فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 34 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         خاطرة قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          كلمات منهي عنها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          درر وفوائـد من كــلام السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 16166 )           »          سلوكيات غير صحيحة سائدة في حياتنا الأسرية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 4025 )           »          أهم تيارات التكفير والعنف ودور الدعوة السلفية في مواجهتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 176 )           »          الشباب أداة بناء وتأثير وتغيير وإن لم نحسن تربيتهم تحولوا إلى أداة تدمير ومعاول هدم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          سبيل التأسي بدراسة حديث اللهم إني ظلمت نفسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 108 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 135 - عددالزوار : 77730 )           »          القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 31 - عددالزوار : 11755 )           »          المهيمن العزيز (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-12-2024, 05:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 333)

من صــ 191 الى صـ 205




ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية - أو غيره - لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط، كما قال من أخذ يعتذر
لمن خالف أمره عذرا يقصد به رفع الملام: بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق ; لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك.
وقول من يقول إنما تخلف من تخلف عن طاعته إما تعظيما لمرتبته أن يمحو اسمه، أو يقول: مراجعة من راجعه في مصالحة المشركين إنما كانت قصدا لظهور الإيمان على الكفر ونحو ذلك.
فيقال: الأمر الجازم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أراد به الإيجاب، موجب لطاعته باتفاق أهل الإيمان، وإنما نازع في الأمر المطلق بعض الناس لاحتمال أنه ليس بجازم أراد به الإيجاب، وأما مع ظهور الجزم والإيجاب فلم يسترب أحد في ذلك.
ومعلوم أن أمره بالنحر والحلق كان جازما وكان مقتضاه الفعل على الفور بدليل أنه ردده ثلاثا، فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وروى أنه غضب وقال: مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يتبع.
وروي أنه قال ذلك لما أمرهم بالتحلل في حجة الوداع.
ومعلوم أن الأمر بالتحلل بهذه العمرة التي أحصروا فيها كان أوكد من الأمر بالتحلل في حج الوداع.
وأيضا فإنه كان محتاجا إلى محو اسمه من الكتاب ليتم الصلح؛ ولهذا محاه بيده، والأمر بذلك كان جازما. والمخالف لأمره إن كان متأولا فهو ظان أن هذا لا يجب، لما فيه من قلة احترام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لما فيه من انتظار العمرة وعدم إتمام ذلك الصلح. فحسب المتأول أن يكون مجتهدا مخطئا فإنه مع جزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشكيه ممن لم يمتثل أمره وقوله: " ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع " لا يمكن تسويغ المخالفة؛ لكن هذا مما تابوا منه كما تابوا من غيره.
فليس لأحد أن يثبت عصمة من ليس بمعصوم، فيقدح بذلك في أمر المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل ذلك في توبة من تاب، وحصل له بالذنب نوع من العقاب فأخذ ينفي على الفعل ما يوجب الملام، والله قد لامه لوم المذنبين فيزيد تعظيم البشر فيقدح في رب العالمين.
ومن علم أن الاعتبار بكمال النهاية، وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مما كان عليه؛ علم أن ما فعله الله بعباده المؤمنين كان من أعظم نعم الله عليهم.
وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش: لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر.
وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما من كان جاهلا أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كذابا فذلك يخاطب خطاب مثله.

فقوله تعالى في القرآن: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} [سورة التوبة: 40] لا يختص بمصاحبته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي كمل [في] الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره، فصار مختصا بالأكملية من الصحبة.
كما في الحديث رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه؛ فإنه لم يسؤني قط، أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان» ".
فقد تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[خصه] دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا؛ لكن خصه بكمال الصحبة.
ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.
ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبتهم له، وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به، فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله، وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين.
كأصحاب الصحيح: مثل: البخاري، ومسلم، والإسماعيلي،
والبرقاني، وأبي نعيم، والدارقطني، ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم.

وما صححه أئمة أهل الحديث [الذين] هم أجل من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين، مثل: مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك، وأحمد، وابن معين وابن المديني، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وخلائق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى.
فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب؛ فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكذابون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه، وعلم بعض قدرهم، وإلا فليسلم القوس إلى باريها، كما يسلم إلى الأطباء طبهم، وإلى النحاة نحوهم، وإلى الفقهاء فقههم، وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في صناعتهم؛ إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع، وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل، فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب، ولا على التكذيب بصدق؛ بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه، أو تحليله أو تحريمه.
ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص. مثل حديث المخالة، وحديث: إن الله معنا، وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث الإتيان إليه بعده، وحديث كتابة العهد إليه بعده، وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة، وتركه له، وهو قوله: " «فهل أنتم تاركو لي صاحبي» " وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر؛ وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج، وصبره وثباته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقياد الأمة [له]، وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم، وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك.
ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر، وحديث علي حيث يقول: «كثيرا ما كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر» " وحديث استقائه من القليب، وحديث البقرة التي يقول فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أؤمن بها أنا وأبو بكر وعمر» " وأمثال ذلك.
وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله: " «يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» "، وقوله في غزوة تبوك: " «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» " ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله: " «أنت مني وأنا منك» "، وليس في شيء من ذلك خصائص. وحديث: " «لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق» "، ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن.
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث، ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص.
وقول من قال: صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره؛ كذب لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث؛ لكن قد يقال: روي له ما لم يرو لغيره، لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه؛ ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة، بل باطلة، وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها.
والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق، لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها، فإنه لو أحصي الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه.
وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد.
وأما كمال معرفته ومحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه له فهو
مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينة لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته.
وأما نفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاونته له على الدين فكذلك.
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد.
ويدل على ذلك ما رواه البخاري «عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما صاحبكم فقد غامر فسلم "، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال: " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم. مرتين؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ". مرتين. فما أوذي بعدها».

وفي رواية: «كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له؛ فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه؛ فأقبل أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم» -. . الحديث. قال: وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " «إني قلت يا أيها الناس: إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» ".
فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله: " «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» " وبين فيه من أسباب ذلك: أن الله لما بعثه إلى الناس قال: " إني رسول الله إليكم جميعا "، قالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت؛ فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط، وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا.
وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن.
وهذا موافق لما رواه مسلم «عن عمرو بن عبسة، قلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد " ومعه يومئذ أبو بكر وبلال».
وأما خديجة وعلي وزيد؛ فهؤلاء كانوا من عيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي، وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال، فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان؛ لأن عليا كان صبيا، والقلم عنه مرفوع.
ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل أن يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه؛ فإن ظاهر قوله: " «يا أيها الناس إني أتيت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» " كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر.
ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره، وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخلة فيمن بلغ.
وقوله في حديث «عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد» ".

والذي في صحيح مسلم موافق لهذا، أي: اتبعه من المبلغين المدعوين، ثم ذكر قوله: " وواساني بنفسه وماله "، وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد.
وقد ذكر هذا [النبي]- صلى الله عليه وسلم - في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر؛ فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ولكن أخوة الإسلام. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر» " وفي رواية للبخاري: " «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته». * وفي رواية " إلا خلة الإسلام ". وفيه: " قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. وفي رواية: " وبين ما عنده فاختار ما عنده "، وفيه فقال: " «لا تبك إن آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته * لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر» ".
وروى البخاري من حديث ابن عباس قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: " «إنه ليس أحد من الناس آمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر» ".
وفي رواية: " «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته، ولكن أخوة الإسلام أفضل» ".
وفي رواية: " ولكن أخي وصاحبي ".
ورواه البخاري عن ابن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: " «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا * لاتخذته يعني أبا بكر».
ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لو كنت متخذا خليلا * لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» ".
وفي رواية: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة؛ ولكن صاحبكم خليل الله» ".
وفي أخرى: " «ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله» ".

فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام [بها] وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق، لو كانت المخالة ممكنة.
وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل؛ قال: " فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت: فمن الرجال؟ قال: " أبوها " قلت: ثم من؟ قال عمر: وعد رجالا» ". وفي رواية للبخاري: " قال: فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم ".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-12-2024, 05:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 334)

من صــ 205 الى صـ 220




[فصل مما يبين فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال]
فصل.
ومما يبين من القرآن فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40] أي: أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد؛ فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة.
ثم قال: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40]؛ وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه.
فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن، بل كان يضمر الفرح والسرور، ولا كان الرسول يقول له: " {لا تحزن إن الله معنا} ".
فإن قال المفتري: إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن، وكان في الباطن مبغضا.
قيل له فقد قال: " {إن الله معنا} "، فهذا إخبار بأن الله معهما [جميعا] بنصره، ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق؛ وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [سورة التوبة: 101] فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم.
ولهذا «لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال: " أما هذا فقد صدق "، أو قال: " صدقكم» ".

وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أعطيت فلانا وفلانا، وتركت فلانا وهو مؤمن " قال: " أو مسلم " مرتين أو ثلاثا» فأنكر عليه إخباره بالإيمان، ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام.
فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك؟ والكلام بلا علم لا يجوز.
وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له، لا إخبار منكر له فعلم أن قوله: " {إن الله معنا} " من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه.
وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم، ويطلبون قتله، وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره؛ فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره، وقد أظهر له هذا حزنه، وهو مع ذلك عدو له في الباطن. والمصحوب يعتقد أنه وليه، وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم.
فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة.
ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عدوه، ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا. قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث، وقد برأ الله رسوله منها، لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال: " كان قليل العقل ".

ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل. وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول.
[فصل مما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة]
فصل.
ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم، كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تسبوا أحدا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» ". انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: «لا تسبوا أصحابي» يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم.
وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو. والحارث بن هشام، وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو، وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله.
والمقصود هنا أنه نهي لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال:" «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ".
فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون، فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه؟!.
وقوله: " «لا تسبوا أصحابي» " قد ثبت في الصحيحين من غير وجه، منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» " تقدم هذا الحديث فيما مضى 2/ 20 - 21. .
فصل.
[قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه والرد عليه]
وأما قول الرافضي: " يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه ".
والجواب: أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها.
أحدها: أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته، فبطل هذا.
الثاني: أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، من أعظم الخلق اختصاصا به، أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة، ومن سخاء حاتم، ومن موالاة علي ومحبته له، ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد.

والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد، ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار. وليس هذا من بهتانهم ببعيد، فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار، ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات.
ولهذا قال من قال: لو قيل: من أجهل الناس؟ لقيل: الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء \ مسألة فقهية: فيما إذا أوصى لأجهل الناس؛ قال: هم الرافضة، لكن هذه الوصية باطلة؛ فإن الوصية باطلة، فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية، بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع. والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق، فهو كما لو أوصى لأكفر الناس، أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق، فإن هذا لا يصح.
وكون أبي بكر كان مواليا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره؛ أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون: إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وأبو بكر وثالثهما عمر؛ لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله، كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة، فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم [كان] أعلم بباطن الدعوة، وأكتم لباطنها من غيره.
ولهذا جعلوهم مراتب: فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره، جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره، ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره.
فمن قال: إنه كان في الباطن عدوه، كان من أعظم أهل الأرض فرية، ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي، وقيل [له] له زيادة في (م).: إنه كان في الباطن معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته؛ فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو؛ طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته، ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا، وكان مراده إهلاك الباقين؛ لكن عجز؛ وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر.
فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار؛ لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي؛ فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة، والحجة على معاداته باطلة، فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة، والحجة على معاداته أولى بالبطلان.
الوجه الثالث: أن قوله: " استصحبه حذرا من أن يظهر أمره ".
كلام من هو من أجهل الناس بما وقع، فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة، وأرسلوا الطلب، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج، وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه، وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر؛ فأي شيء كان يخاف؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك.
الرابع: أنه إذا كان خرج ليلا، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد، فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه؟.
فإن قيل: فلعله علم خروجه دون غيره؟.
قيل: أولا: قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر بخروجه كما، خرج
في وقت لم يشعر به المشركون، وكان يمكنه أن [لا] يعينه.
فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة، فلم يأذن له حتى هاجر معه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: «جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه؛ فقال أبي: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم سرينا ليلتنا كلها، ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه [النبي] النبي: - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فلقيته؛ فقلت: لمن. أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة - يريد مكة - لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له: أفي غنمك لبن؟ فقال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم فأخذ شاة؛ فقلت [له] انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن، قال: ومعي إداوة أرتوي فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله؛ فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، فشرب حتى رضيت، ثم قال: " ألم يأن للرحيل؟ " قلت:

بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، قال: ونحن في جلد من الأرض فقلت:يا رسول الله: أتينا، فقال: {لا تحزن إن الله معنا}، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا الله لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ما هنا، ولا يلقى أحدا إلا رده، وقال: خذ سهما من كنانتي فإنك تمر بإبلي وغلماني، فخذ منها حاجتك فقال: " لا حاجة لي في إبلك " قال: فقدمنا المدينة، فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك "؛ فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله» ".

وروى البخاري «عن عائشة، قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية؛ فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة. وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال:
أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فاعبد ربك ببلدك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف،ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى بفناء داره مسجدا، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، [وهم] يعجبون [منه] وينظرون إليه، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم؛ فقالوا: إنا كنا [قد] أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإلا فإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد إليك جوارك؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر؛ فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه؛ فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر:

إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله، ورسول الله يومئذ بمكة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد أريت دار هجرتكم: ذات نخل، بين لابتين - وهما الحرتان - فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال " نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط أربعة أشهر، قال ابن شهاب:

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-12-2024, 05:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 335)

من صــ 221 الى صـ 235






قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها؛ فقال أبو بكر: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: " فإني قد أذن لي في الخروج " قال أبو بكر: الصحابة يا رسول الله، قال: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بالثمن " قالت عائشة:
فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأبو بكر] بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة) من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من الليل، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأبو بكر] رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت: الماهر بالهداية في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل» " قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: " جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل: أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت [له]: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي، ثم خرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجة الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها:
أضرهم أرده فآخذ المائة ناقة أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت [فرسي]- وعصيت الأزلام - تقرب [بي] حتى [إذا] سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا؛ فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ".
الوجه الخامس: أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر، وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك، فكان يمكنه أن
يعلمهم بخبره.
السادس: أنه إذا كان كذلك، والعدو قد جاء إلى الغار، ومشوا فوقه، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار، وينذر العدو به، وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو؛ فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه؛ فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار، وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه، وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة، ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه؛ فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما، والقدرة تامة، وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل؛ فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي، أو انتفاء القدرة، والقدرة موجودة؛ فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه، كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه.
ومن هؤلاء المفترين من يقول: إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلدغته حية فردها حتى كفت عنه الألم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن نكثت نكث يدك، وإنه نكث بعد ذلك، فمات منها، وهذا يظهر كذبه من وجوه نبهنا على بعضها.
ومنهم من قال: أظهر كعبه ليشعروا به، فلدغته الحية، وهذا من نمط الذي قبله.
[فصل قول الرافضي إن الآية تدل على نقص خور أبي بكر وقلة صبره وعدم يقينه وعدم رضاه والرد عليه]
فصل.
وأما قول الرافضي: " الآية تدل على نقصه، لقوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فإنه يدل على خوره، وقلة صبره، وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ".
فالجواب: أولا: أن هذا يناقض قولكم: " إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره " فإنه إذا كان عدوه، وكان مباطنا لعداه الذين يطلبونه، كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار فكان ينبغي أن ينذرهم به.
وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله، فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا.
وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما فكان يمكنه أن يقول لغلامه: أخبرهم به.
فكلامهم في هذا يبطل قولهم: إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به.
واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره، والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة، ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه، وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [سورة الحشر: 8].
وقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [سورة الحج: 39، 40].
وأبو بكر أفضل هؤلاء كلهم.

وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا، وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره، فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به.
ويكفي هذا في فضائل الصديق، وتمييزه على غيره، وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره، ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده.
فصل.
وأما قوله: " إنه يدل على نقصه ".
فنقول: أولا: النقص نوعان نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه.
فإن أراد الأول فهو باطل، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127].
وقال للمؤمنين عامة: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} [سورة آل عمران: 139].
وقال: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم} [سورة الحجر: 87، 88] فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع، ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان.
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر، أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق، بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه.

هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان، حتى ارتد أكثر الأعراب، واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره، وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت.
ثم قرأ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} الآية [سورة آل عمران: 144].
وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا.
ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} [سورة الزمر: 30]، وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} [سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون ".
وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرهم، فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا
تهتدون به، وبه هدى الله محمدا، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.
وفي طريق آخر في البخاري: أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " ذكره البخاري في كتاب " الاعتصام بالسنة ".

وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت: " ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر الناس، وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق " الذي عليهم.
وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة، برز بذلك على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى الجزع؟!.
وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة، مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا، وقد روي أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها، وبالبحار لغاضها، وما نراك ضعفت فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني - أو كما قال - قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام.
ثم يقال: من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة: عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسني لا ينازع في فضله على عمر وعثمان، ولكن الرافضي الذي ادعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه بهت وكذب وفرية، فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي، فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة، أو قتله ولم يزالوا به حتى قتلوه، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب؟!.
ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان، بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه، ومن العسكر الذين
يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا، وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله، فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين، ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي، بل كانوا أقل منه.
ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه فكيف يقال إن يقين علي وصبره كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافه؟!.
[فصل قول الرافضي إن الآية تدل على خوره. . . والرد عليه]
فصل.
قول الرافضي: " إن الآية تدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ".
فهذا كله كذب منه ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا وذلك من وجهين:
أحدهما: أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى: {ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} [سورة الأحزاب: 1]، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم.
وكذلك قوله: {ولا تدع مع الله إلها آخر} [سورة القصص: 88]، (2 أو {لا تجعل مع الله إلها آخر} 2) [سورة الإسراء: 22] فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة، وقد نهي عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.

الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " «أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك» " رواه أحمد في كتاب " مناقب الصحابة " فقال: حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة، قال: «لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور، قال: فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ قال: يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر، وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله كما أنت حتى أقمه»، قال نافع: حدثني رجل عن ابن أبي مليكة «أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه، وقال يا رسول الله إن كانت لسعة، أو لدغة كانت بي» ".
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 04-12-2024, 12:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 336)

من صــ 236 الى صـ 250




وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [سورة الأحزاب: 6] وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ".
وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه، وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف، فهذا يدل على أن الاتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به، فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به، فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه، فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه.
ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال: {ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} الآية [سورة يوسف: 84 - 86]، فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن، ولم يكن هذا مما يسب عليه، فكيف يسب أبو بكر إذا حزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل، وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة؟!.
ثم إن هؤلاء الشيعة - وغيرهم - يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف، وأنها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس، ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب أكمل من حزن فاطمة، فإن كان مذموما على حزنه، ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته.
وإن قيل: أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار.
قيل: فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه، وكان استصحبه لئلا يظهر أمره.
وقيل: هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين.
ثم يقال هب أن حزنه كان عليه، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك، ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب.
ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه، بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها، ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي.
وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [سورة الحديد: 23] فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين.
وإن قدر أنه حزن على الدنيا، فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له.
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح، وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك، ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها، وأبرأ من المذام كلها: حقيقيها وخياليها.
[فصل قول الرافضي إن الآية تدل على قلة صبره والرد عليه]
فصل.
وأما قوله: " إنه يدل على قلة صبره ".
فباطل، بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك.

كما قال صلى الله عليه وسلم: " «إن الله لا يؤاخذ على دمع العين، ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا - يعني اللسان - أو
يرحم» ".
وقوله: " إنه يدل على عدم يقينه بالله ".
كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله، كما ذكر الله عن يعقوب، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: " «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» ".
وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تحزن عليهم} [سورة النحل: 127].
وكذلك قوله: " يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره ".
هو باطل، كما تقدم نظائره.
[كلام الرافضي على حزن أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
فصل.
وقوله: " وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة ".
والجواب أولا: أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} الآية [سورة التوبة: 40].
فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: " {إن الله معنا} "، وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته، وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه، وتقواه ما هو الفضيلة.
وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم.

ويقال: ثانيا: هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127]، وقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [سورة الحجر: 88] ونحو ذلك، بل في قوله تعالى لموسى: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [سورة طه: 21].
فيقال: إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه، وإن كان معصية فقد عصى.
ويقال: إنه أمر أن يطمئن ويثبت، لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف.
فقوله لموسى {ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [سورة طه: 21] هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف.
وكذلك قوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} [سورة طه: 67، 68] هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله.
* وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه: " {لا تحزن إن الله معنا} نهي عن الحزن مقرون بما يوجب زواله * وهو قوله.
إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره.
وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} [سورة القصص: 25] وكذلك قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [سورة آل عمران: 139] قرن النهي عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين. وكذلك قوله: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127] مقرون بقوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم.
وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [سورة آل عمران: 126].
ويقال: ثالثا: ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم، بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد فالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت، وإن لم يكن المنهي عنه معصية، بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب.
ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشي والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهي عنه معصية إذا حصل بغير اختياره، ولم يكن سببه محظورا.
فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه.

قيل: المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن، وهو قادر على اكتسابه، فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب ما يقويه ثبت قلبه وبدنه، وعلى
هذا فيكون النهي عن هذا أمرا بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه، وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه.
والحزن يؤذي القلب، فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة، والحزن إنما حصل بطاعة، وهو محبة الرسول ونصحه، وليس هو بمعصية يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك.
ويقال: رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله، وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا، ثم تابوا كما تقدم.
قال أبو محمد بن حزم: " وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاة بل عليهم، وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن، ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء، أو علم لم يأتوا بمثل هذا، إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا، لأن الله تعالى قال لموسى: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [سورة القصص: 35]، ثم قال عن السحرة لما قالوا:
{إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى} إلى قوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} [سورة طه: 67، 68]، فهذا موسى رسول الله وكليمه كان قد أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليهما، وأنه هو الغالب، ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك فإيجاس موسى لم يكن إلا لنسيانه الوعد المتقدم، وحزن أبي بكر كان قبل أن ينهى عنه، وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله قال:
{ومن كفر فلا يحزنك كفره} [سورة لقمان: 23] وقال تعالى: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127]، وقال: {فلا يحزنك قولهم} [سورة يس: 76]، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [سورة فاطر: 8]، ووجدناه تعالى قد قال: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} [سورة الأنعام: 33] فقد أخبرنا أنه يعلم أن رسوله يحزنه الذي يقولون ونهاه عن ذلك، فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي أوردوا في حزن أبي بكر سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله قبل أن ينهاه الله كما كان حزن أبي بكر طاعة لله قبل أن ينهاه عنه، وما حزن أبو بكر
بعد ما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن، فكيف وقد يمكن أن أبا بكر لم يكن حزن يومئذ؟، لكن نهاه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون منه حزن، كما قال تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [سورة الإنسان: 24].
[فصل الكلام على قوله تعالى لا تحزن إن الله معنا]

فصل.
قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] لا يدل على إيمان أبي بكر، فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر.
كما قال تعالى: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا - وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا - ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} [سورة الكهف: 32، 35] إلى قوله:
{قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة} [سورة الكهف: 37] الآية.
فيقال: معلوم أن لفظ " الصاحب " في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه، أو عدوه، أو مؤمن، أو كافر، إلا لما يقترن به.
وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب وابن السبيل} [سورة النساء: 36]، وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة، وليس فيه دلالة على إيمان، أو كفر.
وكذلك قوله تعالى: {والنجم إذا هوى - ما ضل صاحبكم وما غوى} [سورة النجم: 1، 2] وقوله: {وما صاحبكم بمجنون} [سورة التكوير: 22] المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي، وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه.
وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم، وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه} [سورة التوبة: 128]، وقال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [سورة إبراهيم: 4] فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم، وأمكنه
أن يخاطبهم بلسانهم، فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه، فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم، والإحسان إليهم.
وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» "، وقوله: " «هل أنتم تاركي لي صاحبي»؟ " وأمثال ذلك.
فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له، وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به.
والقرآن يقول فيه: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه، وهذه المعية تتضمن النصر والتأييد، وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا، ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن، ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه.
وأيضا فقوله: " {لا تحزن} " دليل على أنه وليه، وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له: {لا تحزن إن الله معنا}، ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له: {لا تحزن إن الله معنا}، لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي، وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله: {لا تحزن}، ثم قوله: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف [لا] ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه، ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره؟.

وقوله: {ثاني اثنين} حال من الضمير في أخرجه، أي: أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين، فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما.
وذلك هو الواقع، فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} [سورة الحشر: 8].
وقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير - الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [سورة الحج: 39، 40].
وقال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم} [سورة الممتحنة: 9].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04-12-2024, 12:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 337)

من صــ 251 الى صـ 265






وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان، وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم (* إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه، والكفار إنما أخرجوا *) أعداءهم لا من كان كافرا منهم.
فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر.
وإذا قيل: هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة، وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا، وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق.
قيل: قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه.
والعلم بكون الرجل مؤمنا في الباطن، أو يهوديا، أو نصرانيا، أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وقال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} [سورة محمد: 30]، وقال: {ولتعرفنهم في لحن القول} [سورة محمد: 30]، فالمضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول، وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف.
وقد قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [سورة الممتحنة: 10].
والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين، كلهم كانوا مؤمنين به، ولم يعظم المسلمون ـ ولله الحمد ـ على الدين منافقا.
والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك، فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة. والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه.
ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر، أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين، فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها؟!.
فهذا مما ينبغي أن يعرف، ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق، بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد، ومن هو دون هؤلاء، فكيف لا يعلم إيمان الصحابة، ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب؟!.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره (* إذا كان دعوى نبوة، أو غير ذلك، وكذب الكاذب *) مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة.

وإظهار الإسلام من هذا الباب؛ فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب.
فهذا يقال أولا، ويقال ثانيا: وهو ما ذكره أحمد وغيره، ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا ـ: أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا، وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره، بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه، لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر.
ويقال: ثالثا: عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه، أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول؟.
ثم يقال: جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته: إما غدوة وإما عشية، وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة، وقال: إلى أين؟ وقد تقدم حديثه: فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل؟ أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به؟! وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه، ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين؟!.
وكثير من الناس يكون مواليا لغيره، لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه، فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس، وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا ; لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك، بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء.
والإنسان قد يظهر موافقته للغير: إما لغرض يناله منه، أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الاحتيال عليه، وهذا كله كان منتفيا بمكة، فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر، بل كانوا أقدر على ذلك، ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به، واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم، أو قتل، أو غير ذلك.
وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به، وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون، وهم بالسوأة، وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته.
وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش، ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط، وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع، فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته؟!، فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل: " عدو عاقل خير من صديق جاهل ".
ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم، وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول، فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام، والقدح

في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء.
وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام، أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك عليا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وخبره معروف، وقد ذكره غير واحد من العلماء.
وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له، ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون بإظهار التشيع والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب " البلاغ الأكبر " و " الناموس الأعظم ".
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد اتفق جميع الباطنية وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم ومذاهبهم، وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم بغير زيادة ولا نقصان ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل فقالوا للداعي:
" يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف وقتلهم الحسين وسبيهم نساءه وذريته والتبري من تيم وعدي ومن بني أمية وبني العباس، وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم والبدء والتناسخ والرجعة والغلو، وأن عليا إله يعلم الغيب مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك، ممن تثق به من أصحابك فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا، ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت، ثم عجل وخرج عن الحد، وكان له ما كان يعني من قتلهم له بعد تكذيبهم إياه وردهم عليه وتفرقهم عنه فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقة الحق لمن هو وفيمن هو وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل،ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب، فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا، وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل في الدرجة الرابعة من تعظيم النار والنور والشمس والقمر واتل عليهم أمر السابق، وأنه نهر من الذي يعرفونه،
وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا لولا يسير صحفوه بجهلهم به "، قالوا: " وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأنه المهدي الذي ينتظره المسلمون بعينه، وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك، وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول، وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنه دوره، وأنه هو المسيح وهو المهدي وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال، وترك التكليفات كما أمروا بالراحة يوم السبت، وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر، وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحيارى الذين يزعمون أن عيسى لم يولد ولا أب له، وقو في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه وأن مريم أمه، وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء، وما شاكل ذلك فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك ".
قال: " وإن وجدت المدعى نصرانيا فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وصحة قولهم في الثالوث، وأن الأب والابن وروح القدس صحيح وعظم الصليب عندهم، وعرفهم تأويله.
وإن وجدته مثانيا، فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف، فداخلهم بالممازجة في الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ التي يصفها من بعد، وامتزج بالنور وبالظلام، فإنك تملكهم بذلك، وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء.
ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا، وقد أجمعنا [نحن]، وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه، فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم.
وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ، قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه.
وسنصف لك عنهم من بعد، واتخذ غليظ العهود، وتوكيد الأيمان وشدة المواثيق جنة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب:

حالا فحالا، وتدرجهم درجة درجة على ما سنبينه من بعد، وقف بكل فريق حيث احتمالهم، فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل، وأنه حي، لا تجاوز به هذا الحد، لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار، وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين، وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ، وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد وتصبر له إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده، ويكون لك عونا على دهرك، وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل، ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك ولا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدين بشريعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل، وأقم له دلائل الأسابيع فقط ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد فإنك يومئذ إن أومأت إلى كريمته فضلا عن ماله لم يمنعك، وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه، وورثك إياه ولم ير في العالم من هو أوثق منك، وآخر ترقيه إلى نسخ شريعة محمد، وأن السابع هو الخاتم للرسل، وأنه ينطق كما ينطقون ويأتي بأمر جديد، وأن محمدا صاحب الدور السادس وأن عليا لم يكن إماما، وإنما كان سوسا لمحمد وحسن القول فيه وإلا سياسية، فإن هذا باب كبير،
وعمل عظيم منه ترقى إلى ما هو أعظم منه، وأكبر منه ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك، من وجوب زوال النبوات على المنهاج الذي هو عليه، وإياك أن ترتفع من هذا الباب إلا إلى من تقدر فيه النجابة، وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة، فترقيه إلى غيرها ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة، واستحكام الثقة به، فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات، والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله، وآخر ترقيه إلى إعلامه أن القائم قد مات، وأنه يقوم روحانيا، وأن الخلق يرجعون إليه بصورة روحانية تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل ويستصفي المؤمنين من الكافرين بصور روحانية، فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه والنشور من القبر.
وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء والجن في الأرض، وأنه كان قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا، فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحي والإرسال إلى البشر بملائكة، والرجوع إلى الحق، والقول بقدم العالم.
وآخر ترقيه إلى أوائل درجة التوحيد، وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب " الدرس الشافي للنفس " من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف، فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ ".
وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا، ثم ينقلب إلها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد.
قالوا: " ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام، وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه، ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة علي وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق "، ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد.

قال القاضي: " فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم، وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمخرقون بذكر الأول، والثاني، والناطق والأساس، إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل.
وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد، وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين.
قلت: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى، فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق.
والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين، وهؤلاء مرتدون، فالصديق وحزبه هم أعداؤه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-12-2024, 12:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 338)

من صــ 266 الى صـ 280






والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر، وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما، وأنه كان ابن عمه.
وقوله: " {إن الله معنا} " لم يكن لمجرد الصحبة الظاهرة التي ليس فيها
متابعة، فإن هذه تحصل للكافر إذا صحب المؤمن ليس الله معه، بل إنما كانت المعية للموافقة الباطنية والموالاة له والمتابعة.
ولهذا كل من كان متبعا للرسول كان الله معه بحسب هذا الاتباع، قال الله تعالى: {ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64] أي: حسبك وحسب من اتبعك، فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه، وهذا معنى كون الله معه.
والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق، والناقصة مع الناقص، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه، وهو معه وله نصيب من معنى قوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، فإن هذا قلبه موافق للرسول، وإن لم يكن صحبه ببدنه، والأصل في هذا القلب.
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: " وهم بالمدينة حبسهم العذر» ".

فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغزاة، فلهم معنى صحبته في الغزاة، فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية.
ولو انفرد الرجل [في] بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول ولم تنصره الناس عليه، فإن الله معه، وله نصيب من قوله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40]، فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان، ومتى كان، ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى، فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله، فإن الله مع ما جاء به الرسول، ومع ذلك القائم به.
وهذا المتبع له حسبه الله، وهو حسب الرسول كما قال تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64].
[فصل قول الرافضي إن إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يعني نقصه والرد عليه]
فصل.
وأما قول الرافضي: " إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا هذا الموضع، ولا نقص أعظم منه ".
فالجواب: أولا: أن هذا يوهم أنه ذكر ذلك في مواضع متعددة وليس كذلك، بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حنين.
كما قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين - ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها} [سورة التوبة: 25، 26] فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين بعد أن ذكر توليتهم مدبرين.
وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [سورة الفتح: 1] إلى قوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [سورة الفتح: 4] الآية، وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} [سورة الفتح: 18].
ويقال: ثانيا: الناس قد تنازعوا في عود الضمير في قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} [سورة التوبة: 40] فمنهم من قال: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: إنه عائد إلى أبي بكر لأنه أقرب المذكورين ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة، فأنزل السكينة عليه كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته بخلاف إنزالها يوم حنين، فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه وإقبال العدو نحوه وسوقه ببغلته إلى العدو.

وعلى القول الأول يكون الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عاد الضمير إليه في قوله: {وأيده بجنود لم تروها} [سورة التوبة: 40] ; ولأن سياق الكلام كان في ذكره، وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا.
لكن يقال: على هذا لما قال لصاحبه: {إن الله معنا} والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع، وأبو بكر تابع مطيع، وهو صاحبه والله معهما، فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال فإنه صاحب تابع لازم، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد.
بخلاف حال المنهزمين يوم حنين، فإنه لو قال: فأنزل الله سكينته على رسوله وسكت لم يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول، ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر.
وأبو بكر لما وصفه بالصحبه المطلقة الكاملة، ووصفها في أحق الأحوال أن يفارق الصاحب فيها صاحبه، وهو حال شدة الخوف، كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد، فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد، فلأن يكون صاحبه في حال حصول النصر والتأييد أولى وأحرى فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها.
وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه.
وهذا كما في قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [سورة التوبة: 62]، فإن الضمير [في قوله: (أحق أن يرضوه)] إن عاد إلى الله، فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول، وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون (* إرضاؤه إلا بإرضاء الله، فلما كان إرضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر، وهما يحصلان بشيء *) واحد، والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع، وحد الضمير في قوله: {أحق أن يرضوه}، وكذلك وحد الضمير في قوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} ; لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له، إذ محال
أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب، أو على المصحوب دون الصاحب الملازم، فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير، وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له.
ولو قيل: فأنزل السكينة عليهما وأيدهما، لأوهم أن أبا بكر شريك في النبوة، كهارون مع موسى حيث قال: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} الآية [سورة القصص: 35]، وقال: {ولقد مننا على موسى وهارون - ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم - ونصرناهم فكانوا هم الغالبين - وآتيناهما الكتاب المستبين - وهديناهما الصراط المستقيم} [سورة الصافات: 114 - 118]، فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه.
كما قال: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [سورة الفتح: 26] إذ ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا، ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [سورة التوبة: 62]، وقوله: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [سورة التوبة: 24].
فلو قيل: أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة، بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع، وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة.
ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده، ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه، ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح.
كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» ".
وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
[فصل في مناقشة ابن المطهر على كلامه عن مثالب أبي بكر في زعمه]
قال الرافضي " وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة، ونحن نذكر منها شيئا يسيرا. منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني»، وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟ ".
والجواب: أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، فلم يكن طالب رياسة، ولا كان ظالما، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوموني، كما قال أيضا: أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم، فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن " قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: " وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير ".
وفي الصحيح عنه قال: «لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلا، قال: " على رسلكما، إنها صفية بنت حيي " ثم قال: " إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ".
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوما كالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق.
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة، فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا، فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه، لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته، وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ.
وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه، وإن غلط قوموه.
والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة، بل قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية [سورة النساء: 59]، فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إنما الطاعة في المعروف» "، وقال: " «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» "، وقال: " «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» ".
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟
وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الآخر، حتى الشركاء في التجارات والصناعات، وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة، فإن المأمومين يحتاجون إليه، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه، ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها، ونظائره متعددة.
ثم يقال: استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له، فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك.
وكانوا إذا أمرهم أطاعوه. وعلي - رضي الله عنه - لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن، ثم رأى أن يبعن، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.
وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون ; فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.
وكانت رعيته كثيرة المعصية له، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم، كما أشار عليه الحسن بأمور، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة، وأن لا يخرج إلى الكوفة، وأن لا يقاتل بصفين، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية، وغير ذلك من الأمور.
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي - رضي الله عنهم -، فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية، كانوا هم ورعيتهم أفضل. وإن كان لكمال المتولي وحده، فهو أبلغ في فضلهم، وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي، كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر وعثمان.
ورعيته هم الذين قاتلوا معه، وأقروا بإمامته. ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم. فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.

وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي، ورعية معاوية شيعة عثمان، وفيهم النواصب المبغضون لعلي، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي، فيلزم على كل تقدير: إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض.
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة ; فإنهم يدعون أن عليا أكمل من الثلاثة، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة، فضلا عن أصحاب معاوية.
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي، فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة - على رأيهم - أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم؟
ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة. فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين.
ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى، فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم.
وهم يقولون: المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم. فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة، علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل.
وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره.
(فصل آخر في فضائل الصديق - رضي الله عنه -)
قال شيخ الإسلام:
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: " «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنا بعد ما مضى من الليل ما شاء. قالت امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء: عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم»، وذكر الحديث.
وفي رواية قال: " «كان أبي يتحدث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، وفي سفر الهجرة لم يصحب غير أبي، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره» ".
وقال: " «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» ".
وهذا من أصح الأحاديث الصحيحة المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة.
وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: " «كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى من ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما صاحبكم فقد غامر فسلم» ".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04-12-2024, 12:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 339)

من صــ 281 الى صـ 295






وقال: " «إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، وإني أتيتك، فقال: " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، وغضب حتى أشفق أبو بكر، وقال: أنا كنت أظلم يا رسول الله، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها». قال البخاري: سبق بالخير.
وقد تقدم ما في الصحيحين أن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ; لعلمه وعلم سائر الناس أن هؤلاء هم رءوس الإسلام، وأن قيامه بهم.
ولهذا لما سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته ".
فقال: " شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك ".
وكثرة الاختصاص والصحبة، مع كمال المودة والائتلاف والمحبة، والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما، وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم.
أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنهما غيره حتى بينها لهم، لم يحفظ له قول يخالف فيه نصا، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النصوص لكون النصوص لم تبلغه.
والذي وجد لعمر من موافقته النصوص أكثر من موافقة علي، يعرف هذا من عرف مسائل العلم، وأقوال العلماء فيها، والأدلة الشرعية، ومراتبها، وذلك مثل عدة المتوفى عنها زوجها، فإن قول عمر فيها هو الذي وافق النص دون القول الآخر، وكذلك مسألة الحرام: قول عمر وغيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر الذي هو قول علي، وكذلك المخيرة التي خيرها زوجها، والمفوضة للمهر، ومسألة الخلية، والبرية، والبائن، والبتة، وكثير من مسائل الفقه.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» " ..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم ناولت فضلي عمر "، قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: " العلم» ".

وفي الترمذي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» " ولفظ الترمذي: " «لو كان بعدي نبي لكان عمر» " قال الترمذي: " حديث حسن ".
وأيضا فإن الصديق استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة، التي هي عمود الإسلام، وعلى إقامة المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى: " «أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» ".
«وأردفه بعلي، فقال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور»، فأمر أبا بكر على علي، فكان ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويطيع لأبي بكر.
وهذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها عليا على المدينة.
وكتاب أبي بكر في الصدقات أصح الكتب وآخرها، ولهذا عمل به عامة الفقهاء، وغيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد، قال: كان أبو بكر أعلمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسألة إلا فصلها، وارتفع النزاع، فلا يعلم بينهم في زمانه مسألة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه، كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنه، وميراثه، وتجهيزه جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة، وغير ذلك من المسائل الكبار.
بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حقا، يعلمهم، ويقومهم، ويشجعهم، ويبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة، فلم يكونوا معه يختلفون.
وبعده فلم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله، فصاروا يتنازعون في بعض المسائل، كما تنازعوا في الجد والإخوة، وفي الحرام، والطلاق الثلاث، وفي متعة الحج، ونفقة المبتوتة وسكناها، وغير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر.
وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من أقوالهم، ولم يعرف أنهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به ويقضي، وهذا يدل على غاية العلم،وقام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام الإسلام فلم يخل بشيء، بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا منه، مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم، وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد.

وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته.
قال أبو القاسم السهيلي: ظهر سر قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (سورة التوبة: 40) في اللفظ والمعنى، فإنهم قالوا: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا بموته.
وأيضا فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة، وأبو بكر لم يتعلم من علي شيئا، ومما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا، كعلقمة والأسود وشريح وغيرهم، كانوا يرجحون قول عمر على قول علي، وأما تابعو المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر، وإنما ظهر علم علي وفقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا دين، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر،
إلا من كان ينكر عليه ويذمه، مع قلتهم وحقارتهم وخمولهم.
وهم ثلاث طوائف: طائفة غلت فيه، وادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم بالنار.
وطائفة سبت أبا بكر رأسهم عبد الله بن سبأ، فطلب علي قتله حتى هرب منه إلى المدائن.
وطائفة كانت تفضله حتى قال: لا يبلغني عن أحد أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.
وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبر الكوفة: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ".

وفي صحيح البخاري وغيره من رواية رجال همدان خاصته التي يقول فيهم:
ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام أنه قال وقد سأله ابنه محمد ابن الحنفية: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم أنت؟ قال: إنما أبوك رجل من المسلمين.
قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان الثوري،
حدثنا جامع بن شداد، حدثنا أبو يعلى منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أوما تعرف؟ فقلت: لا، فقال أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر ".
وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، ويراه مفتريا. والمتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، يقول الحق، ولا يسميه مفتريا.
وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم، ورأس الفضائل العلم، قال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [سورة الزمر: 9]، والدلائل على ذلك كثيرة، وكلام العلماء كثير في ذلك.
[فصل رد الرافضي لكثير مما ورد في فضائل أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
فصل.
قال الرافضي: " الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية
الغار وقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} [سورة الليل: 17]، وقوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16] والداعي هو أبو بكر: وكان أنيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم في الصلاة ".
قال: " والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره.
وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله: {لا تحزن} فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقضاء الله وقدره ; ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة.
وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله
شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه.

وأما: {وسيجنبها الأتقى}، فإن المراد "أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضها له بستانا في الجنة".
وأما قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16]، [يريد سندعوكم إلى قوم]، فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية. والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله:
{قل لن تتبعونا} [سورة الفتح: 15] لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون} [سورة الفتح: 16] يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة: كمؤتة وحنين، وتبوك، وغيرهما؛ فكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا جاز أن يكون [علي] هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ وكان رجوعهم إلى طاعته [إسلاما] لقوله عليه الصلاة والسلام: "يا علي حربك حربي"، وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر.
وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس؛ لكن لما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمره
لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته. وأيما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟.
وأما إنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكذب ; لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيرا في الغاية، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به؛ فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه. وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش. وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر البتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي: {هل أتى} [سورة الإنسان: 1].
ومن المعلوم أن النبي [- صلى الله عليه وسلم -] أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن؛ دل على كذب النقل.
وأما تقديمه في الصلاة فخطأ؛ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر،
فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة ".
قال الرافضي: " فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد؛ فقد نهى الله تعالى [في كتابه] عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق [إلى] مستحقه، ولا
يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة.
والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود؛ فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وظهور فضائل شيخي الإسلام: أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه} [سورة الزمر: 32]، {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} [سورة يونس: 17] ونحو هذه الآيات.
فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديقا بالكذب؛ وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك.
أما قوله: " لا فضيلة في الغار ".
فالجواب: أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46].
وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال "نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ".
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه يقول: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى:
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم} الآية [سورة الحديد: 4].
وقوله: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7].
فهذه المعية عامة لكل متناجين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق.

ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "، فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح. وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة.
وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46]، فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون.
وكذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " {لا تحزن إن الله معنا} " كان معناه: إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما
ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه.
وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128]، فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [سورة البقرة: 153] تخصيص لهم دون الجازعين.
وكذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} الآية [سورة المائدة: 12]، وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [سورة الأنفال: 12].
وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى: ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة ; لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول [وأجواف البهائم]، كما هو فوق العرش [فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى ; لأنه على هذا القول لا يختص
بقوم دون قوم، ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش].
والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى؛ فعلم أنه ليس المراد بلفظ " المعية " اختلاطه.
وفي هذا أيضا رد على من يدعي أن ظاهر القرآن هو الحلول؛ لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره، ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص.
فيقال له: قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ، وذلك لوجوه.
أحدها: أن لفظ (مع) في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال.
كقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} [سورة الفتح: 29] لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته.
وقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119].
وكذلك قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [سورة الأنفال: 75].
وكذلك قوله عن نوح: {وما آمن معه إلا قليل} [سورة هود: 40].
وقوله عن نوح أيضا: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} الآية [سورة الأعراف: 64].
وقوله عن هود: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} [سورة الأعراف: 72].
وقول قوم شعيب: {لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} [سورة الأعراف: 88].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 04-12-2024, 12:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 340)

من صــ 296 الى صـ 310




وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} الآية [سورة النساء: 146].
وقوله: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [سورة الأنعام: 68].
وقوله: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [سورة المائدة: 53].
وقوله: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم} [سورة الحشر: 11].
وقوله عن نوح: {اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم} [سورة هود: 48].
وقوله: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} [سورة الأعراف: 47].
وقوله: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [سورة التوبة: 83].
وقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} [سورة التوبة: 87].
وقال: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [سورة التوبة: 88].
ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي.
وإذا كان لفظ " مع " إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته؛ فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى.
فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور؛ فكان الظهور منتفيا من كل وجه.
الثاني: أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى.
الثاني: أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص.

الثالث: أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية، كما
قال تعالى في آية المجادلة: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7] فافتتحها بالعلم، وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية.
وهكذا فسرها السلف: الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري.
وفي آية الحديد قال: {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [سورة الحديد: 4] فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال: " "والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه" " فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى.
وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج
منها، وهو مع العباد أينما كانوا: يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير.
وأما قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
وكذلك قوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46] فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره: " نحن معك " أي معاونوك وناصروك على عدوك.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه: " إن الله معنا " يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر.

وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق.
والمقصود هنا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم.
ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [سورة غافر: 51] وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر. وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن.

وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره: هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر.
وكذلك قوله: " "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "؛ بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " محمد رسول الله؛ " فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون: " وخليفة رسول الله " فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله: " {إن الله معنا} "، "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون: " أمير المؤمنين " فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة.
ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص؛ فيقال: صحبه ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبه عمره كله.
وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب} [سورة النساء: 36] قيل: هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته [وتكثر]، وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [سورة الأنعام: 101].
ولهذا قال أحمد بن حنبل في " الرسالة " التي رواها عبدوس بن مالك
عنه: " من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة، أو شهرا، أو يوما، أو ساعة، أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه ".
وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم: يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت، وفي ذلك خلاف ضعيف.
والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " "يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم". وهذا لفظ مسلم.
(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47)
فقد أخبر الله سبحانه أن فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم كما قال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} وإنما عداه باللام لأنه متضمن معنى القبول والطاعة كما قال الله على لسان عبده: " سمع الله لمن حمده " أي استجاب لمن حمده وكذلك {سماعون لهم} أي مطيعون لهم. فإذا كان في الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم.
(ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)

وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في {الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال: هل لك في نساء بني الأصفر؟ - فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر عن النساء؛ وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر. فائذن لي ولا تفتني}.
وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة؛ واستتر بجمل أحمر؛ وجاء فيه الحديث: {أن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا}. يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم؛ فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك. وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء. فهذا وجه قوله: {ولا تفتني} قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما أمر الله به من الجهاد. فتدبر هذا؛ فإن هذا مقام خطر؛ فإن الناس هنا ثلاثة أقسام:
قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلبا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة؛ كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة. وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة وهذه الفتنة المذكورة في " سورة براءة " دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة؛ فإنها سبب نزول الآية.
وهذه حال كثير من المتدينين؛ يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا بجنس الشهوات؛ وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور. وهما متلازمان؛ وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا: مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات. فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين. فإن كان المأمور أعظم أجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة؛ وإن كان ترك المحظور أعظم أجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك؛ فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات؛ فهذا هذا. وتفصيل ذلك يطول.
وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف وإما بمنكر؛ كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته؛ والنهي طلب الترك وإرادته ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته. وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر؛ ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين؛ كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة؛ لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام والآخر مأموم كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما؛ وليؤمكما أكبركما} وكانا متقاربين في القراءة.
وأما الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم}. وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم: فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله؛ وإلا فلا بد أن يأمر وينهى. ويؤمر وينهى: إما بما يضاد ذلك؛ وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله وإذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا. وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله وإلا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى: {إن سعيكم لشتى}.
(قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52)
قال الله تعالى في كتابه: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} يعني: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم {يعطى الشهيد ست خصال يغفر له بأول قطرة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويكسى حلة من الإيمان ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين ويوقى فتنة القبر ويؤمن من الفزع الأكبر} رواه أهل السنن. وقال صلى الله عليه وسلم {إن في الجنة لمائة درجة. ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله} فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد. وقال صلى الله عليه وسلم {مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام} {وقال رجل: أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعه. قال:أخبرني به؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله}.
وهذه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما. وكذلك اتفق العلماء - فيما أعلم - على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد. فهو أفضل من الحج وأفضل من الصوم التطوع وأفضل من الصلاة التطوع. والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود. فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالي عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها أنهم كانوا مرابطين بالمدينة. فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط والأعمال بالنيات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} رواه أهل السنن وصححوه. وفي صحيح مسلم " عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا أجري عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان} يعني منكرا ونكيرا. فهذا في الرباط فكيف الجهاد.
وقال صلى الله عليه وسلم {لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدا} وقال {من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار}
فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل فكيف بما هو أشق منه؛ كالثلج والبرد والوحل. ولهذا عاب الله عز وجل المنافقين الذين يتعللون بالعوائق كالحر والبرد. فقال سبحانه وتعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} وهكذا الذين يقولون: لا تنفروا في البرد فيقال: نار جهنم أشد بردا. كما أخرجاه في الصحيحين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: ربي أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم} فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد في سبيل الله حر جهنم وبردها والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع في حر جهنم وزمهريرها.
(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54)
وقال {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}.

وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا} " وكانوا يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المغازي كما خرج ابن أبي في غزوة بني المصطلق وقال فيها: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}. " وفي الصحيحين " عن {زيد بن أرقم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيها شدة؛ فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى عبد الله بن أبي؛ فسأله فاجتهد يمينه ما فعل وقالوا: كذب زيد يا رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 03-02-2025, 08:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 341)

من صــ 311 الى صـ 325




وفي غزوة تبوك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما استنفر غيرهم فخرج بعضهم معه وبعضهم تخلفوا وكان في الذين خرجوا معه من هم بقتله في الطريق هموا بحل حزام ناقته ليقع في واد هناك فجاءه الوحي فأسر إلى حذيفة أسماءهم ولذلك يقال: هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره} كما ثبت ذلك في " الصحيح " ومع هذا ففي الظاهر تجري عليهم أحكام أهل الإيمان. وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد في هذا المقام؛ فإن كثيرا من المتأخرين ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق وأعرضوا عن حكم المنافقين والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة والنفاق شعب كثيرة وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم. ففي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان} " وفي لفظ مسلم: " {وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم} ".
وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. " {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر} ". وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولا يصلي عليهم ويستغفر لهم حتى نهاه الله عن ذلك فقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} وقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فلم يكن يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ولكن دماؤهم وأموالهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون بل يظهرون الكفر دون الإيمان فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} " {ولما قال لأسامة بن زيد: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: إنما قالها تعوذا. قال: هلا شققت عن قلبه؟ وقال. إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم} " {وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلي أليس يتشهد؟ فإذا قيل له: إنه منافق. قال: ذاك} فكان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئا إلا بأمر ظاهر مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم؛ وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه. قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وكان من مات منهم صلى عليه المسلمون الذين لا يعلمون أنه منافق ومن علم أنه منافق لم يصل عليه.
وكان عمر إذا مات ميت لم يصل عليه حتى يصلي عليه حذيفة لأن حذيفة كان قد علم أعيانهم. وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} فأمر بامتحانهن هنا وقال: {الله أعلم بإيمانهن}.
والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلموا أن الإيمان في قلبه؛ فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه. وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم؛ فإذا رأوا رجلا يظهر الإيمان جاز لهم عتقه وصاحب الجارية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر وكذلك من عليه نذر لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه؛ فإنه لا يعلم ذلك مطلقا؛ بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقا.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق والله يقول له: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين}. فأولئك إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين؛ ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها ولم يكن منهيا عن الصلاة إلا على من علم نفاقه؛ وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم وهذا لا يقدر عليه بشر. ولهذا لما كشفهم الله بسورة براءة بقوله: {ومنهم} {ومنهم} صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك فإن الله وصفهم بصفات علمها الناس منهم؛ وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم وإن كان بعضهم يظن ذلك وبعضهم يعلمه؛ فلم يكن نفاقهم معلوما عند الجماعة بخلاف حالهم لما نزل القرآن؛ ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق وما بقي يمكنهم من إظهاره أحيانا ما كان يمكنهم قبل ذلك وأنزل الله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} فلما توعدوا بالقتل إذا أظهروا النفاق كتموه. ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق.
(ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون}.

فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو. فـ {لو يجدون ملجأ} يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو (مغارات وهي جمع مغارة.
ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر؛ كما يغور الماء. أو مدخلا وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك. أي مكانا يدخلون إليه. ولو كان الدخول بكلفة ومشقة (لولوا عن الجهاد {إليه وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.

(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58)
واللمز: العيب والطعن قال مجاهد: "يتهمك ويزريك" وقال عطاء: "يغتابك" وقال تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي} الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن {الذين} و {من} اسمان موصولان وهما من صيغ العموم والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم وإيذاء آخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ولكن إذا كان اللفظ أعم من ذلك السبب فقد قيل: أنه يقتصر على سببه والذي عليه جماهير الناس أنه يجب الأخذ بعموم القول ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه.
وأيضا فإن كونه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده.
وأيضا فإن الله سبحانه وإن كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} ثم أنه سبحانه ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال سبحانه: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعينهم وإن لم يكن دليلا من غيرهم؟.
قلنا: إذا كان دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى وأحرى.
وأيضا فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وإن كانت أمرا مباحا كما لو قيل:

من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحب الثوب الأسود ونحو ذلك فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول والوعيد لصاحبه علم أنه لم يقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين.
وأيضا فإن هذا القول مناسب للنفاق فإن لمز النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا وأنه أولى به من نفسه وأنه لا يقول إلا الحق ولا يحكم إلا بالعدل وأن طاعته لله وأنه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره وإذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق.
وأيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا والأول باطل لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني والقاذف والسارق والمطفف والخائن ولم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين ولا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك وإلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لا بد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق وكلما كان كذلك فهو كفر.
وأيضا فإن الله سبحانه كما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين وهو قوله تعالى: {ائذن لي ولا تفتني} قال في عقب ذلك: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} إلى قوله: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}

فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الإيمان وعلى الريب مع أنه رغبة عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استنفاره وإظهار من القاعد أنه معذور بالقعود وحاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه وأذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له وهذا محاربة له وهذا ظاهر.
وإذا ثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم أو آذاه منهم فالضمير عائد على المنافقين والكافرين لأنه سبحانه لما قال: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} قال: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله} وهذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور وهم الذين حلفوا {لو استطعنا لخرجنا معكم} وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفروا بالله ورسوله وقد جعل منهم من يلمز ومنهم من يؤذي وكذلك قوله: {وما هم منكم} إخراج لهم عن الإيمان.
وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين وأنهم في الدرك الأسفل من النار وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم} الآية إلى قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} وأمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي علي أحد منهم وأخبر أنه لن يغفر لهم وأمره بجهادهم والإغلاظ عليهم وأخبر أنهم إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع.

(ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)
جعل الإيتاء لله والرسول. كما في قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وأما التوكل والرغبة فلله وحده. كما في قوله تعالى {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل ورسوله. وقال: {إنا إلى الله راغبون} ولم يقل: وإلى الرسول وذلك موافق لقوله تعالى {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب}.

فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده لا يشركه فيه أحد وأما الطاعة والمحبة والإرضاء: فعلينا أن نطيع الله ورسوله ونحب الله ورسوله ونرضي الله ورسوله؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله وإرضاءه إرضاء لله وحبه من حب الله. وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر. ومن جعل إلى الله طريقا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة فهو كافر بالله ورسوله: مثل من يزعم أن من خواص الأولياء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب.
كقول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه. وقال بعضهم: إنهم أصبحوا ليلة المعراج فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول.
وقول بعضهم: إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار وقالوا: من كان الله معه كنا معه وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر والكذب. ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى الخضر عن موسى.
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
بين سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله والأموال المشتركة له كمال الفيء والغنيمة والصدقات عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك. ثم قال تعالى: {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل " ورسوله " فإن الحسب هو الكافي والله وحده كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بين في موضع آخر.
والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه ثم قال تعالى: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} فذكر الإيتاء لله ورسوله لكن وسطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} ثم قال تعالى: {إنا إلى الله راغبون} فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات.

(فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما المسألة الثالثة: فقوله فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال وقدح في التوحيد وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها وبغضها كراهة وبغض لقضاء الله تعالى؟ فيقال: ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله آية ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها؛ فهذا أصل يجب أن يعتنى به ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقال: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وذكر الرسول هنا يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي لا الكوني القدري وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا}.

وينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على " قولين " لأصحاب أحمد وغيرهم: أصحهما أنه مستحب ليس بواجب.
ومن المعلوم أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله وننهى عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكر من المنهيات: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} فإذا كان الله يكرهها وهو المقدر لها فكيف لا يكرهها من أمر الله أن يكرهها ويبغضها وهو القائل: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقد قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} وقال تعالى: {وغضب الله عليهم ولعنهم} وقال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فأخبر أن من القول الواقع ما لا يرضاه.
وقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} وقال: {ورضيت لكم الإسلام دينا}
وقال: {وإن تشكروا يرضه لكم} فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به فلو كان يرضى كل شيء لما كان له خصيصة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته} وقال: {إن الله يغار والمؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه} ولا بد في الغيرة من كراهة ما يغار منه وبغضه وهذا باب واسع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 06-02-2025, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 346)

من صــ 386 الى صـ 400



قال القاضي أبو يعلي وغيره: وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر ولا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا.
وقد يستدل على المسألة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: "هذه في أهل الإيمان" {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} قال: "هذه في أهل النفاق" {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: "هذه في أهل الشرك" هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيما أظن أنهم قالوا: "كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب".
ويدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل ورأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} وقد قال حين حضره الموت {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحه فيما بينه وبين الله لم يكن ممن قال {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} بل يكون ممن تاب من قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب بلسانه فقط ولهذا قال في الأول {ثُمَّ يَتُوبُونَ} وقال هنا {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فمن قال: "إني تبت" قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته.
وربما استدل بعضهم بقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين وبقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} الآية وقوله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} الآية فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معاينة العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق ومن قال هذا فرق بينه وبين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود والمنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما والعقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس وهذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا.
وفيه طريقة أخرى وهي أن سب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أنه موجب للقتل وبينا أنه جناية غير الكفر إذ لو كان ردة محضة وتبديلا للدين وتركا له لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد ولما قتل الذين سبوه وقد عفا عمن قاتل وحارب.
وقد ذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم ولأن التنقص والسب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة والرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول وتوقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين وتركه وفارق الجماعة وإذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر وتبديل الدين قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم}.

فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة وكذلك قال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى ونكالا عن السرقة في المستقبل منهم ومن غيرهم وأخبر أن الله يتوب على من تاب ولم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان: الجزاء والنكال والتوبة تسقط الجزاء ولا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق ولم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة والإصلاح لمقصود حفظ النفس والمال سهل.

ولهذا لم نعلم خلافا يعتمد في أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وأخبر بحسن توبتهما وحسن مصيرهما وكذلك لو قيل: "إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يسقط بالتوبة وتجديد الإسلام" لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه ولم يزجر النفوس عن الاستحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد ويصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب والأذى ثم يجدد إسلامه ويظهر إيمانه وقد ينال المرء من عرضه ويقع منه تنقص له واستهزاء ببعض أقواله أو أعماله وإن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه لا يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه واستخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال لأن الانتقال عن الدين لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهوة قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة ويكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام وهنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وعيبه والطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام ويظهر التوبة وبهذا يظهر أن السب والشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنى وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه وقد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها وذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له وهذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة لكن حقيقته أنه نوع من الردة تغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل وغيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لتغلظ الجرم وإن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة ويبقى خصوص السب ولا بد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل ويبقى حق أولياء المقتول من القتل الدية أو العفو وهذه مناسبة ظاهرة وقد تقدم نص الشارع وتنبيهه على اعتبار هذا المعنى.
فإن قيل: تلك المعاصي يدعو إليها الطمع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الطبع لا يدعوا إليه إلا بخلل في الاعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر وعقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة وإذا لم يكن إليه مجرده باعث طبيعي لم يشرع ما يزجر عنه وإن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب والدين ونحو ذلك.
قلنا: بل قد يكون إليه باعث طبيعي غير الخلل في الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله وأفعاله والغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه والشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره وغير ذلك فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له وضرب من الأذى والانتقاص وإن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان وإذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا والحرمة محفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب وإلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام ومتى أراد الإسلام فالإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إسلام من يظهر الإسلام.
وأيضا فإن سب النبي صلى الله عليه وسلم حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف وكسب غيره من البشر.

ثم من فرق بين المسلم والذمي قال: المسلم قد التزم أن لا يسب ولا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر وكما يعزر على أكل لحم الميت والخنزير والكافر لم يلتزم تحريم ذلك ولا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر ولا يعزر على الميت والخنزير.
نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا وبينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر ولا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله.
وحقيقة هذه الطريقة أن سب النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته وتعزيرا له وتوقيرا ونكالا عن التعرض له والحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك وعوقب عليه كما إذا أظهر الخمر والخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين وعلى التقديرين فالإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه.
وأيضا فإن الردة على قسمين: ردة مجردة وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها وكل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر لمن ذلك تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ولم يأت نص ولا إجماع لسقوط القتل عنه والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق.
والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره وإنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه ويقيس بعضها ببعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتدين لم يبق إلا القياس وهو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم وقد دل على تأثيره نص الشارع وتنبيهه والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة.
وتقرير هذا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} وقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه} ونحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى وإضرار وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط وكذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن عزم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ وحينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب وأنه مرتد ولم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض.
الثاني: أن الله سبحانه قال: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفرا والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن.
وهذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت وإن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فالآية أعم من ذلك.
وقد رأينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه وأمر بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا من ذلك وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وأمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء وإذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين ورأينا أن من ضر وآذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه وإن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا وكان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح ولأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله ولأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي
بإسلامه وهذا الساب أتى من الأذى لله ورسوله بعد المعاهدة على ترك ذلك بما أتى به وهو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد.

وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه.
الوجه الثالث: أن الردة قد تتجرد عن السب فلا تتضمنه ولا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين وأخذ أموالهم إذ السب والشتم إفراط في العداوة وإبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير والانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله (رب) وقد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستسلام والانقياد بل استكبر وعاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر.
ولا فرق بين من يعتقد أن الله ربه وأن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول: إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد أن محمدا رسول الله وأنه صادق واجب الإتباع في خبره وأمره ثم يسبه أو يعيب أمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول وذلك أن الإيمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام والذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب
زكاة النفس ولا صلاحا فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصر صفة ونعتا للنفس وصلاحا وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب والنجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب ولو أنه مثقال ذرة.

هذا فيما بينه وبين الله وأما في الظاهر فتجري الأحكام على ما يظهره من القول والفعل.

والغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك.
والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا.
هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلب من أنه إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع.
والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال: الكفر أن لا يقصد أن يكفر.

(ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم محادة لله ولرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} ثم قال: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله} فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم لأنه يمكن حينئذ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا وإنما آذوا فلا يكون في الآية وعيد لهم فعلم أن هذا الفعل لا بد أن يندرج في عموم المحادة ليكون وعيد المحاد وعيدا له ويلتئم الكلام.
ويدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعين شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه " فأنزل الله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} ثم قال بعد ذلك: {إن الذين يحادون الله ورسوله} فعلم أن هذا داخل في المحادة.
وفي رواية أخرى صحيحة أنه نزل قوله: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} وقد قال: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} ثم قال عقبه:{ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله} فثبت ان هؤلاء الشاتمين محادون وسيأتي إن شاء الله زيادة في ذلك.

وإذا كان الأذى محادة لله ورسوله فقد قال الله تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} والأذل أبلغ من الذليل ولا يكون أذل حتى يخاف على نفسه وماله إن أظهر المحادة لأنه إن كان دمه وماله معصوما لا يستباح فليس بأذل يدل عليه قوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد فعلم أن من له عهد وحبل لا ذلة عليه وان كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة وقد جعل المحادين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية وهذا ظاهر فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أرداه بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس بأذل فثبت أن المحاد لله ولرسوله لا يكون له عهد يعصمه والمؤذي للنبي صلى الله عليه وسلم محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه وهو المقصود.

وأيضا فإنه قال تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} والكبت: الإذلال والخزي والصرع قال الخليل: "الكبت هو الصرع على الوجه" وقال النضر بن شميل وابن قتيبة: "هو الغيظ والحزن وهو في الاشتقاق الأكبر من كبده كأن الغيظ والحزن أصاب كبده" كما يقال: أحرق الحزن والعداوة كبده وقال أهل التفسير: "كبتوا أهلكوا وأخزوا وحزنوا" فثبت أن المحاد مكبوت مخزي ممتل غيظا وحزنا هالك وهذا إنما يتم إذا خاف إن أظهر المحادة أن يقتل وإلا فمن أمكنه إظهار المحادة وهو آمن على دمه وماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان ولأنه قال: {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} والذين من قبلهم ممن حاد الرسل وحاد رسول الله إنما كبته الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين والكبت وإن كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه: {ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم} لكن قوله تعالى: {كما كبت الذين من قبلهم} يعني محادى الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى يبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك.
وأيضا فقوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} عقب قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين} دليل على أن المحادة مغالبة ومعاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا والآخر مغلوبا وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم أن المحاد وليس بمسالم والغلبة للرسل بالحجة والقهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه ومن لم يؤمر بالحرب أهلك عدوه وهذا أحسن من قول من قال: إن الغلبة للمحارب بالنصر ولغير المحارب بالحجة فعلم أن هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون.
أيضا فإن المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد والفصل والبينونة وكذلك المشاقة من الشق وهو بهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة والمفاصلة ولهذا يقال: إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المتحادين والمتشاقين في حد وشق من الآخر وذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله ورسوله.

وأيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فإن الله سبحانه قال: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم ومحادتهم فكل من حاد وشاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة.
وأيضا فإنه تعالى قال: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} والتعذيب هنا والله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الإجلاء وأخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله تعالى ورسوله ومن أظهر المحادة فقد شاق الله ورسوله بخلاف من كتمها فإنه ليس بمحاد ولا مشاق.

وهذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال: هو محاد وإن لم يكن مشاقا ولهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكبوتا كما كبت من قبله وأن يكون في الأذلين وجعل جزاء المشاق القتل والتعذيب في الدنيا ولن يكون مكبوتا كما كبت من قبله في الأذلين إلا إذا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة أعم ولهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} الآية: إنها نزلت فيمن قتل من المسلمين أقاربه في الجهاد وفيمن أراد أن يقتل لمن تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى من كافر أو منافق قريب له فعلم أن المحاد يعم المشاق وغيره.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 342.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 336.96 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]