تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 39 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1174 - عددالزوار : 131164 )           »          3 مراحل لانفصام الشخصية وأهم أعراضها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          متلازمة الشاشات الإلكترونية: كل ما تود معرفته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          ما هي أسباب التعرق الزائد؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أضرار الوجبات السريعة على الأطفال: عواقب يُمكنك تجنبها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الوقاية من القمل بالقرنفل: أهم الخطوات والنصائح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          علاج جفاف المهبل: حلول طبيّة وطبيعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الوقاية من القمل في المدارس: دليل شامل للأهل والمعلم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الوقاية من التهاب الكبد: 9 خطوات بسيطة لصحة أفضل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الوقاية من الجلطات: دليلك الشامل لصحة أفضل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-11-2022, 08:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ طَه
الحلقة (384)
صــ 324 إلى صــ 331




قوله تعالى : " يومئذ لا تنفع الشفاعة " يعني : لا تنفع أحدا ، " إلا من أذن له الرحمن " ; أي : إلا شفاعة من أذن له الرحمن ; أي : أذن أن يشفع له ، " ورضي له قولا " ; أي : ورضي للمشفوع فيه قولا ، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إله إلا الله . " يعلم ما بين أيديهم " الكناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي . وقد شرحنا هذه الآية في سورة ( البقرة : 255 ) .

وفي هاء " به " قولان :

أحدهما : أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله مقاتل . والثاني : إلى " ما بين أيديهم وما خلفهم " ، قاله ابن السائب . [ ص: 324 ]

قوله تعالى : " وعنت الوجوه " قال الزجاج : عنت في اللغة : خضعت ، يقال : عنا يعنو : إذا خضع ، ومنه قيل : أخذت البلاد عنوة : إذا أخذت غلبة ، وأخذت بخضوع من أهلها . والمفسرون على أن هذا في يوم القيامة ، إلا ما روي عن طلق بن حبيب : هو وضع الجبهة والأنف ، والكفين والركبتين ، وأطراف القدمين على الأرض للسجود ، وقد شرحنا في آية الكرسي معنى الحي القيوم [ البقرة : 255 ] .

قوله تعالى : " وقد خاب من حمل ظلما " قال ابن عباس : خسر من أشرك بالله .

قوله تعالى : " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " : " من " هاهنا للجنس ، وإنما شرط الإيمان ; لأن غير المؤمن لا يقبل عمله ولا يكون صالحا ، " فلا يخاف " ; أي : فهو لا يخاف . وقرأ ابن كثير : ( فلا يخف ) على النهي .

قوله تعالى : " ظلما ولا هضما " فيه أربعة أقوال :

أحدها : لا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته ، ولا أن يهضم من حسناته ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثاني : لا يخاف أن يظلم فيزاد من ذنب غيره ، ولا أن يهضم من حسناته ، قاله قتادة .

والثالث : أن لا يخاف أن يؤاخذ بما لم يعمل ، ولا ينتقص من عمله الصالح ، قاله الضحاك .

والرابع : لا يخاف أن لا يجزى بعمله ، ولا أن ينقص من حقه ، قاله ابن زيد . قال اللغويون : الهضم : النقص ، تقول العرب : هضمت لك من حقي ; أي : حططت ، ومنه : فلان هضيم الكشحين ; أي : ضامر الجنبين ، [ ص: 325 ] ويقال : هذا شيء يهضم الطعام ; أي : ينقص ثقله . وفرق بعض المفسرين بين الظلم والهضم ، فقال : الظلم : منع الحق كله ، والهضم : منع البعض ، وإن كان ظلما أيضا .

قوله تعالى : " وكذلك أنزلناه " ; أي : وكما بينا في هذه السورة ، " أنزلناه " ; أي : أنزلنا هذا الكتاب ، " قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد " ; أي : بينا فيه ضروب الوعيد . قال قتادة : يعني : وقائعه في الأمم المكذبة .

قوله تعالى : " لعلهم يتقون " ; أي : ليكون سببا لاتقائهم الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم ، " أو يحدث لهم " ; أي : يجدد لهم القرآن ، وقيل : الوعيد . " ذكرا " ; أي : اعتبارا ، فيتذكروا به عقاب الأمم فيعتبروا . وقرأ ابن مسعود وعاصم الجحدري : ( أو نحدث ) بنون مرفوعة .

قوله تعالى : " فتعالى الله " ; أي : جل عن إلحاد الملحدين ، وقول المشركين في صفاته ، " الملك " الذي بيده كل شيء ، " الحق " وقد ذكرناه في ( يونس : 32 ) .

قوله تعالى : " ولا تعجل بالقرآن " في سبب نزولها قولان :

أحدهما : أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالسورة والآي فيتلوها عليه ، فلا يفرغ جبريل من آخرها حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها مخافة أن ينساها ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني : أن رجلا لطم امرأته ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص ، فنزلت هذه الآية ، فوقف [ ص: 326 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] ، قاله الحسن البصري .

قوله تعالى : " من قبل أن يقضى إليك وحيه " وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، ويعقوب : ( نقضي ) بالنون وكسر الضاد وفتح الياء ، ( وحيه ) بنصب الياء .

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال :

أحدها : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته ، تخاف نسيانه ، هذا على القول الأول .

والثاني : لا تقرئ أصحابك حتى نبين لك معانيه ، قاله مجاهد وقتادة .

والثالث : لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك الوحي ، ذكره الماوردي .

قوله تعالى : " وقل رب زدني علما " فيه ثلاثة أقوال : [ ص: 327 ]

أحدها : زدني قرآنا ، قاله مقاتل . والثاني : فهما . والثالث : حفظا ، ذكرهما الثعلبي .
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

قوله تعالى : " ولقد عهدنا إلى آدم " ; أي : أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة ، " من قبل " ; أي : من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا [ ص: 328 ] الإيمان بي ، وهم الذين ذكرهم في قوله : " لعلهم يتقون " ، والمعنى : أنهم إن نقضوا العهد ، فإن آدم قد عهدنا إليه فنسي .

وفي هذا النسيان قولان :

أحدهما : أنه الترك ، قاله ابن عباس ومجاهد ، والمعنى : ترك ما أمر به .

والثاني : أنه من النسيان الذي يخالف الذكر ، حكاه الماوردي .

وقرأ معاذ القارئ ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( فنسي ) برفع النون وتشديد السين .

قوله تعالى : " ولم نجد له عزما " العزم في اللغة : توطين النفس على الفعل . وفي المعنى أربعة أقوال :

أحدها : لم نجد له حفظا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، والمعنى : لم يحفظ ما أمر به .

والثاني : صبرا ، قاله قتادة ومقاتل ، والمعنى : لم يصبر عما نهي عنه .

والثالث : حزما ، قاله ابن السائب . قال ابن الأنباري : وهذا لا يخرج آدم من أولي العزم ، وإنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب .

والرابع : عزما في العود إلى الذنب ، ذكره الماوردي . وما بعد هذا قد تقدم تفسيره [ البقرة : 34 ] إلى قوله تعالى : " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " . قال المفسرون : المراد به : نصب الدنيا وتعبها من تكلف الحرث والزرع ، والعجن والخبز ، وغير ذلك . قال سعيد بن جبير : أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه ، فذلك شقاؤه . قال العلماء : والمعنى : فتشقيا ، وإنما لم يقل : فتشقيا ; لوجهين : [ ص: 329 ]

أحدهما : أن آدم هو المخاطب ، فاكتفي به ، ومثله : عن اليمين وعن الشمال قعيد [ ق : 17 ] ، قاله الفراء .

والثاني : أنه لما كان آدم هو الكاسب ، كان التعب في حقه أكثر ، ذكره الماوردي .

قوله تعالى : " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " قرأ أبي بن كعب : ( لا تجاع ولا تعرى ) بالتاء المضمومة والألف . " وأنك لا تظمأ " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( وأنك ) مفتوحة الألف . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم : ( وإنك ) بكسر الألف . قال أبو علي : من فتح حمله على أن لك أن لا تجوع ، وأن لك أن لا تظمأ ، ومن كسر استأنف .

قوله تعالى : " لا تظمأ فيها " ; أي : لا تعطش ، يقال : ظمئ الرجل ظمأ فهو ظمآن ; أي : عطشان . ومعنى " لا تضحى " : لا تبرز للشمس فيصيبك حرها ; لأنه ليس في الجنة شمس .

قوله تعالى : " هل أدلك على شجرة الخلد " ; أي : على شجرة من أكل منها لم يمت ، " وملك لا يبلى " جديده ولا يفنى . وما بعد هذا مفسر في [ الأعراف : 22 ] .

وفي قوله تعالى : " فغوى " قولان :

أحدهما : ضل طريق الخلود ، حيث أراده من قبل المعصية .

والثاني : فسد عليه عيشه ; لأن معنى الغي : الفساد . قال ابن الأنباري : وقد غلط بعض المفسرين ، فقال معنى " غوى " : أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم ، كما يقال : غوى الفصيل : إذا أكثر من لبن أمه فبشم ، فكاد يهلك ، وهذا خطأ من وجهين : [ ص: 330 ]

أحدهما : أنه لا يقال من البشم : غوى يغوي ، وإنما يقال : غوي يغوى .

والثاني : أن قوله تعالى: فلما ذاقا الشجرة [ الأعراف : 22 ] يدل على أنهما لم يكثرا ، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إلى الإكثار . قال ابن قتيبة : فنحن نقول في حق آدم : عصى وغوى ، كما قال الله عز وجل ، ولا نقول : آدم عاص وغاو ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه : قد قطعه وخاطه ، ولا نقول : هذا خياط ، حتى يكون معاودا لذلك الفعل معروفا به .

قوله تعالى : " ثم اجتباه ربه " قد بينا الاجتباء في ( الأنعام : 87 ) ، " فتاب عليه وهدى " ; أي : هداه للتوبة . " قال اهبطا " في المشار إليهما قولان :

أحدهما : آدم وإبليس ، قاله مقاتل .

والثاني : آدم وحواء ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ومعنى قوله تعالى : " بعضكم لبعض عدو " آدم وذريته ، وإبليس وذريته ، والحية أيضا ، وقد شرحنا هذا في ( البقرة : 36 ) .

قوله تعالى : " فمن اتبع هداي " ; أي : رسولي وكتابي ، " فلا يضل ولا يشقى " قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب ، ولقد ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم قرأ هذه الآية .

قوله تعالى : " ومن أعرض عن ذكري " قال عطاء : عن موعظتي . وقال ابن السائب : عن القرآن ، ولم يؤمن به ، ولم يتبعه .

قوله تعالى : " فإن له معيشة ضنكا " قال أبو عبيدة : معناه : معيشة ضيقة ، والضنك يوصف به الأنثى والذكر بغير هاء ، وكل عيش ، أو مكان ، أو منزل ضيق ، فهو ضنك ، وأنشد : [ ص: 331 ]


وإن نزلوا بضنك فانزل


وقال الزجاج : الضنك أصله في اللغة : الضيق والشدة .

وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال :

أحدها : أنها عذاب القبر ، روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ينفخون في جسمه ، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة " . وممن ذهب إلى أنه عذاب القبر ابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، والسدي .

والثاني : أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه ، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثالث : شدة عيشه في النار ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . قال ابن السائب : وتلك المعيشة من الضريع والزقوم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-11-2022, 08:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

الحلقة (385)
صــ 332 إلى صــ 339






والرابع : أن المعيشة الضنك : كسب الحرام ، روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : المعيشة الضنك : أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها ، وله [ ص: 332 ] معيشة حرام يركض فيها . قال الضحاك : فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث ، وبه قال عكرمة .

والخامس : أن المعيشة الضنك : المال الذي لا يتقي الله صاحبه فيه ، رواه العوفي عن ابن عباس .

فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال :

أحدها : القبر . والثاني : الدنيا . والثالث : جهنم .

وفي قوله تعالى : " ونحشره يوم القيامة أعمى " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : ( أعمى ) ( حشرتني أعمى ) بفتح الميمين . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما . وقرأ نافع بين الكسر والفتح . ثم في هذا العمى للمفسرين قولان :

أحدهما : أعمى البصر ، روى أبو صالح عن ابن عباس ، قال : إذا أخرج من القبر خرج بصيرا ، فإذا سيق إلى المحشر عمي .

والثاني : أعمى عن الحجة ، قاله مجاهد وأبو صالح . قال الزجاج : معناه : فلا حجة له يهتدي بها ; لأنه ليس للناس على الله حجة بعد الرسل .

قوله تعالى : " كذلك " ; أي : الأمر كذلك كما ترى ، " أتتك آياتنا فنسيتها " ; أي : فتركتها ولم تؤمن بها ، وكما تركتها في الدنيا تترك اليوم في النار . " وكذلك " ; أي : وكما ذكرنا " نجزي من أسرف " ; أي : أشرك ، " ولعذاب الآخرة أشد " من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر ، " وأبقى " لأنه يدوم .
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة [ ص: 333 ] سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى .

قوله تعالى : " أفلم يهد لهم " ; أي : أفلم يتبين لكفار مكة إذا نظروا آثار من أهلكنا من الأمم ، وكانت قريش تتجر ، وترى مساكن عاد وثمود ، وفيها علامات الهلاك ، فذلك قوله تعالى: " يمشون في مساكنهم " . وروى زيد عن يعقوب : ( أفلم نهد ) بالنون .

قوله تعالى : " ولولا كلمة سبقت من ربك " في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة ، وقيل : إلى يوم بدر ، وقيل : إلى انقضاء آجالهم . " لكان لزاما " ; أي : لكان العذاب لزاما ; أي : لازما لهم . واللزام : مصدر وصف به العذاب . قال الفراء وابن قتيبة : في هذه الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاما .

قوله تعالى : " فاصبر على ما يقولون " أمر الله تعالى نبيه بالصبر على ما يسمع من أذاهم ، إلى أن يحكم الله فيهم ، ثم حكم فيهم بالقتل ، ونسخ بآية السيف إطلاق الصبر .

قوله تعالى : " وسبح بحمد ربك " ; أي : صل له بالحمد له والثناء عليه ، " قبل طلوع الشمس " يريد : الفجر ، " وقبل غروبها " يعني : العصر ، " ومن آناء الليل " الآناء : الساعات ، وقد بيناها في ( آل عمران : 113 ) ، " فسبح " ; أي : فصل .

وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال :

أحدها : المغرب والعشاء ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .

والثاني : جوف الليل ، رواه العوفي عن ابن عباس . [ ص: 334 ]

والثالث : العشاء ، قاله مجاهد وابن زيد .

والرابع : أول الليل وأوسطه وآخره ، قاله الحسن .

قوله تعالى : " وأطراف النهار " المعنى : وسبح أطراف النهار . قال الفراء : إنما هم طرفان ، فخرجا مخرج الجمع ، كقوله تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] .

وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها الظهر ، قاله قتادة ; فعلى هذا إنما قيل لصلاة الظهر : أطراف النهار ; لأن وقتها عند الزوال ، فهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني .

والثاني : أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح ، قاله ابن زيد ، وهذا على أن الفجر في ابتداء الطرف الأول ، والمغرب في انتهاء الطرف الثاني .

والثالث : أنها الفجر والظهر والعصر ; فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول ، والظهر والعصر من الطرف الثاني ، حكاه الفراء .

قوله تعالى : " لعلك ترضى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : ( ترضى ) بفتح التاء . وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم بضمها . فمن فتح فالمعنى : لعلك ترضى ثواب الله الذي يعطيك . ومن ضمها ففيه وجهان :

أحدهما : لعلك ترضى بما تعطى . والثاني : لعل الله أن يرضاك .
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . [ ص: 335 ]

قوله تعالى : " ولا تمدن عينيك " سبب نزولها ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني ، فأرسلني إلى رجل من اليهود يبيع طعاما ، فقال : قل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بعني كذا وكذا من الدقيق ، أو أسلفني إلى هلال رجب " ، فأتيته فقلت له ذلك ، فقال اليهودي : والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " والله لو باعني أو أسلفني لقضيته ، وإني لأمين في السماء أمين في الأرض ، اذهب بدرعي الحديد إليه " ، فنزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا . قال أبي بن كعب : من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا . وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر ( الحجر : 88 ) .

قوله تعالى : " زهرة الحياة الدنيا " وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، والزهري ، ويعقوب : ( زهرة ) بفتح الهاء . قال الزجاج : وهو منصوب بمعنى : ( متعنا ) ; لأن معنى ( متعنا ) : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة . " لنفتنهم فيه " ; أي : لنجعل ذلك فتنة لهم . وقال ابن قتيبة : لنختبرهم . قال المفسرون : زهرة الدنيا : بهجتها وغضارتها ، وما يروق الناظر منها عند رؤيته ، وهو من زهرة النبات وحسنه .

قوله تعالى : " ورزق ربك خير وأبقى " فيه قولان :

أحدهما : أنه ثوابه في الآخرة . والثاني : القناعة .

قوله تعالى : " وأمر أهلك بالصلاة " قال المفسرون : المراد بأهله : قومه ومن كان على دينه ، ويدخل في هذا أهل بيته .

قوله تعالى : " واصطبر عليها " ; أي : واصبر على الصلاة . " لا نسألك رزقا " [ ص: 336 ] ; أي : لا نكلفك رزقا لنفسك ولا لخلقنا ، إنما نأمرك بالعبادة، ورزقك علينا . " والعاقبة للتقوى " ; أي : وحسن العاقبة لأهل التقوى . وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا ، ثم يقول : بهذا أمر الله تعالى ورسوله ، ويتلو هذه الآية .
وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

قوله تعالى : " وقالوا " يعني : المشركين ، " لولا " ; أي : هلا يأتينا محمد " بآية من ربه " ; أي : كآيات الأنبياء ، نحو الناقة والعصا . " أولم تأتهم " قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : ( تأتهم ) بالتاء . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : ( يأتهم ) بالياء .

قوله تعالى : " بينة ما في الصحف الأولى " ; أي : أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لما سألوا الآيات ثم كفروا بها ، فما يؤمنهم أن تكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك ؟ " ولو أنا أهلكناهم " يعني : مشركي مكة ، " بعذاب من قبله " في الهاء قولان :

أحدهما : أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله مقاتل . والثاني : إلى الرسول ، قاله الفراء .

قوله تعالى : " لقالوا " يوم القيامة ، " ربنا لولا " ; أي : هلا ، " أرسلت إلينا رسولا " يدعونا إلى طاعتك ، " فنتبع آياتك " ; أي : نعمل بمقتضاها ، " من قبل أن نذل " [ ص: 337 ] بالعذاب ، " ونخزى " في جهنم . وقرأ ابن عباس ، وابن السميفع ، وأبو حاتم عن يعقوب : ( نذل ونخزى ) برفع النون فيهما وفتح الذال . " قل " لهم يا محمد : " كل " منا ومنكم " متربص " ; أي : نحن نتربص بكم العذاب في الدنيا ، وأنتم تتربصون بنا الدوائر ، " فتربصوا " ; أي : فانتظروا ، " فستعلمون " إذا جاء أمر الله ، " من أصحاب الصراط السوي " ; أي : الدين المستقيم ، " ومن اهتدى " من الضلالة ، أنحن أم أنتم ؟ وقيل : هذه منسوخة بآية السيف ، وليس بشيء .
[ ص: 338 ]

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ لَقَدْ أَنْـزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ .

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : " اقْتَرَبَ " افْتَعَلَ ، مِنَ الْقُرْبِ ، يُقَالُ : قَرُبَ الشَّيْءُ [ ص: 339 ] وَاقْتَرَبَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ وَقْتَ حِسَابِهِمْ . وَقِيلَ : اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : " لِلنَّاسِ " بِمَعْنَى ( مِنْ ) . وَالْمُرَادُ بِالْحِسَابِ : مُحَاسَبَةُ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .

وَفِي مَعْنَى قُرْبِهُ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ آتٍ ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ .

وَالثَّانِي : لِأَنَّ الزَّمَانَ - لِكَثْرَةِ مَا مَضَى وَقِلَّةِ مَا بَقِيَ - قَرِيبٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ " ; أَيْ : عَمَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، " مُعْرِضُونَ " عَنِ التَّأَهُّبِ لَهُ . وَقِيلَ : " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ " عَامٌّ ، وَالْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ خَاصٌّ فِي الْكُفَّارِ ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : " مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ " ، وَفِي هَذَا الذِّكْرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْقُرْآنُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ; فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : " مُحْدَثٍ " إِلَى إِنْزَالِهِ لَهُ ; لِأَنَّهُ أُنْزِلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ الْأَذْكَارِ ، وَلَيْسَ بِالْقُرْآنِ ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَقَالَ النِّقَاشُ : هُوَ ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ بِالْقُرْآنِ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ : " هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مُسْتَهْزِئِينَ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-11-2022, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (386)
صــ 340 إلى صــ 347




قَوْلُهُ تَعَالَى : " لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ " ; أَيْ : غَافِلَةً عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ . قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : إِلَّا اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ : [ ص: 340 ] " يَلْعَبُونَ " . وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ : ( لَاهِيَةٌ ) بِالرَّفْعِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى " ; أَيْ : تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، يَعْنِي : الْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُمْ ، فَقَالَ : " الَّذِينَ ظَلَمُوا " ; أَيْ : أَشْرَكُوا بِاللَّهِ . وَ " الَّذِينَ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " وَأَسَرُّوا " . ثُمَّ بَيَّنَ سِرِّهُمُ الَّذِي تَنَاجَوْا بِهِ ، فَقَالَ : هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ; أَيْ : آدَمِيٌّ ، فَلَيْسَ بِمَلِكٍ ، وَهَذَا إِنْكَارٌ لِنُبُوَّتِهِ . وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : " أَسَرُّوا " هَاهُنَا بِمَعْنَى : أَظْهَرُوا ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ " ; أَيْ : أَفَتَقْبَلُونَ السِّحْرَ ، " وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ " أَنَّهُ سَحْرٌ ؟ يَعْنُونَ : أَنَّ مُتَابِعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَابَعَةُ السِّحْرِ . " قَالَ رَبِّي " وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ : ( قُلْ رَبِّي ) . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ : ( قَالَ رَبِّي ) ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ الْكُوفِيِّينَ ، وَهَذَا عَلَى الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَعْلَمُ الْقَوْلَ ; أَيْ : لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقَالُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا أَسْرَرْتُمْ . " بَلْ قَالُوا " قَالَ الْفَرَّاءُ : رَدٌّ بِـ " بَلْ " عَلَى مَعْنَى تَكْذِيبِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ قَبْلَهُ الْكَلَامُ بِجُحُودِهِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْجَاحِدِينَ ، وَأَعْلَمَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ تَحَيَّرُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : هَذَا الَّذِي يَأْتِي بِهِ سِحْرٌ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمُخْتَلَطَةُ تُرَى فِي الْمَنَامِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي ( يُوسُفَ : 44 ) ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : افْتَرَاهُ ; أَيِ : اخْتَلَقَهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : هُوَ شَاعِرٌ ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَالنَّاقَةِ وَالْعَصَا ، فَاقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الَّتِي لَا إِمْهَالَ بَعْدَهَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ " يَعْنِي : مُشْرِكِي مَكَّةَ ، " مِنْ قَرْيَةٍ " وَصَفَ الْقَرْيَةِ ، وَالْمُرَادُ : أَهْلُهَا ، وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أُهْلِكَتْ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ ، لَمْ يُؤْمِنُوا [ ص: 341 ] بِالْآيَاتِ لَمَّا أَتَتْهُمْ ، فَكَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ ؟ وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا " هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ : هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " نُوحِي إِلَيْهِمْ " قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ : ( يُوحَى ) بِالْيَاءِ . وَرَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ : ( نُوحِي ) بِالنُّونِ . وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي ( النَّحْلِ : 43 ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَمَا جَعَلْنَاهُمْ " يَعْنِي : الرُّسُلَ ، " جَسَدًا " قَالَ الْفَرَّاءُ : لَمْ يَقُلْ : أَجْسَادًا ; لِأَنَّهُ اسْمُ الْجِنْسِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَيْسَ فِيهِمْ رُوحٌ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : مَا جَعَلْنَا الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ أَجْسَادًا لَا تَأْكُلُ الطَّعَامَ ، وَلَا تَمُوتُ فَنَجْعَلُهُ كَذَلِكَ . قَالَ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ جَمِيعًا : الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ الْكَلَامِ بِجَحْدَيْنِ ، كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا ، فَمَعْنَى الْآيَةِ : إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ . قَالَ قَتَادَةُ : الْمَعْنَى : وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا إِلَّا لِيَأْكُلُوا الطَّعَامَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ " يَعْنِي : الْأَنْبِيَاءَ أَنْجَزْنَا وَعْدَهُمُ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِإِنْجَائِهِمْ وَإِهْلَاكِ مُكَذِّبِيهِمْ ، " فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ " وَهُمُ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ ، " وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ " يَعْنِي : أَهْلَ الشِّرْكِ ; وَهَذَا تَخْوِيفٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ . ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ ، فَقَالَ : " لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ " ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

أَحَدُهَا : فِيهِ شَرَفُكُمْ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي : فِيهِ دِينُكُمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، يَعْنِي : فِيهِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ .

وَالثَّالِثُ : فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَكُمْ لِمَا تَلْقَوْنَهُ مِنْ رَجْعَةٍ أَوْ عَذَابٍ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " أَفَلا تَعْقِلُونَ " مَا فَضَّلْتُكُمْ بِهِ عَلَى غَيْرِكُمْ . [ ص: 342 ]
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين .

ثم خوفهم فقال : " وكم قصمنا " قال المفسرون واللغويون : معناه : وكم أهلكنا ، وأصل القصم : الكسر . وقوله : " كانت ظالمة " ; أي : كافرة ، والمراد : أهلها . " فلما أحسوا بأسنا " ; أي : رأوا عذابنا بحاسة البصر ، " إذا هم منها يركضون " ; أي : يعدون ، وأصل الركض : تحريك الرجلين ، يقال : ركضت الفرس : إذا أعديته بتحريك رجليك فعدا .

قوله تعالى : " لا تركضوا " قال المفسرون : هذا قول الملائكة لهم ، " وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " ; أي : إلى نعمكم التي أترفتكم ، وهذا توبيخ لهم .

وفي قوله : " لعلكم تسألون " قولان :

أحدهما : تسألون من دنياكم شيئا ، استهزاء بهم ، قاله قتادة .

والثاني : تسألون عن قتل نبيكم ، قاله ابن السائب . فلما أيقنوا بالعذاب " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين " بكفرنا ، وقيل : بتكذيب نبينا . " فما زالت تلك دعواهم " ; أي : ما زالت تلك الكلمة التي هي " يا ويلنا إنا كنا ظالمين " قولهم يرددونها ، " حتى جعلناهم حصيدا " بالعذاب ، وقيل : بالسيوف ، " خامدين " ; أي : ميتين كخمود النار إذا طفئت .
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف [ ص: 343 ] بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون .

قوله تعالى : " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين " ; أي : لم نخلق ذلك عبثا ، إنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، ليعتبر الناس بخلقه ، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إلا لخالقه ، لنجازي أولياءنا ونعذب أعداءنا .

قوله تعالى : " لو أردنا أن نتخذ لهوا " في سبب نزولها قولان :

أحدها : أن المشركين لما قالوا : الملائكة بنات الله والآلهة بناته ، نزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني : أن نصارى نجران قالوا : إن عيسى ابن الله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل .

وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال :

أحدها : الولد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال السدي . قال الزجاج : المعنى : لو أردنا أن نتخذ ولدا ذا لهو نلهى به .

والثاني : المرأة ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة . [ ص: 344 ]

والثالث : اللعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

قوله تعالى : " لاتخذناه من لدنا " قال ابن جريج : لاتخذنا نساء ، أو ولدا من أهل السماء ، لا من أهل الأرض . قال ابن قتيبة : وأصل اللهو : الجماع ، فكني عنه باللهو كما كني عنه بالسر ، والمعنى : لو فعلنا ذلك لاتخذناه من عندنا ; لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره .

وفي قوله : " إن كنا فاعلين " قولان :

أحدهما : أن " إن " بمعنى ( ما ) ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة .

والثاني : أنها بمعنى الشرط . قال الزجاج : والمعنى : إن كنا نفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله ، قال : والقول الأول قول المفسرين ، والثاني قول النحويين ، وهم يستجيدون القول الأول أيضا ; لأن " إن " تكون في موضع النفي ، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام ، تقول : إن كنت لصالحا ، معناه : ما كنت إلا صالحا .

قوله تعالى : " بل " ; أي : دع ذاك الذي قالوا فإنه باطل ، " نقذف بالحق " ; أي : نسلط الحق وهو القرآن ، " على الباطل " وهو كذبهم ، " فيدمغه " قال ابن قتيبة : أي : يكسره ، وأصل هذا إصابة الدماغ بالضرب ، وهو مقتل . " فإذا هو زاهق " ; أي : زائل ذاهب . قال المفسرون : والمعنى : إنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ، " ولكم الويل مما تصفون " ; أي : من وصفكم الله بما لا يجوز ، " وله من في السماوات والأرض " يعني : هم عبيده وملكه ، " ومن عنده " يعني : الملائكة .

وفي قوله : " ولا يستحسرون " ثلاثة أقوال :

أحدها : لا يرجعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . [ ص: 345 ]

والثاني : لا ينقطعون ، قاله مجاهد . وقال ابن قتيبة : لا يعيون ، والحسر : المنقطع الواقف إعياء وكلالا .

والثالث : لا يملون ، قاله ابن زيد .

قوله تعالى : " لا يفترون " قال قتادة : لا يسأمون . وسئل كعب : أما يشغلهم شأن ؟ أما تشغلهم حاجة ؟! فقال للسائل : يابن أخي ; جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس ، ألست تأكل وتشرب ، وتقوم وتجلس ، وتجيء وتذهب ، وتتكلم وأنت تتنفس ؟ فكذلك جعل لهم التسبيح . ثم إن الله تعالى عاد إلى توبيخ المشركين فقال : " أم اتخذوا آلهة من الأرض " ; لأن أصنامهم من الأرض هي ، سواء كانت من ذهب أو فضة ، أو خشب أو حجارة ، " هم " يعني : الآلهة ، " ينشرون " ; أي : يحيون الموتى . وقرأ الحسن : ( ينشرون ) بفتح الياء وضم الشين . وهذا استفهام بمعنى الجحد ، والمعنى : ما اتخذوا آلهة تنشر ميتا . " لو كان فيهما " يعني : السماء والأرض ، " آلهة " يعني : معبودين ، " إلا الله " قال الفراء : سوى الله ، وقال الزجاج : غير الله .

قوله تعالى : " لفسدتا " ; أي : لخربتا وبطلتا ، وهلك من فيهما ؛ لوجود التمانع بين الآلهة ، فلا يجري أمر العالم على النظام ; لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعدا لم يسلم من الخلاف .

قوله تعالى : " لا يسأل عما يفعل " ; أي : عما يحكم في عباده من هدي وإضلال ، وإعزاز وإذلال ; لأنه المالك للخلق ، والخلق يسألون عن أعمالهم ; لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم . ولما أبطل عز وجل أن يكون إله سواه من حيث العقل بقوله : " لفسدتا " ، أبطل ذلك من حيث الأمر ، فقال : " أم اتخذوا من دونه آلهة " وهذا استفهام إنكار وتوبيخ . " قل [ ص: 346 ] هاتوا برهانكم " على ما تقولون ، " هذا ذكر من معي " يعني : القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة ، بما لهم من الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية . " وذكر من قبلي " يعني : الكتب المنزلة ، والمعنى : هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت قبله ، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إله سواه ؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به . قال الزجاج : قيل لهم : هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أخبر أمته بأن لهم إلها غير الله .

قوله تعالى : " بل أكثرهم " يعني : كفار مكة ، " لا يعلمون الحق " وفيه قولان :

أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس . والثاني : التوحيد ، قاله مقاتل . " فهم معرضون " عن التفكر والتأمل ، وما يجب عليهم من الإيمان .
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

قوله تعالى : " من رسول إلا نوحي " قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( إلا نوحي ) بالنون ، والباقون بالياء .

قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " في القائلين لهذا قولان :

أحدهما : أنهم مشركو قريش ، قاله ابن عباس . وقال ابن إسحاق : القائل لهذا النضر بن الحارث .

والثاني : أنهم اليهود ، قالوا : إن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة ! قاله [ ص: 347 ] قتادة . فعلى القولين ، المراد بالولد : الملائكة ، وكذلك المراد بقوله : " بل عباد مكرمون " ، والمعنى : بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم ، " لا يسبقونه بالقول " ; أي : لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به . وقال ابن قتيبة : لا يقولون حتى يقول ، ثم يقولون عنه ، ولا يعملون حتى يأمرهم .

قوله تعالى : " يعلم ما بين أيديهم " ; أي : ما قدموا من الأعمال ، " وما خلفهم " ما هم عاملون ، " ولا يشفعون " يوم القيامة ، وقيل : لا يستغفرون في الدنيا ، " إلا لمن ارتضى " ; أي : لمن رضي عنه ، " وهم من خشيته " ; أي : من خشيتهم منه ، فأضيف المصدر إلى المفعول . " مشفقون " ; أي : خائفون . وقال الحسن : يرتعدون . " ومن يقل منهم " ; أي : من الملائكة . قال الضحاك في آخرين : هذه خاصة لإبليس ، لم يدع أحد من الملائكة إلى عبادة نفسه سواه . قال أبو سليمان الدمشقي : وهذا قول من قال : إنه من الملائكة ، فإن إبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إلى الأرض ، ومن قال : إنه ليس من الملائكة ، قال : هذا على وجه التهديد ، وما قال أحد من الملائكة ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26-11-2022, 08:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (387)
صــ 348 إلى صــ 355



أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون . [ ص: 348 ]

قوله تعالى : " أولم ير الذين كفروا " ; أي : أولم يعلموا . وقرأ ابن كثير : ( ألم ير الذين كفروا ) بغير واو بين الألف واللام ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة . " أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " قال أبو عبيدة : السماوات جمع ، والأرض واحدة ، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد ، والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين جمع وبين واحد ، والرتق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث سواء ، ومعنى الرتق : الذي ليس فيه ثقب . قال الزجاج : المعنى : كانتا ذواتي رتق ، فجعلهما ذوات فتق ، وإنما لم يقل : رتقين ; لأن الرتق مصدر .

وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال :

أحدها : أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات ، رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد في رواية ، والضحاك في آخرين .

والثاني : أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ، ففتقهما الله تعالى ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

والثالث : أنه فتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعا ، ومن السماء ست سماوات فصارت سبعا ، رواه السدي عن أشياخه ، وابن أبي نجيح عن مجاهد .

قوله تعالى : " وجعلنا من الماء كل شيء حي " وقرأ معاذ القارئ ، وابن أبي عبلة ، وحميد بن قيس : ( كل شيء حيا ) بالنصب .

وفي هذا الماء قولان :

أحدهما : أنه الماء المعروف ، والمعنى : جعلنا الماء سببا لحياة كل حي ، قاله الأكثرون . والثاني : أنه النطفة ، قاله أبو العالية . [ ص: 349 ]

قوله تعالى : " وجعلنا في الأرض رواسي " قد فسرناه في ( النحل : 15 ) .

قوله تعالى : " وجعلنا فيها " ; أي : في الرواسي ، " فجاجا " قال أبو عبيدة : هي المسالك . قال الزجاج : الفجاج جمع فج ، وهو كل منخرق بين جبلين ، ومعنى " سبلا " : طرقا . قال ابن عباس : جعلنا من الجبال طرقا ; كي تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار . قال المفسرون : وقوله : " سبلا " تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة مسلوكة ، فقد يكون الفج غير نافذ . " وجعلنا السماء سقفا " ; أي : هي للأرض كالسقف .

وفي معنى " محفوظا " قولان :

أحدهما : بالنجوم من الشياطين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني : محفوظا من الوقوع إلا بإذن الله ، قاله الزجاج .

قوله تعالى : " وهم " يعني : كفار مكة ، " عن آياتها " ; أي : شمسها وقمرها ونجومها . قال الفراء : وقرأ مجاهد : ( عن آيتها ) فوحده ، فجعل السماء بما فيها آية ، وكل صواب .

قوله تعالى : " كل " يعني : الطوالع ، " في فلك " قال ابن قتيبة : الفلك : مدار النجوم الذي يضمها ، وسماه فلكا لاستدارته . ومنه قيل : فلكة المغزل ، وقد فلك ثدي المرأة . قال أبو سليمان : وقيل : إن الفلك - كهيئة الساقية من ماء - مستديرة دون السماء وتحت الأرض ، فالأرض وسطها ، والشمس والقمر ، والنجوم ، والليل والنهار ، يجرون في الفلك ، وليس الفلك يديرها . ومعنى " يسبحون " : يجرون . قال الفراء : لما كانت السباحة من أفعال الآدميين ، ذكرت بالنون ، كقوله : رأيتهم لي ساجدين [ يوسف : 40 ] ; لأن السجود من أفعال الآدميين . [ ص: 350 ]
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

قوله تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " سبب نزولها أن ناسا قالوا : إن محمدا لا يموت ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الآية : ما خلدنا قبلك أحدا من بني آدم ، والخلد : البقاء الدائم . " أفإن مت فهم الخالدون " يعني : مشركي مكة ; لأنهم قالوا : نتربص به ريب المنون [ الطور : 30 ] .

قوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير " قال ابن زيد : نختبركم بما تحبون لننظر كيف شكركم ، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم .

قوله تعالى : " وإلينا ترجعون " [ قرأ ابن عامر : ( ترجعون ) بتاء مفتوحة . وروى ابن عباس عن أبي عمرو : ( يرجعون ) ] بياء مضمومة . وقرأ الباقون بتاء مضمومة .

قوله تعالى : " وإذا رآك الذين كفروا " قال ابن عباس : يعني : المستهزئين . وقال السدي : نزلت في أبي جهل ، مر به رسول الله ، فضحك وقال : هذا نبي بني عبد مناف . و " إن " بمعنى ( ما ) ، ومعنى " هزوا " : مهزوءا به . " أهذا الذي يذكر آلهتكم " ; أي : يعيب أصنامكم ، وفيه إضمار يقولون . " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " وذلك أنهم قالوا : ما نعرف الرحمن ، فكفروا بالرحمن .

خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين [ ص: 351 ] كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

قوله تعالى : " خلق الإنسان من عجل " وقرأ أبو رزين العقيلي ، ومجاهد ، والضحاك : ( خلق الإنسان ) بفتح الخاء واللام ونصب النون . وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب .

وفي المراد بالإنسان هاهنا ثلاثة أقوال :

أحدها : النضر بن الحارث ، وهو الذي قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك . . . الآية [ الأنفال : 32 ] ، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثاني : آدم عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير ، والسدي في آخرين .

والثالث : أنه اسم جنس ، قاله علي بن أحمد النيسابوري ، فعلى هذا يدخل النضر بن الحارث وغيره في هذا ، وإن كانت الآية نزلت فيه .

فأما من قال : أريد به : آدم ، ففي معنى الكلام قولان :

أحدهما : أنه خلق عجولا ، قاله الأكثرون . فعلى هذا يقول : لما طبع آدم على هذا المعنى ، وجد في أولاده ، وأورثهم العجل .

والثاني : خلق بعجل ، استعجل بخلقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة ، وهو آخر الأيام الستة ، قاله مجاهد .

فأما من قال : هو اسم جنس ، ففي معنى الكلام قولان :

أحدهما : خلق عجولا ، قال الزجاج : خوطبت العرب بما تعقل ، [ ص: 352 ] والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب : إنما خلقت من لعب ، يريدون المبالغة في وصفه بذلك .

والثاني : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والمعنى : خلقت العجلة في الإنسان ، قاله ابن قتيبة .

قوله تعالى : " سأريكم آياتي " فيه قولان :

أحدهما : ما أصاب الأمم المتقدمة ، والمعنى : إنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين ، قاله ابن السائب .

والثاني : أنها القتل ببدر ، قاله مقاتل .

قوله تعالى : " فلا تستعجلون " أثبت الياء في الحالين يعقوب .

قوله تعالى : " ويقولون متى هذا الوعد " يعنون : القيامة . " لو يعلم الذين كفروا " جوابه محذوف ، والمعنى : لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا ، " حين لا يكفون " ; أي : لا يدفعون ، " عن وجوههم النار " إذا دخلوا ، " ولا عن ظهورهم " لإحاطتها بهم ، " ولا هم ينصرون " ; أي : يمنعون مما نزل بهم ، " بل تأتيهم " يعني : الساعة ، " بغتة " فجأة ، " فتبهتهم " تحيرهم ، وقد شرحنا هذا عند قوله : فبهت الذي كفر [ البقرة : 258 ] . " فلا يستطيعون ردها " ; أي : صرفها عنهم ، ولا هم يمهلون لتوبة أو معذرة . ثم عزى نبيه فقال : " ولقد استهزئ برسل من قبلك " ; أي : كما فعل بك قومك ، " فحاق " ; أي : نزل ، " بالذين سخروا منهم " ; أي : من الرسل ، " ما كانوا به يستهزئون " يعني : العذاب الذي كانوا استهزؤوا به .
قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون بل متعنا [ ص: 353 ] هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون .

قوله تعالى : " قل من يكلؤكم " المعنى : قل لهؤلاء المستعجلين بالعذاب : من يحفظكم من بأس الرحمن إن أراد إنزاله بكم ؟ وهذا استفهام إنكار ; أي : لا أحد يفعل ذلك . " بل هم عن ذكر ربهم " ; أي : عن كلامه ومواعظه ، " معرضون " لا يتفكرون ولا يعتبرون . " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا " فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم ؟ وهاهنا تم الكلام . ثم وصف آلهتهم بالضعف ، فقال : " لا يستطيعون نصر أنفسهم " والمعنى : من لا يقدر على نصر نفسه عما يراد به ، فكيف ينصر غيره ؟

قوله تعالى : " ولا هم " في المشار إليهم قولان :

أحدهما : أنهم الكفار ، وهو قول ابن عباس . والثاني : أنهم الأصنام ، قاله قتادة .

وفي معنى " يصحبون " أربعة أقوال :

أحدها : يجارون ، رواه العوفي عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : والمعنى : لا يجيرهم منا أحد ; لأن المجير صاحب لجاره . والثاني : يمنعون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث : ينصرون ، قاله مجاهد . والرابع : لا يصحبون بخير ، قاله قتادة .

ثم بين اغترارهم بالإمهال ، فقال : " بل متعنا هؤلاء وآباءهم " يعني : أهل مكة ، " حتى طال عليهم العمر " فاغتروا بذلك ، " أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها [ ص: 354 ] من أطرافها " قد شرحناه في ( الرعد : 41 ) ، " أفهم الغالبون " ; أي : مع هذه الحال ، وهو نقص الأرض ، والمعنى : ليسوا بغالبين ولكنهم المغلوبون . " قل إنما أنذركم " ; أي : أخوفكم ، " بالوحي " ; أي : بالقرآن ، والمعنى : إنني ما جئت به من تلقاء نفسي ، إنما أمرت فبلغت . " ولا يسمع الصم الدعاء " وقرأ ابن عامر : ( ولا تسمع ) بالتاء مضمومة ( الصم ) نصبا . وقرأ ابن يعمر والحسن : ( ولا يسمع ) بضم الياء وفتح الميم ( الصم ) بضم الميم . شبه الكفار بالصم الذين لا يسمعون نداء مناديهم ، ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا ، كالصم لا يفيدهم صوت مناديهم . " ولئن مستهم " ; أي : أصابتهم ، " نفحة " قال ابن عباس : طرف . وقال الزجاج : المراد : أدنى شيء من العذاب ، " ليقولن يا ويلنا " والويل ينادي به كل من وقع في هلكة .
ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

قوله تعالى : " ونضع الموازين القسط " قال الزجاج : المعنى : ونضع الموازين ذوات القسط ، والقسط : العدل ، وهو مصدر يوصف به ، يقال : ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط . قال الفراء : القسط من صفة الموازين وإن كان موحدا ، كما تقول : أنتم عدل ، وأنتم رضا . وقوله : " ليوم القيامة " و " في يوم القيامة " سواء ، وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول ( الأعراف : 8 ) .

فإن قيل : إذا كان الميزان واحدا ، فما المعنى بذكر الموازين ؟ [ ص: 355 ]

فالجواب : أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنة بعد وزنة ، سميت موازين .

قوله تعالى : " فلا تظلم نفس شيئا " ; أي : لا ينقص محسن من إحسانه ، ولا يزاد مسيء على إساءته . " وإن كان مثقال حبة " ; أي : وزن حبة . وقرأ نافع : ( مثقال ) برفع اللام . قال الزجاج : ونصب ( مثقال ) على معنى : وإن كان العمل مثقال حبة . وقال أبو علي الفارسي : وإن كان الظلامة مثقال حبة ; لقوله تعالى : " فلا تظلم نفس شيئا " . قال : ومن رفع أسند الفعل إلى المثقال ، كما أسند في قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة [ البقرة : 280 ] .

قوله تعالى : " أتينا بها " ; أي : جئنا بها . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد : ( آتينا ) ممدودة ; أي : جازينا بها .

قوله تعالى : " وكفى بنا حاسبين " قال الزجاج : هو منصوب على وجهين : أحدهما : التمييز ، والثاني : الحال .
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنـزلناه أفأنتم له منكرون .

قوله تعالى : " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه التوراة التي فرق بها بين الحلال والحرام ، قاله مجاهد وقتادة .

والثاني : البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون ، قاله ابن زيد .

والثالث : النصر والنجاة لموسى ، وإهلاك فرعون ، قاله ابن السائب .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26-11-2022, 08:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (388)
صــ 356 إلى صــ 363




قوله تعالى : " وضياء " روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة . قال الزجاج : وكذلك قال بعض النحويين أن المعنى : الفرقان ضياء . وعند [ ص: 356 ] البصريين أن الواو لا تزاد ولا تأتي إلا بمعنى العطف ، فهي هاهنا مثل قوله تعالى : فيها هدى ونور [ المائدة : 44 ] . قال المفسرون : والمعنى : أنهم استضاؤوا بالتوراة حتى اهتدوا بها في دينهم . ومعنى قوله تعالى : " وذكرا للمتقين " : أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه . " الذين يخشون ربهم بالغيب " فيه أربعة أقوال :

أحدها : يخافونه ولم يروه ، قاله الجمهور . والثاني : يخشون عذابه ولم يروه ، قاله مقاتل . والثالث : يخافونه من حيث لا يراهم أحد ، قاله الزجاج . والرابع : يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس ، كخوفهم إذا كانوا بين الناس ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ثم عاد إلى ذكر القرآن ، فقال : " وهذا " يعني : القرآن ، " ذكر " لمن تذكر به وعظة لمن اتعظ ، " مبارك " ; أي : كثير الخير ، " أفأنتم " يا أهل مكة ، " له منكرون " ; أي : جاحدون ؟ وهذا استفهام توبيخ .
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون .

قوله تعالى : " ولقد آتينا إبراهيم رشده " ; أي : هداه ، " من قبل " وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : من قبل بلوغه ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني : آتيناه ذلك في العلم السابق ، قاله الضحاك عن ابن عباس . [ ص: 357 ]

والثالث : من قبل موسى وهارون ، قاله الضحاك . وقد أشرنا إلى قصة إبراهيم في ( الأنعام : 75 ) .

قوله تعالى : " وكنا به عالمين " ; أي : علمنا أنه موضع لإيتاء الرشد . ثم بين متى آتاه ، فقال : " إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل " يعني : الأصنام . والتمثال : اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى ، وأصله من مثلت الشيء بالشيء : إذا شبهته به . وقوله : " التي أنتم لها " ; أي : على عبادتها ، " عاكفون " ; أي : مقيمون ، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدوا بهم ، فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءهم في ضلال مبين . " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " يعنون : أجاد أنت أم لاعب ؟

قوله تعالى : " لأكيدن أصنامكم " الكيد : احتيال الكائد في ضر المكيد . والمفسرون يقولون : لأكيدنها بالكسر . " بعد أن تولوا " ; أي : تذهبوا عنها ، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إليه ، ولا يخلفون بالمدينة أحدا ، فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق قال : إني سقيم ، وألقى نفسه ، وقال سرا منهم : " وتالله لأكيدن أصنامكم " ، فسمعه رجل منهم فأفشاه عليه ، فرجع إلى بيت الأصنام ، وكانت - فيما ذكره مقاتل بن سليمان - اثنين وسبعين صنما من ذهب وفضة ، ونحاس وحديد ، وخشب ، فكسرها ، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير ، فذلك قوله : " فجعلهم جذاذا " قرأ الأكثرون : ( جذاذا ) بضم الجيم . وقرأ أبو بكر الصديق ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، وقتادة ، وابن محيصن ، والأعمش ، والكسائي : ( جذاذا ) بكسر الجيم . وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأيوب السختياني ، وعاصم الجحدري : ( جذاذا ) بفتح الجيم . وقرأ الضحاك وابن يعمر : ( جذذا ) [ ص: 358 ] بفتح الجيم من غير ألف . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو حيوة ، وابن وثاب : ( جذذا ) بضم الجيم من غير ألف . قال أبو عبيدة : أي : مستأصلين ، قال جرير :


بنو المهلب جذ الله دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف


أي : لم يبق منهم شيء ، ولفظ " جذاذ " يقع على الواحد والاثنين والجميع ، من المذكر والمؤنث . وقال ابن قتيبة : " جذاذا " ; أي : فتاتا ، وكل شيء كسرته فقد جذذته ، ومنه قيل للسويق : الجذيذ . وقرأ الكسائي : ( جذاذا ) بكسر الجيم على أنه جمع جذيذ ، مثل : ثقيل وثقال ، وخفيف وخفاف ، والجذيذ بمعنى المجذوذ ، وهو المكسور . " إلا كبيرا لهم " ; أي : كسر الأصنام إلا أكبرها . قال الزجاج : جائز أن يكون أكبرها في ذاته ، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه . " لعلهم إليه يرجعون " في هاء الكناية قولان :

أحدهما : أنها ترجع إلى الصنم ، ثم فيه قولان : أحدهما : لعلهم يرجعون إليه فيشاهدونه ، هذا قول مقاتل . والثاني : لعلهم يرجعون إليه بالتهمة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

والثاني : أنها ترجع إلى إبراهيم . والمعنى : لعلهم يرجعون إلى دين إبراهيم بوجوب الحجة عليهم ، قاله الزجاج .
قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون . [ ص: 359 ]

فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إلى آلهتهم ، " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " ; أي : قد فعل ما لم يكن له فعله ، فقال الذي سمع إبراهيم يقول : لأكيدن أصنامكم : " سمعنا فتى يذكرهم " قال الفراء : أي : يعيبهم ، تقول للرجل : لئن ذكرتني لتندمن ، تريد : بسوء .

قوله تعالى : " فأتوا به على أعين الناس " ; أي : بمرأى منهم ، لا تأتوا به خفية . قال أبو عبيدة : تقول العرب إذا أظهر الأمر وشهر : كان ذلك على أعين الناس .

قوله تعالى : " لعلهم يشهدون " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وقتادة .

والثاني : يشهدون أنه فعل ذلك ، قاله السدي .

والثالث : يشهدون عقابه وما يصنع به ، قاله محمد بن إسحاق .

قال المفسرون : فانطلقوا به إلى نمرود ، فقال له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال : بل فعله كبيرهم هذا ، غضب أن تعبد معه الصغار فكسرها ، " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " من فعله بهم ؟ وهذا إلزام للحجة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النطق .

واختلف العلماء في وجه هذا القول من إبراهيم عليه السلام على قولين :

أحدهما : أنه وإن كان في صورة الكذب ، إلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له ، لا يصلح أن يكون إلها ، ومثله قول الملكين لداود إن هذا أخي ، ولم يكن أخاه ، له تسع وتسعون نعجة [ ص : 23 ] ، ولم يكن له شيء ، [ ص: 360 ] فجرى هذا مجرى التنبيه لداود على ما فعل ، وأنه هو المراد بالفعل والمثل المضروب ، ومثل هذا لا تسميه العرب كذبا .

والثاني : أنه من معاريض الكلام ، فروي عن الكسائي أنه [ كان ] يقف عند قوله تعالى : " بل فعله " ، ويقول : معناه : فعله من فعله ، ثم يبتدئ : " كبيرهم هذا " . قال الفراء : وقرأ بعضهم : ( بل فعله ) بتشديد اللام ، يريد : فلعله كبيرهم هذا . وقال ابن قتيبة : هذا من المعاريض ، ومعناه : إن كانوا ينطقون ، فقد فعله كبيرهم ، وكذلك قوله : إني سقيم [ الصافات : 89 ] ; أي : سأسقم ، ومثله : إنك ميت [ الزمر : 30 ] ; أي : ستموت ، وقوله : لا تؤاخذني بما نسيت [ الكهف : 74 ] ، قال ابن عباس : لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ، والمعنى : لا تؤاخذني بنسياني ، ومن هذا قصة الخصمين إذ تسوروا المحراب [ ص : 21 ] ، ومثله وإنا أو إياكم لعلى هدى [ سبأ : 24 ] ، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيرا ، فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف من الكشف ، وأحسن من التصريح . وروي أن قوما من الأعراب خرجوا يمتارون ، فلما صدروا ، خالف رجل في بعض الليل إلى عكم صاحبه ، فأخذ منه برا وجعله في عكمه ، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان ، رأى عكمه يشول وعكم صاحبه يثقل ، فأنشأ يقول :


عكم تغشى بعض أعكام القوم لم أر عكما سارقا قبل اليوم


فخون صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح . قال ابن الأنباري : كلام إبراهيم كان صدقا عند البحث ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب إبراهيم ثلاث كذبات " : [ ص: 361 ] قال قولا يشبه الكذب في الظاهر ، وليس بكذب . قال المصنف : وقد ذهب جماعة من العلماء إلى هذا الوجه ، وأنه من المعاريض ، والمعاريض لا تذم خصوصا إذا احتيج إليها . روى عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما يسرني أن [ ص: 362 ] لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي . وقال النخعي : لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم . وقال ابن سيرين : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعجوز : " إن الجنة لا تدخلها العجائز " ، أراد : قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء [ الواقعة : 35 ] . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح بلالا ، فيقول : " ما أخت خالك منك " ؟ وقال لامرأة : " من زوجك " ؟ فسمته له ، فقال : " الذي في عينيه بياض " ؟ ، وقال لرجل : " إنا حاملوك على ولد ناقة " ، وقال له العباس : ما ترجو لأبي طالب ؟ فقال : " كل خير أرجوه من ربي " . وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد : من هذا بين يديك ؟ يقول : هاد يهديني . وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له ، فقالت له : وعلى فراشي أيضا ؟ فجحد ، فقالت له : فاقرأ القرآن ، فقال :


وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق مشهور من الصبح طالع


يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
[ ص: 363 ]

فقالت : آمنت بالله ، وكذبت بصري ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فضحك وأعجبه ما صنع
. وعرض شريح ناقة ليبيعها ، فقال له المشتري : كيف لبنها ؟ قال : احلب في أي إناء شئت . قال : كيف الوطاء ؟ قال : افرش ونم . قال : كيف نجاؤها ؟ قال : إذا رأيتها في الإبل عرفت مكانها ، علق سوطك وسر . قال : كيف قونها ؟ قال : احمل على الحائط ما شئت ; [ فاستصراها ] فلم ير شيئا مما وصف ، فرجع إليه ، فقال : لم أر فيها شيئا مما وصفتها به . قال : ما كذبتك . قال : أقلني . قال : نعم . وخرج شريح من عند زياد وهو مريض ، فقيل له : كيف وجدت الأمير ؟ قال : تركته يأمر وينهى ، فقيل له : ما معنى يأمر وينهى ؟ قال : يأمر بالوصية وينهى عن النوح . وأخذ محمد بن يوسف حجرا المدري ، فقال : العن عليا . فقال : إن الأمير أمرني أن ألعن عليا محمد بن يوسف ، فالعنوه ، لعنه الله . وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن علي ، فقال : لعن الله من لعن الله ولعن علي ، ثم قال : إن [ هذا ] الأمير قد أبى إلا أن ألعن عليا ، فالعنوه ، لعنه الله . وامتحنت الخوارج رجلا من الشيعة ، فجعل يقول : أنا من علي، ومن عثمان بريء . وخطب رجل امرأة وتحته أخرى ، فقالوا : لا نزوجك حتى تطلق امرأتك ، فقال : اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا ، فزوجوه ، فأقام مع المرأة الأولى ، فادعوا أنه قد طلق ، فقال : أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلقتها ، ثم فلانة فطلقتها ، ثم فلانة فطلقتها ؟ قالوا : بلى ، قال : فقد طلقت ثلاثا . وحكي أن رجلا عثر به الطائف ليلة ، فقال له : من أنت ؟ فقال :


أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره وإن نزلت يوما فسوف تعود

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26-11-2022, 08:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (389)
صــ 364 إلى صــ 371





[ ص: 364 ]
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره فمنهم قيام حولها وقعود
فظن الطائف أنه ابن بعض الأشراف بالبصرة ، فلما أصبح سأل عنه ، فإذا هو ابن باقلائي . ومثل هذا كثير .
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .

قوله تعالى : " فرجعوا إلى أنفسهم " فيه قولان :

أحدهما : رجع بعضهم إلى بعض . والثاني : رجع كل منهم إلى نفسه متفكرا .

قوله تعالى : " فقالوا إنكم أنتم الظالمون " فيه خمسة أقوال :

أحدها : حين عبدتم من لا يتكلم ، قاله ابن عباس .

والثاني : حين تتركون آلهتكم وحدها وتذهبون ، قاله وهب بن منبه .

والثالث : في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير ، روي عن وهب أيضا .

والرابع : لإبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام ، قاله ابن إسحاق ومقاتل .

والخامس : أنتم ظالمون لإبراهيم حين سألتموه وهذه أصنامكم حاضرة فاسألوها ، ذكره ابن جرير .

قوله تعالى : " ثم نكسوا على رءوسهم " وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة : ( نكسوا ) برفع النون وكسر الكاف مشددة . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : ( نكسوا ) بفتح النون والكاف [ ص: 365 ] مخففة . قال أبو عبيدة : " نكسوا " : قلبوا ، تقول : نكست فلانا على رأسه : إذا قهرته وعلوته .

ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال :

أحدها : أدركتهم حيرة ، فقالوا : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " ، قاله قتادة .

والثاني : رجعوا إلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق ، قاله ابن قتيبة .

والثالث : انقلبوا على إبراهيم يحتجون عليه بعد أن أقروا له ، ولاموا أنفسهم في تهمته ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله : " لقد علمت " إضمار ( قالوا )، وفي هذا إقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النطق ، فحينئذ توجهت لإبراهيم الحجة ، فقال موبخا لهم : " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم " ; أي : لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئا ، " ولا يضركم " إذا لم تعبدوه ، وفي هذا حث لهم على عبادة من يملك النفع والضر . " أف لكم " قال الزجاج : معناه : النتن لكم ، فلما ألزمهم الحجة غضبوا ، فقالوا : حرقوه . وذكر في التفسير أن نمرود استشارهم : بأي عذاب أعذبه ، فقال رجل : حرقوه ، فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا [ ص: 366 ] صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

قوله تعالى : " وانصروا آلهتكم " ; أي : بتحريقه ; لأنه يعيبها ، " إن كنتم فاعلين " ; أي : ناصريها .

الإشارة إلى القصة

ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إبراهيم عليه السلام في بيت ، ثم بنوا له حيرا طول جداره ستون ذراعا إلى سفح جبل منيف ، ونادى منادي الملك : أيها الناس احتطبوا لإبراهيم ، ولا يتخلفن عن ذلك صغير ولا كبير ، فمن تخلف ألقي في تلك النار ، ففعلوا ذلك أربعين ليلة ، حتى إن كانت المرأة لتقول : إن ظفرت بكذا لأحتطبن لنار إبراهيم ، حتى إذا كان الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحير وقذفوا فيه النار ، فارتفع لهبها ، حتى إن كان الطائر ليمر بها فيحترق من شدة حرها ، ثم بنوا بنيانا شامخا ، وبنوا فوقه منجنيقا ، ثم رفعوا إبراهيم على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء ، فقال : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فقالت السماء ، والأرض ، والجبال ، والملائكة : ربنا إبراهيم يحرق فيك ، فائذن لنا في نصرته ، فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه ; فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وقيل : ست وعشرين ، فقال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فاستقبله جبريل ، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك [ ص: 367 ] فلا ، قال جبريل : فسل ربك ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فقال الله عز وجل : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إلا طفئت وظنت أنها عنيت . وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها . وقال ابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها . قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم ، فأجلسوه على الأرض ، فإذا عين من ماء عذب ، وورد أحمر ونرجس . قال كعب ووهب : فما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه ، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام ، وقال غيرهما : أربعين أو خمسين يوما ، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة ، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة ، وقعد معه يحدثه . وإن آزر أتى نمرود فقال : ائذن لي أن أخرج عظام إبراهيم فأدفنها ، فانطلق نمرود ومعه الناس ، فأمر بالحائط فنقب ، فإذا إبراهيم في روضة تهتز وثيابه تندى ، وعليه القميص وتحته الطنفسة ، والملك إلى جنبه ، فناداه نمرود : يا إبراهيم ; إن إلهك الذي بلغت قدرته هذا لكبير ، هل تستطيع أن تخرج ؟ قال : نعم ، فقام إبراهيم يمشي حتى خرج . فقال : من الذي رأيت معك ؟ قال : ملك أرسله إلي ربي ليؤنسني ، فقال نمرود : إني مقرب [ ص: 368 ] لإلهك قربانا؛ لما رأيت من قدرته . فقال : إذن لا يقبل الله منك ما كنت على دينك ، فقال : يا إبراهيم ; لا أستطيع ترك ملكي ، ولكن سوف أذبح له ، فذبح القربان وكف عن إبراهيم .

قال المفسرون : ومعنى " كوني بردا " ; أي : ذات برد وسلاما ; أي : سلامة . " وأرادوا به كيدا " وهو التحريق بالنار . " فجعلناهم الأخسرين " وهو أن الله تعالى سلط البعوض عليهم ، حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم ، ودخلت واحدة في دماغ نمرود حتى أهلكته ، والمعنى : أنهم كادوه بسوء ، فانقلب السوء عليهم .

قوله تعالى : " ونجيناه " ; أي : من نمرود وكيده ، " ولوطا " وهو ابن أخي إبراهيم ، وهو لوط بن هاران بن تارح ، وكان قد آمن به ، فهاجرا من أرض العراق إلى الشام ، وكانت سارة مع إبراهيم في قول وهب . وقال السدي : إنما هي ابنة ملك حران ، لقيها إبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها ، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم .

فأما قوله تعالى: " إلى الأرض التي باركنا فيها " ، ففيها قولان :

أحدهما : أنها أرض الشام ، وهذا قول الأكثرين . وبركتها : أن الله عز وجل بعث أكثر الأنبياء منها ، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار .

والثاني : أنها مكة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، والأول أصح .

قوله تعالى : " ووهبنا له " يعني : إبراهيم ، " إسحاق ويعقوب نافلة " ، وفي معنى النافلة قولان :

أحدهما : أنها بمعنى الزيادة ، والمراد بها : يعقوب خاصة ، فكأنه سأل واحدا ، فأعطي اثنين ، وهذا مذهب ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، والفراء .

والثاني : أن النافلة بمعنى العطية ، والمراد بها : إسحاق ويعقوب ، وهذا مذهب مجاهد وعطاء . [ ص: 369 ]

قوله تعالى : " وكلا جعلنا صالحين " يعني : إبراهيم وإسحاق ويعقوب . قال أبو عبيدة : " كل " يقع خبره على لفظ الواحد ; لأن لفظه لفظ الواحد ، ويقع خبره على لفظ الجميع ; لأن معناه معنى الجميع .

قوله تعالى : " وجعلناهم أئمة " ; أي : رؤوسا يقتدى بهم في الخير ، " يهدون بأمرنا " ; أي : يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بذلك ، " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " قال ابن عباس : شرائع النبوة . وقال مقاتل : الأعمال الصالحة . " وإقام الصلاة " قال الزجاج : حذف الهاء من ( إقامة الصلاة )قليل في اللغة ، تقول : أقام إقامة ، والحذف جائز ; لأن الإضافة عوض من الهاء .
ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

قوله تعالى : " ولوطا آتيناه حكما " قال الزجاج : انتصب ( لوط ) بفعل مضمر ; لأن قبله فعلا ، فالمعنى : وأوحينا إليهم وآتينا لوطا . وذكر بعض النحويين : أنه منصوب على ( واذكر لوطا )، وهذا جائز ; لأن ذكر إبراهيم قد جرى ، فحمل لوط على معنى : واذكر .

قال المفسرون : لما هاجر لوط مع إبراهيم ، نزل إبراهيم أرض فلسطين ، ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة ، أو نحو ذلك من إبراهيم ، فبعثه الله نبيا .

فأما " الحكم " ففيه قولان :

أحدهما : أنه النبوة ، قاله ابن عباس .

والثاني : الفهم والعقل ، قاله مقاتل . وقد ذكرنا فيه أقوالا في سورة [ ص: 370 ] ( يوسف : 22 ) . وأما القرية هاهنا ، فهي سدوم ، والمراد : أهلها ، والخبائث : أفعالهم المنكرة ، فمنها : إتيان الذكور ، وقطع السبيل ، إلى غير ذلك مما قد ذكره الله عز وجل عنهم في مواضع [ هود : 78 ، والحجر : 69 ] .

قوله تعالى : " وأدخلناه في رحمتنا " ; أي : بإنجائه من بينهم .
ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

قوله تعالى : " ونوحا " المعنى : واذكر نوحا ، وكذلك ما يأتيك من ذكر الأنبياء ، " إذ نادى " ; أي : دعا على قومه ، " من قبل " ; أي : من قبل إبراهيم ولوط . فأما الكرب العظيم ، فقال ابن عباس : هو الغرق وتكذيب قومه .

قوله تعالى : " ونصرناه من القوم " ; أي : منعناه منهم أن يصلوا إليه بسوء . وقيل : " من " بمعنى ( على ) .
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين .

قوله تعالى : " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " وفيه قولان : [ ص: 371 ]

أحدهما : أنه كان عنبا ، قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وشريح .

والثاني : كان زرعا ، قاله قتادة .

" إذ نفشت فيه غنم القوم " قال ابن قتيبة ; أي : رعت ليلا ، يقال : نفشت الغنم بالليل ، وهي إبل نفش ونفاش ونفاش ، والواحد نافش ، وسرحت وسربت بالنهار . قال قتادة : النفش بالليل ، والهمل بالنهار . وقال ابن السكيت : النفش : أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع .

الإشارة إلى القصة

ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام ، أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فتفلتت الغنم فوقعت في الحرث ، فلم تبق منه شيئا ، فاختصما إلى داود ، فقال لصاحب الحرث : لك رقاب الغنم ، فقال سليمان : أوغير ذلك ؟ قال : ما هو ؟ قال : ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها ، ويقبل أصحاب الغنم على الكرم ، حتى إذا كان كليلة نفشت فيه الغنم ، دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم ، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم ، فقال داود : قد أصبت القضاء ، ثم حكم بذلك ، فذلك قوله : " وكنا لحكمهم شاهدين " ، وفي المشار إليهم قولان :

أحدهما : داود وسليمان ، فذكرهما بلفظ الجمع ; لأن الاثنين جمع ، هذا قول الفراء .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26-11-2022, 08:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (390)
صــ 372 إلى صــ 379






والثاني : أنهم داود وسليمان والخصوم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة : " وكنا لحكمهما " على التثنية . ومعنى [ ص: 372 ] " شاهدين " : أنه لم يغب عنا من أمرهم شيء . " ففهمناها سليمان " يعني : القضية والحكومة . وإنما كني عنها ; لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذكر الحكم ، " وكلا " منهما " آتينا حكما " وقد سبق بيانه . قال الحسن : لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه ، وعذر داود باجتهاده .

فصل

قال أبو سليمان الدمشقي : كان قضاء داود وسليمان جميعا من طريق الاجتهاد ، ولم يكن نصا ; إذ لو كان نصا ما اختلفا . قال القاضي أبو يعلى : وقد اختلف الناس في الغنم إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته ، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان ، وهو قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان عليه ليلا ونهارا ، إلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها ، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا ; لأن داود حكم بالضمان ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه . فإن قيل : فقد ثبت نسخ هذا الحكم ; لأن داود حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشت غنمه في حرث رجل شيء من ذلك . قيل : الآية تضمنت أحكاما ؛ منها : وجوب الضمان وكيفيته ، فالنسخ حصل على كيفيته ، ولم يحصل على أصله ، فوجب التعلق به . وقد روى حرام بن محيصة عن أبيه : أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل . [ ص: 373 ]

قوله تعالى : " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن " تقدير الكلام : وسخرنا الجبال يسبحن مع داود . قال أبو هريرة : كان إذا سبح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذكر . وقال غيره : كان إذا وجد فترة ، أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق هو فيسبح .

قوله تعالى : " وكنا فاعلين " ; أي : لذلك . قال الزجاج : المعنى : وكنا نقدر على ما نريده .

قوله تعالى : " وعلمناه صنعة لبوس لكم " في المراد باللبوس قولان :

أحدهما : الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد ، قاله قتادة .

والثاني : أن اللبوس : السلاح كله من درع إلى رمح ، قاله أبو عبيدة . وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع : " لبوس " بضم اللام .

قوله تعالى : " لتحصنكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ليحصنكم ) بالياء . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم : ( لتحصنكم ) بالتاء . وروى أبو بكر عن عاصم : ( لنحصنكم ) بالنون خفيفة . وقرأ أبو الدرداء ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة : ( لتحصنكم ) بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد . وقرأ ابن مسعود ، وأبو الجوزاء ، وحميد بن قيس : ( لتحصنكم ) بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها . وقرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو المتوكل ، ومجاهد : ( لنحصنكم ) بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها . وقرأ معاذ القارئ ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( ليحصنكم ) بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون . [ ص: 374 ]

فمن قرأ بالياء ، ففيه أربعة أوجه ; قال أبو علي الفارسي : أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم معناه ، ويجوز أن يكون اللباس ; لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضربا منه ، ويجوز أن يكون داود ، ويجوز أن يكون التعليم ، وقد دل عليه " علمناه " .

ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى ; لأنه الدرع .

ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله : " وعلمناه " .

ومعنى " لتحصنكم " : لتحرزكم وتمنعكم ، " من بأسكم " يعني : الحرب .

قوله تعالى : " ولسليمان الريح " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو حيوة الحضرمي : ( الرياح ) بألف مع رفع الحاء . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء بالألف ونصب الحاء ، والمعنى : وسخرنا لسليمان الريح ، " عاصفة " ; أي : شديدة الهبوب ، " تجري بأمره " يعني : بأمر سليمان ، " إلى الأرض التي باركنا فيها " وهي أرض الشام ، وقد مر بيان بركتها في هذه السورة [ الأنبياء : 72 ] ، والمعنى : أنها كانت تسير به إلى حيث شاء ، ثم تعود به إلى منزله بالشام .

قوله تعالى : " وكنا بكل شيء عالمين " علمنا أن ما نعطي سليمان يدعوه إلى الخضوع لربه .

قوله تعالى : " ومن الشياطين من يغوصون له " قال أبو عبيدة : " من " تقع على الواحد والاثنين والجمع ، من المذكر والمؤنث . قال المفسرون : كانوا يغوصون في البحر فيستخرجون الجواهر ، " ويعملون عملا دون ذلك " قال الزجاج : معناه : سوى ذلك . " وكنا لهم حافظين " أن يفسدوا ما عملوا . وقال غيره : أن يخرجوا عن أمره .
وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ ص: 375 ] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين .

قوله تعالى : " وأيوب إذ نادى ربه " ; أي : دعا ربه ، " أني " وقرأ أبو عمران الجوني : ( إني ) بكسر الهمزة . " مسني الضر " وقرأ حمزة : ( مسني ) بتسكين الياء ; أي : أصابني الجهد . " وأنت أرحم الراحمين " ; أي : أكثرهم رحمة ، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة ؛ إذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت .

الإشارة إلى قصته

ذكر أهل التفسير أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه ، وكان كثير الإحسان . فقال إبليس : يا رب سلطني على ماله وولده - وكان له ثلاثة عشر ولدا - فإن فعلت رأيته كيف يطيعني ويعصيك ، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ، فرجع إبليس فجمع شياطينه ومردته ، فبعث بعضهم إلى دوابه ورعاته ، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر ، وجاء إبليس في صورة قيمه ، فقال : يا أيوب ألا أراك تصلي وقد أقبلت ريح عاصف ، فاحتملت دوابك ورعاتها حتى قذفتها في البحر ؟ فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ من صلاته ، ثم قال : الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مني ، فانصرف خائبا ، ثم أرسل بعض الشياطين إلى جنانه وزروعه فأحرقوها ، وجاء فأخبره ، فقال مثل ذلك ، فأرسل بعض الشياطين ، فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه فأهلكوهم ، وجاء فأخبره ، فحمد الله وقال لإبليس وهو يظنه قيمه في ماله : لو كان فيك خير لقبضك معهم ، فانصرف خائبا ، [ ص: 376 ] فقيل له : كيف رأيت عبدي أيوب ؟ قال : يا رب سلطني على جسده فسوف ترى ، قيل له : قد سلطتك على جسده ، فجاء فنفخ في إبهام قدميه ، فاشتعل فيه مثل النار ، ولم يكن في زمانه أكثر بكاء منه خوفا من الله تعالى ، فلما نزل به البلاء لم يبك مخافة الجزع ، وبقي لسانه للذكر وقلبه للمعرفة والشكر ، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه ، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره حتى سقطت ، ثم بالمسوح ، ثم بالحجارة ، فأنتن جسمه وتقطع ، وأخرجه أهل القرية ، فجعلوا له عريشا على كناسة ، ورفضه الخلق سوى زوجته ، واسمها رحمة بنت إفراييم بن يوسف بن يعقوب ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه . وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد ، قال : كان ملك يظلم الناس ، فكلمه في ذلك جماعة من الأنبياء ، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه ، فأوحى الله إليه : تركت كلامه من أجل خيلك ؟ لأطيلن بلاءك .

واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال :

أحدها : ثماني عشرة سنة ، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والثاني : سبع سنين ، قاله ابن عباس ، وكعب ، ويحيى بن أبي كثير . [ ص: 377 ]

والثالث : سبع سنين وأشهر ، قاله الحسن .

والرابع : ثلاث سنين ، قاله وهب .

وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال :

أحدها : [ أنه ] اشتهى إداما ، فلم تصبه امرأته حتى باعت قرنا من شعرها ، فلما علم ذلك قال : " مسني الضر " ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثاني : أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله ، فلما انتهى أجل البلاء ، يسر له الدعاء فاستجاب له ، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثالث : أن نفرا من بني إسرائيل مروا به ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم ، فعند ذلك قال : " مسني الضر " ، قاله نوف البكالي . وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان له أخوان ، فأتياه يوما ، فوجدا ريحا ، فقالا : لو كان الله علم منه خيرا ما بلغ به كل هذا ، فما سمع شيئا أشد عليه من ذلك ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصا وأنا أعلم مكان عار فصدقني ، فصدق وهما يسمعان ، فخر ساجدا ، ثم قال : اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي ، فكشف الله عز وجل ما به .

والرابع : أن إبليس جاء إلى زوجته بسخلة ، فقال : ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ ، فجاءت فأخبرته ، فقال : إن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، أمرتني أن أذبح لغير الله ! ثم طردها عنه ، فذهبت ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق ، خر ساجدا وقال : " مسني الضر " ، قاله الحسن .

والخامس : أن الله تعالى أوحى إليه وهو في عنفوان شبابه : إني مبتليك ، [ ص: 378 ] قال : يا رب ; وأين يكون قلبي ؟ قال : عندي ، فصب عليه من البلاء ما سمعتم ، حتى إذا بلغ البلاء منتهاه ، أوحى إليه أني معافيك . قال : يا رب ; وأين يكون قلبي ؟ قال : عندك . قال : " مسني الضر " ، قاله إبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدثنا به عنه .

والسادس : أن الوحي انقطع عنه أربعين يوما ، فخاف هجران ربه ، فقال : " مسني الضر " ، ذكره الماوردي .

فإن قيل : أين الصبر وهذا لفظ الشكوى ؟

فالجواب : أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، وإنما المذموم الشكوى إلى الخلق ، ألم تسمع قول يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [ يوسف : 86 ] . قال سفيان بن عيينة : وكذلك من شكا إلى الناس ، وهو في شكواه راض بقضاء الله ، لم يكن ذلك جزعا ، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل في مرضه : " أجدني مغموما " ، و " أجدني مكروبا " ، وقوله : " بل أنا وا رأساه " .

قوله تعالى : " وآتيناه أهله " يعني : أولاده ، " ومثلهم معهم " فيه أربعة أقوال :

أحدها : أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم ، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وقتادة . وروى أبو صالح عن ابن عباس : كانت [ ص: 379 ] امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات ، فنشروا له ، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات .

والثاني : أنهم كانوا قد غيبوا عنه ولم يموتوا ، فآتاه إياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة ، رواه هشام عن الحسن .

والثالث : آتاه الله أجور أهله في الآخرة ، وآتاه مثلهم في الدنيا ، قاله نوف ومجاهد .

والرابع : آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة ، حكاه الزجاج .

قوله تعالى : " رحمة من عندنا " ; أي : فعلنا ذلك به رحمة من عندنا ، " وذكرى " ; أي : عظة للعابدين . قال محمد بن كعب : من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب ، فليقل : إنه قد أصاب من هو خير مني .

قوله تعالى : " وذا الكفل " اختلفوا ، هل كان نبيا أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : أنه لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا ، قاله أبو موسى الأشعري ومجاهد . ثم اختلف أرباب هذا القول في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال : أحدها : أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي ، فكفل بصلاته ، فسمي ذا الكفل ، قاله أبو موسى الأشعري . والثاني : أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم ، ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ، فسمي ذا الكفل ، قاله مجاهد . والثالث : أن ملكا قتل في يوم ثلاثمائة نبي ، وفر منه مائة نبي ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أفلتوا ، فسمي ذا الكفل ، قاله ابن السائب .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30-12-2022, 05:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (391)
صــ 380 إلى صــ 387




والقول الثاني : أنه كان نبيا ، قاله الحسن وعطاء . قال عطاء : [ ص: 380 ] أوحى الله تعالى [ إلى ] نبي من الأنبياء : إني أريد قبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك بأنه يصلي الليل لا يفتر ، ويصوم النهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك ، فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا ، فتكفل به ، فوفى ، فشكر الله له ذلك ونبأه ، وسمي ذا الكفل . وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفل : " أنه كان رجلا لا ينزع عن ذنب ، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها ، فبكت وقالت : ما فعلت هذا قط ، فقام عنها تائبا ، ومات من ليلته ، فأصبح مكتوبا على بابه : قد غفر الله للكفل " ، والحديث معروف ، وقد ذكرته في " الحدائق " ، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل ، وهذا غلط ; لأن ذلك اسمه الكفل ، والمذكور في القرآن يقال له : ذو الكفل ، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها ، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا . وإذا قلنا : إنه نبي ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال . وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر رحمه الله تعالى ، فوافقني ، وقال : ليس هذا بذاك .

قوله تعالى : " كل من الصابرين " ; أي : على طاعة الله وترك معصيته . " وأدخلناهم في رحمتنا " في هذه الرحمة ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها الجنة ، قاله ابن عباس . والثاني : النبوة ، قاله مقاتل . والثالث : النعمة والموالاة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت [ ص: 381 ] من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين .

قوله تعالى : " وذا النون " يعني : يونس بن متى . والنون : السمكة ، أضيف إليها لابتلاعها إياه .

قوله تعالى : " إذ ذهب مغاضبا " قال ابن قتيبة : المغاضبة : مفاعلة ، وأكثر المفاعلة من اثنين ، كالمناظرة والمجادلة والمخاصمة ، وربما تكون من واحد ، كقولك : سافرت وشارفت الأمر ، وهي هاهنا من هذا الباب . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وعاصم الجحدري ، وابن السميفع : ( مغضبا ) بإسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف .

واختلفوا في مغاضبته لمن كانت على قولين :

أحدهما : أنه غضب على قومه ، قاله ابن عباس والضحاك . وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال : أحدها : أن الله تعالى أوحى إلى نبي يقال له : شعيا : أن ائت فلانا الملك ، فقل له : يبعث نبيا أمينا إلى بني إسرائيل ، وكان قد غزا بني إسرائيل ملك وسبى منهم الكثير ، فأراد النبي والملك أن يبعثا يونس إلى ذلك الملك ليكلمه حتى يرسلهم ، فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا . قال : فهل سماني لك ؟ قال : لا . قال : فهاهنا غيري من الأنبياء ، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك ولقومه ، هذا مروي عن ابن عباس . وقد زدناه شرحا في ( يونس : 98 ) . والثاني : أنه عانى من قومه أمرا صعبا من الأذى والتكذيب ، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجرا ، وما ظن أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة ، ذكره ابن الأنباري . وقد روي عن وهب بن منبه ، قال : لما حملت عليه أثقال النبوة ، ضاق بها ذرعا ولم يصبر ، [ ص: 382 ] فقذفها من يده وخرج هاربا . والثالث : أنه لما أوعدهم العذاب فتابوا ورفع عنهم ، قيل له : ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع فيجدوني كاذبا ؟ فانصرف مغاضبا لقومه عاتبا على ربه . وقد ذكرنا هذا في ( يونس : 98 ) .

والثاني : أنه خرج مغاضبا لربه ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وعروة . وقال أبو بكر النقاش : المعنى : مغاضبا من أجل ربه ، وإنما غضب لأجل تمردهم وعصيانهم . وقال ابن قتيبة : كان مغيظا عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم ، مشتهيا أن ينزل العذاب بهم ، فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه .

قوله تعالى : " فظن أن لن نقدر عليه " وقرأ يعقوب : ( يقدر ) بضم الياء وتشديد الدال وفتحها . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي ليلى : ( يقدر ) بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها . وقرأ أبو عمران الجوني : ( يقدر ) بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة . وقرأ الزهري ، وابن يعمر ، وحميد بن قيس : ( نقدر ) بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها . ثم فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن لن نقضي عليه بالعقوبة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك . قال الفراء : معنى الآية : فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة ، والعرب تقول : قدر بمعنى : قدر ، قال أبو صخر :


ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن ولك الشكر


أراد : ما تقدر ، وهذا مذهب الزجاج . [ ص: 383 ]

والثاني : فظن أن لن نضيق عليه ، قاله عطاء . قال ابن قتيبة : يقال : فلان مقدر عليه ، ومقتر عليه ، ومنه قوله تعالى: فقدر عليه رزقه [ الفجر : 16 ] ; أي : ضيق عليه فيه . قال النقاش : والمعنى : فظن أن لن يضيق عليه الخروج ، فكأنه ظن أن الله قد وسع له ، إن شاء أن يقيم ، وإن شاء أن يخرج ، ولم يؤذن له في الخروج .

والثالث : أن المعنى : فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه ! رواه عوف عن الحسن . وقال ابن زيد وسليمان التيمي : المعنى : أفظن أن لن نقدر عليه ; فعلى هذا الوجه يكون استفهاما قد حذفت ألفه ، وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة ، ولا يتصور إلا مع تقدير الاستفهام ، ولا أعلم له وجها إلا أن يكون استفهام إنكار ، تقديره : ما ظن عجزنا ، فأين يهرب منا ؟

قوله تعالى : " فنادى في الظلمات " فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها ظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة ، والأكثرون .

والثاني : أن حوتا جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه ، فنادى في ظلمة حوت ، ثم في ظلمة حوت ، ثم في ظلمة البحر ، قاله سالم بن أبي الجعد .

والثالث : أنها ظلمة الماء ، وظلمة معى السمكة ، وظلمة بطنها ، قاله ابن السائب . وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه ، كلمة أخي يونس : فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " . قال الحسن : وهذا اعتراف [ من ] يونس بذنبه وتوبة من خطيئته . [ ص: 384 ]

قوله تعالى : " فاستجبنا له " ; أي : أجبناه ، " ونجيناه من الغم " ; أي : من الظلمات ، " وكذلك ننجي المؤمنين " إذا دعونا . وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ : ( نجي المؤمنين ) بنون واحدة مشددة الجيم . قال الزجاج : وهذا لحن لا وجه له . وقال أبو علي الفارسي : غلط الراوي عن عاصم ، ويدل على هذا إسكانه الياء من ( نجي ) ونصب ( المؤمنين ) ، ولو كان على ما لم يسم فاعله ما سكن الياء ، ولرفع ( المؤمنين ) .
وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .

قوله تعالى : " لا تذرني فردا " ; أي : وحيدا بلا ولد ، " وأنت خير الوارثين " ; أي : أفضل من بقي حيا بعد ميت .

قوله تعالى : " وأصلحنا له زوجه " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أصلحت للولد بعد أن كانت عقيما ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

والثاني : أنه كان في لسانها طول ، وهو البذاء ، فأصلحت ، قاله عطاء . وقال السدي : كانت سليطة فكف عنه لسانها . [ ص: 385 ]

والثالث : أنه كان خلقها سيئا ، قاله محمد بن كعب .

قوله تعالى : " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات " ; أي : يبادرون في طاعة الله . وفي المشار إليهم قولان :

أحدهما : زكريا ، وامرأته ، ويحيى . والثاني : جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة .

قوله تعالى : " ويدعوننا " وقرأ ابن مسعود وابن محيصن : ( ويدعونا ) بنون واحدة .

قوله تعالى : " رغبا ورهبا " ; أي : رغبا في ما عندنا ورهبا منا . وقرأ الأعمش : ( رغبا ورهبا ) بضم الراءين وجزم الغين والهاء ، وهما لغتان ، مثل : النحل والنحل ، والسقم والسقم . " وكانوا لنا خاشعين " ; أي : متواضعين .

قوله تعالى : " والتي أحصنت فرجها " فيه قولان :

أحدهما : أنه مخرج الولد ، والمعنى : منعته مما لا يحل . وإنما وصفت بالعفاف ; لأنها قذفت بالزنا .

والثاني : أنه جيب درعها ، ومعنى الفرج في اللغة : كل فرجة بين شيئين ، وموضع جيب درع المرأة مشقوق ، فهو يسمى فرجا . وهذا أبلغ في الثناء عليها ; لأنها إذا منعت جيب درعها فهي لنفسها أمنع .

قوله تعالى : " فنفخنا فيها " ; أي : أمرنا جبريل فنفخ في درعها ، فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ . وأضاف الروح إليه إضافة الملك ; للتشريف والتخصيص . " وجعلناها وابنها آية " قال الزجاج : لما كان شأنهما واحدا ، كانت [ ص: 386 ] الآية فيهما آية واحدة ، وهي ولادة من غير فحل . وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : ( آيتين ) على التثنية .

قوله تعالى : " إن هذه أمتكم " قال ابن عباس : المراد بالأمة هاهنا : الدين . وفي المشار إليهم قولان :

أحدهما : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو معنى قول مقاتل .

والثاني : أنهم الأنبياء عليهم السلام ، قاله أبو سليمان الدمشقي . ثم ذكر أهل الكتاب ، فذمهم بالاختلاف ، فقال تعالى : " وتقطعوا أمرهم بينهم " ; أي : اختلفوا في الدين ، " فمن يعمل من الصالحات " ; أي : شيئا من الفرائض وأعمال البر ، " فلا كفران لسعيه " ; أي : لا نجحد ما عمل ، قاله ابن قتيبة ، والمعنى : أنه يقبل منه ويثاب عليه . " وإنا له كاتبون " ذلك ، نأمر الحفظة أن يكتبوه لنجازيه به .
وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون .

قوله تعالى : " وحرام على قرية " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : ( وحرام ) بألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، [ ص: 387 ] وأبو بكر عن عاصم : ( وحرم ) بكسر الحاء من غير ألف ، وهما لغتان ، يقال : حرم وحرام . وقرأ معاذ القارئ ، وأبو المتوكل ، وأبو عمران الجوني : ( حرم ) بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منونة . وقرأ سعيد بن جبير : ( وحرم ) بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم من غير تنوين ولا ألف . وقرأ أبو الجوزاء ، وعكرمة ، والضحاك : ( وحرم ) بفتح الحاء والميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف . وقرأ سعيد بن المسيب ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء : ( وحرم ) بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف .

وفي معنى قوله تعالى : " وحرام " قولان :

أحدهما : واجب ، قاله ابن عباس ، وأنشدوا في معناه :


فإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمرو


أي : واجب .

والثاني : أنه بمعنى العزم ، قاله سعيد بن جبير . وقال عطاء : حتم من الله ، والمراد بالقرية : أهلها .

ثم في معنى الآية أربعة أقوال :

أحدها : واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون ، رواه عكرمة عن ابن عباس .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30-12-2022, 05:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
الحلقة (392)
صــ 388 إلى صــ 395






والثاني : واجب عليها أنها إذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها ، هذا قول قتادة ، وقد روي عن ابن عباس نحوه . [ ص: 388 ]

والثالث : أن " لا " زائدة ، والمعنى : حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إلى الدنيا ، قاله ابن جريج ، وابن قتيبة في آخرين .

والرابع : أن الكلام متعلق بما قبله ; لأنه لما قال : " فلا كفران لسعيه " ، أعلمنا أنه قد حرم قبول أعمال الكفار ، فمعنى الآية : وحرام على قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل ; لأنهم لا يتوبون ، هذا قول الزجاج .

فإن قيل : كيف يصح أن يحرم على الإنسان ما ليس من فعله ، ورجوعهم بعد الموت ليس إليهم ؟

فالجواب : أن المعنى : منعوا من ذلك كما يمنع الإنسان من الحرام وإن قدر عليه ، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع .

قوله تعالى : " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " وقرأ ابن عامر : ( فتحت ) بالتشديد ، والمعنى : فتح الردم عنهم . " وهم من كل حدب " قال ابن قتيبة : من كل نشز من الأرض وأكمة ، " ينسلون " من النسلان ، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع ، كمشي الذئب إذا بادر ، والعسلان مثله . وقال الزجاج : [ ص: 389 ] الحدب : كل أكمة ، و " ينسلون " : يسرعون . وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري : ( ينسلون ) بضم السين .

وفي قوله تعالى : " وهم " قولان :

أحدهما : أنه إشارة إلى يأجوج ومأجوج ، قاله الجمهور .

والثاني : إلى جميع الناس ، فالمعنى : وهم يحشرون إلى الموقف ، قاله مجاهد . والأول أصح .

فإن قيل : أين جواب " حتى " ؟ ففيه قولان :

أحدهما : أنه قوله تعالى: " واقترب الوعد الحق " ، والواو في قوله تعالى : " واقترب " زائدة ، قاله الفراء . قال : ومثله : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها [ الزمر : 73 ] ، وقوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه [ الصافات : 103 ، 104 ] ، المعنى : نادينا . وقال عبد الله بن مسعود : الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج ، كالحامل المتم ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ، ليلا أو نهارا .

والثاني : أنه قول محذوف في قوله : " يا ويلنا " ، فالمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد ، قالوا : يا ويلنا . قال الزجاج : هذا قول البصريين . فأما " الوعد الحق " فهو القيامة .

قوله تعالى : " فإذا هي " ، في " هي " أربعة أقوال :

أحدها : أن " هي " كناية عن الأبصار ، والأبصار تفسير لها ، كقول الشاعر :


لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ألا فر عني مالك بن أبي كعب


فذكر الظعينة ، وقد كنى عنها في ( لعمرو أبيها ) . [ ص: 390 ]

والثاني : أن " هي " [ ضمير فصل ] وعماد ، ويصلح في موضعها " هو " ، ومثله قوله : إنه أنا الله [ النمل : 9 ] ، وقوله : فإنها لا تعمى الأبصار [ الحج : 46 ] ، وأنشدوا :


بثوب ودينار وشاة ودرهم فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس


ذكرهما الفراء .

والثالث : أن يكون تمام الكلام عند قوله : " هي " على معنى : فإذا هي بارزة واقفة ، يعني : من قربها ، كأنها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ فقال : " شاخصة " ، ذكره الثعلبي .

والرابع : أن " هي " كناية عن القصة ، والمعنى : القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري . قال المفسرون : تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة ، ويقولون : " يا ويلنا قد كنا " ; أي : في الدنيا ، " في غفلة من هذا " ; أي : عن هذا ، " بل كنا ظالمين " أنفسنا بكفرنا ومعاصينا . ثم خاطب أهل مكة فقال : " إنكم وما تعبدون من دون الله " يعني : الأصنام ، " حصب جهنم " وقرأ علي بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعمر بن عبد العزيز : ( حطب ) بالطاء . وقرأ ابن عباس ، وعائشة ، وابن السميفع : ( حضب ) بالضاد المعجمة المفتوحة . وقرأ عروة ، وعكرمة ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : ( حضب جهنم ) بإسكان الضاد المعجمة . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو حيوة ، ومعاذ القارئ : ( حضب ) بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة . وقرأ أبو مجلز ، [ ص: 391 ] وأبو رجاء ، وابن محيصن : ( حصب ) بفتح الحاء وبصاد غير معجمة ساكنة . قال الزجاج : من قرأ : ( حصب جهنم ) فمعناه : كل ما يرمى به فيها ، ومن قرأ : ( حطب ) فمعناه : ما توقد به . ومن قرأ بالضاد المعجمة فمعناه : ما تهيج به النار وتذكى به . قال ابن قتيبة : الحصب : ما ألقي فيها ، وأصله من الحصباء ، وهو الحصى ، يقال : حصبت فلانا : إذا رميته حصبا ، بتسكين الصاد ، وما رميت به فهو حصب ، بفتح الصاد .

قوله تعالى : " أنتم " يعني : العابدين والمعبودين ، " لها واردون " ; أي : داخلون . " لو كان هؤلاء " يعني : الأصنام ، " آلهة " على الحقيقة ، " ما وردوها " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه إشارة إلى الأصنام ، والمعنى : لو كانوا آلهة ما دخلوا النار .

والثاني : أنه إشارة إلى عابديها ، فالمعنى : لو كانت الأصنام آلهة ، منعت عابديها دخول النار .

والثالث : أنه إشارة إلى الآلهة وعابديها ، بدليل قوله تعالى : " وكل فيها خالدون " يعني : العابد والمعبود .

قوله تعالى : " لهم فيها زفير " قد شرحنا معنى الزفير في ( هود : 106 ) . وفي علة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار ، ثم يقذفون في توابيت من نار مقفلة عليهم ، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل . وقال ابن مسعود : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ، [ ص: 392 ] ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى ، فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحدهم أن في النار أحدا يعذب غيره .

والثاني : أن السماع أنس ، والله لا يحب أن يؤنسهم ، قاله عون بن عمارة .

والثالث : إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

قوله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " سبب نزولها أنه لما نزلت " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ، شق ذلك على قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، فجاء ابن الزبعرى فقال : ما لكم ؟ قالوا : شتم آلهتنا ، قال : وما قال ؟ فأخبروه ، فقال : ادعوه لي ، فلما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد ; هذا شيء لآلهتنا خاصة ، أو لكل من عبد من دون الله ؟ قال : " لا ، بل لكل من عبد من دون الله " ، فقال ابن الزبعرى : خصمت ورب هذه البنية ، ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ، [ ص: 393 ] فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى تعبد عيسى ، وهذه اليهود تعبد عزيرا ، فضج أهل مكة ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال الحسين بن الفضل : إنما أراد بقوله : " وما تعبدون " : الأصنام دون غيرها ; لأنه لو أراد الملائكة والناس لقال : ( ومن ) . وقيل : " إن " بمعنى ( إلا ) ، فتقديره : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى ، وهي قراءة ابن مسعود وأبي نهيك ، فإنهما قرءا : ( إلا الذين ) . وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية ، فقال : أنا منهم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن .

وفي المراد " بالحسنى " قولان : أحدهما : الجنة ، قاله ابن عباس وعكرمة . والثاني : السعادة ، قاله ابن زيد .

قوله تعالى : " أولئك عنها " ; أي : عن جهنم ، وقد تقدم ذكرها . " مبعدون " والبعد : طول المسافة ، والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء إذا مر قريبا منك . قال ابن عباس : لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إذا نزلوا منازلهم من الجنة .

قوله تعالى : " لا يحزنهم الفزع الأكبر " وقرأ أبو رزين ، وقتادة ، [ ص: 394 ] وابن أبي عبلة ، وابن محيصن ، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي : ( لا يحزنهم ) بضم الياء وكسر الزاي .

وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال :

أحدها : أنه النفخة الآخرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم ، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: " وتتلقاهم الملائكة " .

والثاني : أنه إطباق النار على أهلها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .

والثالث : أنه ذبح الموت بين الجنة والنار ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال ابن جريج .

والرابع : أنه حين يؤمر بالعبد إلى النار ، قاله الحسن البصري .

وفي مكان تلقي الملائكة لهم قولان :

أحدهما : إذا قاموا من قبورهم ، قاله مقاتل . والثاني : على أبواب الجنة ، قاله ابن السائب .

قوله تعالى : " هذا يومكم " فيه إضمار : يقولون ، هذا يومكم " الذي كنتم توعدون " فيه الجنة .

قوله تعالى : " يوم نطوي السماء " وقرأ أبو العالية ، وابن أبي عبلة ، وأبو جعفر : ( تطوى ) بتاء مضمومة ( السماء ) بالرفع ، وذلك بمحو رسومها ، وتكدير نجومها ، وتكوير شمسها . " كطي السجل للكتب " قرأ الجمهور : ( السجل ) بكسر السين والجيم وتشديد اللام . وقرأ الحسن ، وأبو المتوكل ، [ ص: 395 ] وأبو الجوزاء ، ومحبوب عن أبي عمرو : ( السجل ) بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة . وقرأ أبو السماك كذلك ، إلا أنه فتح الجيم .

قوله تعالى : " للكتب " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( للكتاب ) . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( للكتب ) على الجمع .

وفي ( السجل ) أربعة أقوال :

أحدها : أنه ملك ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، والسدي .

والثاني : أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس .

والثالث : أن السجل بمعنى : الرجل ، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس ، قال : السجل : هو الرجل . قال شيخنا أبو منصور اللغوي : وقد قيل : ( السجل ) بلغة الحبشة : الرجل .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 30-12-2022, 05:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْحَجِّ
الحلقة (393)
صــ 396 إلى صــ 403




والرابع : أنه الصحيفة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والفراء ، وابن قتيبة . وقرأت على شيخنا أبي منصور ، قال : قال أبو بكر ، يعني - ابن دريد - : السجل : الكتاب ، والله أعلم . ولا ألتفت إلى قولهم : إنه [ ص: 396 ] فارسي معرب ، والمعنى : كما يطوى السجل على ما فيه من كتاب . واللام بمعنى على . وقال بعض العلماء : المراد بالكتاب : المكتوب ، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء الصحيفة ، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب .

ثم استأنف ، فقال تعالى : " كما بدأنا أول خلق نعيده " الخلق هاهنا مصدر ، وليس بمعنى المخلوق .

وفي معنى الكلام أربعة أقوال :

أحدها : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة ، روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما خلقوا ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده " ، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد .

والثاني : أن المعنى : إنا نهلك كل شيء كما كان أول مرة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثالث : أن السماء تمطر أربعين يوما كمني الرجال ، فينبتون بالمطر في قبورهم كما ينبتون في بطون أمهاتهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والرابع : أن المعنى : قدرتنا على الإعادة كقدرتنا على الابتداء ، قاله الزجاج . [ ص: 397 ]

قوله تعالى : " وعدا " قال الزجاج : هو منصوب على المصدر ; لأن قوله تعالى : " نعيده " بمعنى : وعدنا هذا وعدا . " إنا كنا فاعلين " ; أي : قادرين على فعل ما نشاء . وقال غيره : إنا كنا فاعلين ما وعدنا .

قوله تعالى : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " فيه أربعة أقوال :

أحدها : أن الزبور : جميع الكتب المنزلة من السماء ، والذكر : أم الكتاب الذي عند الله ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، ومجاهد ، وابن زيد ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير ، فإنه قال : الزبور : التوراة والإنجيل والقرآن ، والذكر : الذي في السماء .

والثاني : أن الزبور : الكتب ، والذكر : التوراة ، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثالث : أن الزبور : القرآن ، والذكر : التوراة والإنجيل ، قاله سعيد بن جبير في رواية .

والرابع : أن الزبور : زبور داود ، والذكر : ذكر موسى ، قاله الشعبي . وفي الأرض المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أرض الجنة ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الأكثرون . والثاني : أرض الدنيا ، وهو منقول عن ابن عباس أيضا . والثالث : الأرض المقدسة ، قاله ابن السائب .

وفي قوله تعالى : " يرثها عبادي الصالحون " ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وفي رواية : ترث أمة محمد أرض الدنيا بالفتوح .

والثاني : بنو إسرائيل ، قاله ابن السائب . [ ص: 398 ]

والثالث : أنه عام في كل صالح ، قاله بعض فقهاء المفسرين .

قوله تعالى : " إن في هذا " يعني : القرآن ، " لبلاغا " ; أي : لكفاية ، والمعنى : أن من اتبع القرآن وعمل به ، كان القرآن بلاغه إلى الجنة .

وقوله تعالى : " لقوم عابدين " قال كعب : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان .

قوله تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال ابن عباس : هذا عام للبر والفاجر ، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن كفر به صرفت عنه العقوبة إلى الموت والقيامة . وقال ابن زيد : هو رحمة لمن آمن به خاصة .
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون . [ ص: 399 ]

قوله تعالى : " فهل أنتم مسلمون " قال ابن عباس : فهل أنتم مخلصون له العبادة ؟ قال أهل المعاني : هذا استفهام بمعنى الأمر .

قوله تعالى : " فإن تولوا " ; أي : أعرضوا ولم يؤمنوا ، " فقل آذنتكم على سواء " في معنى الكلام قولان :

أحدهما : نابذتكم وعاديتكم وأعلمتكم ذلك ، فصرت أنا وأنتم على سواء قد استوينا في العلم بذلك ، وهذا من الكلام المختصر ، قاله ابن قتيبة .

والثاني : أعلمتكم بالوحي إلي لتستووا في الإيمان به ، قاله الزجاج .

قوله تعالى : " وإن أدري " ; أي : وما أدري ، " أقريب أم بعيد ما توعدون " بنزول العذاب بكم . " إنه يعلم الجهر " وهو ما يقولونه للنبي صلى الله عليه وسلم : متى هذا الوعد [ يس : 48 ] ، و " ما تكتمون " إسرارهم أن العذاب لا يكون .

قوله تعالى : " لعله فتنة لكم " ، في هاء " لعله " قولان :

أحدهما : أنها ترجع إلى ما آذنهم به ، قاله الزجاج .

والثاني : إلى العذاب ، فالمعنى : لعل تأخير العذاب عنكم فتنة ، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي . ومعنى الفتنة هاهنا : الاختبار . " ومتاع إلى حين " ; أي : تستمعون إلى انقضاء آجالكم . " قل رب " وروى حفص عن عاصم : ( قال رب ) . " احكم " قرأ أبو جعفر : ( رب احكم ) بضم الباء . وروى زيد عن يعقوب : ( ربي ) بفتح الياء ( أحكم ) بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم . ومعنى " احكم بالحق " ; أي : بعذاب كفار قومي الذي نزوله حق ، فحكم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام ، والمعنى على هذا : افصل بيني وبين المشركين [ ص: 400 ] بما يظهر به الحق . ومعنى " على ما تصفون " ; أي : من كذبكم وباطلكم . وقرأ ابن عامر والمفضل عن عاصم : ( يصفون ) بالياء .

فإن قيل : فهل يجوز على الله أن يحكم بغير الحق ؟

فالجواب : أن المعنى : احكم بحكمك الحق ، كأنه استعجل النصر عليهم .
[ ص: 401 ]

سُورَةُ الْحَجِّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ .

فَصْلٌ : فِي نُزُولِهَا

رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا ، غَيْرُ آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ : قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ، وَالَّتِي تَلِيهَا [ الْحَجّ 12 ، 13 ] . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ ، إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ . . . إِلَى آخَرِ الْأَرْبَعِ [ الْحَجّ : 53 - 57 ] . وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ : [ ص: 402 ] هَذَانِ خَصْمَانِ وَاللَّتَانِ بَعْدَهَا [ الْحَجّ : 20 - 22 ] . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ : أَوَّلُهَا مَدَنِيٌّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [ الْحَجّ : 38 ] وَسَائِرُهَا مَكِّيٌّ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ : هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ سِتِّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَانِ خَصْمَانِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَمِيدِ [ الْحَجّ 20 - 25 ] . وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ : هِيَ مِنْ أَعَاجِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ فِيهَا مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا ، وَحَضَرِيًّا وَسَفَرِيًّا ، وَحَرْبِيًّا وَسِلْمِيًّا ، وَلَيْلِيًّا وَنَهَارِيًّا ، وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا .

فَأَمَّا الْمَكِّيُّ : فَمِنْ رَأْسِ الثَّلَاثِينَ مِنْهَا إِلَى آخِرِهَا .

وَأَمَّا الْمَدَنِيُّ : فَمِنْ رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ .

وَأَمَّا اللَّيْلِيُّ : فَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخَرِ خَمْسِ آيَاتٍ .

وَأَمَّا النَّهَارِيُّ : فَمِنْ رَأْسِ خَمْسِ [ آيَاتٍ ] إِلَى رَأْسِ تِسْعٍ .

وَأَمَّا السَّفَرِيُّ : فَمِنْ رَأْسِ تِسْعٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ .

وَأَمَّا الْحَضَرِيُّ : فَإِلَى رَأْسِ الْعِشْرِينَ [ مِنْهَا ] ، نُسِبَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقُرْبِ مُدَّتِهِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " اتَّقُوا رَبَّكُمْ " ; أَيِ : احْذَرُوا عِقَابَهُ ، " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ " الزَّلْزَلَةُ : الْحَرَكَةُ عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ .

وَفِي وَقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ قَوْلَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ النُّشُورِ . رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ : " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، وَقَالَ : تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ ؟ فَإِنَّهُ يَوْمَ يُنَادِي الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ابْعَثْ بَعْثًا إِلَى النَّارِ " ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ ص: 403 ] " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ : قُمْ ، فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ; وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ ، فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا " ، وَقَرَأَ الْآيَةَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ : قِيَامُهَا ، يَعْنِي : أَنَّهَا تُقَارِبُ قِيَامَ السَّاعَةِ وَتَكُونُ مَعَهَا . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ : هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 457.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 451.81 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.28%)]