأْتِكُمْ بِخَيْرِ مِنْهُ أَوْ مَثَلِهِ وَالثَّانِيَةُ: (أَوْ نَنْسَأْهَا) بِالْهَمْزِ أَيْ نُؤَخِّرُهَا وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ نَنْسَاهَا فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى نَنْسَأَهَا بِمَعْنَى نَنْسَاهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} و " النِّسْيَانُ " مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَلِهَذَا قَرَأَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ: (أَوْ تَنْسَاهَا) أَيْ تَنْسَاهَا يَا مُحَمَّدُ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ نَنْسَأَهَا بِالْهَمْزِ وَبَيْنَ نَنْسَاهَا بِلَا هَمْزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

وَأَمَّا " نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ " فَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ؛ وَلَا أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَيُجَوِّزُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ} وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَسَخَهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ حُدُودُهُ وَنَهَى عَنْ تَعَدِّيهَا: كَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ أَحَدٌ عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ} وَإِلَّا فَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ إنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ الصِّحَّةِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ نُسِخَ بِسُنَّةِ بِلَا قُرْآنٍ وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {خُذُوا عَنِّي؛ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ}.

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ تِلْكَ الْغَايَةَ لَكِنَّ الْغَايَةَ هُنَا مَجْهُولَةٌ فَصَارَ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ نَسْخٌ بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْبَيِّنَةِ فِي نَفْسِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِلَا رَيْبٍ.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-02-2022, 06:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (65)

من صــ 193 الى صـ
ـ 200


الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَلْدَ الزَّانِي ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الرَّجْمُ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُدَّعَى مِنْ نَسْخِ قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا إنْ قَدَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَقَدْ نَسَخَهُ قُرْآنٌ جَاءَ بَعْدَهُ؛ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُحْكَمَةِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَسْخًا لِبَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّمَا نُسِخَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ لَا بِمُجَرَّدِ السُّنَّةِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَيَرَوْنَ مِنْ تَمَامِ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْهُ إلَّا بِقُرْآنِ.
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
(فَصْلٌ: مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ " الْحَسَدُ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
فَصْلٌ:

وَمِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ " الْحَسَدُ " كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِّهِ: إنَّهُ أَذًى يَلْحَقُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِحُسْنِ حَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ حَسُودًا؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ الْجَمِيلُ وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ الْغِبْطَةِ فَإِنَّهُ تَمَنِّي مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُبِّ زَوَالِهَا عَنْ الْمَغْبُوطِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَسَدَ هُوَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمَحْسُودِ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَرَاهَةٌ لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ وَإِذَا أَبْغَضَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ وَيَتَأَذَّى بِوُجُودِ مَا يُبْغِضُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَرَضًا فِي قَلْبِهِ وَيَلْتَذُّ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَفْعٌ بِزَوَالِهَا؛ لَكِنَّ نَفْعَهُ زَوَالُ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْأَلَمَ لَمْ يَزُلْ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ مِنْهُ وَهُوَ رَاحَةٌ وَأَشَدُّهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عُولِجَ بِمَا يُسَكِّنُ وَجَعَهُ وَالْمَرَضُ بَاقٍ؛ فَإِنَّ بُغْضَهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ مَرَضٌ فَإِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ قَدْ تَعُودُ عَلَى الْمَحْسُودِ وَأَعْظَمُ مِنْهَا وَقَدْ يَحْصُلُ نَظِيرُ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِنَظِيرِ ذَلِكَ الْمَحْسُودِ.
وَالْحَاسِدُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنَّ نَفْسَهُ تَكْرَهُ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَى النَّوْعِ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ مَنْ كَرِهَ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ تَمَنَّى زَوَالَهَا بِقَلْبِهِ. وَ (النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْرَهَ فَضْلَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَيْهِ فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ فَهَذَا حَسَدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ الْغِبْطَةَ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ} هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودِ.
وَلَفْظُ ابْنِ عُمَرَ {رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا} فَهَذَا الْحَسَدُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ أُولَئِكَ الْغِبْطَةَ وَهُوَ أَنْ يُحِبَّ مِثْلَ حَالِ الْغَيْرِ وَيَكْرَهَ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذًا لِمَ سُمِّيَ حَسَدًا وَإِنَّمَا أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟. قِيلَ مَبْدَأُ هَذَا الْحُبِّ هُوَ نَظَرُهُ إلَى إنْعَامِهِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَلَوْلَا وُجُودُ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ كَرَاهَتَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْغَيْرُ كَانَ حَسَدًا؛ لِأَنَّهُ كَرَاهَةٌ تَتْبَعُهَا مَحَبَّةٌ وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَسَدِ شَيْءٌ. وَلِهَذَا يُبْتَلَى غَالِبُ النَّاسِ بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَدْ تُسَمَّى الْمُنَافَسَةَ فَيَتَنَافَسُ الِاثْنَانِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ كِلَاهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَذَلِكَ لِكَرَاهِيَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْآخَرُ كَمَا يَكْرَهُ الْمُسْتَبِقَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَهُ الْآخَرُ وَالتَّنَافُسُ لَيْسَ مَذْمُومًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْخَيْرِ.
قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فَأَمَرَ الْمُنَافِسَ أَنْ يُنَافِسَ فِي هَذَا النَّعِيمِ لَا يُنَافِسُ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْحَسَدِ إلَّا فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ وَمَنْ أُوتِيَ الْمَالَ فَهُوَ يُنْفِقُهُ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ أَوْ أُوتِيَ مَالًا وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهَذَا لَا يَحْسُدُ وَلَا يَتَمَنَّى مِثْلَ حَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خَيْرٍ يَرْغَبُ فِيهِ بَلْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعَذَابِ وَمَنْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَيَأْتِيهَا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ أَدَّى الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا دَرَجَتُهُ عَظِيمَةٌ؛ لَكِنَّ هَذَا فِي جِهَادٍ عَظِيمٍ كَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالنُّفُوسُ لَا تَحْسُدُ مَنْ هُوَ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يُنْفِقُ الْمَالَ؛ بِخِلَافِ الْمُنْفِقِ وَالْمُعَلِّمِ فَإِنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ عَدُوٌّ مِنْ خَارِجٍ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا لَهُمَا عَدُوٌّ يُجَاهِدَانِهِ. فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِدَرَجَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْحَاجَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ الَّذِي يُعَظِّمُونَ بِهِ الشَّخْصَ وَيُسَوِّدُونَهُ مَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِنْفَاقِ.
وَالْحَسَدُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا يَحْصُلُ لِلْغَيْرِ مِنْ السُّؤْدُدِ وَالرِّيَاسَةِ وَإِلَّا فَالْعَامِلُ لَا يُحْسَدُ فِي الْعَادَةِ وَلَوْ كَانَ تَنَعُّمُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُحْسَدَانِ كَثِيرًا وَلِهَذَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ مِنْ الْحَسَدِ مَا لَا يُوجَدُ فِيمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ لَهُ أَتْبَاعٌ بِسَبَبِ إنْفَاقِ مَالِهِ فَهَذَا يَنْفَعُ النَّاسَ بِقُوتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا يَنْفَعُهُمْ بِقُوتِ الْأَبْدَانِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ هَذَا وَهَذَا. وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ " مَثَلَيْنِ ":

مَثَلًا بِهَذَا وَمَثَلًا بِهَذَا فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

وَ (الْمَثَلَانِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ؛ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ لَا عَلَى عَمَلٍ يَنْفَعُ وَلَا عَلَى كَلَامٍ يَنْفَعُ فَإِذَا قُدِّرَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَآخَرُ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِحْسَانِ وَهَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُحْسِنُ إلَى النَّاسِ سِرًّا وَجَهْرًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِمْ دَائِمًا فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِهِ الْعَاجِزُ الْمَمْلُوكُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يُشْرَكَ بِهِ مَعَهُ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَالْمَثَلُ الثَّانِي إذَا قُدِّرَ شَخْصَانِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ نَفْعٍ قَطُّ بَلْ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَآخَرُ عَالِمٌ عَادِلٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَهَذَا نَظِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ. وَقَدْ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ عَادِلٌ قَادِرٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ هُودٌ: {إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَ دَارَ الْعَبَّاسِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعَلِّمُ النَّاسَ وَأَخُوهُ يُطْعِمُ النَّاسَ فَكَانُوا يُعَظِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَرَأَى مُعَاوِيَةُ النَّاسَ يَسْأَلُونَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ يُفْتِيهِمْ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الشَّرَفُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
هَذَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافَسَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْفَاقَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: {أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْت الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْته يَوْمًا. قَالَ: فَجِئْت بِنِصْفِ مَالِي قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قُلْت مِثْلَهُ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قَالَ أَبْقَيْت لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْت لَا أُسَابِقُك إلَى شَيْءٍ أَبَدًا}.
فَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ الْمُبَاحَةِ؛ لَكِنَّ حَالَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ خَالٍ مِنْ الْمُنَافَسَةِ مُطْلَقًا لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ {مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ حَصَلَ لَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَكَى لَمَّا تَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ غَيْرُ الصَّحِيحِ {مَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُولُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ: أَكْرَمْته وَفَضَّلْته قَالَ: فَرَفَعْنَاهُ إلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ:

مَنْ هَذَا مَعَك يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَد قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا فَقُلْت مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ قُلْت: وَمَنْ يُعَاتِبُ؟ قَالَ: يُعَاتِبُ رَبَّهُ فِيك قُلْت: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى رَبِّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَرَفَ صِدْقَهُ}.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-02-2022, 06:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (66)

من صــ 201 الى صـ
ـ 208

وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشَبَّهًا بِمُوسَى وَنَبِيُّنَا حَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَنَحْوُهُ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانُوا أَرْفَعَ دَرَجَةً مِمَّنْ عِنْدَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْمُؤْتَمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ مُزَاحَمَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِالْأَمَانَةِ مِمَّنْ يَخَافُ مُزَاحَمَتَهُ؛ وَلِهَذَا يُؤْتَمَنُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْخِصْيَانُ وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْوِلَايَةِ الصُّغْرَى مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ عَلَى الْكُبْرَى وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ مَنْ فِي نَفْسِهِ خِيَانَةٌ شُبِّهَ بِالذِّئْبِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْغَنَمِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الطَّلَبِ لِمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ {أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ:

فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوءٍ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنِّي لاحيت أَبِي فَأَقْسَمْت أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْك حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْت قَالَ: نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا؛ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ الثَّلَاثِ وَكِدْت أَنْ أُحَقِّرَ عَمَلَهُ قُلْت:

يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْت أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْت أَنْ آوِيَ إلَيْك لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُك فَأَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ أَرَك تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِك مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنَّنِي لَا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًّا وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ}.

فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ يُشِيرُ إلَى خُلُوِّهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ. وَبِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْصَارِ فَقَالَ: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أَيْ مِمَّا أُوتِيَ إخْوَانُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً أَيْ حَسَدًا وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَقِيلَ مِنْ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ فَهُمْ لَا يَجِدُونَ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا مِنْ الْمَالِ وَلَا مِنْ الْجَاهِ وَالْحَسَدُ يَقَعُ عَلَى هَذَا. وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مُنَافَسَةٌ عَلَى الدِّينِ فَكَانَ هَؤُلَاءِ إذَا فَعَلُوا مَا يُفَضَّلُونَ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَبَّ الْآخَرُونَ أَنْ يَفْعَلُوا نَظِيرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْيَهُودِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يَوَدُّونَ أَيْ يَتَمَنَّوْنَ ارْتِدَادَكُمْ حَسَدًا فَجَعَلَ الْحَسَدَ هُوَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْوُدِّ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّكُمْ قَدْ حَصَلَ لَكُمْ مِنْ النِّعْمَةِ مَا حَصَلَ؛ بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِثْلُهُ حَسَدُوكُمْ وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ} {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ}.
وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا (نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَحَرُوهُ: سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ فَالْحَاسِدُ الْمُبْغِضُ لِلنِّعْمَةِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا ظَالِمٌ مُعْتَدٍ وَالْكَارِهُ لِتَفْضِيلِهِ الْمُحِبُّ لِمُمَاثَلَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطَى مِثْلَ مَا أُعْطِيَ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ هَذَا بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْغَيْرِ أَفْضَلُ.
ثُمَّ هَذَا الْحَسَدُ إنْ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ صَاحِبُهُ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَكَانَ الْمَحْسُودُ مَظْلُومًا مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْحَاسِدِ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَدْ اُبْتُلِيَ يُوسُفُ بِحَسَدِ إخْوَتِهِ لَهُ حَيْثُ قَالُوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فَحَسَدُوهُمَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَبِ لَهُمَا وَلِهَذَا قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
ثُمَّ إنَّهُمْ ظَلَمُوهُ بِتَكَلُّمِهِمْ فِي قَتْلِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ رَقِيقًا لِمَنْ ذَهَبَ بِهِ إلَى بِلَادِ الْكُفْرِ فَصَارَ مَمْلُوكًا لِقَوْمِ كُفَّارٍ ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ اُبْتُلِيَ بَعْدَ أَنْ ظُلِمَ بِمَنْ يَدْعُوهُ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُرَاوِدُ عَلَيْهَا وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَعْصَمَ وَاخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَآثَرَ عَذَابَ الدُّنْيَا عَلَى سَخَطِ اللَّهِ فَكَانَ مَظْلُومًا مِنْ جِهَةِ مَنْ أَحَبَّهُ لِهَوَاهُ وَغَرَضِهِ الْفَاسِدِ.
فَهَذِهِ الْمُحِبَّةُ أَحَبَّتْهُ لِهَوَى مَحْبُوبِهَا شِفَاؤُهَا وَشِفَاؤُهُ إنْ وَافَقَهَا وَأُولَئِكَ الْمُبْغِضُونَ أَبْغَضُوهُ بِغْضَةً أَوْجَبَتْ أَنْ يَصِيرَ مُلْقًى فِي الْجُبِّ ثُمَّ أَسِيرًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأُولَئِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ إطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ إلَى رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهَذِهِ أَلْجَأَتْهُ إلَى أَنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا مَسْجُونًا بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ أَعْظَمَ فِي مِحْنَتِهِ وَكَانَ صَبْرُهُ هُنَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِخِلَافِ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ. وَالصَّبْرُ الثَّانِي أَفْضَلُ الصَّبْرَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
وَهَكَذَا إذَا أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ عَلَى إيمَانِهِ وَطُلِبَ مِنْهُ الْكُفْرُ أَوْ الْفُسُوقُ أَوْ الْعِصْيَانُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُوذِيَ وَعُوقِبَ فَاخْتَارَ الْأَذَى وَالْعُقُوبَةَ عَلَى فِرَاقِ دِينِهِ: إمَّا الْحَبْسُ وَإِمَّا الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِهِ كَمَا جَرَى لِلْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ اخْتَارُوا فِرَاقَ الْأَوْطَانِ عَلَى فِرَاقِ الدِّينِ وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ وَيُؤْذَوْنَ.
وَقَدْ أُوذِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَذَى فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِ يُوسُفَ: لِأَنَّ يُوسُفَ إنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَإِنَّمَا عُوقِبَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ بِالْحَبْسِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ طُلِبَ مِنْهُمْ الْكُفْرُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا طُلِبَتْ عُقُوبَتُهُمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ وَأَهْوَنُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْحَبْسُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوهُ وَبَنِيَّ هَاشِمٍ بِالشِّعْبِ مُدَّةً ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ اشْتَدُّوا عَلَيْهِ فَلَمَّا بَايَعَتْ الْأَنْصَارُ وَعَرَفُوا بِذَلِكَ صَارُوا يَقْصِدُونَ مَنْعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَيَحْبِسُونَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ إلَّا سِرًّا إلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَحْوُهُ فَكَانُوا قَدْ أَلْجَئُوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَمَعَ هَذَا مَنَعُوا مَنْ مَنَعُوهُ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَحَبَسُوهُ.

فَكَانَ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ لَا مِنْ جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ - فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً لِلَّهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمُصِيبَةِ؛ لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا.
وَاَلَّذِينَ يُؤْذَوْنَ عَلَى الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَحْدُثُ لَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَرَجٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ حَبْسٌ أَوْ فِرَاقُ وَطَنٍ وَذَهَابُ مَالٍ وَأَهْلٍ أَوْ ضَرْبٌ أَوْ شَتْمٌ أَوْ نَقْصُ رِيَاسَةٍ وَمَالٍ هُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى مَا يُؤْذَوْنَ بِهِ وَيُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ كَمَا يُثَابُ الْمُجَاهِدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالتَّعَبِ وَعَلَى غَيْظِهِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ لَيْسَتْ عَمَلًا فَعَلَهُ يَقُومُ بِهِ لَكِنَّهَا مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مُتَوَلِّدَةٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يُقَالُ إنَّهَا فِعْلٌ لِفَاعِلِ السَّبَبِ أَوْ لِلَّهِ أَوْ لَا فَاعِلَ لَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ فَاعِلِ السَّبَبِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَلِهَذَا كُتِبَ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الْحَسَدَ " مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ. وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ فَقَالَ مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا.
فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ.

وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الظَّالِمِينَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ: كَمَا جَرَى لِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُسَامِي عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضِ كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا الْمُتَزَوِّجَاتُ بِزَوْجِ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَغَارُ عَلَى زَوْجِهَا لِحَظِّهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ يَفُوتُ بَعْضُ حَظِّهَا.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 360.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 354.93 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]