|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (28) الشيخ خالد بن علي الجريش الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، أيها الأفاضل فيما سبق ذكرنا شيئًا من السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الجهات والقبائل، فذكرنا أحداثها ودروسَها المستفادة منها، ونستكمل في حلقتنا تلك شيئًا من السرايا والبعوث الأخرى، مستذكرين بعض الدروس والعِبَر، فمن ذلك ما يُسمَّى بسرية الخَبَط، وقد رواها البخاري ومسلم، فقد بعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه ومعه ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار؛ ليرصدوا عِيْرًا لقريشٍ، وقد زوَّدهم النبي صلى الله عليه وسلم جرابًا من تَمْر، لم يجد غيره، حتى إذا كانوا في أثناء الطريق نفد زادُهم، فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه أن يأتوا بأزوادهم، فجمعها أبو عبيدة وصار يُعطيهم منه قليلًا قليلًا حتى كاد أن يفنى، فصار يُزوِّدهم تمرةً تمرةً، فلكُلِّ رجلٍ تمرة، فكانوا يمصُّونها كما يمصُّها الصبي، ثم يشربون عليها الماء، قال الراوي: فتكفينا تلك التمرة إلى الليل، وسُئل جابر رضي الله عنه: وما تُغني عنكم التمرة؟ قال: وجدنا فقدها حين فقدناها، فأصابهم الجوع والجهد حتى أكلوا الخَبَط، وهو أن يضرب الشجرة اليابسة فيتساقط ورقها، ثم يرطبه بالماء ويأكله، حتى تقرَّحت أشداقهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ولهذا سميت تلك السريَّة سريَّة الخَبَط، وعندما وصلوا لساحل البحر أخرج الله تعالى لهم من البحر حوتًا يدعى العَنْبر، وهو كبير، قالوا بأنه كالجبل الصغير، فأقاموا يأكلون منه ثماني عشرة ليلة حتى سمنوا وصحَّت أجسامُهم حتى ذكر جابر رضي الله عنه شيئًا من صفات ذلك الحوت، فقال: كنا نغترف من عينه الدهن بالقلال، وهي الأواني الكبيرة، وقال أيضًا: كنا نقتطع منه اللحم بحجم الثور، وقال أيضًا: لقد جلس في مكان عينه ثلاثة عشر رجلًا، وقال أيضًا: أخذنا ضلعًا من أضلاعه فجئنا بأطول رجل على أكبر بعير فمَرَّ من تحته؛ فهذا يدل على ضخامة هذا الحوت، فسبحان الخالق العظيم! وفي تلك السريَّة لم يجدوا تلك العِيْر لقريش، فانصرفوا إلى المدينة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الحوت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هو رِزْقٌ أخرجَه اللهُ لكم، فهل معكم مِن لَحْمِه شيءٌ فتُطعمونا؟)) قال جابر: فأعطيناه منه فأكله؛ رواه البخاري ومسلم. ومن السرايا أيضًا سريَّة كُرْز بن جابر الفِهْري في العُرَنِيِّين، وقد كانت في شوال من السنة السادسة؛ حيث إنه قدم إلى المدينة ثمانية نفر من عُكْل وعُرَيْنة، فأظهروا الإسلام، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسوا في المدينة فأصابهم المرض، وسقمت أجسامُهم وهزلت، فاشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تخرجون مع راعينا في إبله؟ فتُصيبون من أبوالها وألبانها؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، فخرجوا إليها، فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا وسمنُوا ورجعت إليهم عافيتُهم كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي، واسمه يسار، ومثَّلُوا به، وسمروا عينيه، وساقوا الإبل معهم، فجاء الراعي الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صارخًا بأنهم قتلوا صاحبه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم على أثرهم عشرين فارسًا بقيادة كُرْز بن جابر رضي الله عنه، وأرسل معهم بعض القافة؛ وهو الذي يتتبَّع الأثر ويعرفه، ودعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم أعم عليهم الطريق، واجعله عليهم أضيق من مسك جمل))؛ أي: جلد الجمل، فعمى الله عليهم الطريق، فما ارتفع النهار حتى أدركوهم وأسروهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل، حتى أتوا بهم المدينة، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُطِعَت أيديهم وأرْجُلُهم، وسمرت أعينهم- أي: كحل أعينهم بمسامير محمَّاة بالنار كما فعلوا بالراعي- وألقاهم بالحرة يستسقون فلا يُسْقَون حتى ماتوا، قال أبو قلابة: هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا وحاربوا الله ورسوله، وأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العُرَنِيِّين قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: بأن هذه الآية عامة فيهم وفي غيرهم من المفسدين والمحاربين لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية هي أصل في حد الحرابة. ومن السرايا أيضًا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم سرية عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وكانت في شعبان من السنة السادسة، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف، فقال له: ((تَجَهَّز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله)). فأصبح عبدالرحمن بن عوف، فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقعده بين يديه وعمَّمَه بيده، ثم عقد له اللواء ثم قال: ((خُذْه بسم الله وبركته))، ثم أمَرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فسار عبدالرحمن بأصحابه، وكانوا سبعمائة رجل، حتى قدم دومة الجندل، فمكث أيامًا يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمرو، وكان نصرانيًّا، وأسلم بإسلامه خَلْقٌ كثيرٌ، فبعث عبدالرحمن بشيرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُبشِّره بإسلامهم، وتزوَّج أيضًا عبدُالرحمن ابنةَ رئيسِهم، وقدم بها المدينة، فولدت له سلمة بن عبدالرحمن بن عوف. أيها الأكارم، تلك من أهم السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأقوام والقبائل من العرب، ولعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر من تلك السرايا، فمن ذلك: الدرس الأول: في سرية أبي عبيدة رضي الله عنه كان عددهم ثلاثمائة رجل ولم يزوِّدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بجرابٍ من تَمْر لم يجد غيره، ولنا في ذلك وقفة ودرس عظيم؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى، وهؤلاء الأصحاب هم أفضل القرون، ومع ذلك لم يجد إلا ذلك زادًا لهم، وهذا يفيدنا بأن الدنيا وما تحويه من مآكل ومشارب وملبس ومركب ونحو ذلك، ليست هي الأصل؛ بل إنها وسيلة للآخرة، وعمل الآخرة هو الذي يبقى ذخرًا للإنسان وسببًا لدخول الجنان برحمة الله تبارك وتعالى، وأن اللذائذ من النِّعَم أيًّا كانت وإن كانت حلالًا للمؤمنين؛ إلا أن الإكثار منها ليس ممدحة، وأن الإسراف منها فيه مذمَّة، فرسالة لأولئك الذين يُسرِفون في طعامهم وملابسهم ومراكبهم، وكأن ذلك هو الأصل، فيُقال لهم: رويدًا بأنفسكم، فلو كان ذلك فيما هو أنفع لكان أولى وأتم. ويزيد الإشكال إشكالًا إذا كان هذا الإسراف من ورائه ديون بسبب هذا الإسراف، فهذه المصيبة الأكبر، فكيف يتحمَّل الديون مع عظم شأنها على نوافل يمكن التخلِّي عنها؟! وهي أيضًا رسالة أخرى لمن لا يحترمون النعمة فيفيضون بباقي أطعمتهم في أماكن لا تليق بها، فيضعها بعضهم مع النفايات العامة مع أنها صالحة للاستهلاك الآدمي، ولو أن هذا وأمثاله غلَّفَها ثم دفعها إلى مستحقِّيها وما أكثرهم! لكان خيرًا وبرًّا بدل أن يكون إثمًا وزُورًا، كيف لا وهناك أناس يتضوَّرُون جوعًا فيمرضون ويموتون ولا يجدون ما يطعمون؟! ألا يكون لنا في هؤلاء عبرة وعظة؟! وقد انتشر في مملكتنا الغالية جمعيات تُعنى بفائض الأطعمة، فيمكن التواصُل معهم لأخذه وإعداده، ويُقترَح أيضًا على تلك الجمعيات وضع وسيلة التواصل في قصور الأفراح وعموم الاستراحات؛ ليسهل التواصُل بهم عند الحاجة مشكورين. الدرس الثاني: رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأوليائه؛ حيث رزقهم ذلك الحوت الكبير عندما جاعوا واحتاجوا، وفي هذا درس أن الله عز وجل لا يضيع أجْرَ المحسنين؛ بل هو معهم يكلؤهم ويرعاهم ويُسدِّدهم ويطعمهم، ومن يتوكَّل على الله فهو حسبه، ومن أسماء الله تعالى الرزَّاق، فهو يرزق عباده ما يحتاجون إليه في حياتهم، وإذا حصل لك أخي الكريم رِزْق من الله تبارك وتعالى أيًّا كان، فعليك بالإكثار من حمد الله تعالى وشكره، وقد وعدَك الله تعالى بأنك إذا شكرته زادك من عطائه ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، فعوِّد نفسك اللهج بالشكر عند حصول النِّعَم وتجدُّدها وقضاء الحاجات، فالله تعالى علم حال هؤلاء الصحابة، فرحمهم ورزقهم. الدرس الثالث: في حجم هذا الحوت الذي هو كالجبل مظهر عظيم من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث إن عظمة هذا المخلوق تدل على عظمة الخالق، وقد سبق وصف الصحابة رضي الله عنهم لبعض مظاهر وصفات هذا الحوت العظيم الكبير، فسبحان الخلَّاق العظيم! وعندما يتأمَّل المسلم تلك المخلوقات يقوى إيمانُه بالله تعالى، وتطمئن نفسه، ويقدر الله تعالى حقَّ قدْرَه، وذلك مِن تقوى القلوب، فما أحوجنا إذا رأينا أو سمعنا أو قرأنا شيئًا من ذلك أن نقف وقفة تأمُّل وتفكُّر ليقوى إيماننا! فهذه الشمس وهذا القمر وتلك السماء والأرض والنجوم وعموم الخلق، هي كلها مجال للتفكُّر والتأمُّل، فاجعل ذلك التفكُّر منهجًا لك؛ فهو من المثبتات على دين الله تبارك وتعالى. الدرس الرابع: هؤلاء العُرْنِيُّون شكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدونه في أنفسهم من المرض، فأرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما يكون فيه علاجهم بإذن الله تعالى، وهذا لا بأس به أن يذكر الإنسان حاله لمن قد يستفيد منه في ذلك؛ كالطبيب ونحوه؛ لكن المأخذ عند بعض الناس أنه إذا أصابه عِلَّةٌ أو مرض فقد يشكو ذلك لكلِّ الناس مُخبِرًا لهم بهذا المرض وتلك العلة، ولو أنه اقتصر على من يستفيد منه في ذلك، لكان خيرًا له في دينه ودنياه، فإن الناس فيهم من المشاكل ما يكفيهم، وقد لا يرغبون بذكر المزيد عليها، في حين أن هذا المريض عليه أن يشكو ذلك كثيرًا إلى الله تبارك وتعالى؛ لأنه هو القادر على كل شيء، وهو القريب المجيب، وهو المجازي على تلك الأمراض والعِلَل، وهو الذي قدرها، وهو الذي يزيلها، فاجعل شكواك إلى مولاك ولا تلتفت إلى الخلق إلا بمقدار ما يستطيعون نفعك به، مستعينًا بالله تعالى، معتقدًا أن ما عندهم هو من الله تبارك تعالى، ساقه لك على أيديهم، فهذا أوْلَى وأقْرَب وأصْوَب وأحْكَم بإذن الله تبارك وتعالى. الدرس الخامس: في فعل العُرْنِيِّين صفة ذميمة يجب على المسلم أن يحذر منها، ويبتعد عنها؛ وهي مقابلة الإحسان بالإساءة، فهم عندما أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه علاجهم وصِحَّتهم، قابلوا هذا الإحسان بالسوء، وهذا من خُبْث الطويَّة وسوء النيَّة، والأصل أن تُحسِن إلى مَنْ أحْسَن إليك، وذلك بدعوة أو غيرها، والبعض من الناس يحسن إلى غيره؛ ولكِنَّ في إحسانه نوعًا من الخلل غير المقصود، فمثل هذا ينبغي أن يُغتفَر خَلَلُه لأجل نيَّته الحسنة، ولا يمنع هذا من إرشاده وتوجيهه ليزول خَلَلُه، واجعل أخي الكريم الإحسان إلى الآخرين سجيَّةً لك تكسب من خلالها محبَّة الله تعالى ورحمته ومعيَّته وعونه وجزاءه لك بالإحسان، فهل جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسان؟! الدرس السادس: إثبات العلاج بألبان وأبوال الإبل، وقد أكَّد ذلك عددٌ من الأطِبَّاء في القديم والحديث، وكذلك مراكز الأبحاث؛ ولهذا شواهد كثيرةٌ من الواقع في السابق واللاحق، على اختلاف في آلية التعامل في المسلك العلاجي لهما، إن التحاليل المخبريَّة تدل على أن أبوال الإبل وألبانها تحتوي على تركيز عالٍ من البوتاسيوم والبروتينات والصوديوم وغيرها، ذكر ذلك الدكتور محمد هاج في رسالته العلمية الماجستير، وعلى مَن أراد العلاج بهما استشارة المصادر الطبية ومراكز الأبحاث قبل تناولها ليتعرف على احتياطاتها قبل تناولها، فالأبحاث والنتائج تتجدَّد يومًا بعد يوم، ولا يتناولها اعتمادًا على التجربة، فإن التجارب تختلف من شخص إلى آخر. الدرس السابع: في تلك الحادثة نزلت آية المائدة؛ وهي نصٌّ في حدِّ الحرابة، فجزاء هؤلاء المفسدين والمحاربين هو ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا... ﴾ الآية [المائدة: 33]. الدرس الثامن: إن عقوبة هؤلاء الجناة كانت مماثلة لما فعلوه بالراعي؛ كما في كتاب الله، وهذا يُعطينا قاعدةً أن الجزاء من جنس العمل؛ سواء في الخير أو في الشر، فكما يكون العمل فسيكون الجزاء مماثلًا له؛ ولهذا قال الله تعالى في الخير ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، فلنحرص على عمل الصالحات لنجد جزاءها تكريمًا ورحمةً وعطاءً وافرًا، ولنبتعد عن السيئات حتى لا نحظى بجزائها؛ وهو العقوبة في الآخرة، إن لم يعْفُ الله تبارك وتعالى. الدرس التاسع: حُسْن الاستجابة من الصحابة الكرام، وذلك من خلال استعداد واستجابة عبدالرحمن بن عوف عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في يومه أن يقود تلك السريَّة، فقد استجاب مباشرةً هو وصحبه الكِرام رضي الله عنهم، وهذا شأن المؤمن مع أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تراه مستجيبًا، يقول: سمِعْنا وأطَعْنا. فانظر أخي الكريم في أحوالك وتصرُّفاتك وأقوالك، هل هي فيها استجابة لأمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؟ أم أنها تنحو ذات اليمين وذات الشمال؟ فالأمر الآن بيدك فاستثمر وقتك وحياتك لتصحيح مسارك قبل فوات الأوان. الدرس العاشر: أهمية البشارة في حصول الخير، وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخبره ويُبشِّره بإسلام رئيسهم، فالبشارة لها مذاقها الطيب لدى المبشِّر والمبشَّر، وفيها أيضًا أجْرٌ عظيمٌ، فهي إدخال للسرور على المسلم حيث يصحبها الابتسامة والاطمئنان والسكون والبهجة والفرح، كذلك الكلمة الطيبة، وأيضًا على مَن تُلقَى عليه البشارة أن يُكثِر من الحمد والشكر لله تبارك وتعالى، وأن يسجد سجود شكر لله عز وجل، فإن ذلك الفعل والقول هو سبب للزيادة من الخير، وكم تستجد نعمة أو تندفع نقمة عند بعض الناس فينسى سجود الشكر ويلهو بما بشَّره به الآخرون! أيها الكِرام، السيرة كلها دروس وعِبَر تُصحِّح المفاهيم، وتُقوِّي الإيمان، وتزيد في العلم، فليكن لنا في قراءتها نصيبٌ وافرٌ، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، فماذا أخي الكريم لو قرأتَ في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحةً من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر، فأنت تقرأ سيرةَ أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرؤه اذكره في مجالسك لتفيد الآخرين وتستفيد أيضًا ثبات هذا العلم في ذهنك، وهذا من طلب العلم ونشره فسييسِّر الله تعالى لك طريقًا إلى الجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ به طريقًا إلى الجَنَّةِ))، فأنت إذا قرأت في هذه السيرة النبوية واستفدت منها الأحكام الفقهية والوقفات التربوية وتصحيح المفاهيم، فإنك بذلك تعرف الحكم والدليل؛ لأن هذا هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه ومجالسته عليه الصلاة والسلام لهم رضي الله عنهم، فأنت بهذا تعرف الوقائع الشرعية، فتستطيع أن تعبد الله تبارك وتعالى على ما شرعه لك، فاحرص أخي الكريم أن يكون لك جلسة مع أولادك، حتى يتفقَّه الجميع، وفي هذا خيرٌ عظيمٌ لا يُحصَى كثرةً، فتغشاكم الرحمة، وتنزل عليكم السكينة، ويذكركم الله تعالى فيمن عنده، وهذا لا شَكَّ أنه خيرٌ عظيمٌ، وتكون مجالِسُكم وبيوتُكم ومنازِلُكم هي مأوى هؤلاء الملائكة الكِرام الذين حفُّوكم، وجلسوا حولكم، فكنتم جلساء الملائكة مع ما يحصل من طمأنة النفوس وشَرْح الصدور، فهذا خيرٌ عظيمٌ لا سيَّما وأن فيه زوالًا لكثيرٍ من المشاكل؛ لأن المشاكل التي عند الأولاد أو المشاكل الزوجية سيأتي مثل هذه المجالس وسيكون حلًّا لها بإذن الله تبارك وتعالى. أسأل الله عز وجل لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرشاد، اللهُمَّ أوصِلْنا دار السلام بسلامٍ، ووفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وارحمنا واغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (29) الشيخ خالد بن علي الجريش الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فمرحبًا بكم أيها الأفاضل في برنامجكم خاتم النبيِّين، وقد ذكرنا أيها الكِرام في الحلقة السابقة شيئًا من السرايا والبعوث التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لأقوام وقبائل من العرب دعوةً لهم وأيضًا غزوًا لهؤلاء ونحو ذلك، وذيَّلْناها أيضًا بالدروس والعِبَر المستفادة منها، وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لأحداث صُلْح الحديبية وما فيه من أحداث ووقائع ودروس وأحكام، والحديبية هي اسم لبئر تقع على بُعْدِ اثنين وعشرين كيلومترًا من الشمال الغربي لمكة، وتُعرَف اليوم بالشميسي، ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه أنه يريد العمرة، وأنه رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه رضي الله عنهم محلقين رؤوسهم ومقصرين، فما أنْ سَمِع الصحابة رضي الله عنهم بذلك حتى أسرعوا وتهيَّأوا للخروج معه، وفرحوا بذلك أشدَّ الفرح، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر معه العرب من البوادي ممن أسلموا ليخرجوا معه خشيةَ أن تتعرَّض له قريش ويصدُّونه عن البيت الحرام، فنفر بعضهم وتأخَّر كثيرٌ منهم، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، وهم قد تخلَّفُوا عن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمرة في عام الحديبية، وقد ظنُّوا أنه سيُهزَم، فاعتذروا بالأموال والأولاد عن الصُّحْبة، والقرآن في هذا العرض يعالج أمراض النفوس والقلوب، ويُعالِج الضعف والانحراف، ثم يُوضِّح القِيَم والحقائق الواقعة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجِّهًا إلى مكة في يوم الاثنين من شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ومعه من أزواجه أُمُّ سلمة رضي الله عنها، وخرج معه من أصحابه ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ومَنْ لحِقَ به أيضًا من الأعراب، ولم يكن معه سلاح إلَّا سلاح المسافر وهي السيوف، وساق معه الهَدْي وعددُها سبعون بدنةً، ومع هذا الهَدْي جَمَل لأبي جهل جاء به ليغيظ به المشركين، وبعث الهَدْي مع ناجية بن جندب الأسلمي، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة صلَّى الظهر، ثم دعا بالهَدْي فقلَّده وأشعرَه- أي: جعل عليه شعارًا ليكون علامةً على أنه هدي- وأحرم بالعمرة ولبَّى، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه بشر بن سفيان عينًا له إلى قريش ليأتيه بخَبَرهم، وأكمل النبي صلى الله عليه وسلم طريقه ومساره إلى مكة حتى إذا كان قريبًا من عسفان أتاه الذي أرسلَه لينظر في خبر قريشٍ وهو عينه، فقال له: إنَّ قريشًا قد جمعوا لك جموعًا من الأحابيش وغيرهم، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن المسجد الحرام، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك وقال: ((أشيروا أيها الناس عليَّ))، فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قَتْلَ أحَدٍ ولا حَرْبَ أحدٍ، فتوجَّه له، فمَنْ صدَّنا عنه قاتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((امضوا على اسم الله))؛ أخرجه البخاري، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى عسفان اقترب إليه خالد بن الوليد- وذلك قبل إسلامه- في مائتي فارس، فكانوا بين المسلمين وبين القبلة، وفي تلك الحال نزل الوحي بصلاة الخوف وبصفتها، فصلَّى المسلمون صلاةَ الظهر، فلمَّا قُضِيت الصلاة قال المشركون بعضُهم لبعضٍ: لو أصَبْناهم وهم في حال صلاتهم، لكان إتيانًا لهم على غِرَّة؛ ولكن ستأتي عليهم صلاةٌ أخرى- يعنون صلاة العصر- ولنفعل ذلك، فنزلت صفة صلاة الخوف بين الظهر والعصر، وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ [النساء: 102]، فحضرت صلاة العصر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا السلاح في صلاتهم، وهذه هي الصفة المشهورة بحيث إن المأمومين في تلك الحال لا يكونون جميعًا في حال السجود، فيسجد الصَّفُّ الأوَّل ويقوم الصَّفُّ الثاني باتجاه العدوِّ، فهذه أوَّلُ صلاةِ خوفٍ صلَّاها المسلمون، كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، وقد ورد في صلاة الخوف صفات مُتعدِّدة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تفادَى الاشتباك مع قريش، فذهب بأصحابه إلى الحديبية عند بئر هناك فيها شيء من الماء، فنزحوها حتى انتهى ماؤها، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شِدَّةَ العطش فيهم، وفي ركائبهم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته، فأمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال البئر يفور بالماء حتى رَوَوا وسقوا ركائبهم؛ رواه البخاري، وأيضًا معجزة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري في كتاب المغازي، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة- والركوة هي جلد صغير فيه ماء قليل- فتوضَّأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم?))، قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضَّأ منه ولا نشرب إلَّا ما في ركوتك هذه، فقال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يَدَه في الركوة، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون، قال جابر رضي الله عنه: فشربنا وتوضَّأنا، فقيل لجابر: كم كنتم يومئذٍ? قال: كُنَّا ألفًا وخمسمائة، ولو كُنَّا مئة ألف لكفانا"؛ أخرجه البخاري، وفي الحديبية أصاب المسلمين مطرٌ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلُّوا في رحالهم، وعندما صَلَّى بهم بعد ذلك أقبل عليهم بوجهه، وقال: ((أتدرون ماذا قال ربُّكم?))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي، وكافرٌ بي، فأمَّا مَن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمِنٌ بالكوكب))؛ متفق عليه. وفي مكث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جاء إليه بديل بن ورقاء وكان من خزاعة، وكانت خزاعة مسالمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بديل: إنَّ قريشًا صادُّوك عن البيت ومقاتلوك، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم لم يجيئوا مقاتلين؛ وإنما جاءوا إلى البيت، فمَنْ قاتلنا قاتلناه، فانطلق بديل إلى قريش وأخبرَهم بما قال، فقالوا: والله، لا يدخلها قهرًا وغلبةً وتتحدَّث العرب بذلك، ثم بعد ذلك أرسلت قريش رُسَلَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاوُض، فأوَّل رسول لهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مكرز بن حفص، فقد بعثَتْه قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا رجل فاجر))، فلما تحدَّث مع النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رَدَّ بديل بن ورقاء، ثم رجع إلى قريش، ثم بعثت قريش رسولًا آخر، وهو الحلس بن علقمة، فلمَّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا من قوم يُعظِّمون البُدْن، فابعثوها له))، فبعثوا الهَدْي، واستقبله الناس يُلبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل رجع مباشرةً إلى قريش بعد رؤيته البدن وسماعه للتلبية، وقال لهم: رأيت البُدْن قد قُلِّدَتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت? فردُّوا عليه ردًّا سيئًا، فغضب عليهم وسبَّهم، ووعدهم أن ينفر بالأحابيش فلا يقاتلون معهم، ثم ذهب رسول ثالث لقريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عروة بن مسعود قبل أن يسلم، فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجمع أوباش الناس وتستأصل بهم بيضتك وأمْر قومِك، ثم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يأتِ للحرب، ثم أخذ عروة ينظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما بصق النبي صلى الله عليه وسلم بصاقًا إلَّا كان بيد أحدِهم فدَلَكَ به وجهه وجِلْده، وإذا أمرهم ابتدروا، وإذا توضَّأ اقتتلوا على فضل وضوئه، وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم، وما كانوا يُحِدُّون النظر إليه؛ تعظيمًا له واجلالًا له، فلَمَّا رجع عروة إلى قريش ذكر لهم ما رأى من ذلك الواقع الجليل في مَحبَّة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نردُّه عن البيت في عامِنا هذا، ويرجع من قابل فيدخُل مكة ويطوف بالبيت، أيها الأفاضل الكِرام للحديث بإذن الله تعالى بقية، ونختم حلقتنا هذه بشيءٍ من الدروس والعِبَر؛ لكننا بإذن الله تعالى سنستكمل الحديث عن صلح الحديبية في الحلقة القادمة إن شاء الله عز وجل، فمن الدروس والعِبَر ما يلي: الدرس الأول: أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي نوع من أنواع الوحي؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه، وإن كانت هذه الرؤى للأنبياء وَحْيًا فهي لغيرهم من المُبشِّرات، يراها المسلم أو تُرى له، وهذه الرُّؤى تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤيا ظاهرها الصلاح والارتياح والاطمئنان والسكينة، فهي رؤيا صالحة يسأل عنها الرائي ويحمد الله تبارك وتعالى عليها، ويخبر بها مَنْ يُحِبُّ؛ ولكنه لا يغترُّ بتأويلها، ويسأل الله تعالى الإعانة والسداد ويحمده عليها، وتكون تلك الرؤيا الصالحة مقربةً إلى الله تبارك وتعالى. النوع الثاني من الرؤى: رؤيا ظاهرها السوء والضيق، فهذه موقف المسلم منها ما يلي: لا يُحدِّث بها أحدًا، ويستعيذ بالله تعالى من الشيطان وشر تلك الرؤيا، وأيضًا كذلك لا يسأل عن تأويلها، ولا يُفكِّر بها، ولا تستولي عليه، فإنه إذا فعل ذلك، فإنها لا تضُرُّه بإذن الله عز وجل؛ حيث إنَّ أحد الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا السيئة فتُمرِضه أيامًا، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يخبر بها أحدًا، ويستعيذ بالله من شرِّها والشيطان، فيقول ذلك الصحابي: فعلتُ ذلك، فأذهب الله عني أذاها في حين أن بعض الناس كُلَّما رأى تحدَّث للناس بما رأى، وسأل أيضًا عمَّا رأى سواء كان حسنًا أو سيئًا، وهذا لا شَكَّ أنه منهج جهل وحُمْق. الدرس الثاني: عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة عام الحديبية اعتذر أناس بأعذارٍ واهيةٍ يظنُّون أنهم سيسلمون بعدها من العتاب؛ لكن القرآن نزل بعتابهم وفضَحَهم، وهذا يُعطينا معنًى تربويًّا إيمانيًّا بأن المسلم إذا انتدب إلى ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين وهو قادر عليه، فليمتثل ذلك الأمر، فهو خيرٌ له من بقائه بعُذْرٍ مكذوبٍ ولا حقيقة له، وهذا يجري مع الحاكم والوالد والصديق والقريب ودائرة العمل، وفي المجال الدعوي ونحوهم، وهذا يكسبه أجرًا وعملًا صالحًا وطاعةً وبرًّا، فإذا صدر من هؤلاء ونحوهم أمْرٌ فيه صلاحٌ، فليُبادر ذلك المأمور، ولا يختلق الأعذار الوهميَّة ما دام قادرًا ومؤثرًا، فليحتسب في ذلك الأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى. الدرس الثالث: رحمة الله تعالى بعباده وحفظه لهم من أعدائهم؛ حيث شرع لهم صلاة الخوف بهذه الصفة المذكورة؛ بحيث يجمعون بين صلاتهم ومراقبة عدوِّهم. الدرس الرابع: في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حَثٌّ على الشورى، والاستشارة تكون في جميع الأمور التي تشكل على الإنسان، فالاستشارة هي جَمْع خلاصة عقول الآخرين، وقد يتَّضِح بعد الاستشارة أمورٌ هي غائبةٌ قبل الاستشارة، وهي أيضًا مُهِمَّةٌ، ففي البيع والشراء والبناء وغيرها من شؤون الحياة تكون الاستشارة غايةً في الأهمية، فأنت قبل الاستشارة تعمل بعقل واحد، أما بعدها فتعمل بخلاصة عدد من العقول؛ مما يجعل المشروع أقرب إلى النجاح منه إلى الفشل، فالاستشارة والاستخارة أمرانِ مُهِمَّانِ في هذا الجانب. الدرس الخامس: في مشروعية صلاة الخوف بيان واضح لأهمية الصلاة وإقامتها جماعة، فهم رضي الله عنهم وهم أمام عدوِّهم مأمورون بأداء الصلاة وأيضًا جماعة، وهذا يُعطينا درسًا أن نُعيدَ حساباتنا مع الصلاة، فهؤلاء صلَّوها وفي وقتها جماعةً وهم أمام العدوِّ، وفي المقابل أناس يُؤخِّرونها وأيضًا فُرادى مع الأمن دون خوف، فسبحان مَن وفَّق هؤلاء المصلِّين وحَرَمَ أولئك المؤخِّرين! وهل يظُنُّ هؤلاء المؤخِّرون لصلاتهم أو يصلُّونها فُرادى، هل يظنُّون أنهم حقَّقُوا بذلك فوزًا دنيويًّا أو أخرويًّا؛ إنما خالفوا نصوصًا كثيرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفاتهم من الأجور الشيء الكثير، فخسروا تلك الخُطَى إلى المساجد، وخسروا انتظار الصلاة، وخسروا الجماعة، وخسروا دعوات المسلمين باجتماعهم، وخالفوا نصوصًا من الكِتاب والسُّنَّة صريحةً في حضور الجماعة، وفي المقابل هل ينتظرون بذلك رشدًا في عقولهم أو زكاةً في نفوسِهم أو انسجامًا في حياتهم فلا تستقيم الحياة كما نريد إذا لم تستقِم الصلاة، ولو تأمَّلوا أيضًا أن تلك الصلاة هي أول ما يُحاسَبُون عليه لهرعوا إلى تحقيقها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الله عز وجل يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وربَّما تسلَّل هذا الخَلَل إلى أولادِهم، فباءوا به؛ حيث إنهم هم الذين ربَّوهم عليه. الدرس السادس: في أحداث صلح الحديبية معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من دلائل النبوة، فإن المسلم عندما يقرأ هذه المعجزات يقوى إيمانه، ويزداد ثباتًا على دينه، وكم هو جميل جِدًّا أن نضع لأنفسنا وأولادنا جلسات أسريَّة مع تلك المعجزات? تقويةً لهم وتصحيحًا لمفاهيمهم وتعريفًا بنبيِّهم، ونستخرج منها أيضًا الدروس والعِبَر ليعرفوا تلك الدلائل بوضوح. الدرس السابع: عندما نزل المطر في صُلْح الحديبية أرشدَهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا: مطرنا بفضل الله ورحمته، وهذا هو المشروع عند نزول المطر مع حسر الرأس ليُصيبه المطر، كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم، ويشرع أيضًا أن يقول المسلم: اللَّهُمَّ اجعله صَيِّبًا نافعًا، فهذا ممَّا يشرع عند نزول المطر كما يشرع أيضًا كثرة الدعاء، فهو موطِن من مواطِن استجابة الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثنتانِ لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند المطر))؛ حسَّنَه الألباني. الدرس الثامن: يحسن مقابلة الناس بما يُناسبهم من المحاسن، فعندما أقبل عليهم الحلس رسولًا من قريش، وكان من قوم يحبون البُدْن، أقاموا له البُدْن، فأعجب بذلك، فلتكن مقابلتنا للناس وحديثنا معهم هو بما يناسبهم، وفيما هو من اهتمامهم وبما يعجبهم، إذا كان ذلك من المحاسن والمحامد؛ وذلك تأنيسًا لهم، واستفادة منهم، وتأليفًا لقلوبهم، وتقريبًا أيضًا لنفوسهم، ويظهر الفرق جليًّا واضحًا في فعل ما يضادُّ ذلك، فقد تخبو المجالس ويتسلَّل إليها المَلَل والكَلَل، وهذا مُشاهَد من الواقع. الدرس التاسع: في تلك الأحداث يظهر حُبُّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعجب رسول قريش بما يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له وإجلالًا له، وإن كان هذا حال الصحابة الكِرام مع نبيِّهم في حياته، فلنا بهم أسوةٌ في محبَّتِنا لسُنَّتِه بعد مماته، وتطبيقها والحرص عليها، وتربية أبنائنا عليها، فهي منهجنا مع القرآن في جميع شؤون حياتنا؛ في ديننا ودُنْيانا، فمَنْ حادَ عنهما، فقد ضَلَّ بقدر ذلك الميل والحياد، ومَنْ تمسَّك بهما عاشَ حياةً سعيدةً ومطمئنَّةً؛ سواء مع النفس أو الأقربين أو شرائح المجتمع المختلفة، فلنتعلم تلك السُّنَّة، ومن ذلك حفظ أذكارها فيما يُعرَف بعمل اليوم والليلة لأنفسنا وأولادنا، فلو جعلنا في هذا منهجًا محررًا، لكان خيرًا عظيمًا لأولادنا وأحفادنا، ففي كل أسبوع نوعان من الأذكار يتم تعلُّمُها وتطبيقهما وحفظهما، فسنأتي على كثيرٍ من السُّنَّة في زمن يسير، فاعزم العقد أخي الكريم على تطبيق ذلك مع نفسك وأولادك، لعلَّ الله عز وجل أن يجعل في ذلك الخير العظيم، ثم إنَّ دراسة السيرة هي غاية في الأهمية، فهي اقتداء وعِلْم وعمل وخير عظيم وتعلُّم للشمائل والأحكام الشرعية والآداب والأخلاق وما إلى ذلك، كما أنَّ مَنْ سَلَك ذلك التعلُّم لهذه السيرة فقد سَلَك طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا، والحاصل أنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ سيُسَهِّل له طريقًا إلى الجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقًا إلى الجنة))، ولو كانت قراءتُك في السيرة أو غيرها من العلوم قراءةً يسيرةً ومقتضبةً، وحتى لو كانت صفحةً في كل يوم، فإنك ستقرأ في السنة الكاملة ما لا يقل عن ثلاثمائة وستين صفحةً، وهذا لا شَكَّ أنه رِبْحٌ كبيرٌ، وعِلْمٌ غزيرٌ. أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرَّشاد، اللهُمَّ أوْصِلْنا دارَ السلام بسلام، وعافِنا واعْفُ عَنَّا، واغفر لنا وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصَلَّى الله وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعين.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (30) الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن أُرْسِل رحمةً للعالمين، وعلى آلِهِ وصَحْبه والتابعين، وبعد:الشيخ خالد بن علي الجريش فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، أيها الأكارم سبق معنا في الحلقة الماضية الحديث عن صلح الحديبية، وكيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه يريدون العُمْرة لا غيرها؟ وكيف وقفت لهم قريش صادَّةً لهم عن البيت؟ وذكرنا أيضًا المراسلة بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن قريشًا ردَّت النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى مكة، فجاءت الرسل للمفاهمة حيال هذا الرد، وذكرنا أيضًا نزول آية الخوف وشيئًا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نذكر إكمالًا لهذا الصُّلْح في الحديبية؛ فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية إلى قريش ليخبرهم بأنه قد جاء زائرًا إلى البيت وليس للقتال، فذهب خراش إلى مكة ووصل إليهم فأساءوا إليه وأرادوا قتله، فمنعهم الأحابيش من ذلك فخلَّوا سبيله، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما لقي، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عثمان بن عفان إلى قريش، فلما دخل مكة لقِيَه أَبَانُ بن سعيد وقد أسلم أَبَانُ بعد الحديبية، فحمله على دابَّتِه وأجاره حتى يُبلِّغ ما كلَّفَه به النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وكِبار قريش، فبلَّغَهم رسالةَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغ عثمان من كلامه، قالوا له: إنْ شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال عثمان رضي الله عنه: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واحتبست قريش عثمان عندهم ليتشاوروا في ردِّهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فطال هذا الاحتباس شيئًا من الوقت فشاعَ بين المسلمين أن عثمان قد قُتِل، فلما بلغت تلك الإشاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نبرح حتى نُناجِز القوم))، ثم دعاهم إلى البيعة فبايعوه رضي الله عنهم، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده اليُمْنى وقال: ((هذه يدُ عثمان))، فضرب بها على يده اليُسْرى، وقال: ((هذه لعثمان))، وكانت تلك البيعة على ألَّا يفرُّوا إذا حصل قتال مع قريش، وقد بايع الجميع النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا رجلٌ واحدٌ وهو الجَدُّ بن قيس، وقد اختبأ خلف جَمَلِه الأحمر، وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكم مغفورٌ له إلَّا صاحِبُ الجَمَل الأحْمَر))، فأتيناه فقلنا: تعالى يستغفر لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله، لأنْ أجِدَ ضالَّتي أحبُّ إليَّ مِن أنْ يستغفِرَ لي صاحِبُكم، وكان ينشد ضالَّةً له. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وقد قال الله تعالى فيها: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخُل النارَ أحَدٌ بايَعَ تحتَ الشجرةِ))؛ رواه أحمد، ولم يُعرَف موضع الشجرة بعد ذلك، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: رجعنا من العام المُقْبِل فلم نعرف موضِعَ الشجرة التي حصلت عندها البيعة، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده؛ حتى لا يُفتتن بها. ثم بعد أن تمت البيعة رجع عثمان رضي الله عنه إلى المسلمين، ولمَّا علمت قريش بالبيعة خافَ بعضُهم ورغبوا بالصلح، في حين رأى البعض الآخر اللجوء إلى الحرب، فقرَّرُوا التسلُّل إلى معسكر المسلمين ليشعلوا الحرب، فتسلَّل منهم ثمانون رجلًا على معسكر المسلمين، فتم أسْرُهم جميعًا، وأُحضِرُوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد حديثه صلى الله عليه وسلم معهم عفا عنهم وأطلقهم؛ وذلك رغبة منه في الصلح، وأنه لم يأتِ للحرب، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24]، ولما رأت قريش ذلك أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو ومَن معه، وقالوا له: ايتِ محمدًا فصالحه، ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع هذا العام ويعتمر من العام القادم، فلما أتاه سهيل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((قد سهل الله لكم أمركم))، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما تحدَّث سهيل مع النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((تخلوا بيننا وبين البيت نطوف به))، فقال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب إنكم دخلتم عَنوة- أي: قهرًا- ولكن لتطوفوا من العام القابل، ثم اتفقوا على شروط الصلح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب الكِتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم))، فقال سهيل: أمَّا الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب "باسمك اللهم"، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب باسمك اللهم))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسولُ اللهِ سهيلَ بن عمرو))، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إني لرسول الله وإنْ كذبتموني))، ثم قال لعلي رضي الله عنه: ((امْحُها))، فقال عليٌّ: والله لا أمحوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرني مكانها)) فمحاها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم. ولما كتب الصلح أشهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من الصحابة، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان، وشهد عليه من المشركين من كان مع سهيل في الصلح، ونسخت هذه الشروط لهذا الصلح، فكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومثلها مع قريش، وكانت بنود الصلح كما يلي: أولًا: يرجع محمد عامَه هذا فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل أتَوا إلى مكة ليعتمروا. ثانيًا: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين. ثالثًا: من أحب أن يدخل مع محمد دخل فيه، ومن أحَبَّ أن يدخل مع قريش دخل معهم. رابعًا: مَنْ أتى من قريش إلى المسلمين فيردُّونه إلى قريش، ومَن أتى من المسلمين إلى قريش فلا يردُّونه إلى المسلمين، وكان هذا أشدَّ الشروط على المسلمين. فكانت تلك هي شروط صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، فتعاقدوا عليها، وفي هذه الأثناء جاء أبو جندل- وهو ابن سهيل بن عمرو كاتب الصلح- إلى المسلمين مسلمًا، فقال أبوه سهيل: أول ما أقاضيك به يا محمد ابني أبو جندل، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إجازته أن يذهب إلى المسلمين فلم يُجِزْه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينها لأبي جندل: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم))، وقد حزن المسلمون على تلك الشروط وهم قد عزموا على أداء العمرة، وإنهم على الحق، وكان من أشدِّهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ألست نبيَّ اللهِ حقًّا? قال: ((بلى))، قال عمر: ألسنا على الحق وهم على الباطل? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلى))، فقال عمر: فلمَ نعطي الدنيَّة في ديننا? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني رسول الله، ولستُ أعصيه وهو ناصري))، وقال عمر مثل ذلك لأبي بكر، فرَدَّ عليه أبو بكر بقوله: إنه لرَسُول الله وليس يعصي ربَّه وهو ناصِرُه، فاستمسِكْ بغرزه، فوالله إنه على الحق؛ أخرجه البخاري، فلمَّا نزلت سورة الفتح بعد ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُمَر فقرأها عليه، فطابت نفسُ عمر، فكان عمر يقول: ما زلتُ أتصدَّق وأصلِّي وأعتق مما صنعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخافة من عقوبة كلامي معه. معاشر الأفاضل الكرام، لعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر المستفادة على أمل بإذن الله تعالى أننا سنُكمِل في الحلقة القادمة بإذن الله عز وجل ما تبقَّى من أحداث صلح الحديبية، فمن الدروس ما يلي: الدرس الأول: أن التفاهم بين كل طرفين هو من أهم الأخلاق والآداب بخلاف العنجهية والإقدام من غير تفكير، فهو له مفاسد عظيمة، فهؤلاء الرسل بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش. كل ذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم لجلب المصلحة ودرء المفسدة، وإن كان ذلك التفاهم في الصلح؛ إلا أنه يمكن اعتباره في جميع شؤون الحياة، خصوصًا في الشؤون الأسرية، فالتفاهم بين الزوجين، وبين الأب وابنه، والقريب وقريبه، والجار وجاره، كل ذلك غاية في الأهمية، أمَّا مَنْ يستعجل في اتخاذ القرار دون تفاهُمٍ أو مناقشة، فإن هذا يحصل عليه من المفاسد الشيء الكثير، كما أنه سيخسر شيئًا من المصالح، وسيشعر بعد ذلك بالندم، فيا معاشر الأزواج والآباء، والأقارب والجيران، لا تستعجلوا في اتخاذ القرار بينكم؛ لأن القرار إذا تمَّ اتخاذه وحصلت عليه المفسدة يصعب إرجاع المياه إلى مجاريها، فتأمَّلوا أحوالكم، وليتحمَّل بعضُكم بعضًا مقابل المصالح المرجوَّة، فلو فكَّر الزوجان قبل الفِراق وتفاهما، ففي الغالب لم يفترقا؛ لأن الأسباب أحيانًا تكون في موازين العقول السليمة أوهنَ من بيت العنكبوت، ومثل ذلك أيضًا الاستعجال بلفظ الكلمات في أوقات الأزمات، فهي تحتاج إلى تأمُّل وتفكير حتى لا يحصل الندم، فهذا الصلح لما كان فيه هذا التفاهُم حصل على إثره خيرٌ كبيرٌ؛ وهو الفتح والاستقرار وغيرهما، والحمد لله. الدرس الثاني: عندما ذهب عثمان إلى قريش للتفاهُم معهم أُشِيع أنه قُتِل، فالإشاعة لها سلبياتها، وأيضًا على مَنْ سَمِعَها أن يتثبت فيها؛ لأنه يترتب على الإشاعة أحيانًا فهومات سلبية ونظرات سيئة. ومن المنهج السلبي عند بعض الناس أن يكون هو الأسبق في نشر الخبر بغض النظر عن التثبُّت فيه، وهذا ليس منهجًا سليمًا في استقبال المعلومات؛ بل اجعل الناس لا يعرفون عنك إلَّا الحقيقة، أمَّا ما خرج عن دائرة الحقيقة فلا تتبعه نفسك لا استقبالًا ولا إفادة للغير، والله عز وجل يقول في استقبال الأخبار: ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، فلا تكن درجة من درجات الكذب، ولا مرحلة من مراحل الوهم؛ بل كن مع الحقيقة فقط. الدرس الثالث: عندما تسلَّل ثمانون رجلًا من قريش وأُسِروا، عفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك العفو هو لإدراك مصلحة كبرى؛ وهي الصلح، فكم هو جميل أن نعفو عمَّن أخطأ علينا لننال المصلحة الأكبر؛ وهي التآخي والتصافي، فالاستمساك بالحال الراهنة من دون نظر للمآلات والعواقب ليس من أخلاق الكبار؛ بل أخلاق الكبار تتجه حيث اتجهت المصالح الكبرى ولو خسروا بعض المصالح الدنيا، فلو كنا في شؤوننا ننظر للمآلات وعواقب الأمور والمصالح الكبرى لكانت حالنا أحسن وبكثير؛ بل لا أبالغ إن قلت: إن القضايا في الجهات الرسمية ستكون أقل عددًا وكمًّا، وسيرتاح الطرفان لو تفاهما ونظرا إلى المآلات والعواقب؛ ولكن كل مشكلة خلفها شيطان يؤزُّ عليها ويُحرِّكها، ويُعْمي عن المصالح المشتركة؛ ولكنها تحتاج إلى تأمُّل يسير. الدرس الرابع: عندما قدم سهيل بن عمرو للصلح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سهل أمركم)) وهذا جانب كبير من التفاؤل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل، فإن النفس تنشرح وتبتهج إذا عاشت التفاؤل صفة لها وسجية من سجاياها، فلنجعل حياتنا تفاؤلًا بالخير حتى ولو ضاقت نسبيًّا، فلا تُفكِّر في هذا الضيق بقدر ما تفكر بالإيجابية الموجودة فيه ولو كانت يسيرة فانطلق منها، فالمرض مثلًا ضيق، والفقر أيضًا ضيق ونحو ذلك؛ ولكن فيهما زاوية إيجابية؛ وهي تكفير الذنوب في الأمراض، وربما أن الفقر كان حائلًا عن كثير من الشرور ونحو ذلك، فالله عز وجل حكيمٌ عليمٌ. الدرس الخامس: في بداية الصلح لم ترض قريش أن يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولم يرضوا أيضًا أن يكتب "محمد رسول الله"، وفي هذا ظهرت غيرة الصحابة رضي الله عنهم غيرة شديدة، وهكذا المسلم يغار على دينه أن ينتقص منه شيء، فالغيرة على محارم الله هي صفة جليلة للمسلم يزداد بها قُرْبًا من الله عز وجل، وثباتًا على دينه، وبراءةً لذمته، وأمرًا ونهيًا لمن انتقص بفعل أو قول، وأمَّا إذا زالت الغيرة فقد يختم على القلب فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلَّا ما أُشْرِب مِن هواه، فالغيرة على النفس وعلى المحارم وعلى المسلمين أمرٌ عظيمٌ حثَّ عليه الشرعُ وأمَرَ به. الدرس السادس: أهمية صفة الوفاء بالعهد والعقد بأمانة وصدق، وذلك مقتبس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل عندما ذكر له أن هذا عقد تم مع قريش، وسيجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، فصفة الأمانة صفة عظيمة يدخل فيها الوفاء بالعهود والعقود والوعود، ويدخل فيها أيضًا الصدق في التعامل؛ سواء كان له أو عليه، وليعلم المُخْلِف للعهد والعقد والناقض لهما، وليعلم أيضًا الخائن للأمانة، وليعلم أيضًا المتعامل بالكذب، ليعلم هؤلاء جميعًا أن من ورائهم يومًا ثقيلًا وهو يوم القيامة، فإن أفلتوا من أيدي البشر بما يسمُّونه ذكاءً وفطنةً، فإن الله تعالى سيسألهم في يوم أحوج ما يكونون فيه إلى الرحمة والمغفرة، فماذا هم قائلون يومئذٍ?! وقد نقضوا العهود والعقود، وتعاملوا بالكذب والغش ونحو ذلك، فليتدارك هؤلاء أمْرَهم، وليشكروا الله عز وجل أن أحياهم إلى أن يتوبوا ولم يأخذهم على غِرَّة من أمرهم، فإن الحياة الدنيا هي يوم أو بعض يوم، وأمَّا الآخرة فهي الحياة الخالدة الباقية. الدرس السابع: في قول أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، درس عظيم في قوَّة إيمان أبي بكر وثباته وقوَّته وتصديقه، فالاستجابةُ ظاهرةٌ، فقد أزال عن نفسه كل شكٍّ وريب، فلا تزعزعه الرياح، وهذا كقوله رضي الله عنه في قصة الإسراء: "إن كان قاله فقد صدق"- يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فما أعظمَه من ثبات! وما أكملَه من إيمان! وما أبيضَه من قلب رضي الله عنه! فلنكن كذلك. الدرس الثامن: محاورة عمر للرسول صلى الله عليه وسلم حصل بعدها عند عمر إحساس بالخطأ في أنه تجاسَر بالكلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتبر ذلك خطأً كبيرًا وهو غيرة منه رضي الله عنه؛ ولكنه مع ذلك قال رضي الله عنه: ما زلت أتصدَّق وأصلِّي وأعتق؛ ليكون كفَّارةً لكلامي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف، فأين مَنْ يفعل المعاصي الظاهرة والباطنة?! وأيضًا ما لهؤلاء العصاة لماذا لا يُقدِمون على كثرة الأعمال الصالحة؛ لتكون كفَّارةً للسيئات ومنهاةً عنها؟! فإن الحسنة إذا زاحمت السيئة أزالتها بإذن الله عز وجل، فالمسلم الحق إذا فعل السيئة حاكت في نفسه أيامًا؛ لأنها مخالفة للخالق المنعم المتفضِّل الذي يقدر كل خير وشر لهذا العاصي، فجديرٌ بفاعل المعصية أن يخاف من شؤمها وأثرها ومن تتابعها، ويتأمَّل مستقبله الأخروي مُكثِرًا من الحسنات الماحية للسيئات، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وإذا تاب هذا العاصي من معصيته، فإنه يُبشِّر ببشائر عظيمة، فمن البشائر أن الله عز وجل يقلب سيئاته إلى حسنات، فيوفِّقْه لفعل حسنات يعملها بعد تلك التوبة، وأيضًا كذلك يُبشِّر بفرح الله تبارك وتعالى بتوبته تلك؛ لأنه عندما تاب فإن الله عز وجل يفرح فرحًا شديدًا بتوبة ذلك التائب، وأيضًا ممَّا يُبشِّر به هذا التائب من المعصية أن الملائكة تدعو له؛ بل وتدعو له ولوالديه ولزوجه وذريته؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر:7- 8] إلى آخر الآيات، فهذه بشريات متعددة عظيمة لمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى، فأين المسرفون والعاصون عن هذه البشائر؟ لماذا لا يقدمون? ما دام أن الله عز وجل أعطاهم المهلة، وأنه أبقاهم ولم يأخذهم على غِرَّة، فحريٌّ بنا جميعًا أيها الأخوة الكِرام أن نطبق قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وهكذا السيرة هي كلها دروس وعِبَر وحِكَم وأحكام وشمائل وأخلاق نستفيد منها في حياتنا أخلاقًا وعِلْمًا وعملًا. أسأل الله تبارك وتعالى للجميع الهُدْى والتُّقَى، والسَّداد والرشاد، والعفو والعافية، والصَّلاح والإصلاح في النية والذرية ولجميع المسلمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (32) الشيخ خالد بن علي الجريش أحداث السنة السابعة من الهجرة الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على مَنْ بَعَثَه الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد: أيها الأكارِم، مرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل، كان حديثنا في الحلقة الماضية عن الكُتُب والرسائل التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء خارج الجزيرة العربية، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد ذكرنا أنه أرسل عليه الصلاة والسلام إلى هرقل وإلى النجاشي، وكذلك أرسل إلى كِسْرى وإلى المقوقس في مصر، وإلى غيرهم، فمنهم من آمن؛ كالنجاشي، ومنهم من كاد أن يسلم ويؤمن؛ كهرقل، ومنهم مَن بقي على غيِّه وضلاله، وختمنا الحلقة بذكر بعض الدروس والعِبَر من تلك الرسائل، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نزدلف إلى أحداث السنة السابعة من الهجرة، فكان من أوائل تلك الأحداث غزوة خيبر، وكانت في آخر شهر الله المُحرَّم من السنة السابعة، وسببها أن خيبر كانت مكانَ تجمُّعٍ لليهود ومركزًا لإثارة القلاقل والفتن، وحيث كان اليهود في خيبر يعتمدون على إمداد قريش لهم، وقد انقطع ذلك الإمداد بحمد الله تعالى في هدنة صلح الحديبية، فتفرَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء اليهود في خيبر بعد ذلك الصلح الذي كان فيه عدم إمداد اليهود، فغزا خيبر وهي ذات حصون ومزارع، وقد وعد الله عز وجل نبيَّه عليه الصلاة والسلام بفتح خيبر؛ حيث يقول الله جل جلاله: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ [الفتح: 20]، فلمَّا تجهَّز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزو خيبر جاء الذين تخلَّفُوا عنه في الخروج إلى الحديبية، فلم يأذن لأحَدٍ منهم، وأمر مُناديًا يُنادي ألَّا يخرج معنا إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج معه إلَّا أصحاب الشجرة، وهم ألف وأربعمائة، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: ((الْتَمِس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر))، فالتمس أبو طلحة رضي الله عنه أنس بن مالك رضي الله عنه، وأنس قد قارب البلوغ، فكان يخدمه، فيقول أنس: كثيرًا ما أسمعه وهو يقول: ((اللهُمَّ إني أعوذ بك من الهَمِّ والحزن، والعجز والكَسَل، والبُخْل والجُبْن، وضَلَعِ الدَّيْن، وغَلَبَة الرجال))؛ رواه البخاري ومسلم، وهذا الذكر عظيم، فما أحوجَنا لحفظه وتحفيظه لأولادنا والدعاء به كثيرًا! فهو علاج لكثير من المشاكل النفسية والاجتماعية والمالية وغيرها. وفي مسير النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ( كان يُصلِّي عليه الصلاة والسلام وهو في مسيره على الدابَّة)؛ رواه مسلم، والمراد بهذه الصلاة هو النفل وليست الفريضة؛ لأن الفريضة لا تُصلَّى على الراحلة إلا في الضرورة، وأخرج البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسِرْنا ليلًا، فقال رجل لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك? وكان عامر شاعرًا ذا صوتٍ جميلٍ، فجعل يقول من الحداء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَنِ الحادي?))، قالوا: عامر بن الأكوع، فقال: ((يرحمه الله))؛ متفق عليه. ولما اقترب الجيش من خيبر باتوا قريبًا منها، ثم استيقظوا وصلَّوا الصبح بغلس، ثم ساروا إلى خيبر، ولما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال: ((اللَّهُمَّ رب السماوات وما أظلَلْن، ورب الأراضين وما أقلَلْنَ، ورب الشياطين وما أضلَلْنَ، ورب الرياح وما أذريْنَ، فإنَّا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذُ بِكَ من شرِّ هذه القرية، وشرِّ أهلِها، وشرِّ ما فيها))، ثم أتَوا إليهم مع بزوغ الشمس، وكان اليهود قد خرجوا حينها من حصونهم لمزارعهم ومواشيهم، فلمَّا رأوا جيش المسلمين مُقْبِلًا فزعوا وهربوا إلى حصونهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين))؛ رواه البخاري. وخيبر في ذلك العهد ممتلئة من الحصون؛ لكن أعظم تلك الحصون هي ثمانية، فأول حصن هاجمه جيش المسلمون هو حصن ناعم، وكان رئيسه مرحب اليهودي، فخرج يُنادي بالمبارزة، فخرج إليه عامر بن الأكوع، فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب على ترس عامر، فلم يُصِبْه، وأراد عامر رضي الله عنه أن يضرب مرحبًا في قدمه ليسقط، فانطلق ذباب سيف عامر عليه، فمات عامر رضي الله عنه، فقال بعض الناس: إنه قَتَل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذب مَنْ قال ذلك؛ إنَّ له لأجرين، إنه لجاهِدٌ مُجاهِدٌ))؛ رواه البخاري، وقد وجد المسلمون شِدَّة قويَّةً عند هذا الحصن، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الرايةَ لأبي بكرٍ، وقاتل قِتالًا شديدًا، ولم يفتح له، ثُمَّ في اليوم الثاني أعطى الراية لعمر بن الخطاب فقاتل قِتالًا شديدًا، فلم يُفتَح له أيضًا، وظلُّوا تسعة أيام يريدون فتح هذا الحصن فعجزوا عنه، وهو حصن ناعم، وفي ليلة العاشر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجُلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحِبُّه اللهُ ورسولُه، ولا يرجع حتى يُفتَح له))، قال عمر: فما أحببْتُ الإمارة إلَّا يومئذٍ؛ لهذه الفضيلة، وقال بريدة رضي الله عنه: وأنا فيمن أنتظرها، فبات الناس تلك الليلة يدوكون ليلتهم ويتحدَّثون أيهم يُعطاها، فهي فضيلةٌ عظيمةٌ؛ حيث يُحِبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله ويفتح الله عليه، فلما أصبحوا? قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين عليُّ بنُ أبي طالب?))، قالوا: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فجاء به محمد بن مسلمة يقوده، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ تمامًا كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب من حقِّ الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم))؛ متفق عليه، فذهب إليهم عليٌّ رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، فأدَّوا ما عليهم تجاه ذلك، فخرج بعد ذلك مرحب بطلب المبارزة قائلًا في أرجوزته: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ![]() شاكي السلاح بَطَلٌ مُجَرَّبُ ![]() إذا الليوثُ أقبلتْ تَلَهَّب ![]() فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يرتجز أيضًا قائلًا: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ![]() كَلَيْثِ غَابَاتٍ شَدِيدِ الْقَسْوَرَهْ ![]() أوْفِيهم بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ ![]() فضرب عليٌّ مرحبًا، ففلق رأسه فلقتين فقتله، ثم بعد ذلك افتتح الحصن بعد قتل مرحب، وكان ذلك على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ رواه مسلم. ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، وطلب المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه، فتبارز فقتله الزبير، ثم خرج رجل بعد ذلك من المسلمين وقاتل قتالًا شديدًا مع المسلمين، فكان يقطف الرؤوس من اليهود، فأعجب به الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو من أهل النار))، وقاتل هذا الرجل حتى كثرت عليه الجراح وأوجعته، فاستخرج من كنانته سهمًا فقتل نفسه، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا، وقال له: ((يا بلالُ، قُمْ فأذِّن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإنَّ الله ليُؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر))؛ متفق عليه. واشتدَّت مقاومة اليهود في هذا الحصن حتى فتحه المسلمون، فخرج اليهود منه هاربين إلى الحصن الثاني؛ وهو حصن الصعب بن معاذ، وكان هذا الحصن هو الحصن الثاني من حيث القوة والمنعة بعد حصن ناعم، فبدأ الحصار عليه حتى فتحه المسلمون خلال ثلاثة أيام. أيها الكِرام، ما أجمل الاطِّلاع والقراءة في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكِرام رضي الله عنهم! فهي دروسٌ وشمائل وأحكام وأخلاق وتربية وعلم وعمل، ولعلَّنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر مما سبق ذكره على أمل أننا بإذن الله تعالى سنُكمِل في الحلقة القادمة أحداث تلك الغزوة، فمِن الدروس ما يلي: الدرس الأول: أن المسلمين عندما منعوا من إكمال نُسُكهم في الحديبية كرهوا ذلك كراهةً شديدةً؛ ولكنه كان خيرًا عظيمًا جاء بتلك الصورة فتمَّ فتح مكة وكتابة الرسائل للملوك والزعماء، وكذلك انتشر الإسلام، وأيضًا انقطع إمداد قريش لليهود، وهذه وأمثالها مصالحُ عظيمةٌ، ويُستفاد من ذلك أيضًا درسٌ عظيمٌ؛ وهو عدم كراهية ما يُقدِّره الله علينا، ولو كرهته نفوسُنا، وقد يحصل لأحدنا شيءٌ ممَّا يكرهه؛ ولكن المؤمن الحق يعلم أن ما اختاره الله تعالى هو الخير، فلا تكره ما يُصيبك من قدر الله تعالى ممَّا لا ترغبه نفسك، فقد يكون الخير فيه وأنت لا تعلم، فلا تغرق في الولولة أو الحزن أو التأسُّف عندما يفوتك مرغوبك، فلا تعلم ما في القَدَر، ولا تعلم أين يكون الخير، أمَّا من قدر فوات هذا المرغوب فهو يعلم كل شيء، وهو أرحم بك وأرأف، فعليك بتسليم الأمر لله تعالى، ولا تقلق ولا تحزن. الدرس الثاني: أن أنَسًا رضي الله عنه عندما خدم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة كان يلاحظ أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله، فيستفيد منها، وهذا منهج قويم؛ فعلينا جميعًا كبارًا وصغارًا أننا إذا صحبنا أحدًا من أهل الفضيلة والإيمان أن نستفيد من سلوكهم وأفعالهم وأقوالهم، فقد يثبت في حياتنا عمل صالح نملأ به موازيننا بسبب صحبة فلان، فما أجمل تربية أنفسنا وصغارنا على ذلك! فهذا سلوك تربوي علمي إيماني كبير في القدوة والاقتداء، وعلى الآباء والأمهات الكِرام توجيه أولادهم إلى استحضار ذلك واستثماره، وهو وجه من أوجه التربية على الخير؛ بل أوصي الآباء الكِرام أنهم إذا أرادوا التعامل مع أهل الفضيلة والتربية أن يجعلوا أولادَهم أحيانًا وسيلةً بينهم وبين هؤلاء ليستفيد الأولاد، وإن أمكن توصية الأولاد بالاستفادة، وأيضًا توصية أصحاب الفضيلة بالإفادة، فهذا نور على نور، والله تعالى يهدي لنوره من يشاء. الدرس الثالث: في سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر للجهاد في فتحها ذكر الراوي أنه كان يُصلِّي النافلة على الدابَّة وهو يسير، وهذه سنة شبه مهجورة في حال السفر عند بعض المسافرين، فإن النافلة تُصلَّى على الدابَّة حال السفر مع السير فيه، ويُومئ المصلِّي برأسه للركوع والسجود كما ورد في حديث ابن عمر، ويُلاحَظ على كثيرٍ من المسافرين أنهم ينشغلون بسفرهم وحديثهم عن تلك السنة، ففي تلك السنة مواضع عظيمة لاستجابة الدعاء، وهي حال السجود، وقد اجتمع مع تلك الحال أيضًا السفر، وهو موضع إجابة، فالإجابة قريبة؛ فلنحافظ على ذلك معاشر المستمعين، فهي مما خفَّ عملُه وعظُمَ أجْرُه وأثره، ولا يُشترَط في تلك السنة استقبال القبلة. الدرس الرابع: حيث إن الجيش في غزوة خيبر كان مسافرًا من المدينة إلى خيبر، وحيث أرادوا إزالة المَلَل والتَّعَب والكَلَل عنهم، كانوا يرتجزون ببعض الحداء الأشعار، وهذا من المحاسن حتى يزول كلل المسافر وتَعَبُه؛ ولكن هذا مشروط بما هو مباح من الألفاظ والمعاني، وغير مصاحب للمعازف المُحرَّمة والمؤثِّرات الصوتيَّة التي تُشبه المعازف، فكم هو جميل أن يحدو المسافر مع رفاق بحداء يزيل المَلَل والكَلَل، ويفيد سامعيه بمعانيه الجميلة وأدائه الرائع، ومثله الأحاديث الوديَّة بين المسافرين هي مِمَّا تُزيل المَلَل؛ ولكن لا يصحبها شيء من الغيبة أو النميمة أو الكذب أو نحو ذلك، فإن كانت مصاحبة لشيء من آفات اللسان وعلله، فوالله، إنَّ المَلَل والكَلَل أطيب منها وأذكى، وإنَّ ممَّا يزيل المَلَل والكَلَل كذلك مناقشةَ هؤلاء الرفقة خلال سيرهم في سفرهم عن شيء ينفعهم في دينهم ودنياهم، فاجتماعُهم فرصةٌ أن يستفيد بعضُهم من بعض. الدرس الخامس: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه ((لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)). إن مجال دعوة الناس إلى الخير هو ميدان فسيح للتنافس والمنافسة؛ لأن هؤلاء المهتدين على يديك هم رصيدٌ لك في موازينك، ولا تحتقر شيئًا ولو كان يسيرًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مِثْلُ أجْرُ فاعِلُه))؛ رواه مسلم. وكلمة ((خير)) هنا نكرة؛ فتشمل الخير كله؛ صغيره وكبيره، وقليله وكثيره؛ ولهذا نماذج كثيرة من الدلالة على الخير، فأحدُهم يقول: عندما كنت في العاشرة من عمري علَّمني أحدُهم سيد الاستغفار، وهو سبب من أسباب دخول الجنة، فكنتُ أُكرِّر سيد الاستغفار كل صباح ومساء مع الأذكار، وقد بلغتُ الآنَ السبعين من عمري وأنا أكرِّره طوال تلك السنين، ويقول الآخر: دلَّني فلان على صيام يوم الاثنين، فبعد تلك الدلالة صمتُه ثلاثين عامًا، وما أزال أصومه، ويقول آخر: أرسل إليَّ أحدُهم رسالةَ جوَّال فيها فضيلة صلاة الضُّحْى، فصليتها بعد تلك الرسالة عشر سنوات وما زلت أُصلِّيها، ويقول الآخر: أقرأ الأذكار الصباحية والمسائية كل يوم وليلة منذ ثلاثين عامًا، علَّمني إيَّاها فلان، ويقول آخر: أقرأ آية الكرسي منذ خمسة وثلاثين عامًا، حفَّظني إيَّاها فلان، فيا بُشْرى هؤلاء وأمثالهم في دلالة الآخرين على الخير، فإن لهم مثل أجورهم. أخي الكريم، هل فكَّرت أن تجعل لك مشروعًا في هذا الميدان? فما عليك إلا أن تختار الأعمال والأقوال الفاضلة الثابتة مما تيسَّر تنفيذه وعظم أجره، واجعله مشروعًا لك بين أهلك وجيرانك وزملائك، وأيضًا في وسائل التواصُل لديك، فستنهمر عليك الأجور بإذن الله عز وجل وتملأ ميزانك منها، واسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبَّل منك وأن يعينك، ومن أمثلة تلك الأعمال والأقوال ما يلي: ركعتا الضُّحَى، وصلاة الوتر، والتسبيح مئة مرة في اليوم، وأذكار الصباح والمساء، ونحو ذلك مما ثبَتَ في السُّنَّة، فإنهم كثيرون أولئك الذين يعلمون تلك الأعمال؛ ولكنهم يغفلون أو ينشغلون عنها، فإذا خاطبتهم كنت دللتهم على هذا، ونِلْتَ مثل أجورهم، فاجعل ذلك واقعًا عمليًّا لك، فهو تجارةٌ مع الله تبارك وتعالى، وهي رابحةٌ بإذن الله عز وجل ولا تعرف الخسارة. الدرس السادس: أن قصة هذا الرجل الذي قاتل مع المسلمين ثم قتل نفسه عمدًا قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو من أهل النار)) فيه درس عظيم في الثبات على دين الله تعالى، فقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ((يا مُقلِّب القلوبِ، ثبِّت قلبي على دينك، وإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء))، فلنحرص جميعًا على أسباب الثبات على الدين، ولعلِّي أذكر شيئًا من تلك الأسباب، فمن ذلك ما يلي: أولًا: الدعاء دائمًا بالثبات على دين الله تبارك وتعالى في الدنيا وفي الآخرة، الثاني: مُجالسة الأخيار الذين يُعينونك على الثبات والتمسُّك، ثالثًا: من أسباب الثبات طلب العلم فهو سلاح متين للتعرُّف على الله تعالى وأحكامه وشرعه، الرابع: من أسباب الثبات على الحَقِّ دعوة الآخرين إلى الخير، فهذه الدعوة هي عبارة عن تثبيت لنفسك على الحق الذي هداك الله تعالى إليه، الخامس من أسباب الثبات: إذا رأيت مُبْتلًى فاحمد الله تعالى وادْعُ له ولا تشمت به، فيُصيبك ما أصابه، السابع من أسباب الثبات: عليك بالإكثار من العمل الصالح؛ فهو من المثبتات والمُعزِّزات، الثامن من أسباب الثبات: القراءة عن الضالِّين لتتجنَّب طُرُقَهم، التاسع من أسباب الثبات: تأمُّل وتدبُّر آيات الله تعالى المتلوَّة والمرئية في ملكوت السماوات والأرض، هذه جملةٌ أيُّها الكِرام من أسباب الثبات لنجعلها واقعًا عمليًّا لنا ولأولادنا وأهلنا، فما أحوجنا إليها! الدرس السابع: أن الشدة يتبعها الرخاء بإذن الله تعالى، وأن العسر يتبعه اليُسْر، إذا كان ذلك كله فيما يرضي الله عز وجل، فالصحابة رضي الله عنهم وجدوا مشقَّةً شديدةً في الحصن الأول من حصون خيبر؛ ولكن الشدة مع الصبر والعمل تزول، وفي هذا درسٌ عظيمٌ بأن الصبر هو مِفْتاح اليُسْر والرخاء، فنوصي شبابنا وأنفسنا بالصبر على الأعمال دُنْيا وأخرى، ولو كانت شاقَّةً على النفس فإن العاقبة حميدة، وذلك بخلاف من لا يصحب الصبر في أعماله، فقد يُخفِّق ويذهب جهده بلا فائدة تُذكَر، فالصبر مِفْتاح للنتائج والمخرجات الطيبة، وإن كان مذاقُه مُرًّا إلا أنه أحلى من العسل في نتائجه ومخرجاته، وعند عملك لأمور دينك أو دنياك خُذْ بهاتينِ القاعدتينِ الآتيتين، وهما: القاعدة الأولى: فكِّر في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب، والقاعدة الثانية: قاوِم ما تكره لتصل إلى ما تحب، اللهم وفِّقْنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وأوصلنا دار السلام بسلام، واغفر لنا ولوالدينا والمسلمين وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (33) الشيخ خالد بن علي الجريش الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فمرحبًا بكم أيها الإخوة الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن بداية غزوة خيبر؛ في سببها وزمانها وشيء من التفصيل عن الحصون فيها، وأيضًا ذكرنا كيف كان المسير إليها؟ ومتى بدأ القتال فيها؟ وأيضًا ذكرنا كيف وماذا لاقى المسلمون من الشدة في ذلك? وأيضًا كيف كان النصر للمسلمين؟ وختمناها بالدروس المستفادة منها. وفي حلقتنا هذه ما زال الكلام عن واقع تلك الغزوة التي هي غزوة خيبر، فقد أصاب المسلمين فيها جوعٌ شديدٌ، فروى البخاري ومسلم عن عبدالله بن أبي أوفى أنه قال: (أصابتنا مجاعةٌ يومَ خيبر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصبنا للقوم حُمُرًا خارجة عن المدينة، فنحَرْناها، وإنَّ قدورنا لتغلي إذ نادى منادي الرسول صلى الله عليه وسلم أنِ اكْفَؤُا القدور ولا تطعموا من لحوم الحُمُر شيئًا)؛ متفق عليه، فاستجابوا لذلك رضي الله عنهم وهم على حالة من الجوع، فأكْفَؤا القُدُور ومع شدة الجوع كانت أرضهم أيضا أرضًا وخمة وشديدة الحَرِّ، فصبروا رضي الله عنهم وأرضاهم، ومع توفيق الله تعالى لهم وإعانته إياهم فتحوها حصنًا حصنًا، وكان عدد القتلى من اليهود ثلاثة وتسعين رجلًا، وعدد القتلى من المسلمين خمسة عشر رجلًا، وقد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا بأنفسهم ولا يحملوا معهم شيئًا من السلاح ولا من غيره، وعند البخاري ومسلم: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخرج أهل خيبر سألوه أن يعملوا ويزرعوا فيها ولهم شطر ما يخرج منها)؛ متفق عليه، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الشرط، فزرعوا ولهم الشطر وللمسلمين الشطر؛ وقد كان لذلك أثر كبير في حياة المسلمين حتى قالت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك لما فتحت خيبر (قلنا: الآن نشبع من التمر)؛ رواه البخاري، وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما شبعنا حتى فُتِحت خيبر)؛ رواه البخاري، وكان مع تلك المجاعة وشدة الحر في زمن غزوة خيبر الشدة في فتح حصون خيبر الثمانية؛ حيث كان اليهود كلما فتح عليهم حِصْن هربوا إلى الحصن الثاني، فلمَّا فُتِح حصن ناعم وهو أكبرُها وأشدُّها ودام ذلك عشرةَ أيَّامٍ اتَّجَه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ، ففتحوه في ثلاثة أيام، ثم فتح حصن قلعة الزبير وفتحوه أيضًا خلال ثلاثة أيام، ثم تتابع المسلمون على الحصون يفتحونها حصنًا بعد حصن بحمد الله تعالى، فظهر عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وقتلوا مقاتلتهم وسبَوا ذراريهم، وبعد ذلك الفتح والمشارطة في البقاء في خيبر على شطر ثمارها، قال عليه الصلاة والسلام لهم: ((نترككم على ذلك ما شئنا))؛ رواه البخاري، ثم أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر بين أهل الحديبية؛ لأن الله عز وجل وَعَدهم إيَّاها، وفي غزوة خيبر جاء أعرابي وأسلم وخرج مع المسلمين إلى خيبر، وكان مع الجيش يحمي ظهورهم، فلمَّا قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم أرسل إلى هذا الأعرابي نصيبه، فلمَّا أتوا به إليه، قال: ما هذا? قالوا: قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم، ثم أخذه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما على هذا بايعْتُك؛ ولكني بايعْتُك على أن أُجاهِدَ فيرميني سَهْمٌ من ها هنا وأشار إلى حلقه، فأموت وأدخل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ))، ثم لبثوا وقتًا حتى نهضوا للقتال، فقاتل هذا الرجل حتى قُتِل رضي الله عنه، وأتوا به مقتولًا قد أصابه سَهْمٌ في حَلْقِه حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أهو هو?))، قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ))، فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال في دعائه: ((اللهُمَّ هذا عبدُك، خرج مُهاجِرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، فأنا عليه شهيد)). وروى الإمام أحمد والحاكم (أنَّ رجلًا من أشجع مات فلم يصلِّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال: ((صَلُّوا على صاحبِكم))، قال الراوي: فتغيَّرت وجوهُ القوم لذلك، فلمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، قال الراوي: فنظرنا في متاعه فوجدنا فيه خَرَزًا من خَرَز اليهود لا يساوي درهمين، وكان رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو أصابه سَهْمٌ فقتله، فقالوا: هنيئًا له الشهادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كَلَّا والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا))، فجاء رجل آخر بشِراك أو شِراكين، وقال: هذا كنت أصبته من المغانم يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((شِراك أو شِراكان من نار))؛ رواه البخاري. وفي غزوة خيبر قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففرح به النبي عليه الصلاة والسلام فرحًا شديدًا، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أدري بأيهما أنا أُسَرُّ؛ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر?))، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا وهو في خيبر مهاجرة الحبشة، وقدم أيضًا الأشعريُّون، وقدم أيضًا الدوسيُّون وفيهم الطفيل بن عمرو الدوسي، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى دوس يدعوهم إلى الإسلام، ومكث فيهم حتى قريبًا من سنة خيبر؛ أي: السنة السابعة، ثم قدم بمن أسلم معه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلوا بسبعين أو ثمانين بيتًا من المدينة، فيهم أبو هريرة رضي الله عنه، وكان من سبايا خيبر صفية بنت حيي رئيس اليهود، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلمت فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، وكانت قبل ذلك زوجة لكنانة بن أبي الحقيق أحد رجال كبار اليهود، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجهها أثرًا فسألها عنه، فقالت: كان رأسي في حجر زوجي ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت في المنام كأنَّ قمرًا وقع في حجري، فأخبرته في ذلك فلطمني وقال: هل تتمنين أن تتزوَّجي ملك يثرب? وقالت صفية: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامي من أبغض الناس إليَّ، فقد قتل زوجي وأبي وأخي، فأوضح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قائلًا: ((إنَّ أباك قلَّب عليَّ العرب، وفعل وفعل))، فقالت: فذهب ما في نفسي، وقد كانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه بحفصة هي عبارة عن حيس، وهو طعام مخلوط من السمن والتمر والأقط ونحوها، وقد رجع الجيش إلى المدينة بعد أن غاب عنها شهرًا كاملًا، ففي عودتهم إلى المدينة حدث أحداث، ومن هذه الأحداث ما يلي: الحدث الأول: أن المسلمين في رجوعهم كلما أشرفوا على وادٍ رفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارْبَعُوا على أنفسكم- أي: ارفقوا- إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا، وهو معكم))، وكان عبدالله بن قيس رضي الله عنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة? لا حول ولا قوة إلا بالله))؛ رواه البخاري. الحدث الثاني: فوات صلاة الفجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ساروا ليلة من الليالي في رجوعهم فباتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: ((اكْلأْ لنا الليل))، فناموا وقام بلال يصلي، ولما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته فنام، فما أيقظَهم إلا حَرُّ الشمس، فاستيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أي بلال))، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله، فانتقلوا من مكانِهم إلى مكان آخر فصلوها؛ رواه البخاري. الحدث الثالث: وصول الجيش إلى المدينة؛ حيث أقبلوا عليها، ولما قربوا من جبل أُحُد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا جبل أُحُد يحبُّنا ونحبُّه))، فلما أشرف على المدينة قال: ((اللهُمَّ إني أُحرِّم ما بين جبليها مثلما حرَّمَ إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهِم وصاعِهم، ثم قال: آيبون تائبون عابدون، لربِّنا حامدون))، فلم يزل يقولها حتى دخل المدينة؛ رواه البخاري ومسلم. أيها الكرام في ختام هذه الحلقة نتطرَّق لبعض الدروس والعِبَر من غزوة خيبر، فمن ذلك ما يلي: الدرس الأول: عندما حصل الجهد والجوع في غزوة خيبر نحَرَ الصحابةُ رضي الله عنهم بعض الحُمُر الأهليَّة، وذلك قبل تحريمها، فطبخوها وغلَتْ بها القُدُورُ، ثم جاءهم النهي عن أكلها وهم على تلك الحال من التعب والألم والجوع، فاستجابوا مباشرةً، فأكفأوا القُدُور، وهكذا شأن المسلم مع الأوامر والنواهي الشرعية ممتثلًا ومستجيبًا، فيا أخي الكريم، اجعل لك مع نفسك وقفة محاسبة في الأوامر والمنهيَّات الشرعية، فالذي أنْعَم عليك من النِّعَم ما لا تحصيه هو الذي أمرك ونهاك ألَّا تعصيه، فكيف يتمتع بنعمه ذلك العاصي في قلبه أو جوارحه?! ولكن كما استجاب هؤلاء الصَّحْب الكِرام، فلنكن نحن كذلك، فلنا بهم أسوة وقدوة وإيَّاك والاستدامة والإصرار على الذنب؛ فإنه مهلكة إن لم يعْفُ الله عز وجل، فسارِعْ في التصحيح قبل أن يفوت زمانه، فما أحوجنا لذلك! الدرس الثاني: في قول عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما "إننا بعد فتح خيبر سنشبع من التمر" فيه درس عظيم على توالي النِّعَم علينا في أصناف المأكولات والمشروبات وغيرها، وأن تلك النعم لها قيد يثبتها ويزيدها بإذن الله وهو الشكر بأركانه الثلاثة؛ وهي: الاعتراف بها في القلب، والتحدُّث بها في اللسان، وأيضًا صرف تلك النِّعَم في طاعة المنعم جل جلاله، فطبق تلك الأركان الثلاثة على كل نعمة مهما كانت لتكشف شكرك، هل هو حقيقي أم سراب? فلنعمل على توعية المجتمع في ذلك وهذا المجتمع هو أنا وأنت وأولادي وأولادك، ولنستثمر مجالسنا ووسائل تواصلنا في تلك التوعية؛ لعل الغافل ينتبه، والمسرف يرجع، والعاصي ينيب ويتوب، ومن شكر النعمة التصرُّف الحسن فيما يتبقى من المأكولات في البيوت والمناسبات بأن يصرف في مصارفه المناسبة، ففي مناسباتك اتِّصل على الجمعيات المعنية بذلك، فهم قريبون منك، فيأخذون ما تبقى من وليمتك، وأمَّا في بيتك فاجعل ما تبقَّى في تلك الأواني البلاستيكية وادفعها إلى المحتاجين فهم بانتظارك، أمَّا أولئك الذين يرمون ما تبقَّى من مأكولهم في النفايات العامة والعياذ بالله، فماذا ينتظر هؤلاء مقابل ذلك العمل؟ فيا ليتهم يفقهون ويرجعون. الدرس الثالث: في خيبر أخذ أحدهم خَرَزًا يسيرًا من المغانم، وأخذ آخر شَمْلة، وأخذ آخر شِراكًا أو شِراكين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوعيد هؤلاء؛ حيث أخذوا من مال المسلمين ما لا يحِلُّ لهم، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 161] فالأخذ بغير حق مهما كان المُسمَّى هو يأخذ حطامًا من الدنيا، ربما أنه غني عنه؛ ولكنه ليته يعلم بأنه إذا أخذه فإنه سيرجعه في يوم عصيب شديد تشيب منه الولدان، فما دام أن الأمر كذلك فالعاقل يرجع وينيب، وأمَّا من لم يخف ذلك فالموعد أمامه، وعليه غرمه ولغيره غنمه، فلا تستكثر أخي الكريم بما ليس لك، فإنَّ أمامك قنطرة الحساب يوم القيامة وأنت وحيد عارٍ وليس معك إلَّا حسناتك وسيئاتك، فتمثل ذلك اليوم عندما تأخذ ما لا يحل لك، فرجوعك الآن هو خيرٌ لك من ندمك وحسرتك يوم القيامة. الدرس الرابع: عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو إلى دوس يدعوهم إلى الله تعالى، ففعل ذلك رضي الله عنه، وأقام عندهم سنين حتى أسلم على يديه المئات والآلاف، ولنكن كذلك نحن في دعوة الآخرين ودلالتهم على الخير، فكُلُّ مَن عمل حسنةً بسببك، فلك مثل أجره، فاستثمر حياتك في ذلك من خلال أهل بيتك وجُلَسائك وزُمَلائك، وأيضًا وسائل التواصُل لديك، ولعلِّي أذكر صورتين من صور كثيرة لا تُحْصى في الدلالة على الخير، فالصورة الأولى: أحدهم دلَّ صاحبه على فضيلة صيام يوم الاثنين من كل أسبوع، فبدأ ذلك المدلول على ذلك يصوم هذا اليوم من كل أسبوع، فيقول هذا الصائم: صمتُ ثلاثين عامًا وما زلت أصوم. والصورة الثانية: أحدهم دلَّ شابًّا يافعًا لا يتجاوز عمره العاشرة، دلَّه على نوع من الذكر، وهو سيِّد الاستغفار الذي هو أحد أسباب دخول الجنة، فيقول ذلك الشابُّ: حافظت عليه، والآن بلغت السبعين سنة وأنا أُكرِّره كل صباح ومساء، ودلَلْتُ عليه غيري، فهؤلاء لهم مثل أجر ما عمل أولئك، فلنكن مثلهم، فما أجمل أن تجعل لك رصيدًا أخرويًّا في دلالة الآخرين على الخير! والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجْرِ فاعلِه))؛ رواه مسلم، فاستثمر ذلك حقَّ الاستثمار. الدرس الخامس: كانت وليمة صفية رضي الله عنها هي عبارة عن حيس وهو التمر والسمن والأقط، وكانت متواضِعةً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعظم النساء بركةً أيسرُهُنَّ مؤونةً)) وإن كانت تلك الوليمة في ذلك الوقت قد تتناسب نوعًا ما مع قلة ذات اليد؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قادر على أن يضع أكثر من ذلك؛ لكنه القدوة والأسوة عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة، وقد انفتحت الدنيا على الناس في وقتنا الحاضر بمآكلها ومشاربها بحمد الله عز وجل إلا أن حكم الإسراف هو باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه مُحرَّم ومذموم، وأنه ليس من علامات البركة، فعلى أصحاب الولائم والأفراح الكِرام أن يجتهدوا في التقدير، وقد يزيدون قليلًا؛ لكن ما نراه اليوم هو نوعٌ من الإسراف في كثير من الأفراح والمناسبات، ويا ليت من أسرف كفر عن إسرافه بالمحافظة على ما تبقَّى، ويتم صرفه بعناية في مصرفه الصحيح بطريقة أو بأخرى، وليعلم صاحب الوليمة أنَّ ما بيده من المال ليس هو حُرَّ في التصرُّف فيه؛ بل هو على أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وقد نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الإسراف، والمال مال الله فاتقوا الله في مناسباتكم، ومِمَّا يُنبِّه عليه في المناسبات كثرةُ المقبلات التي قبل الولائم التي هي في حقيقتها كأنها وليمة، فهناك أكباد جائعة، وأجساد عارية، وديون باهظة، فلنحمد الله تعالى ونتَّقيه ونشكُره على ما أعطانا؛ ولكن في مناسباتنا نجعلها على أمر الله ورسوله، فهو أعظمُ بركةً وأقربُ إلى السُّنَّة. الدرس السادس: أن المسافر قد يُصيبه المَلَل والتَّعَب والكَلَل من خلال سفره، فإشغال نفسه بذكر الله عز وجل أحيانًا هو ممَّا يزيل ذلك الكَلَل والتَّعَب كما كان حال الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته رضي الله عنهم، فكانوا إذا علوا نشزًا كبَّروا، وإذا نزلوا واديًا سبَّحوا، وكانوا يذكرون دعاء السفر، ويُصلُّون النافلة على الراحلة، وغير ذلك من العبادات والأذكار المطلقة والمقيَّدة، وهكذا كان حال رجوعهم من غزوة خيبر، فيا أخي المسافر، اجعل لك نصيبًا في طريقك من ذكر الله تعالى بأنواعه، فهو يسيرٌ في تنفيذه وعظيمٌ في أجره، فالكلمات الأربع: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، هي أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام بعد القرآن، فكرِّرها، وأيضًا لا تَنْسَ أن تدعو في سَفَرِك، فأنت في ساعةِ إجابةٍ، وهذه الأذكار كما أنها تزيل عنك التعب، فهي أيضًا تدخل عليك البهجة والسرور، وأيضًا تملأ ميزانك من الخير، وأيضًا كذلك صلِّ من النوافل ما كتب الله تعالى لك أن تصلي، فما أجملها من حال وسكينة وطُمَأْنينة، وعتابًا ثم عتابًا آخر على من اشتغل في سفره في غيبة أو نميمة أو سماع ما لا يحِلُّ سماعُه، نعوذ بالله من ذلك، ولنعلم أن القضية توفيق وحرمان وثواب وعقاب، فاختر منها ما ينفعُك. الدرس السابع: في رجوعهم من غزوة خيبر ناموا عن صلاة الفجر، وهذا النوم هم معذورون فيه؛ لأنهم جعلوا مَن يوقظهم؛ ولكن نام هذا الموقظ لهم وهم وضعوا أسبابًا للاستيقاظ؛ لذلك كان نومهم عن عذر، أمَّا من ينام عن صلاة الفجر ويصليها خارج وقتها بنوم لا يعذر فيه حيث لم يتخذ الأسباب الممكنة للاستيقاظ، فهذا لا يُعذَر بنومه هذا، ورُبَّما بعضهم تعمَّد وجعل المُنبِّه على وقت الضُّحَى، فإذا استيقظ صلَّى ثم ذهب إلى عمله، فهؤلاء إن لم يتوبوا ويرجعوا فهم على خطرٍ عظيمٍ؛ لأن تلك الصلاة هي على غير وقتها، فلا تقبل كمن حجَّ في غير وقته، أو صام رمضان في غير وقته من غير عذر، فليتدارك هؤلاء أمرهم قبل أن يلقَوا ربَّهم وهم على تلك الحال والعياذ بالله. الدرس الثامن: إن ممَّا يُقال في الرجوع من السفر دعاء السفر، فكما قاله عند ابتداء السفر، فهو أيضًا يقوله إذا ابتدأ الرجوع من السفر، وكذلك إذا أقبل على بلده قال: ((آيبون تائبون عابدون، لربِّنا حامدون))، فلنحرص على التمسُّك بسُنَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام. إن هذه الدروس والعِبَر أيها الكِرام ينبغي أن تُؤخَذ بعناية، وأن تكون سلوكًا لنا حتى نعمل على ما يُرضي الله تعالى ويُرضي رسولَه عليه الصلاة والسلام، فهكذا كانت السيرة تُصحِّح المفاهيم، وتُعلِّم الجاهلين، وتُربِّي الناس على سُنَّة نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، فما أحْرَانا أن نتعرَّف على سيرته صلى الله عليه وسلم، وأن نقرأ فيها، وأن نستلهم منها الدروس والعبر! حتى نكون مقتدين به عليه الصلاة والسلام. أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهدى والتُّقى والسداد والرشاد والعفو والعافية والصلاح والإصلاح في النيَّة والذُّريَّة، وصلَّى الله وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (34) الشيخ خالد بن علي الجريش أحداث وقعت بعد غزوة خيبر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.أيها الأكارم، مرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية الحالة الشديدة من الجوع والجهد الذي أصاب المسلمين في غزوة خيبر، وأيضًا ذكرنا كيف وفَّقَهم الله تعالى للنصر مع تلك الحال، وذكرنا أيضًا كيف فتحوا تلك الحصون لليهود على شِدَّتها، وذكرنا أيضًا كذلك قدوم مهاجري الحبشة على النبي عليه الصلاة والسلام في خيبر، وأيضًا ذكرنا كيف فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومِهم مع انتصاره على أعدائه، وذكرنا كذلك الأحداث التي حصلت في رجوعهم إلى المدينة، ثم ختمنا الحلقة بالدروس والعِبَر المستفادة منها، ونزدلف أيها الكِرام في حلقتنا هذه إلى أحداث كانت بعد خيبر، ومنها غزوة ذات الرقاع، وهذه الغزوة اختُلِف في تاريخها؛ فقال بعضهم: هي في الرابعة من الهجرة، وقال آخرون: هي في الخامسة، والصحيح الذي عليه أكثرُ أهل العلم أنها في السابعة بعد خيبر، كما ذكر ذلك في صحيح البخاري، وأيضًا كذلك ذكره ابن كثير وابن القيم وغيرهما، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن جموعًا من اليهود قد أجمعوا على حربه عليه الصلاة والسلام، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة من أصحابه حتى وصل إليهم، فهرب رجالهم على رؤوس الجبال، وبقي النساء، فأخذهن سبيًا، ثم خاف المسلمون أن يُغِيرَ هؤلاء اليهود عليهم، وقد حضرت الصلاة فصلَّى بهم صلاة الخوف، ومكثوا هناك صولات وجولات لمدة خمسة عشر يومًا، ولم يُقتَل بحمد الله أحدٌ من المسلمين، ورجعوا منتصرين بهذا السَّبْي من النساء، وكان مع السَّبْي امرأة وضيئة لرجل من اليهود؛ ففي صحيح البخاري (أن هذا الرجل كان غائبًا فلمَّا رجع بعد انصراف المسلمين بالسَّبْي ومعهم زوجته أقسم أن يَلحَق بالمسلمين فيمسك بزوجته أو يصيبهم بدم وقتل، فخرج يتبع أثرهم، وكان المسلمون قد نزلوا بشعب من الشعاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟)) فقال عمار بن ياسر وعباد بن بشر: نحن يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكونا على فم الشعب))، فخرج الرجلان إلى فم الشعب، فقال عباد لعمار: أي الليل تريد أوَّله أو آخره؟ فقال عمار: آخره، فاضطجع عمَّار فنام أول الليل، وقام عبَّاد رضي الله عنهما يُصلِّي، فوصل الرجل زوج المرأة إلى الشعب، فلمَّا رأى سواد عباد علم أنه حارسُهم، فرماه بسهم فأصابه، فانتزعه عباد من جسده، فرماه الرجل بسهم ثانٍ فانتزعه عباد من جسده، فرماه الرجل بسهم ثالث فانتزعه كذلك عباد، ثم ركع وسجد فأنهى صلاته، وأيقظ عمارًا، فقال: قم، فلمَّا رأى زوجُ المرأة عمارًا قد قام عرَف أن القوم علموا به، فهرب، فقال عمار لعباد: سبحان الله! أفلا أيقظتني أول ما رمى؟ فقال عباد: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها؛ رواه البخاري في صحيحه. ومن الأحداث التي حدثت بعد خيبر ما ورد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم؛ وهو مرداس بن ناهيك، فلما غشيناه قال الرجل: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟))، قلت: يا رسول الله، إنما قالها متعوذًا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فهلا شقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فَرَقًا من السلاح، كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) وأخذ يُكرِّرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أسامة رضي الله عنه: تمنيتُ أنِّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم؛ متفق عليه، وقال أسامة بعد ذلك: أعاهد الله ألا أقاتل أحدًا يشهد أن لا إله إلا الله؛ ولذلك تخلَّف أسامة عن موقعتي الجَمَل وصفِّين، وكان سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه يقول: لا أُقاتِل أحدًا حتى يقاتله أسامة، وفي نهاية السنة السابعة في غرة ذي القعدة أحرم المسلمون لعمرة القضاء، والمراد بالقضاء ليس هو قضاء عمرة الحديبية؛ لأنها لم تكن قد فسدت، فقد حلوا منها بالحلق والنَّحْر؛ لأنهم أحصروا؛ ولكن المراد بالقضاء- وتُسمَّى أيضًا عمرة القضية- هو ما وقع من المقاضاة بين المسلمين والمشركين الذي وقع في الحديبية السنة السادسة، فقد اتفقوا على عدة شروط، ومنها أن يعتمروا من قابل عمرة أخرى وليست بديلةً عن الأولى، فلو قلنا بديلة؛ لكانت الأولى فاسدة؛ ولكنها لم تفسد، فقد فعلوا الواجب عند الإحصار وهو الحلق والنحر؛ فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك العمرة الأخرى ولم يتخلَّف عنه أحد ممن شهد الحديبية إلَّا مَن توفي، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بألفين سوى النساء والصبيان، وساق النبي صلى الله عليه وسلم معه ستين بدنة، وحمل معه السلاح والرماح والدروع؛ خوفًا من غدر المشركين، فلما وصل إلى ذي الحليفة أحرم ولبَّى ولبَّى معه المسلمون، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن يتقدَّم بالخيل والسلاح إلى مَرِّ الظهران، وهو مكان بين مكة وعسفان؛ وذلك لاستقبالهم هناك، فلمَّا وصل محمد بن مسلمة إلى مَرِّ الظهران وجد فيها نفرًا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة عن ذلك فقال: إنَّ محمدًا عليه الصلاة والسلام يُصبِّحكم غدًا في هذا المكان، فخرج هؤلاء النفر إلى قريش فأخبروهم، فلمَّا وصل النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه إلى مَرِّ الظهران، ومكثوا فيه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نحرنا من أظهرنا شيئًا وأكلناه لنقدم مكة شباعًا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا أزوادهم بدل أن ينحروا ظهورهم، فجمعوها فدعا بالبركة فيها فأكلوا وشبعوا، وأخذوا الفضلة معهم، ثم ساروا حتى قربوا من مكة، فبعثت قريش مكرز بن حفص، فقابل النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة بقليل، فحدَّثه عن مجيئه، فعلم مكرز أنه جاء معتمرًا، فرجع إلى قريش، فأخبرهم بذلك، وأنه الشرط المشروط في صلح الحديبية، وقد أشيع في مكة أن أهل المدينة أصابتهم الحُمَّى، فخرج كثيرٌ من أهل مكة إلى الجبال المحيطة بالمسجد الحرام حتى لا تُصيبهم العدوى من تلك الحُمَّى، فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالرمل في الطواف؛ وهو الإسراع بالخطى مع تقارُبها، فلمَّا رأى المشركون ذلك النشاط منهم، قال بعضهم لبعض: ليس فيهم من حُمَّى، هؤلاء كأنهم الغزلان، وعند دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة يقول عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (سترناه وحرصناه من المشركين وغلمانهم أن يؤذوه، وقد صف المشركون صفوفًا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل المسجد الحرام مُلبِّيًا ومن معه بقوة ونشاط، فلمَّا اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه جلسوا ثلاثة أيام، فلمَّا انقضت الثلاثة أيام جاءت قريش إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالوا: أخرج عنا صاحبك فقد مضى الأجل الذي بيننا وبينه، فذكر عليٌّ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((نعم)) فخرج)؛ رواه البخاري. وهكذا أتمَّ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام ولأصحابه العمرة، قال ابن هشام: فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27]، وهو فتح خيبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دخوله إلى مكة سأل عن خالد بن الوليد، فقال: ((أين خالد؟)) وكان أخوه الوليد بن الوليد ممَّن اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب الوليد لأخيه خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنك، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما مثله جهل الإسلام))، وكان خالد قد خرج من مكة كراهية للنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، فلمَّا اطَّلع خالد على الكِتاب وقَعَ الإسلامُ في قلبِه؛ فأسلم رضي الله عنه قبيل الفتح. أيها الكرام، في ختام تلك الحلقة أذكر شيئًا من الدروس والعِبَر المستفادة مما سبق، ومنها الدروس التالية: الدرس الأول: في قصة عباد بن بشر وصلاته أثناء حراسته للصحابة رضي الله عنهم أخذ يصلي، فضُرِب بالسهام فصبر، وأقبل على صلاته، وهذا يعطينا درسًا عظيمًا في المحافظة على روح الصلاة وعلى لُبِّها وهو الخشوع، فهو متلذِّذ من جهة ومُعظِّم لها من جهة أخرى أن يقطعها، فإذا كان هذه حاله في الحرب، فكيف بحاله في السلم؟! فيا أيها الكرام الأفاضل، هل من عودة حازمة وجازمة في حضور القلب في الصلاة وعدم الاسترسال مع الخواطر والأفكار؟ ولنعلم جميعًا أن الشيطان هو من سيضيع تلك الصلاة في هذه الخواطر، فكن أخي الكريم ذا حزمٍ وعزمٍ في محافظتك على صلاتك، واعلم أنه لا يُكتَب لك إلَّا ما حضر قلبك فيه منها، فهذا المكان الصغير الذي تُصلِّي فيه، والذي لا يتجاوز مترًا في نصف متر، هو ميدان الجهاد بينك وبين الشيطان في الصلاة في المحافظة عليها أو تضييعها، فالحزمَ الحزمَ والعزمَ العزمَ على الاجتهاد في خشوعنا في صلواتنا، وأمَّا في انتقاص الصلاة سيُقال يوم القيامة: ((انظروا هل لعبدي من تطوُّع؟)) فعليك بالإكثار منها لعلها تكون مُتمِّمة، وكلٌّ أعلم بحاله في صلاته. الدرس الثاني:في قتل أسامة بن زيد رضي الله عنه للرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يُعطينا قاعدةً عظيمةً اجتماعيةً وشرعيةً ونفسيةً وتربويةً، وهي أنك تتعامل مع الناس حسب ظواهرهم، وتترك البواطن إلى الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أشققت عن قلبه؟)) فلو أن الناس تعاملوا بتلك القاعدة، لزال كثير من المشاكل بأنواعها، وإنَّما الواقع عند البعض- وربما أنهم قلة ولله الحمد- أنهم يظنُّون ظنونًا أخرى بالآخرين، والله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12] فسلموا رحمكم الله صدوركم ولا تُنقِّبوا عن البواطن؛ فذلك أزكى لكم وأربح وأنجح، أمَّا من تابَعَ الظنون السيئة فهو المتضرِّر الأول سلوكًا وسوءًا، فالأخذ بالظواهر هو الأيْسَر في الأفعال والأقوال، وأيضًا في سلامة الصدور ونقاء القلوب، وليس لذلك توابُع سيئة، أمَّا من كان غير ذلك فهو من سوء إلى سوء ولن تنتهي مشاكِلُه عند حدٍّ؛ بل هي تتكاثر وتتفرَّع. الدرس الثالث: في قصة قتل أسامة لهذا الرجل حصل ذلك التأثُّر الكبير من أسامة رضي الله عنه، فعندما كرَّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشقَقْتَ عن قلبه؟)) تأثَّر رضي الله عنه وأرضاه، ونحن في هذه القرون المتأخِّرة ها هي سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم نقرؤها ونسمعها، فهل المخالفون لها يتأثَّرون كما تأثَّر أسامة؟ فهي تُقرأ عليهم وهم يقرؤونها، فالمُسبِل لثوبه مثلًا يقرأ ويسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار))؛ رواه البخاري، وأيضًا كذلك النمَّام يسمع ويقرأ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنَّةَ نمَّام))، وأيضًا كذلك التارك لصلاته يقرأ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمَنْ تَرَكَها كَفَر))، وهكذا جميع المنهيات، فلنتأثَّر عند المخالفة أسوةً بهؤلاء الصَّحْب الكِرام حتى تمنَّى أسامة رضي الله عنه أنه لم يسلم إلَّا اليوم، وإن هذا التأثُّر له أثره الإيجابي على السلوك، وإيَّاك أخي الكريم واستدامة المعصية أيًّا كانت، فهي سبب لملء كِفَّة السيئات، وربَّما حصل في القلب الران؛ وهو تتابُع الذنوب على القلب، واعلم أن السيئة تجُرُّ أختها كما الطاعة تجُرُّ أختها، فلنحذر من سيئات أعمالنا، ولنعمل أيضًا على تكفيرها ومحوها. الدرس الرابع: فيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه؛ حيث جمعوا ما تبقَّى من طعامهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة فيه، فأكلوا وشبعوا، وبقي شيء كثير، وإن كان ذلك استجابة من الله تبارك وتعالى لدعاء نبيِّه عليه الصلاة والسلام، وبركة في هذا النبي الكريم، فنقول أيضًا: ممَّا يساهم في بركة الطعام أن يجتمع الناس عليه؛ ولذلك لما سأل بعضُ الصحابةِ النبي صلى الله عليه وسلم إنهم يأكلون ولا يشبعون، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لعلَّكم تتفرَّقون))، فقالوا: نعم، فأمرهم بالاجتماع، فإن الاجتماع على الطعام سببٌ ايجابيٌّ في كفايته لهم بإذن الله تعالى وحلول البركة فيه. الدرس الخامس: لقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد في عمرة القضاء، وكان ذلك قبل إسلامه رضي الله عنه، وكان خالد قد خرج من الحرم كراهيةً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلمَّا سمع الوليد ذلك وهو أخ لخالد سمع ذلك السؤال فبلَّغَه أخاه خالدًا، فكان ذلك سببًا في إسلام خالد، فكم هو جميل أننا في مناسباتنا نسأل عن الغائب ونطمئنُّ عليه، فإن هذا السؤال سيبلغه وسيزيد من الأُلْفة بيننا خصوصًا إذا رافق ذلك السؤال إرسال السلام أو المهاتفة ونحو ذلك، فهو نور على نور، وسلوك يوجب التآلف والتكاتُف، ومثل ذلك إذا ذكر فلان في المجلس فلنذكر إيجابيَّاته، فإن هذا سيبلغه فتزيد الأُلْفة والمحبَّة، وهذه سلوكيات طيبة يدعو إليها الإسلام وهي من محاسنه. الدرس السادس: إذا وصل المعتمر إلى مكة فإن الأفضل له أن يبدأ بالعمرة مباشرةً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُؤجِّلها؛ لكن إن كان متعبًا وقد لا يؤدي العمرة بارتياح وطُمَأْنينة، فله تأجيلها إلى الغد، ويبقى على إحرامه، وسبب ذلك؛ لأن النظر إلى ذات العبادة أفضل من النظر إلى زمانها ومكانها، ومثال ذلك صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد من حيث المكان؛ لكن إن كان يحصل على المصلي بصلاته لها في البيت انشغالٌ وذهولٌ بينما في المسجد أخشع، فصلاتُه لها في المسجد أفضلُ، وهكذا باقي النوافل، أمَّا الفرائض المحدَّدة بوقت معين فلا تُؤخَّر عن وقتها ويُؤدِّيها المسلم حسب قدرته وطاقته، وهذا كله من أجل أن تُؤدَّى العبادة بخشوع وطُمَأْنينة وحضور قلب. الدرس السابع: في قتل أسامة للرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم عتابًا شديدًا، وتأثَّر أسامة أيضًا رضي الله عنه تأثُّرًا بالغًا وهو يظنُّ أن هذا الرجل غير مسلم، فكيف بمَن يقتل المسلم عمدًا، أو رُبَّما حصل شجار وخصام ثم تماسُك بالأيدي؛ فأغوى الشيطان أحدهما على قتل صاحبه بضربة يظنُّ أنَّها لا تقتله؛ لكنها قتلته، فإن كان العتاب على فعل أسامة وهو في الجهاد، فكيف بهذا الفعل في إغواء الشيطان بخصومة ربما على أشياء تافهة لا تستحق الذكر، فيا ليتنا جميعًا قبل أن نفعل أو نقول شيئًا نتفكَّر في العواقب والمآلات، فإنها قد تكون وخيمةً وشديدةً على أشياء يسيرة يندم صاحبها أشد الندم؛ فلنحذر ذلك أشد الحذر، فإن الخصومة والشجار قد يبدآن صغيرين ثم يكبران وينموان من كلا الطرفين، والشيطان يؤزُّهم أزًّا، ثم يقع ما لا تُحمَد عُقْباه. فيا أخي الكريم، كُنْ عاقِلًا حكيمًا حتى في خصومتك، واستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، فإنَّه أصلح وأفلح لك في دُنْياك وأُخْراك، وما أجملَ الحكمةَ والعقل حتى في الخصومة! وما أجمل أيها الأخوة في أفعالنا وأقوالنا أن ننظر إلى مآلات الأمور! لا نستحضر اللحظة الحاضرة التي نعيشها الآن، وإنما ننظر ونتأمَّل ونتفكَّر فيما هو قادم، وفي نهايات الأشياء، فإن الأشياء قد تكون في لحظتها الحاضرة أمرًا سهلًا؛ لكنها في مآلاتها وعواقبها شيء شديد، فلنكن أيها الكرام على مستوى التفاعُل والحكمة مع هذه السيرة النبوية مقتبسين منها ما يفيدنا قولًا وفعلًا تربيةً لأولادنا وذلك بقراءتها والاطِّلاع عليها والمناقشة فيها، وأيضًا كذلك سماع كلام أهل العلم فيها، فإن هذا أيها الأخوة يُؤصِّل عندنا قاعدةً عظيمةً؛ وهي أن نتعامل مع أنفسنا ومع غيرنا سواء من الأقربين أو الأبعدين أن نتعامل حسب ما تُمْليه علينا تلك السيرة العَطِرة لا على ما تُمليه أهواؤنا ونفوسنا، فإن نفوسنا قد تُخْطئ وتُصيب، أمَّا هذه السيرة فهي سيرة المعصوم عليه الصلاة والسلام، وهو قدوتنا، والله عز وجل يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]، اللهُمَّ إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين، اللهُمَّ أوصلنا السلام بسلام، ووفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (35) الشيخ خالد بن علي الجريش أحداث السنة الثامنة من الهجرة الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية الحديث عن غزوة ذات الرقاع، وعن مشروعية صلاة الخوف فيها، وأيضًا عن مواقف عظيمة مُشرِّفة للصَّحْب الكِرام رضي الله عنهم في تلك الغزوة، وعرَّجنا أيضًا على حديث أسامة رضي الله عنه في قتل الذي قال: "لا إله إلا الله"، وذكرنا ملابسات ذلك الحَدَث، ثم ختمنا الحلقة بقصة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في إحرامهم لعمرة القضاء، مستلهمين من ذلك عددًا من الدروس والعِبَر من تلك الأحداث الجليلة، وفي حلقتنا هذه نذكر شيئًا من أحداث السنة الثامنة من الهجرة، فمن هذه الأحداث إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة رضي الله عنهم، ففي شهر صفر من السنة الثامنة من الهجرة قدم خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم إلى المدينة؛ ليسلموا، فلمَّا رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها))، ففي مسند الإمام أحمد وغيره بسند حسن أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما انصرف من الأحزاب قال: جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون مكانتي فيهم، ويسمعون منِّي، فقلت لهم: إني رأيت رأيًا فماذا ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت? قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي في الحبشة، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومِنا فنحن عند النجاشي وتحت ولايته، فهو أحَبُّ إلينا من محمد، وإنْ ظهر قومنا على محمد لحقنا بهم وأصبنا خيرًا، فقالوا: إنَّ هذا لهو الرأي الرشيد، فقلت لهم: اجمعوا شيئًا نهديه إلى النجاشي حال قدومنا عليه، فلمَّا قدمنا عليه أهديناه وحدَّثناه، فإذا هو يدخل عمرو بن أمية الضمري أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي في شأن جعفر وأصحابه، فكلَّمه ثم خرج من عنده، يقول عمرو: فخرجنا، ثم استشرت أصحابي في قتل هذا الرسول، وهو عمرو بن أميَّة، فشجعوني على ذلك فرجعت إلى النجاشي وقلت: أيها الملك، إنَّ هذا الرجل الذي خرج من عندك هو رسول رجل عدوٍّ لنا، فأذن لي لأقتله، فغضب النجاشي غضبًا شديدًا، يقول عمرو: فشقَّ ذلك عليَّ كثيرًا، ثم قال النجاشي: أتسألني قتل رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى؛ ولكن أطعني يا عمرو واتِّبِعْه؛ فإنه والله لعلى الحقِّ، وليظهرن على مَنْ خالفَه، فلمَّا قال النجاشي ذلك لعمرو انشرحَ صدرُ عمرو للإسلام، فترك أصحابه وخرج عامدًا إلى المدينة؛ ليُسْلِم، يقول عمرو: فلقيت خالد بن الوليد وهو خارج من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان? فقال خالد: والله لقد استقام الطريق، وإن هذا الرجل لنبيٌّ حقًّا، فسألحق به لأسلم، فقال عمرو: والله، ما جاء بي إلا هذا، قال عمرو: فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدنا منه خالد فأسلم، وشهد شهادةَ الحَقِّ، وأمَّا أنا فدنوت وقلت: إني أُبايعك على أن يغفر لي ما تقدَّم من ذنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله، وإنَّ الهجرة تجُبُّ ما كان قبلها))، قال فبايعتُه ثم انصرفت، فلما أسلم خالد وهو من هو في الشجاعة والقوة، وأسلم أيضًا عمرو بن العاص وهو من هو في الدهاء والذكاء والفطنة أسلم الناس بإسلامهما. وروى مسلم في صحيحه أن عمرو بن العاص بعد إسلامه قال: ما كان أحدٌ أحَبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجَلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصِفَه ما أطقتُ؛ لأنِّي لم أكن أملأ عيني منه، وأمَّا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فكان من قصة إسلامه أنه قال: كنت أعرف محمدًا أنه سيظهر على العرب والعجم، وما زلت أُعاديه وأحبُّ قتله حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في عمرة القضاء، فخرجت أنا مع خيل المشركين وتعرَّضْتُ له مرارًا لأقتله؛ ولكنه يصرف عنِّي، فقلت: الرجل ممنوع ومحروس، فلمَّا صالح قريشًا في الحديبية على الشروط المعروفة، ففكرت في الخروج إلى النجاشي أو إلى هرقل أو غيرهما فأتلبس باليهودية أو النصرانية، فبينما أنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، فتخلَّفت ولم أشهد دخوله بغضًا له، وكان أخي الوليد بن الوليد قد أسلم ودخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبني أخي فلم يجدني، فكتب إليَّ كتابًا يقول فيه: إني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وأنت مَنْ أنت? وهل مثلك يجهل الإسلام، وقد سألني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أين خالد?))، فقلت: يأتي به الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما مثله يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له، ولقدمناه على غيره))، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك وقد فاتك مواطن صالحة كثيرة، قال خالد: فلما قرأتُ كتابه زادني ذلك رغبةً في الإسلام، ورأيتُ أيضًا كذلك في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجتُ إلى بلاد خضراء واسعة، فقلت: إنها لرؤيا حق، فذكرتُ تلك الرؤيا للمفسِّرين فقالوا: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، وأمَّا الضيق فهو الشرك، فأجمعتُ نفسي على الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت صفوان بن أمية، فأشرت عليه بصحبتي إلى محمد، فأبى أشدَّ الإباء فافترقنا، فلقيت بعده عكرمة بن أبي جهل، فقلت له بالصحبة، فأبى كذلك أشد الإباء، فذهبت إلى منزلي فارتحلت راحلتي، فلقيت عثمان بن أبي طلحة، فذكرت له الصحبة، فأسرع الإجابة، فاتفقنا على الخروج من مكة بوقت مختلف، وكان موعدنا مكانًا يُقال له يأجج، وهو على بعد من مكة بثمانية أميال، فمن أتى قبل صاحبه فلينتظره، فالتقينا فجرًا في يأجج، ثم غدونا إلى المدينة، فلقينا عمرو بن العاص على راحلته، فقال: مرحبًا بالقوم، ما الذي أخرجكم؟ قلنا: أخرجنا الدخول في الإسلام، قال عمرو: وهذا الذي أخرجني، قال خالد: فاصطحبنا جميعًا حتى دخلنا المدينة، فأنخنا ركابنا بالحرة، فجاء مَنْ أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، ففرح بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم قصدت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقيت أخي الوليد، فقال: أسرع، فقد جاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومك وأصحابك، فهو ينتظركم، فأسرعنا المشي، فلمَّا رأيته فإذا هو يبتسم إليَّ منذ أن رآني حتى وقفتُ عليه وهو يبتسم، فسلمت عليه، فرَدَّ عليَّ السَّلام بوجْهٍ طَلْق، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلًا رجوت ألا يسلمك إلَّا إلى خير))، فطلب خالد رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالمغفرة عمَّا مضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلامُ يجُبُّ ما كان قبله))، وقال خالد بعد إسلامه بسنين: لقد منعني كثيرًا من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وكان إسلام هؤلاء الثلاثة في أوائل السنة الثامنة من الهجرة، وأسلم بإسلامهم خلقٌ كثيرٌ، فهؤلاء منهم من اتصف بالشجاعة والقوة؛ كخالد بن الوليد، ومنهم أيضًا من اتصف بالفطنة والذكاء والدهاء؛ وهو عمرو العاص، وأيضًا عثمان بن طلحة كان يملك مفتاح الكعبة، فبعد إسلامهم أسلم بإسلامهم خلق كثير، وفي هذه السنة نفسها أيضًا السنة الثامنة نزل تحريم الخمر التحريم القاطع، وقد كان تحريمها على مراحل: الأولى: هي في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [النحل: 67]، فكأنَّ الآية جعلت السَّكَر غير الرزق الحسن، ثم المرحلة الثانية في تحريك الوجدان بقول الله تعالى: ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 219]، وهذا يُوحي بأن الترك هو الأحسن، والمرحلة الثالثة: حرمت في وقت الصلوات الخمس، وهي خمسة أوقات، وأيضًا متقاربه في قوله تعالى: ﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، ثمَّ جاءت المرحلة الرابعة حيث تهيَّأت النفوس للتحريم النهائي، وهي قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] الآيات، فقالوا: انتهينا انتهينا، ثم سكب الصحابة رضي الله عنهم ما عندهم من الخمور على اعتياد بعضهم عليها، فما أحسن استجابتهم وأطوعها وأتمَّها رضي الله عنهم وأرضاهم! أيها الكِرام، لعلَّنا نختم حلقتنا تلك ببعض الدروس والعِبَر، ونستكمل سردنا التاريخي في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فمن هذه الدروس والعِبَر الدروس التالية: الدرس الأول: حسن استثمار المكان والمكانة وتسخيرها في الدعوة إلى الله تعالى، فالنجاشي لما كان في مكانه بالحبشة وبمكانته الكبرى فيها، وجاء إليه عمرو بن العاص قبل إسلامه أرشده النجاشي إلى اتِّباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقال له: إنه على الهدى؛ فكانت الشعلة الكبرى في اتجاه عمرو بن العاص للإسلام، فكلٌّ مِنَّا له مكان ومكانة حسب مستواه العلمي والاجتماعي والتربوي، فماذا لو أدَّى كل مِنَّا ما يجب عليه في المكان والمكانة الخاصين به في دعوة الآخرين حسب قدرته واستطاعته، وحسب ما يحسنه؛ لحصل من ذلك خيرٌ كثيرٌ وكبيرٌ، فالمُعلِّم في مدرسته، والمُعلِّمة في مدرستها، والإمام في مسجده، وكذلك الأب والأم مع أولادهم وهكذا، فلا تحقرنَّ شيئًا تفيد به مسلمًا من المسلمين؛ فذلك صدقة جارية لك بلا مالٍ ولا جهدٍ ولا تعبٍ، وتلك والله الغنيمة الباردة العظيمة، فلنكن كذلك مع الأباعد والأقارب. الدرس الثاني: إن من أهم الأشياء في إسلام خالد سؤالَ النبي صلى الله عليه وسلم عنه في عمرة القضية؛ حيث أخبره أخوه بذلك، فالسؤال عن الآخرين اهتمامًا بهم واطمئنانًا عليهم هو سلوك جميل وجليل خصوصًا إذا تمَّ إرسال السلام إليهم مع هذا السؤال، فهذا ممَّا يوصل القلوب بعضها ببعض، ويوجب المحبَّة، ويُزيل ما في النفوس من غِلٍّ، فالمناسبات واللقاءات والزيارات ونحوها هي مجالات خصبة لتحقيق ذلك الهدف النبيل لا سيَّما إذا كان السؤال من الأكابر عن الأصاغر في حين أن ذلك لا يكلف شيئًا، وهو ضمن كلام الجالسين وحديثهم. الدرس الثالث: في قصة عمرو وخالد أوضح لهما النبي صلى الله عليه وسلم أن التوبة تجُبُّ ما قبلها وتمحوه، وفي هذا ترغيب أيما ترغيب في عظيم أثر التوبة على صاحبها، فهي كما أنها تمحو الذنب والخطيئة فهي أيضًا تُبدِّلها بالحسنات، يقول الله تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، وهي أيضًا سبب في فرح الله تبارك وتعالى الشديد الكبير بتوبة عبده، ففي الحديث: ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده))؛ الحديث، وهي أيضًا سببٌ في دعاء الملائكة للتائب، قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وهي أيضًا سبب في الدعاء له بدخول الجنة مع الآباء والأزواج والذرية، قال الله تعالى على لسان الملائكة: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر: 8]، وهي أيضًا سبب في الوقاية من السيئات، قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ [غافر: 9]، فهذه جملة عظيمة من فوائد التوبة، فكيف لا يقبل العاصي بالتوبة عن معصيته وهو يقرأ ذلك في كتاب الله تعالى صباحًا ومساءً؟! وإنني بالمناسبة أُحذِّر من يستديمون المعصية؛ كالإسبال والعقوق والقطيعة وحلق اللحية والغيبة ونحوها، فأُحذِّر هؤلاء وأمثالهم من مزيد سيئاتهم ونقص حسناتهم مع الوقت، فإنهم لا يعلمون متى تكون نهايتهم لكن لعلهم يرجعون، ولعلهم ينيبون، ولعلهم يتذكرون، والذكرى تنفع المؤمنين. الدرس الرابع: في كتابة الوليد بن الوليد لأخيه خالد بن الوليد يدعوه إلى الإسلام ويخبره بما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه، في ذلك درسٌ لنا جميعًا أن نتواصى فيما بيننا بالمراسلات التي تُقوِّي الإيمان، وتوثق عرى التقوى، فما أجمل أن يقرأ أخوك رسالةً منك ورقيةً أو في وسائل التواصل تُوصيه فيها بخير أو تُحذِّره من شرٍّ، أو تُشعره بخطأ يجب أن يتخلَّى عنه! فيا أخي الكريم، لا تبخل على نفسك وإخوانك بذلك؛ ولكن عليك بالأسلوب المناسب، وأن تذكر شيئًا من محاسن أخيك قبل أن تذكر له شيئًا من مساوئه، فإن هذا أدعى للقبول والتقبُّل، وأُهنِّئك بالأجر العظيم الذي يعود لك وعليك من خلال ذلك، ومن أمثلة ذلك أن أحدهم أرسل رسالةَ جوَّال لصاحبه، فيها الدلالة على ركعتي الضُّحى فصلَّاها صاحبه بعد تلك الرسالة عشر سنين وما يزال يُصلِّيها فيا بُشراهما جميعًا بذلك الخير العظيم، فاجعل لك مع تلك الرسائل منهجية مدروسة ولا تغفل عنها. الدرس الخامس: عندما يريد أحدُنا عملًا من الأعمال الحسنة، فقد يجد بعض العقبات، فعليه بتجاوزها ما أمكن؛ فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما أراد القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام طلب من صفوان بن أمية أن يصحبه، فأبى وردَّ عليه ردًّا سيئًا، وكذلك طلب من عكرمة بن أبي جهل فأبى كذلك أشدَّ الإباء؛ ولكنه تجاوز تلك العقبات وأمثالها، وشد رحله، وخرج إلى المدينة، فهو تجاوز تلك العقبات ولم يقف عندها، فعندما تريد شيئًا حسنًا، فاستمرَّ، ولو وحدك؛ فسيُيَسِّر الله تعالى أمرك، ولا يتوقَّف مشروعك على الآخرين، فمَنْ توكَّل على الله كفاه وأعانه وسدَّدَه. الدرس السادس: عندما قدم خالد بن الوليد على النبي صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام عندما رأى خالدًا من بعد ابتسم وبشَّ في وجهه حتى وصله ورحَّب به؛ ولهذا ذكر خالد بن الوليد هذا وأعجبه، وصار لهذا الفعل البسيط؛ وهو الابتسامة والبشاشة مكانٌ كبيرٌ في نفس خالد بن الوليد، فعلينا جميعًا أيها الكرام حال لقاءاتنا بمن نعرف ومن لا نعرف البشاشة والابتسامة؛ فهي صدقة جليلة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة))، ولم يقيد بالمعرفة أو القرابة والصداقة ونحوهما، وذلك بخلاف من يعبس حتى في وجه من يعرفه حال اللقاء، فالابتسامة سلوك تربوي بديع، يشرق في وجه صاحبك ووجهك أكثر من إشراق الكهرباء، وهو دليل على المحبَّة وسلامة الصدر وطيب النفس. الدرس السابع: تأمَّل كيف كانت استجابة الصحابة رضي الله عنهم عندما حرمت الخمر مع أنها كانت مشروبًا مفضلًا عند الكثيرين منهم؟! ولكن بعد تحريمها كان مكانها الإهراق في السكك والطرق تخليًا عنها واستجابة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام، فعلينا أن ننظر ما اعتدناه من سلوكنا ممَّا لا يرضي الله تعالى ورسوله، فلنتخلَّى عنه؛ كالغيبة والإسبال والقطيعة والهجر نحوها، فهي سلوكيات سلبية تهدم ولا تبني، ففكِّر أخي الكريم في ساعتك تلك عمَّا وقعت به مما لا يرضي الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام محاولًا التخلِّي عنه، وأبشر بعد ذلك بالخير العظيم والعميم من الله تعالى الكريم بالإعانة والسداد والرشاد. الدرس الثامن: في إجلال عمرو بن العاص رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه أثرٌ عظيمٌ من آثار الإيمان، وإن كان ذلك من عمرو رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فلنعمل نحن على إجلال سُنَّته بعد وفاته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فعندما تعمل صالحًا أو تترك محرَّمًا ليصحب ذلك العمل والترك إجلال وتعظيم للآمر والناهي، فإن هذا من أسباب الثبات على الإيمان ورسوخ القدم والرغبة في العمل الصالح، وهذا قد لا يحتاج إلى جهد كبير منك إنما هو شعور داخلي يسري في ذهنك وفكرك وقلبك بتعظيم الشعيرة والشارع، فيا بُشْراك إن كان ذلك سجية لك. الدرس التاسع: إنَّ من المبشِّرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، فإنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه رأى تلك الرؤيا، فكان تأويلُها مِفْتاحَ خيرٍ له، وموقف المسلم من الرؤى أنه قد ورد في الشرع أنها إن كانت صالحةً؛ فإنه يحمد الله تعالى عليها، ويسأل عنها، ويُخبِر بها مَن يحب، وأمَّا إن كانت سيئة فإنه يستعيذ بالله من شرِّها ومن الشيطان، وينفث عن شماله ثلاثًا، ولا يخبر بها أحدًا، فإنَّها بعد ذلك لا تضرُّه بإذن الله تعالى، وإنَّنا لنعتب على بعض إخواننا وأخواتنا أن كل ما كان في منامهم من الخير أو الشر فهو على ألسنتهم للناس سؤالًا وإخبارًا، وهذا مسلك خاطئ وهو من الجهل، فعلى المسلم أن يسلك المسلك الصحيح حفظًا لنفسه ولغيره. وفي الختام أيها الكرام، هذه هي السيرة النبوية ملأى من الدروس والعِبَر والأحكام والحكم، فهي منهج قويم يسير عليه المسلم في دينه ودنياه، فما أجمل أن نجعل لنا مع أولادنا وأنفسنا جلسات مع تلك السيرة المباركة! علمًا وعملًا واستخراجًا لكنوزها من الدروس والعبر ورسمها على أرض الواقع لنا ولأولادنا حتى تتصحح مفاهيمنا وتصوُّراتنا وتحسن أيضًا سلوكيَّاتنا وأقوالنا وأفعالنا، وهي أيضًا باب كبير من أبواب طلب العلم الموصل إلى الجنة بإذن الله تبارك وتعالى، فلنجعل ذلك واقعًا عمليًّا لنا في بيوتنا، فسنعرف أثر ذلك بعد وقت يسير من هذه المُدارسة والمناقشة بيننا وبين أولادنا حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلا بُدَّ أن يظهر لها أثر؛ لأنها هي المعجزة الخالدة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين الذين لا خوف ولا هم يحزنون، اللهُمَّ أوصلنا دار السلام بسلام، واجعلنا ممَّن يُؤتى الحكمة، واغفر لنا ولوالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (36) الشيخ خالد بن علي الجريش أحداث غزوة مؤتة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا أيها الأكارم في حلقتنا الماضية قصة إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وهما مَن هما في الشجاعة والفطنة والذكاء والدهاء، وذكرنا كذلك الدروس المستفادة من إسلامهما. وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لأحداث غزوة مؤتة، ومؤتة هي قرية شرقي الأردن كما ذكر ذلك أهل العلم، وقد حدثت تلك الغزوة في السنة الثامنة من الهجرة، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه بكتاب إلى ملك بصرى، ولما كان في طريقه اعترض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان أميرًا على البلقاء، فقال: أين تريد? فقال الحارث: نريد الشام، فعرف شرحبيل أن الحارث من رُسُل محمد، فأمر به فأوثقه وضرب عنقه ولم يقتل غيره من رُسُل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قتل السُّفراء والرُّسُل من أشنع الجرائم، فقد جرت العادة أن الرُّسُل والسُّفراء لا يُقتَلون ولا يُؤذَون، فكانت هذه الحادثة بمثابة إعلان الحرب على المسلمين، فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَّ عليه ذلك، وندب الناس لقتال العدوِّ، فتجهَّز الناس وتهيَّأوا للخروج، فكان قوام الجيش ثلاثة آلاف مقاتل بينما كان عدد العدوِّ مائتي ألف مقاتل؛ مئة ألف من الروم، ومئة ألف من النصارى، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على جيش المسلمين ثلاثة من الأمراء، فقال: ))عليكم زيد بن حارثة، فإن أُصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة((؛ رواه البخاري في صحيحه. وقد ودَّعهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأوْصاهم بتقوى الله عز وجل، وأيضًا أوْصاهم ألَّا يقتلوا امرأةً ولا صغيرًا ولا كبيرًا فانيًا، وألَّا يقطعوا شجرًا ولا نخلًا، ولا يهدموا بيتًا، وعندما قرب المسلمون منهم وعلموا بعددهم الكبير والكثير تشاوروا؛ هل نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدد عدوِّنا فيمُدنا برجال أو يأمرنا بأمره؟ فقال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه: ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة؛ إنما نقاتلهم بهذا الدين، فانطلقوا فإنما هي الشهادة أو النصر، فمَضَوا بقوةٍ وعزيمةٍ، وهذه الغزوة شارك فيها سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وهي أول غزوة يُشارك فيها بعد إسلامه، فتحرَّك جيش المسلمين نحو العدوِّ فلقيهم عدوُّهم بعددهم الكبير في قرية يُقال لها مشارف، ثم قرب منهم العدوُّ، ثم انحاز المسلمون إلى قرية يُقال لها مؤتة فعسكروا فيها، فجعلوا يتجهَّزون للقتال، فجعل أميرهم زيد بن حارثة على الميمنة قطبة بن قتادة، وجعل على الميسرة عباية بن مالك، وخطَّطوا أمرهم، وتكامل توزيع مهامِّ الجيش، وهناك في مؤتة بدأ القتال المرير بين الجيشين ثلاثة آلاف مقاتل في مقابل مائتي ألف، فأخذ الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وقاتل هو والمسلمون بضراوة وبسالة وشجاعة حتى أدركته الرِّماح وتوالَتْ عليه الطعنات، فمات شهيدًا رضي الله عنه، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتل قِتالًا شديدًا ليس له مثيل حتى إذا تزاحَمَ بالقتال نزل من فرسه، وبدأ يُقاتِل راجِلًا، وهو يقول: يا حبَّذا الجنَّةُ واقترابُها ![]() طَيِّبةً وباردًا شرابُها ![]() والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها ![]() كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها ![]() عليَّ إن لاقيتُها ضِرابُها ![]() وكانت معه الراية بيمينه، فقُطِعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فلمَّا قُطِعت شمالُه احتضن رضي الله عنه الراية بين عضديه حتى استشهد رضي الله عنه، فعوَّضه الله عز وجل بدلهما بجناحين في الجنة؛ ولذلك يُسمَّى جعفر الطيَّار. وفي البخاري قال ابن عمر: وجدنا في جعفر بضعًا وتسعين ما بين طعنة ورمية، ثم أخذ الراية بعد زيد وجعفر عبدُالله بن رواحة رضي الله عنه، وتقدَّم على فرسه، ثم تردَّد لما رأى شدة المعركة وقوَّتها، ثم أخذ يقول: يا نفس إلا تُقْتَلي تموتي ![]() هذا حِمام المَوْت قد صَليتِ ![]() وما تمنَّيتِ قد أُعْطِيتِ ![]() إن تفعلي فِعْلهما هُدِيتِ ![]() ثم دخل في زحمة القتال بفرسه، وقاتل قتالًا شديدًا ببسالة وضراوة حتى قُتِل رضي الله عنه، فلمَّا سقطت الراية تشاوَر المسلمون فيمن يأخُذُها، فاستقرَّ الأمر أن يأخذها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أخبر الصحابة رضي الله عنهم بقتل الأمراء الثلاثة في يومها، فقد نَعَاهم عليه الصلاة والسلام وعيناه تذرفان، ثم قال: ((أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله))، ثم قال قتادة بعد ذلك: فمن يومئذٍ كان لقب خالد بن الوليد سيف الله المسلول، ولما حمل خالد الراية قاتل بقية يومه، ثم في اليوم التالي أحدث تغييرًا في أعمال الجيش، فجعل المُقدِّمة في المُؤخِّرة، وجعل المُؤخِّرة في المُقدِّمة، وجعل الميمنة في الميسرة، وجعل الميسرة في الميمنة، فلمَّا التقوا بالعدوِّ في اليوم الثاني استنكر العدوُّ حالَهم التي عرَفوها بالأمس، فظنُّوا أنهم جاءهم مَدَدٌ، وأيضًا كان لهذا التغيير تأثير إيجابي على نفوس المقاتلين، ثم حملوا على عدوِّهم حملةً شديدةً ببسالةٍ وقوَّةٍ، فهزم الله تعالى العدوَّ أسوأ هزيمة، وقتل المسلمون من عدوِّهم أعدادًا كبيرة وكثيرة، ثم بعد ذلك انحاز خالد وسحب جيشه شيئًا فشيئًا ليسلم الجيش، وانصرف بهم إلى المدينة حيث أثخنوا القتل في عدوِّهم، وخلال ذلك الانسحاب لم يُصَبْ أحدٌ من المسلمين، أما خلال الغزوة كلها فقد استشهد من المسلمين اثنا عشر رجلًا، أمَّا العدوُّ فلم يُعرَف عدد قتلاهم من كثرتهم؛ ولكنهم كثير جدًّا، ويدلُّ على هذا أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وحده استعمل في هذه الغزوة تسعة أسياف كُلُّها يقاتل بها المشركين؛ ولهذا يقول خالد رضي الله عنه: لقد اندقَّت في يدي يومئذٍ تسعة أسياف، فماذا يا ترى قتل خالد وحده بهذه الأسياف التسعة? وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خالد رضي الله عنه: ((اللهُمَّ هو سيف من سيوفِك فانْصُره))؛ رواه أحمد وابن حبان، وقال بعضهم بأن انحياز خالد للجيش شيئًا فشيئًا ظنَّ العدوُّ أن هذه خدعة من المسلمين تجاههم، فانحازوا هم أيضًا؛ فانحاز كل فريق إلى بلاده، فلم يقم العَدُوُّ بمطاردة المسلمين حتى وصلوا المدينة، وقال ابن إسحاق: لما دنا الجيش من المدينة تلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وجعل بعض الناس يقول: يا فرار فررتم في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسوا بالفُرَّار ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله))، وقال بعض أهل السِّيَر: ليس هذا لكل الجيش، وإنما هو للذين فرُّوا فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه))؛ رواه البخاري. وقد واسى النبي صلى الله عليه وسلم آل جعفر وأمر بأن يُصنَع لهم الطعام، فقال: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد أتاهم ما يشغلهم))؛ إسناده حسن. هذه هي الغزوة بإجمال واختصار، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر من تلك الغزوة: الدرس الأول: يتَّضح من خلال وصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في مؤتة رحمة الإسلام وعدله حتى مع غير المسلمين، فقد نهاهم أن يقتلوا امرأةً ولا صغيرًا ولا كبيرًا فانيًا ونحوهم، وهذا مظهر حسن من محاسن الإسلام، قد يكون سببًا في إسلام غير المسلمين مع أن هؤلاء المستثنين ليسوا بمسلمين، ومع ذلك نهى عن قتلهم، وهذا غاية في العدل والرحمة والشفقة وبُعْد النظر، ولنعلم أيها الأفاضل أن ذكر محاسن الإسلام لغير المسلمين هو سبب كبير في إسلامهم، وهذا واقع وكثير بحمد الله؛ سواء كان في الأخلاق والمعاملات أو في التشريعات والأحكام، فلنعمل على توعيتهم ودعوتهم؛ حيث إنهم بيننا من خدم وعمالة وشخصيات إدارية وطبية ومهندسين وغيرهم، فيا بشراك أخي الكريم عندما تكون مِفْتاحًا لشخص أسلم عن طريقك، فاعمل على تحصيل ذلك ولا تملَّ. الدرس الثاني: إن الجيش الإسلامي في مؤتة في يومهم الثاني أخذوا باستراتيجية الاستشارة، وعقدوا مجلسًا يستشيرُ فيه بعضُهم بعضًا، وهذه الاستشارة هي مربح عظيم على مستوى الأشخاص، وكذلك أيضًا على مستوى الهيئات والمنظَّمات، فإن الاستنارة بعقول الآخرين واستثمارها مربح عظيم وكبير، وربَّما انتظمت مصالح عديدة من خلال الاستشارة، فإنَّ الجيش في مؤتة رأوا إحداث التغييرات في ترتيب الأماكن للمقاتلين، واستحداث بعض الاستراتيجيات؛ مما حدا بجيش الروم أن يضع الاستفهام حيال ذلك، وكانت نتيجته أن الروم انحازوا وظنُّوا أن مددًا جاء إلى جيش المسلمين، وكان ذلك سببًا كبيرًا في نصر المسلمين بعد توفيق الله تعالى، فيا أخي الكريم، إن الاستشارة للآخرين كل في مجاله هي غاية في الأهمية، وإنَّ من المتفق عليه أنك عندما تعمل بخلاصة آراء وعقول أوْلَى وأحْرَى في النجاح من كونك تعمل بعقلك فقط، علمًا بأن استشارة الآخرين ليس فيها جهد كبير ولا مال مدفوع، فإذا عزمت على أمر ما فلا تستقل برأيك؛ فلربَّما حضر في ذهنك شيء وغابت عنك أشياء كثيرة، وحتى على مستوى العوائل والأُسَر في رحلاتهم أو أسفارهم العائلية أو نحوها من الجميل مناقشة ذلك معهم تدريبًا لهم واستفادة منهم، وإن وسائل التواصُل تُسهِّل استراتيجية الاستشارة فخلال وقت محدود تستطيع أن تستخلص آراء الآخرين، فكم من شخص عمل برأيه فقط فندم؛ سواء في البناء أو السفر أو العلاج أو الأثاث أو المركوب أو غيرها، فكن مستشيرًا بارعًا. الدرس الثالث: في غزوة مؤتة حصلت معجزة عظيمة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة في المدينة عن واقع الأمراء الثلاثة وهم في مؤتة، فأخبرهم باستشهادهم في اليوم نفسه، إن هذه المعجزات للنبي عليه الصلاة والسلام هي علم عظيم يكون سببًا في تقوية الإيمان والثبات على الحق؛ لأنها خوارق للعادة، فيحسُن بنا جميعًا الاطِّلاع والتعرُّف على تلك المعجزات تقوية لإيماننا وتثبيتًا لنا، وكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على دراسة ذلك بالأسلوب المناسب حتى تتصحح المفاهيم والتصوُّرات، ونحن في زمن أحوج ما نكون لذلك، فاعقد العزم على استحداث ذلك لك ولأسرتك مع ما في ذلك من الآداب والأحكام المصاحبة لتلك المعجزة، فيستفيد الجميع ويتربون على مائدة النبوَّة والحكمة. الدرس الرابع: ظهرت في الغزوة شجاعة خالد بن الوليد وحكمته وحنكته؛ فهو لما استلم الراية عمل على التجديد الإيجابي في الخطة المتبعة بعد استشارة الصحابة رضي الله عنهم، فإنَّ انحيازه بالمسلمين بعد أن أثخنوا القتل في جيش الروم هو نوع من النصر؛ إذ إن القوة ليست متكافئة كما ذكر ذلك ابن إسحاق، وهذا يحكي تاريخًا عاشه خالد بن الوليد رضي الله عنه مع الحروب ودروب القتال، ومما يدلُّ على شجاعته رضي الله عنه أنه قال: لقد اندقَّت في يدي يومئذٍ تسعة أسياف، فيا ترى ماذا وكم قتل بهذه الأسياف التسعة من جيش الروم؟ ويقول علماء السير: فأخذ خالد اللواء ثم حمل على القوم فهزموهم أسوأ هزيمة؛ حيث وضع المسلمون أسيافهم حيث شاؤوا، وتُؤكِّد رواية في صحيح مسلم أن المسلمين غنموا من الروم شيئًا كثيرًا بعد ولاية خالد حتى إن خالدًا أحيانًا يستكثر سلب القاتل كما حدث ذلك لعوف بن مالك رضي الله عنهما جميعًا، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليه))؛ رواه البخاري، وهذا شاهدٌ كبيرٌ على انتصار المسلمين في مؤتة مع عدم المقارنة في العدد والعتاد بين الجيشين. الدرس الخامس: في تلك الغزوة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع لآل جعفر طعام؛ حيث إنهم جاءهم ما يشغلهم، وفي مسألة صنع الطعام لأهل الميت ينبغي للمسلم أن يعرف فقهها، وألَّا يتجاوز حدَّها، فصنع الطعام لأهل الميت مشروع، أمَّا صنع أهل الميت الطعام للناس من أجل الميت فهذا من عمل الجاهلية، وعلى مَن صنع الطعام الاحتساب في ذلك وليس المباهاة والإسراف، ولربَّما إذا كان فيه مزيد من الولائم فإن أهل الميت قد ينشغلون بأشياء فوق مصيبتهم، فإن هذا الطعام هو لأهل الميت ولمن نزل عليهم من ضيوف مقربين، وعلى المعزِّين أن يكونوا خفيفين في تعزيتهم؛ ليُخفِّفوا على أهل الميت، وهذا الطعام هو وقت انشغال أهل الميت بمصيبتهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فقد أتاهم ما يشغلهم))، أما إذا ذهب انشغالهم فليرجع الأمر إلى طبيعته، ولا ينبغي أن يكون بيت العزاء موردًا ومصدرًا للولائم. الدرس السادس: إن من ينظر إلى المقارنة بين عدد كل من جيش المسلمين والروم، فإنه يعلم بيقين كيف ينصر الله تعالى أولياءه على أعدائه، فإن ثلاثة آلاف وهو عدد المسلمين لا يُقارن بمئتي ألف وهو عدد الروم، فإن قسمة هذا على هذا تعني أن مقابل رجل من المسلمين هو ستة وستون رجلًا من الروم؛ ولكن لنعلم جميعًا أن القضية سماويَّة وليست أرضيةً، وأن هؤلاء المسلمين على الفطرة، وأن الله عز وجل مع المؤمنين يؤيدهم وينصرهم وإن كان هذا في الحرب، فإن الله عز وجل يوفق عباده المؤمنين في السلم؛ فيبارك في أعمالهم ويسددهم ويعينهم، ومما يزيد المسلم سدادًا وإعانةً ومعيةً وتوفيقًا أن يكون ذاكرًا لله تعالى ومُكْثرًا من ذلك؛ لأنه ورد في الحديث القدسي كما رواه البخاري: ((وأنا معه إذا ذكرني))، ففي أشغالك أخي الكريم وظروفك وحاجاتك وذهابك وإيابك، لا تنس الإكثار من ذكر الله عز وجل من خلالها، فأبشر حينها أن الله عز وجل معك معينًا ومسددًا، واستشعر هذا وتذكَّره لتعلم حقيقته عن قرب، فإن بعض الناس قد تتوقَّف حاجاته مدة من الزمن وقد تصعب عليه بعض أموره، فعليه مع القيام بهذه الظروف والأشغال عليه أن يكون مكثرًا من ذكر الله عز وجل من التسبيح أو التهليل أو التحميد أو التكبير، أو أن يكون مكثرًا من الحوقلة، أو من كتاب الله تبارك وتعالى، فإن ما ورد في البخاري هو صحيح وواقعي على من جرَّبَه؛ حيث يقول في الحديث القدسي: ((وأنا معه إذا ذَكَرني)). الدرس السابع: في هذه الغزوة نموذج عظيم للصبر، فإن هؤلاء الصحابة سواء القادة أو غيرهم صبروا وصابروا، وبإذن الله عز وجل أثخنوا القتل في أدائهم، فإن النتائج الطيبة والمخرجات الحسنة لا تحصل إلا بالصبر، وهذا في شؤون الدنيا وأعمال الآخرة، فإن الصبر مُرُّ المذاق؛ ولكن عاقبته أحلى من العسل، فاصبر على شؤونك الدينية والدنيوية؛ ليحصل لك ما تريد، وتُحقِّق ما تصبو إليه، وتذكَّر دائمًا تلك القاعدة التي تقول: "فكِّرْ في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب"؛ إذ إن هذه القاعدة هي صالحة أن تكون سلوكًا لك في أمور دينك ودنياك، فإذا ما فكَّرت في المكاسب أولًا، فإنك تقدم على هذا العمل سواء كان من عمل الدنيا أو من أعمال الآخرة، وأمَّا إذا فكَّرت في المتاعب أولًا فالغالب أنك لا تُقدِم على هذا العمل، ففكِّر في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب، وجرِّب هذه القاعدة واجعلها سجيةً وسلوكًا لك، فستجد بإذن الله تعالى من خلالها خيرًا كثيرًا، واعلم أيضًا أن المشقة تزول ويبقى الأثر "وعند الصباح يحمد القوم السرى" أمَّا من لم يصبر فستجد أمره ذهب فرطًا؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]. أيها الكرام، ما أجمل أن نجلس مع أنفسنا، وأن نجعل لنا مع أولادنا برنامجًا في قراءة هذه السيرة النبوية العطرة! فكم ستستفيد فيها من الأحكام وتستفيد فيها من الحكم، وكم ستصحح فيها من السلوك، وكم ستعرف فيها من الآراء التي لربما كانت عندنا خاطئة، فتصححت من خلال قراءة السيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، فأقترح أخي الكريم أن تستحدث مجلسًا في بيتك لك ولأولادك، وأيضًا كذلك مجلسًا مع زملائك في رحلاتكم وذهابكم وإيابكم حتى تستخلصوا ما كتبه أهل العلم وأهل السير عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتتعرَّف عليها عن قرب، وتعيش الأحداث وتُصحِّح المفاهيم والتصوُّرات؛ ومن ثم يجتمع العقل ويتصحَّح الفكر ويعمق التفكير، وهذه نتائج عظيمة وكبيرة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المُفْلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهُمَّ إنَّا نسألك الهدى والتُّقى والسداد والرشاد والعفو والعافية لنا ولجميع المسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (37) الشيخ خالد بن علي الجريش بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد: فمرحبًا بكم أيُّها الكِرام، في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الكِرام كان حديثنا في الحلقة الماضية عن غزوة مؤتة في تاريخها وسببها، وأيضًا كيف تجهَّز المسلمون لها، وأيضًا تحدَّثْنا عن قوَّادِها الثلاثة، وعن عدد كل من المسلمين والكُفَّار، وأيضًا تطرَّقْنا إلى شجاعة القوَّاد الثلاثة رضي الله عنهم، ثم أتبعنا ذلك بشجاعة خالد بن الوليد رضي الله عنه بعدهم، وكيف كانت نتيجة تلك الغزوة، مع ذكرنا للدروس والعِبَر منها، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نتطرَّق لعددٍ من السرايا التي حدثت في هذه السنة الثامنة، فمن ذلك سرية ذات السلاسل، والسلاسل هو موقع ماء بأرض يُسمَّى السلاسل، فسُمِّيت السرية به، وقد وقعت في شهر جُمادَى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة، وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن جموعًا من العرب قد أجمعوا رأيَهم أنْ يُغيرُوا على المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، وكان حديثَ عَهْدٍ بإسلام؛ إذ إنه أسلم قبل أربعة أشهر، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرو، اشدد عليك سلاحَك ثم ائتني))، قال عمرو فأتيته وهو يتوضَّأ، فنظر إليَّ وقال: ((يا عمرو، إني أريد أنْ أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال زعبةً صالحةً))؛ أي: أمدُّك بالمال، فقال عمرو رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أسلمت رغبة في المال؛ ولكن في الجهاد معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَ المالُ الصالحُ للرجُلِ الصالِحِ))؛ أخرجه أحمد بإسناد صحيح. ثم عقد لواءه وبعثه في ثلاثمائة رجل ومعهم ثلاثون فرسًا، فخرج بهم عمرو رضي الله عنه يسير بالليل، ويكمن في النهار، فلمَّا قرب من القوم بلَغَه أن عددَهم كبيرٌ وكثيرٌ، فبعث رافع بن مكيث الجهني رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدُّه بمدَدٍ من الرجال، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح في مئتين من الصحابة، فيهم: أبو بكر، وعمر رضي الله عنه، وعن الجميع، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يجتمعا ولا يختلفا، فلحق أبو عبيدة رضي الله عنه ومَنْ مَعَه، فلمَّا وصلوا إليهم حصل خلافٌ يسيرٌ بين عمرو وأبي عبيدة، فتذكَّر أبو عبيدة كلامَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فانقاد لعمرو، فسار الجيش حتى وطئ أرض العدوِّ، فترامَوا بالنَّبْل فترةً، ثُمَّ حمل عليهم المسلمون، فهرب الأعداء وتفرَّقُوا في البلاد، وأمر عمرو ألَّا يُوقِدَ نارًا في الجيش، وكذلك لقوا العدوَّ من الغد فهزموهم، فأراد بعض الجيش أن يتبعوهم حتى يثخنوا فيهم، فنهاهم عمرو عن ذلك، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة، فناموا في ليلتهم فاحتلم عمرو في ليلة باردةٍ شديدةِ البرودةِ، فخرج إلى أصحابه وأخبرهم بذلك، فغَسَل فَرْجَه وتوضَّأ وضوءه للصلاة، وفي رواية أنه تيمَّم، وفي رواية أخرى أنه توضَّأ وتيمَّم عن الباقي من الغسل، ثم صلَّى بهم، فلمَّا وصلوا المدينة ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكروا تلك الثلاثة كلها، وهي عدم إيقاد النيران مع شدة البرد، وعدم اتباع العدو، وكذلك صلاته بهم وهو جُنُب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال عمرو رضي الله عنه: خشيت إن أوقدوا نارًا أن يرى العدوُّ قِلَّتَهم، ونهيتهم عن اتباع العدوِّ خشيةَ أن يعطف العدوُّ عليهم من ورائهم، وأمَّا عدم غسلي، فخشيت أن أهلك وتذكَّرْتُ قولَ الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّه ولم يقل شيئًا، ومن السرايا أيضًا سرية عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه إلى الغابة، وكان سببها أنَّ رجلًا من بني جشم، يُقال له: رفاعة ابن قيس، قد نزل في جَمْع عظيم من قومه في الغابة، يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي، وكان عبدالله قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعينه على مَهْرِ زوجتِه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((كم أصدقتها?))، فقال: أصدقتُها مئتي درهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنتم تغرفون الدراهم من واديكم هذا ما زدتم، ما عندي ما أعطيك))، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله ورجلين معه من المسلمين، فخرجوا إليهم هؤلاء الثلاثة، فتمكَّن عبدالله رضي الله عنه من قتل رفاعة ابن قيس، فلما قتل رئيسهم؛ هربوا وتفرَّقُوا وضعفوا فسَبَوا منهم نساءً، وأخذوا منهم إبلًا وغنمًا كثيرة، وجاؤوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد تلك السرايا والأحداث في تلك السنة الثامنة جاء الفتح العظيم المبين، وهو فتح مكة، وهو الفتح الذي أعَزَّ الله تعالى به دينَه ورسولَه وحزبه المؤمنين، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا، وقد طَهَّر الله تعالى بهذا الفتح بيتَه من أدران المشركين؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]، وقال الله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10]. إن هذا الفتح هو كما سمَّاه الله تعالى فتحًا، فقد كان سببًا كبيرًا للتفريج عن المسلمين، وانتشار الإسلام، وكبت الكافرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا هِجْرةَ بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استنفرتم فانفروا))؛ رواه البخاري ومسلم. ومعنى الحديث: لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها كانت بعد الفتح دار إسلام. وفي هذا الحديث دليلٌ على أن مكة ستبقى إلى قيام الساعة دار إسلام، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم. إن فتح مكة حدثٌ عظيمٌ وجسيمٌ وكبيرٌ، وتغيَّرت الأحوالُ بسبب هذا الفتح، فأعزَّ الله عباده وجنده؛ ولكن تبقى بعض الأسئلة عن هذا الفتح؛ في سببه، وكيف كان التعامل مع هذا السبب? وما هو موقف قريش من هذا الفتح? وما هي الأحداث الإيجابية للمسلمين التي صاحبت هذا الحدث? وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش? وما هي نتائج هذا الفتح المبين؟ وما مقدمات هذا الفتح؟ إن الإجابة عن تلك الأسئلة هو ما سنعرفه بإذن الله تعالى في خلال الحلقة القادمة بإذن الله عز وجل، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر مما تم ذكره، فمن ذلك ما يلي: الدرس الأول: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قد أسلم في شهر صفر، ثم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا في شهر جُمادى الأولى، فكان بينهما قرابة أربعة أشهر، فتأمَّل حسن استجابة عمرو لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث عهد، وهكذا شأن المؤمن إذا عرَف الحقَّ، فإنه يملأ قلبه منه، ويحمد الله تعالى أنْ هَداهُ إليه، ولا يكون مُتذبذِبًا ولا مُتأرجِحًا؛ وإنما تراه في ازدياد من الخير، فيا أخي الكريم، إذا وفَّقَك الله تعالى وهداك إلى حسن بعد سوء، وهدًى بعد ضلالة، فاثبت ولا تتزعزع، واحرص على ما يقوِّيك على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل عَمْرًا قائدًا لتلك السريَّة إلا وقد رأى كفاءته وصلابة دينه وتمسُّكه؛ فحريٌّ بنا جميعًا أن نكون كذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]، وذلك بخلاف من يعرف الهدى بعد الضلال ويهديه الله تعالى إلى سواء الصراط، ثم يبقى مُتمسِّكًا ببعض واقعه السابق السلبي من رفقة أو صحبة سيئة وأفعال وأقوال يزعم المشقة بالتخلي عنها ونحو ذلك؛ بل عليه أن يستثمر تلك الفرصة العظيمة وهي الهداية، فهكذا كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يزداد إيمانه يومًا بعد يوم حتى أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقود عددًا من الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عن الجميع. الدرس الثاني: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: ((نِعْمَ المالُ الصالحُ للرجل الصالح))، في هذا درس عظيم في معرفة فقه المال الصالح والمراد به. إن كلمة "نِعْمَ" هي كلمة مدح، وإن الممدوح في الحديث هو المال الصالح الطيب النقي، ويقتضي هذا ذمَّ المال السيئ الذي يكتسبه المرء من طرق غير مشروعة، وإن هذا المال الصالح هو ممدوح للرجل الصالح الذي ينفقه في الخير، وذلك بخلاف الرجل السوء الذي قد يكتسب مالًا صالحًا ثم ينفقه في سوء، فإن هذا الحديث أوضح المدخل والمخرج للمال بحيث يكونان صالحينِ، فإنه ممدوح، أمَّا إذا تخلَّف أحد الوصفين فإنه لا يستحقُّ المدح والثناء؛ فقد يكون المال صالحًا ومصروفًا في سوء؛ فهذا مذموم، وقد يكون المال سيئًا ومصروفًا في صلاح؛ فهذا مذموم؛ ولكن الممدوح الكامل هو المال الصالح في المصرف الصالح، فهذا المال بهذا الوصف سينجو صاحبُه عندما يسأل عن مالِه من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنْفَقَه? فتأمَّل أخي الكريم أموالك في مورِدِها ومصرفها، فإنه لا يرد عليك شيء أو يصدر منك شيء إلا وأنت مسؤول عنه، فقبل أن تستلم ما يرد عليك أو تصرف ما يصدر منك تأمَّل المورد والمصدر، وكونه موافقًا لأمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، أمَّا السعي الحثيث اللاهث وراء المتشابهات موردًا ومصدرًا، فإنَّ صاحبَه على خطرٍ عظيمٍ، فتأمَّل قبل أن يفوت الأوان فلا تستلم شيئًا أو تصرف شيئًا من تلك الأموال إلا وعندك حُجَّة لك تكون وقايةً أمامَ الله تعالى، فإنَّ المال السوء عليك غُرْمُه، ولغيرك غُنْمه، وليس الحلال ما حلَّ في الجيب واليد؛ وإنما هو ما وافَقَ الكتاب والسُّنَّة. الدرس الثالث: في غزوة ذات السلاسل عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة ومن معه مددًا لجيش عمرو، أمره أن يجتمعا ولا يختلفا؛ إن الاختلاف والخلاف ممَّا يُضيِّع الجهود ويُمزِّق الكلمة، ولا يربح من ورائه أحد؛ ولذلك يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: الخلافُ شَرٌّ، فإذا تنازع اثنانِ في أمرٍ ما فليتأمَّل كُلٌّ منهما رأي صاحبه، فقد يكون أرشد من رأيه، وليكن طرحُه لرأيِه أيضًا بهدوء، فقد يكون خاطئًا من حيث لا يشعُر؛ لأنه ليس معصومًا، وليكن شِعارُه رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب. والمشكلة تكمن في أن بعض الناس في خلافاتهم لا يتأمَّلون إلا آراءهم، ولا يتأمَّلون جليًّا بوضوح في آراء الآخرين، ويعتبرون آراءهم صوابًا لا تحتمل الخطأ وآراء غيرهم خطأ لا تحتمل الصواب، وهذا خلل في التفكير، ثم إنَّ التنازل من أحدهما للآخر إذا لم يكن ثمة مضرَّة ظاهرة هو حسم للخلاف كما تنازل أبو عبيدة رضي الله عنه لرأي عمرو رضي الله عنه؛ بل قال أبو بكر رضي الله عنه: اتبعوا عَمْرًا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلمه الراية إلا وهو أعلم به منكم، فعلينا بتقليل دائرة الخلاف والاختلاف ما أمكن، وتوسيع دائرة الاتفاق ما أمكن، سواء على مستوى الأسرة أو الزملاء أو الوظيفة أو غيرها، وليَكُنْ النقاش هادئًا ومتَّزنًا ومرِنًا مع احترام صاحب الرأي، فإذا كنا كذلك ربح الجميع، وإن كنا لسنا كذلك فقد يخسر الجميع. الدرس الرابع: في هذه الغزوة أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بأنه لم يغتسل من الجنابة في تلك الليلة الباردة؛ حيث لو فعل ذلك لتضرَّر، وهذا من رحمةِ الله بعباده؛ ولكن على من احتلم في ليلة شاتية وباردة فإن وجد شيئًا يستره عن البرد وماءً دافئًا فليغتسل بالماء، فإنَّ هذا هو الواجب، وليحرص عليه، أمَّا إن لم يجد ذلك ويلحقه ضررٌ في غسله، فليتيمَّم، وليكن حكيمًا في تدبير أموره، ولا يستعجل في التيمُّم ما دام الغسل ممكنًا ومحتملًا؛ حيث خفة البرودة وتدفئة الماء والسعي في طلبه هذا أمر واجب. وهذا إذا كان في البراري والفلوات، أما من كان في البيوت والاستراحات ونحوها فإن الأمور مُهيَّأةٌ بحمد الله، فليحرص عليها، وليغتسل كما أمره الله عز وجل، ولا يعدل إلى التيمُّم. الدرس الخامس: في قصة عبدالله بن حدرد أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم كثرة المهر، وفي هذا دَرْسٌ عظيمٌ للأُمَّة بأن يعلموا أنَّ أعظمَ النساء بركةً أيسرُهُنَّ مؤونةً، فيا معاشر الآباء والأزواج، لا تجعلوا كثرة المهور مانعًا لشبابنا ورجالنا من الزواج. وهذه الزوجة ليست سلعةً تُباع وتُشترى حتى يُغالى في مهرها؛ وإنما ذلك المهر هو لتكاليف الزواج، فلتكن تكاليفُه بحكمةٍ واقتداء، وانبذوا الإسراف في المقتنيات والمأكولات والملبوسات، فكم من شابٍّ عجز عن كثرة المهور فأضلَّه الشيطان! وكم من عانسٍ مكثت وقتًا طويلًا بسبب المهر وكثرته! فيا ترى مَن يعلق الجرس في تقليل المهور? وتفعيل ذلك ليكون ذلك صدقةً جاريةً له، إن ممَّن يبتدئ بذلك هم الخطباء في منابرهم والإعلاميُّون في إذاعاتهم، والآباء في مجالسهم ومع أهلهم وذويهم، وأيضًا الجمعيات الأسرية في وسائل تواصُلهم، وأيضًا كذلك الكُتَّاب بأقلامهم وصحفهم، ولنكن بذلك عمليين وواقعيين حتى نُكوِّن مجتمعًا أُسَريًّا ناجحًا مُباركًا صالحًا ومُصْلِحًا. الدرس السادس: اتَّضَح في تلك السريَّة حنكة عمرو وحكمته رضي الله عنه؛ حيث كان مشهورًا بذلك قبل إسلامه، فقد نهاهم عن إيقاد النار مع أن الليلة باردة حتى لا يعلم عدوُّهم قِلَّتَهم، ونهاهم عن اتِّباع عدوِّهم حتى لا ينعطف عليهم العدوُّ، فيكون خدعةً على المسلمين، وثمة درس آخر وهو استجابة هؤلاء الصحابة الكِرام الأجلَّاء رضي الله عنهم لأميرهم مع حاجتهم لما أرادوا؛ ولكن أمر الأمير فوق حاجتهم الشخصية، ويدركون أنهم لو عملوا ما أرادوا لتنازعوا، وهكذا يجب أن يكون المسلم في سلمه وحربه وفي سفره وإقامته تحت أمر أميره ونهيه ما دام أمرُه ونهيُه تبعًا لأمر الله تعالى ورسوله، وإن من الحكمة عند الأصحاب التنازُل عن الأمور الشخصية لتحقيق المصالح العامة، وهكذا إذا سافرت رفقة فجعلوا عليهم أميرًا فإنهم إن أطاعوه أمنوا الخلاف والاختلاف في سفرهم هذا، وحسنت أمورهم، ففي تلك الغزوة ظهرت بعض قدرات عمرو الحربية وحكمته وحنكته رضي الله عنه. الدرس السابع: أنَّ الله عز وجل حافظ دينه وعباده وذلك من خلال تيسير الله تعالى لهذا الفتح المبين لفتح مكة؛ حيث إن الله عز وجل أراد ذلك السبب فحصل، فلمَّا أراد حصول هذا السبب المذكور أتبعه بهذا الفتح المبين والذي سنتعرض له بإذن الله تعالى في حلقتنا القادمة. ما أجمل أيها الكرام أن يكون للإنسان وقفات مع هذه السيرة النبوية! يعرف أحكامها وحكمتها، ويعرف خطى النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف كيف كان تعامُله مع أصحابه، ويقيس عليها حالته مع أهله وأصحابه وجيرانه ومجتمعه، ويكسب بذلك علمًا غزيرًا وعملًا صالحًا بإذن الله تبارك وتعالى، سواء في المعاملات أو في الأخلاق أو في العبادات أو في غيرها مما يحتاجه من تعامل مع هذا المجتمع. إن قراءتنا في السيرة ومناقشتنا فيها، وأن نعمر مجالسنا عليها، إن هذا عمل جميل وجليل، وينبغي لنا الحرص عليه سواء في رحلاتنا أو في سفرنا أو في مكثنا في بيوتنا أو في اجتماعاتنا أو ما إلى ذلك؛ لأن حياتنا إنما هي مقتضبة ومختصرة، فعلينا أن نملأها من هذا الخير العظيم الذي في سيرة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم حتى تصحَّ أعمالنا، وتسلم صدورنا، وتتنقَّى قلوبُنا، ونكون بإذن الله تعالى على خطى هؤلاء الأصحاب الأفذاذ الأجِلَّاء رضي الله عنهم. أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهُدى والسَّداد والتُّقَى والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() خاتم النبيين (38) الشيخ خالد بن علي الجريش فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين وقد تمَّ أيها الكِرام في الحلقة الماضية الحديث عن بعض السرايا التي حدثت في السنة الثامنة، ومنها سرية ذات السلاسل وغيرها، وذكرنا أيضًا كذلك مقدمة عن الفتح المبين فتح مكة، وأيضًا الدروس والعبر من ذلك، ونستكمل في تلك الحلقة خلفيات ذلك الفتح وتفاصيله وخيراته العظيمة، وكان سبب فتح مكة أن خزاعة دخلت في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، وكان بين القبيلتين خزاعة وبني بكر حروب وعداوات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمِن كل فريق من الآخر، فبنو بكر لم ينظروا إلى هذا، وأرادوا الأخذ بثأرهم من خزاعة، فخرج من بني بكر نوفل بن معاوية، وخرج معه رجال حتى قدموا على خزاعة ليلًا وهم آمنون، على ماء لهم يُسمَّى الوتير أسفل مكة، وكان منهم المصلي ومنهم النائم، فأصابوا منهم رجالًا، فاقتتلوا حتى بلغوا الحرم، وانطلق رجال من خزاعة هاربين إلى سيد خزاعة بديل بن ورقاء في داره، فتبعهم بنو بكر حتى قتلوا منهم عشرين رجلًا عند باب الدار، وشارك في ذلك أناسٌ من قريش، وكان ذلك في شهر شعبان من السنة الثامنة؛ فندمت قريش على ذلك وذهبوا إلى زعيمهم أبي سفيان يُخبِرونه الخبر، فقال أبو سفيان: إن هذا لشَرٌّ، ووالله ليغزونا محمد؛ لأن خزاعة قد دخلت في عقده وعهده. ولما انتهى بنو بكر من الأخذ بالثأر، وذلك بقتل هؤلاء من خزاعة خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على رأسه وهو جالس بين الصحابة رضي الله عنهم، فقال عمرو قصيدته المشهورة: يا ربِّ إنِّي ناشِدٌ محمدًا ![]() حِلْفَ أَبِيهِ وَأَبِينَا الْأَتْلَدَا ![]() ![]() ![]() إلى أن قال: هُمْ بَيَّتُونا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا ![]() وَقَتَّلُونا رُكَّعًا وَسُجَّدَا ![]() ![]() ![]() فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نصرت يا عمرو بن سالم))، ثم لحق به أيضًا سيد خزاعة بديل بن ورقاء متجهًا إلى المدينة ومعه رجال، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه تفاصيل الحدث والثأر، ثم رجع وفد خزاعة إلى مكة وفي خروجهم إلى المدينة ورجوعهم حصل عند قريش خوف ووجل، وخافوا من سوء صنيعهم فعقدوا مجلسًا استشاريًّا قرروا فيه أن يبعثوا أبا سفيان ليقوم بالاعتذار والصلح، وكان النبي الله عليه وسلم حينها قد قال لأصحابه: ((كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشد العقد)) وفعلًا خرج أبو سفيان إلى المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها، فلمَّا أراد أن يجلس على فِراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته أم حبيبة، فسألها عن طي الفراش، فقالت: هو فِراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلا أحب أن تجلس عليه، فقال لها: والله، لقد أصابك يا بنية بعدي شرٌّ، ثم خرج أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اشدد العقد بيننا وبينك، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان من حدث قبلكم؟))، قال أبو سفيان: معاذ الله، لم يحصل شيء، ونحن على عهدنا وصلحنا، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فلمَّا علم أنه لن يحصل على شيء من النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إلى أبي بكر فكَلَّمه أن يشفع عند النبي عليه الصلاة والسلام، فأبى أبو بكر ذلك، ثم كلَّم عُمَرَ، فقال عمر: أأنا أشفع؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به، ثم كلَّم عثمان بن عفان فأبى، ثم كلَّم عليًّا، فقال له علي رضي الله عنه: ويحك يا أبا سفيان! إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر لا نقدر أن نُكلِّمه فيه؛ فحينئذٍ أظلمت الدنيا في عيني أبي سفيان، ثم ركب واتجه إلى مكة، فلمَّا وصل إلى مكة اجتمعت إليه كِبار قريش، فسألوه، فقال: إن محمدًا أبى أن يقبل شفاعتي، وتتبعت أصحابه بعده فلم أجد أحدًا أطوعَ منهم له، فلم يجز منهم أحد، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها أن تُهيِّئ له جهازه، ولا تعلم أين يريد، فدخل عليها أبوها أبو بكر رضي الله عنه فسألها: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصمتت ولم تُجِبْه حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لعلَّك تريد قريشًا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، فقال أبو بكر: أليس بيننا وبينهم صلح؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألم يبلغك ما صنع بنو كعب؟)) ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه سائر إلى مكة، وأمر بالجد والتهيُّؤ، فتجهَّز الناس وتجهَّز أصحاب البوادي حول المدينة حتى قدموا على المدينة، فاجتمع لديه عشرة آلاف مقاتل، وبعد التجهُّز والتهيُّؤ أجمَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المسير إلى مكة لقِتال قريش وفتح مكة، فحينها كتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتابًا إلى قريش يُخبِرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة، وجعل لها مالًا على أن تبلغه قريشًا، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل حاطب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير وأبا مرثد، وكلهم فوارس، فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها امرأة من المشركين معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأتوني بها))، قال علي رضي الله عنه: فانطلقنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسير على بعير لها، فقلنا لها: أين الكِتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بعيرها ونظرنا في رحلها فلم نجد شيئًا، فقال صاحباي: ما نرى معها كتابًا؟ فقال علي رضي الله عنه لهما: لقد علمتما ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليٌّ للمرأة: لئن لم تُخرجي الكِتاب لاجردَّنك، فأهوت المرأة إلى حجزتها- وهي معقد الإزار- فأخرجت الكتاب، وقيل: أخرجته من ضفائر رأسها، فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لحاطب: ((يا حاطِبُ، ما حملك على ما صنعت؟))، فقال حاطب رضي الله عنه: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، والله ما فعلته رِضًا بالكُفْر أو ارتدادًا؛ ولكن من كان معك من المهاجرين لهم نسب يحمون به قرباتهم في مكة، وأمَّا أنا فليس لي أحد يحميهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا أنه قد صدقكم)) فقال حينها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، دَعْني اضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريك لعَلَّ الله اطَّلَع على أهل بَدْر))، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر رضي الله عنه، وقال: الله ورسوله أعلم، وأنزل الله عز وجل قوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾؛ الآية الأولى من سورة الممتحنة. ثم بعد نزول تلك الآية وحصول هذه الحادثة أجمع النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى قريش ومقاتلتهم، فمتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الذي حصل له في طريقه من أحداث؟ وكيف أسلم بعض الزعماء قبل وصوله إلى مكة؟ هذا وغيره ما سنعرفه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختتم حلقتنا هذه بالدروس والعِبَر التالية: الدرس الأول: في قتل بني بكر لخزاعة شرٌّ كبيرٌ، وهو أمر تكرهه أنفس المسلمين؛ ولكنه كان سببًا لخير عظيم، وهو فتح مكة وما تبعها؛ حيث أسلم كثيرٌ من أهلها ومن حولهم، ولنعلم جميعًا أيها الكِرام أن المقادير التي تحصل لنا وتكرهها نفوسُنا قد يوجد في ثناياها خيرٌ عظيمٌ، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فإذا حصل لك أخي الكريم ما تكره فلا تجزع وقل في نفسك: لعل فيه خيرًا لا أعلمه؛ فستهدأ نفسُك، ويطيب خاطرُك، ويزداد إيمانُك بقدر الله عز وجل، وتأمَّل أيضًا وجوه الخير فيه، ولو كان وجهًا واحدًا، فهذا ممَّا يُسلِّيك ويدفع عنك الاستعجال بأقوال وأفعال غير مشروعة. الدرس الثاني: عندما ذهبت خزاعة إلى المدينة تستنجد بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم دخلوا في عقده، وكانت قريش قد علمت بذلك، حصل لقريش من الرعب والخوف والارتباك الشيء الكثير، وهكذا صاحب الباطل يخشى كل دائرة عليه، ولا يهدأ قلبه، وقد قال الله تعالى في المنافقين: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4] فصاحبُ الحقِّ ثابتٌ بتثبيت الله تعالى له، وأمَّا صاحبُ الباطل فهو متذبذب؛ لأنه ليس على الفطرة، وليس له أساس يصونه ويؤوي إليه. الدرس الثالث: عندما جاء أبو سفيان إلى المدينة ليُقابِل النبي صلى الله عليه وسلم في تمديد مدة الصُّلْح دخل على ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان حينها كان مُشْرِكًا، فرفعت أم حبيبة رضي الله عنها فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه أبوها، فلمَّا سألها قالت: إنك رجل مشرك نجس، وإن هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأمَّل أخي الكريم كيف عاملت أم حبيبة رضي الله عنها أباها أبا سفيان بهذه البراءة؟ مع أنه أبوها، فلم تتسامح معه وقد جاء مسافرًا، وقد غاب عنها مدة من الزمن لم يلتقيا، فلم تجامله وترِقَّ له، فإذا استقرَّ الإيمان في القلب عَظُمَ الولاء والبراء، وصارت المحبَّة والمودَّة مبنيةً على أساس الدين، ولا مجاملة في ذلك حتى ولو كان أبًا أو غيره، فرضي الله عن أم حبيبة رضي الله عنها، فقد ضربت بهذا مثلًا رائعًا، فإن موقف المسلم من الكافر هو البراء التام إلَّا في دعوته إلى الإسلام، فليعمل على المداراة معه لعله أن يسلم، وأمَّا مع المسلم العاصي فيُواليه على ما عنده من الطاعة ويبغضه على ما عنده من المعصية مع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي قول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51] هذا نهيٌ كبيرٌ عن موالاة الكُفَّار، وهذا خطر عظيم وجسيم وإن كان ظاهره كُفْر مَن تولاهم؛ لكن أقل درجاته التحريم كما قال ذلك أهل العلم، فلنتأمَّل ذلك كثيرًا لتصلُح أحوالُنا وقلوبُنا وتثبت أقدامُنا. الدرس الرابع: سوء مغبَّة الخيانة وضررها، فماذا لو وصلت تلك المرأة إلى قريش؟ وعلمت قريش بما معها من الكِتاب؛ لحصل على المسلمين ما لا تُحْمَد عُقْباه، فالخيانة في كل أصنافها وأشكالها هي سلبية، ومن ذلك الفساد المالي والوظيفي، وأخذ الرشاوى، وأكل المال بالباطل، وتسريب المعلومات للأعداء، ونحو ذلك، فإن هذا كله مضرته قد تكون الجماعة كلها، فيا ليت ذلك الخائن للجماعة في أي مجال كان يعلم أن ما يأخذه من مال أو نحوه إنما هو سُحْتٌ ينبت به جسمه، وأنه محاسب عليه، فإن كان المال المأخوذ لبيت المال فإن كل من يستفيد من بيت المال سيكون خصمه يوم القيامة، وأمَّا إن كان المال المأخوذ شخصيًّا فإن هذا المال لشخص سيُلاقيه عند الله تعالى، ويُخاصمه في يوم لا معاملة فيه إلا الحسنة والسيئة، فمتى يفيق أولئك الذين يأكلون الأموال العامة والخاصة بغير حقٍّ خيانةً في أعمالهم؛ ولكن لعلهم يتذكَّرون، ولعلهم يرجعون، ولعلهم يتُوبُون. الدرس الخامس: في قصة حاطب رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان المرأة، وهذا معجزةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر اللهُ بها نبيَّه، وهذا من حفظ الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وأوليائه ونصرتهم، فلم يأتِ بخبرِها أحدٌ من البشر؛ بل إن خبر السماء نزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي مقويات ومثبتات للمؤمن. الدرس السادس: بيان غيرة عمر رضي الله عنه ورِقَّة قلبه؛ فمن غيرته أنه طلب أن يؤذن له بضرب عنق حاطب؛ لأجل فعله هذا، وكذلك رقة قلبه عندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل بَدْر دمعت عيناه، فسبحان من جمع فيه هاتين الخصلتين، وهما الغيرة والرقة! وهذا شأن المؤمن يغار لدين الله عز وجل؛ ولكن إذا عرف الحق التزمه ولزمه، إن الغيرة هي أمر يمكن أن يكتسبه المسلم، فعندما يرى منكرًا يعلم أنه مسؤول عن هذا المنكر، ولا ينبغي أن يكون في حالة من الجمود عند رؤيته للمنكر، فإذا علم أنه مسؤول عن هذا المنكر فإن هذا العلم والإحساس يزرع عنده الغيرة على المحارم؛ إذ إنه إذا أنكر سلم وبرأت ذمته، وإذا لم ينكر فهو مسؤول عن ذلك أمام الله تعالى، فلا بُدَّ له من أحد الموقفين، فإذا جعل الإنكار سجيةً له أورثه ذلك الغيرة على محارم الله عز وجل؛ ولكن هذا الإنكار يجب أن يكون مُتَّصفًا بالعلم والحلم والحكمة والرِّفْق؛ حتى يتحقَّق الهدف وليس المقصود من الإنكار هو براءة الذمة فقط، وإنما المراد هو الصلاح والإصلاح. الدرس السابع: في قصة حاطب قوة إيمان علي رضي الله عنه، فعندما أنكرت المرأة عندما نظروا في متاعها ولم يجدوا شيئًا، قال عليٌّ قولتَه المشهورة: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، لتخرجن الكِتاب أو لنجردَن الثياب، فلما رأت الجد منهم أخرجته، فعليٌّ رضي الله عنه كان يحمل يقينًا لا شَكَّ فيه. الدرس الثامن: أنه على من فعل خطأ ثم عُوتِب فيه عليه ألا ينكر؛ حتى لا يجمع على نفسه سيئتين وخطيئتين، فالبعض يبرر لنفسه فعل الخطأ إذا أخطأ، وكأنه لم يخطئ، فالاعتراف بالخطأ هو طريق لسلامة الأنفس وغفرانها لهذا الخطأ، وهو أيضًا تنازُل من صاحب الخطأ إلى تعديل سلوكه إلى الصواب، وأمَّا واقع بعض الناس يحاول أن يجعل الصواب معه دائمًا بتبرير أخطائه، فإن الناس تنفر عنه حينئذٍ ولا تثق به، وربما ابتعدت عنه، وعلى مَن اعتذر عن خطئه أن يقبل الناس عذره، وأن يُشجِّعُوه على التزامه الصواب واجتناب الخطأ. الدرس التاسع: إنَّ حاطبًا ممَّن شهد بَدْرًا، وهو من المهاجرين الأوَّلين، وهو ممَّن اطَّلَع على الأسرار؛ ولكن فعله هذا يدل على ضعف النفس البشرية مهما كان كمالها وقوَّتُها، ولا عاصم من ذلك الضعف إلا الله عز وجل، فلا نطالب أنفسنا بعدم الخطأ؛ لأن الخطأ من طبيعة النفس البشرية؛ لكن إذا أخطأوا لنشعرهم بذلك الخطأ لنجعل ذلك الشعور سلوكًا مع من نتعامل معهم كثيرًا؛ كالأولاد والزوجات والأقارب والجيران وزملاء العمل ونحوهم، فنشعرهم بخطئهم إذا أخطأوا، ونقبل عذرهم إذا صدقوا واعتذروا. الدرس العاشر: لم يستعجل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بعقوبة أو بتأديب حتى استفهم منه وسأله عن فعله ذلك، فإذا أخطأ أحد على أحد فلنستفهم عن الخطأ ولنستفسر قبل أي إجراء نتخذه سواء كان الإجراء قوليًّا أو عمليًّا أو حتى كان قلبيًّا، فإن الأخطاء يكون وراءها أشياء كثيرة من سوء الفهم أو الجهل أو الندم بعدها مباشرة. إن هذا التفاهُم مع المخطئ يبني المجتمع على سلوك وتفاهم راقٍ وعدم تكرار للخطأ، فما أحوجنا إلى هذا التعامل حتى نختصر الكثير على أنفسنا! وعلى المخطئين فنسلم وأيضًا كذلك يسلمون. الدرس الحادي عشر: فضيلة أهل بَدْر حيث ورد فيهم ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) فهذه منقبة للبَدْريِّين شفعت لحاطب على تلك السيئة التي فعلها، وهذا فيما ليس فيه حَدٌّ في الشريعة، أمَّا ما كان فيه في الشريعة فإنه يقام كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحَدَّ على مِسْطح وجلَدَه عندما قذف عائشة رضي الله عنها مع أن مِسْطحًا ممَّن شهِدَ بَدْرًا. الدرس الثاني عشر: التوجيه القرآني للأحداث التي تحدُث في عصر النبوة، فإنَّ الله عز وجل يرشد نبيَّه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين في شتَّى أحوالهم التي يحتاجون فيها إلى ذلك، فيأتي القرآن مُبينًا القضية وملابساتها وحكمها، وذلك كحالة الظِّهار وحالة اللِّعان ونحوهما، وذلك لتكون الأُمَّة المسلمة تسير على خُطًى ثابتة بشريعة محكمة معصومة من عند الله عز وجل، وكما قد سمعتم معاشر الكِرام هذه هي السيرة، كلها دروس، وكلها عِبَرٌ، وكُلُّها أيضًا حِكَمٌ وأحكامٌ، فما أجمل أن يكون لكل واحدٍ مِنَّا نصيبٌ من هذه السيرة قراءةً ومناقشةً وكتابةً حتى ولو كانت عن طريق السؤال والجواب والمسابقات للأولاد وغيرهم، لنتعرَّف جليًّا على سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وذلك علم نتقرَّب به إلى الله تبارك وتعالى فسنعلم من خلال هذه الدراسة وتلك المناقشة، سنعلم الأحكام الفقهية، ونعلم الأمور التربوية، ونُصحِّح المسارات السلوكية، ونعلم المعجزات النبوية، وهكذا نعلم العلم الكثير من خلال دراسة هذه السيرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، اللهم علِّمْنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمْتنا، واجعل يا رحمن ما وهَبْتَنا من عِلْمٍ وحفظ وفَهْم حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |