تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         نباتات منزلية تمتص رطوبة الصيف من البيت.. الصبار أبرزها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          طريقة عمل برجر الفول الصويا.. وجبة سريعة وصحية للنباتيين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          4 وسائل علمية لتكون أكثر لطفًا فى حياتك اليومية.. ابدأ بتحسين طاقتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          وصفة طبيعية بالقهوة والزبادى لبشرة صافية ومشرقة قبل المناسبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          3 عادات يومية تزيد من تساقط الشعر مع ارتفاع درجات الحرارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          6 خطوات فى روتين الإنقاذ السريع للبشرة قبل الخروج من المنزل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          تريندات ألوان الطلاء فى صيف 2025.. الأحمر مع الأصفر موضة ساخنة جدًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          طريقة عمل كرات اللحم بالبطاطس والمشروم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          وصفات طبيعية لتقشير اليدين بانتظام.. من السكر لزيت جوز الهند (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أبرز 5 تريندات ديكور منزلى في صيف 2025.. لو بتفكر تجدد بيتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-12-2021, 11:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (17)

صــ85 إلى صــ 90


[ ص: 85 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ يُدْعَى: بَابَ حِطَّةٍ . وَقَوْلُهُ: (سُجَّدًا) أَيْ: رُكَّعًا . قَالَ وَهْبٌ: أَمَرُوا بِالسُّجُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى إِذْ رَدَّهُمْ إِلَيْهَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (حِطَّةً) بِالنَّصْبِ .

وَفِي مَعْنَى حِطَّةٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: اسْتَغْفِرُوا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهِيَ كَلِمَةٌ [أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوهَا ] فِي مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ ، مِنْ حَطَطْتُ ، أَيْ: حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا .

وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: قُولُوا: هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لَكُمْ ، ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُولُوا الَّذِي يَحُطُّ عَنْكُمْ خَطَايَاكُمْ . [وَهُوَ قَوْلُ: "إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" . ] .

وَلِمَاذَا أُمِرُوا بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لِذُنُوبٍ رَكِبُوهَا فَقِيلَ: ( ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ ) ، ( وَادْخُلُوا الْبَاب سُجَّدًا نَغْفِرُ لَكُمْ خطايكم ) قَالَهُ وَهْبٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ، فَقِيلَ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَكَانَ أَوَّلُ مَا لَقِيَهُمْ أَرِيحَا ، فَأُمِرُوا بِدُخُولِهَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ .

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ: (نَغْفِرُ لَكُمْ) بِالنُّونِ مَعَ كَسْرِ الْفَاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ (يَغْفِرُ) بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتَحِ الْفَاءِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَمَرَهُمْ فِي دُخُولِهِمْ بِفِعْلٍ وَقَوْلٍ ، فَالْفِعْلُ السُّجُودُ ، وَالْقَوْلُ: حِطَّةٌ ، فَغَيَّرَ الْقَوْمُ الْفِعْلَ وَالْقَوْلَ .

[ ص: 86 ] فَأَمَّا تَغْيِيرُ الْفِعْلِ; فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُتَزَحِّفِينَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى حُرُوفِ عُيُونِهِمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُسْتَلْقِينَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْقَوْلِ; فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا مَكَانَ "حِطَّةٍ" حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَوَهْبٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شَعْرَةٌ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةُ حِنْطَةٍ مَثْقُوبَةٍ فِيهَا شُعَيْرَةٌ سَوْدَاءُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: سَنْبَلَاثَا ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ .

فَأَمَّا الرِّجْزُ; فَهُوَ الْعَذَابُ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَأَنْشَدُوا لِرُؤْيَةٍ:


حَتَّى وَقُمْنَا كَيْدَهُ بِالرِّجْزِ


وَفِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْعَذَابُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ ظُلْمَةٌ وَمَوْتٌ ، مَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ، وَهَلَكَ سَبْعُونَ أَلْفًا عُقُوبَةً ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَصَابَهُمُ الطَّاعُونُ ، عُذِّبُوا بِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ مَاتُوا ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الثَّلْجُ ، هَلَكَ بِهِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
[ ص: 87 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .

اسْتَسْقَى بِمَعْنَى: اسْتَدْعَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِكَ: اسْتَنْصَرَ .

وَفِي الْحَجَرِ قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَجَرٌ مَعْرُوفٌ عَيْنٌ لِمُوسَى ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطِيَّةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُرَبَّعًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: كَانَ مِثْلَ رَأْسِ الثَّوْرِ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ . وَالثَّالِثُ: مِثْلُ رَأْسِ الشَّاةِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِثِيَابِ مُوسَى ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكَ: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ ، فَلِي فِيهِ قُدْرَةٌ ، وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ، فَكَانَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ ضَرَبَهُ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ أَيِّ: حَجَرٍ كَانَ ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ .

تَقْدِيرُ مَعْنَاهُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ ، فَلَمَّا عَرَّفَ بِقَوْلِهِ: "فَانْفَجَرَتْ" أَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ ، اكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الضَّرْبِ . وَمِثْلُهُ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ . [ الشُّعَرَاءِ: 63 ] قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا ، أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمُ اثْنَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ تَشَاحَنٌ فَسَلِمُوا بِذَلِكَ مِنْهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا .

الْعَثْوُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ ، يُقَالُ: عَثِيَ ، وَعَثَا ، وَعَاثَ . قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ


لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسِيَ قَدْ عَثَا فِيهِ الْمَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ الْقَاسِمِ
[ ص: 88 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ . أَيِ: الْزَمُوهَا ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الذِّلَّةُ وَالذُّلُّ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجِزْيَةُ . وَفِي الْمَسْكَنَةِ قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هِيَ فَقْرُ النَّفْسِ .

وَالثَّانِي: الْخُضُوعُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَاءُوا أَيْ: رَجَعُوا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَضَبِ .

وَقِيلَ إِلَى جَمِيعِ مَا أَلْزَمُوهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَغَيْرِهَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ .

كَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ "النَّبِيِّينَ" وَ"الْأَنْبِيَاءَ" وَ"النُّبُوَّةَ" وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْأَحْزَابِ: تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ 53 إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ 50 . وَإِنَّمَا تَرَكَ الْهَمْزَ فِي هَذَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَبَاقِي الْقُرَّاءِ لَا يَهْمِزُونَ جَمِيعَ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجَ: الْأَجْوَدُ تَرْكُ الْهَمْزِ . وَاشْتِقَاقُ النَّبِيِّ مِنْ: نَبَّأَ ، وَأَنْبَأَ ، أَيْ: أَخْبَرَ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ: نَبَا يَنْبُو: إِذَا ارْتَفَعَ ، فَيَكُونُ بِغَيْرِ هَمْزٍ: فَعِيلًا ، مِنَ الرِّفْعَةِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةَ نَبِيٍّ ، ثُمَّ يُقِيمُونَ سُوقَ بَقْلِهِمْ فِي آَخِرِ النَّهَارِ .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17-12-2021, 12:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (18)

صــ91 إلى صــ 96

قَوْلُهُ تَعَالَى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِغَيْرِ جُرْمٍ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَوْكِيدٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الصِّفَةِ لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: [ ص: 91 ] رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فَوَصَفَ حُكْمَهُ بِالْحَقِّ ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَعْتَدُونَ الْعُدْوَانُ: أَشَدُّ الظُّلْمِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الِاعْتِدَاءُ: مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلٍّ شَيْءٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا فِيهِمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِمُوسَى ، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى ، فَآَمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْإِسْلَامَ ، كَقِسِّ بْنِ سَاعِدَةَ ، وَبُحَيْرَا ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَسَلْمَانَ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هَادُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ هَادَوْا فِي اللُّغَةِ: تَابُوا . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْيَهُودَ سُمُّوا بِذَلِكَ ، لِقَوْلِ مُوسَى : هُدْنَا إِلَيْكَ ، وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ عِيسَى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ . وَقِيلَ سُمُّوا النَّصَارَى لِقَرْيَةٍ ، نَزَلَهَا الْمَسِيحُ ، اسْمُهَا: نَاصِرَةُ ، وَقِيلَ: لِتَنَاصُرِهِمْ .

فَأَمَّا "الصَّابِئُونَ" فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَمْزِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآَنِ . وَكَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ كُلَّ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الصَّابِئِينَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ ، يُقَالُ: صَبَأَ فَلَانٌ: إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ . وَصَبَأَتِ النُّجُومُ: إِذَا طَلَعَتْ [وَصَبَأَ نَابُهُ: إِذَا خَرَجَ ] .

وَفِي الصَّابِئِينَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ [ ص: 92 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى أَلْيَنُ قَوْلًا مِنْهُمْ ، وَهُمُ السَّائِحُونَ الْمُحَلِّقَةُ أَوْسَاطُ رُؤُوسِهِمْ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ، لَيْسَ لَهُمْ دِينٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

وَالرَّابِعُ: قَوْمٌ كَالْمَجُوسِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ .

وَالْخَامِسُ: فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .

وَالسَّادِسُ: قَوْمٌ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ ، وَيَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

وَالسَّابِعُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَطْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَكِتَابٌ وَنَبِيٌّ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ رَجَعَ قَوْلُهُ: (مَنْ آمَنَ) إِلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ أَقَامَ عَلَى إِيمَانِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ نُطْقُ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي: اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلَ صَالِحًا .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقَامَ الْفَرَائِضَ .

فَصْلٌ

وَهَلْ هَذِهِ الْآَيَةُ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ فِي آَخَرِينَ ، وَقَدَّرُوا فِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ، وَمَنْ آَمَنَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

الْخِطَابُ بِهَذِهِ الْآَيَةِ لِلْيَهُودِ . وَالْمِيثَاقُ: مِفْعَالٌ مِنَ التَّوَثُّقِ بِيَمِينٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ .

وَفِي هَذَا الْمِيثَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَكَرِهُوا الْإِقْرَارَ بِمَا فِيهَا ، فَرَفَعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَعْطُوا اللَّهَ عَهْدًا لِيَعْمَلُنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا مُوسَى قَرَءُوا مَا فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ ، امْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا ، فَرَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرُّسُلِ وَتَابِعِيهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمِيثَاقُ يَوْمَ أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آَدَمَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَبَلُ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطَّوْرُ: الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُنْبِتَ مِنَ الْجِبَالِ فَهُوَ طُورٌ ، وَمَا لَمْ يَنْبُتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ .

وَأَيُّ الْجِبَالِ هُوَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ فِلِسْطِينَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: جَبَلٌ نَزَلُوا بِأَصْلِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: الْجَبَلُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَفَعَ الْجَبَلَ عَلَيْهِمْ لِإِبَائِهِمُ التَّوْرَاةَ . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لِإِبَائِهِمُ دُخُولَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ .

وَفِي الْمُرَادِ بِالْقُوَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: الصِّدْقُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .

[ ص: 94 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اذْكُرُوا مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: ادْرُسُوا مَا فِيهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَّقُونَ الْعُقُوبَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ الْمَوَاثِيقِ لَتَأْخُذُنَّهُ بِجِدٍّ ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ السَّبْتُ: الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمَعْنَى السَّبْتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَطْعُ يُقَالُ: قَدْ سَبَتَ رَأْسَهُ: إِذَا حَلَقَهُ وَقَطَعَ الشَّعْرَ مِنْهُ ، وَيُقَالُ: نَعْلٌ سَبْتِيَّةٌ: إِذَا كَانَتْ مَدْبُوغَةً بِالْقَرْظِ مَحْلُوقَةَ الشَّعْرِ ، فَسُمِّيَ السَّبْتُ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ فِيهِ ، وَقَطَعَ فِيهِ بَعْضَ خَلْقِ الْأَرْضِ ، أَوْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهِ بِقَطْعِ الْأَعْمَالِ وَتَرْكِهَا . قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْاسْتِرَاحَةِ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: سَبَتَ بِمَعْنَى: اسْتَرَاحَ .

وَفِي صِفَةِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السَّبْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ حَبَسُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ; وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهْرَ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَيُقْبِلُ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ الْخُرُوجَ فَلَا يُطِيقُ ، فَيَأْخُذُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .

[ ص: 95 ] الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ مَسْخِهِمْ .

رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نُودِيَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ . نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَتْ طَائِفَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الْأُولَى ، ثُمَّ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ بِرُؤُوسِهِمْ: بَلَى . قَالَ قَتَادَةُ: فَصَارَ الْقَوْمُ قِرَدَةً تَعَاوَى ، لَهَا أَذْنَابٌ بَعْدَمَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً .

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً ، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ ، وَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا ، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ . وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعُلَمَاءُ ، غَيْرَ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تُمْسَخْ أَبْدَانُهُمْ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُحْيَوْا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَحْيَاْ مَسْخٌ فِي الْأَرْضِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسِلْ . وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمْ عَاشُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَمَاتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: خَاسِئِينَ : الْخَاسِئُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبْعَدُ ، يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ ، أَيْ: تَبَاعَدْ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .

فِي الْمُكَنَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْخَطِيئَةُ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْعُقُوبَةُ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُسْخَةِ الَّتِي مُسِخُوهَا . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْقَرْيَةُ ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا الْأُمَّةُ الَّتِي مُسِخَتْ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَالزَّجَّاجُ .

وَفِي النَّكَالِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعُقُوبَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْعِبْرَةُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [ ص: 96 ] مِنَ الْقُرَى وَمَا خَلْفَهَا ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الذُّنُوبِ ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا عَمِلُوا بَعْدَهَا ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ السِّنِينَ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا كَانَ بَعْدَهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَعْمَلُوا بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ .

وَفِي الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَّقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَذَكَرَهُ عَطِيَّةُ وَسُفْيَانُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ .

ذِكْرُ السَّبَبِ فِي أَمْرِهِمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .

رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَمَلَهُ لَيْلًا ، فَأَتَى بِهِ حَيًّا آَخَرَ ، فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ حَتَّى تَسَلَّحُوا ، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17-12-2021, 12:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (19)

صــ97 إلى صــ 102

وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ أَخٍ فَقِيرٍ ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ ، فَأَبَى ، فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي ، وَلَآَخُذَنَّ مَالَهُ وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ ، وَلَآَكُلَنَّ دِيَتَهُ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ قَدِمَ تُجَّارٌ فِي بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَانْطَلِقْ مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَتِهِمْ لَعَلِّي أُصِيبُ فِيهَا رِبْحًا ، فَخَرَجَ مَعَهُ ، فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ السَّبْطُ ، قَتَلَهُ الْفَتَى ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ ، فَإِذَا بِذَلِكَ السَّبْطِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ، فَأَمْسَكَهُمْ وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي وَجَعَلَ يَبْكِي [ ص: 97 ] وَيُنَادِي: وَاعَمَّاهُ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَالَّذِي سَأَلَ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْبَيَانَ: الْقَاتِلُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْقَوْمُ اجْتَمَعُوا فَسَأَلُوا مُوسَى ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ ، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَالْكِسَائِيُّ: هُزُؤًا ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَالزَّايِ وَالْهَمْزَةِ ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَإِسْمَاعِيلُ ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ ، وَالْفَرَّاءُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ ، وَالْمُفَضَّلِ: هُزْءًا ، بِإِسْكَانِ الزَّايِ . وَرَوَاهُ حَفْصٌ بِالضَّمِّ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ ، فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثَقِّلُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُهُ ، نَحْوُ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ .

وَإِنَّمَا انْتَفَى مِنَ الْهَزْءِ ، لِأَنَّ الْهَازِئَ جَاهِلٌ لَاعِبٌ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا سَأَلُوا: مَا هِيَ ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَقَرَةً يُحْيَا بِضَرْبِ بَعْضِهَا مَيِّتٌ .

فَأَمَّا الْفَارِضُ فَهِيَ: الْمُسِنَّةُ ، يُقَالُ: فَرَضَتِ الْبَقَرَةُ فَهِيَ فَارِضٌ: إِذَا أَسَنَّتْ . وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدُ ، وَالْعَوَانُ: دُونَ الْمُسِنَّةِ ، وَفَوْقَ الصَّغِيرِ . يُقَالُ: حَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ حَرْبٍ ، وَكَانَتْ ثَانِيَةً .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنَّ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .

فِي الصَّفْرَاءِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الصُّفْرَةِ ، وَهُوَ اللَّوْنُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا السَّوْدَاءُ ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَرَدَّهُ جَمَاعَةٌ ، فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذَا غَلَطٌ فِي نُعُوتِ الْبَقَرِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي نُعُوتِ الْإِبِلِ ، يُقَالُ: بَعِيرٌ أَصْفَرُ ، أَيْ: أَسْوَدُ ، لِأَنَّ السَّوْدَاءَ مِنَ الْإِبِلِ يَشُوبُ سَوَادَهَا صُفْرَةٌ ، [ ص: 98 ] وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقِعٌ لَوْنُهَا وَالْعَرَبُ لَا تَقُولُ: أَسْوَدُ فَاقِعٌ ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَسْوَدُ حَالِكٌ ، وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ .

قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَاقِعٌ نَعْتٌ لِلْأَصْفَرِ الشَّدِيدِ الصُّفْرَةِ ، يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ ، وَأَحْمَرُ قَانِئٌ ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ ، وَأَبْيَضُ يَقَقٌ ، وَأَسْوَدُ حَالِكٌ ، وَحُلْكُوكٌ وَدَجْوَجِيٌّ ، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَلْوَانِ .

وَمَعْنَى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ تُعْجِبُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدَّدَ الْقَوْمُ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنُوا لَمْ يُعْطَوُا الَّذِي أُعْطُوا" يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ .

وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .

وَفِي الْمُرَادِ بِاهْتِدَائِهِمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا: الْمُهْتَدُونَ إِلَى الْبَقَرَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَالثَّانِي: إِلَى الْقَاتِلِ ، ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يُذِلْهَا الْعَمَلُ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: فِي الدَّوَابِّ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ بِكَسْرِ الذَّالِ ، وَفِي النَّاسِ: رَجُلٌ ذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ .

تُثِيرُ الأَرْضَ تُقَلِّبُهَا لِلزِّرَاعَةِ ، وَيُقَالُ لِلْبَقَرَةِ: الْمُثِيرَةُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقِفْنَ عَلَى ذَلُولٍ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيَّ أَجَازَ الْوَقْفَ عَلَى ذَلُولٍ ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ جِدًّا ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الَّتِي تُثِيرُ الْأَرْضَ يُعْدَمُ مِنْهَا سَقْيُ الْحَرْثِ; وَمَتَى أَثَارَتِ الْأَرْضَ كَانَتْ ذَلُولًا . وَمَعْنَى: وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ: لَا يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ لِسَقْيِ الزَّرْعِ .

[ ص: 99 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسَلَّمَةٌ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهُمَا: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: مُسْلَّمَةٌ مِنَ الْعَمَلِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّالِثُ: مُسْلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالرَّابِعُ: مُسَلَّمَةُ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ .

فَأَمَّا الشِّيَةُ ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَشْيُ فِي اللُّغَةِ: خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ . وَيُقَالُ: وَشِيتَ الثَّوْبُ أُشِيهِ شِيةً وَوَشْيًا ، كَقَوْلِكَ: وُدَيْتُ فُلَانًا أَدِيهِ دِيَةً . وَنُصِبَ: شِيَةَ فِيهَا ، عَلَى النَّفْيِ . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُفَارِقُ سَائِرَ لَوْنِهَا . وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَسَانِيُّ: لَوْنُهَا لَوْنٌ وَاحِدٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْآَنَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ ، وَهُوَ حَدُّ الزَّمَانَيْنِ ، حَدُّ الْمَاضِي مِنْ آَخِرِهِ ، وَحَدُّ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَمَعْنَى جِئْتَ بِالْحَقِّ بَيَّنْتَ لَنَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا ، قَالَهُ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ . وَالثَّانِي: لِخَوْفِ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ ، قَالَهُ وَهْبٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثُوا يَطْلُبُونَ الْبَقَرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدُوهَا عِنْدَ رِجُلٍ ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهَا إِلَّا بِمَلْءِ مَسْكِهَا ذَهَبًا ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعُبَيْدَةَ ، وَوَهْبٍ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَالْكَلْبِيِّ ، وَمُقَاتِلٍ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ . فَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ غَلَا ثَمَنُهَا ، فَيُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: لِإِكْرَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَهَا ، فَإِنْ كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ . فَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ شَابٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَرًّا بِأَبِيهِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سِلْعَةً هِيَ عِنْدَهُ ، فَانْطَلَقَ لِيَبِيعَهُ إِيَّاهَا ، فَإِذَا مَفَاتِيحُ حَانُوتِهِ مَعَ أَبِيهِ ، وَأَبُوهُ نَائِمٌ ، فَلَمْ يُوقِظْهُ ، وَرَدَّ الْمُشْتَرِي ، فَأَضْعَفَ لَهُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا ، فَعَادَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَرَدَّهُ ، فَأَضْعَفَ لَهُ الثَّمَنَ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهَمَا حَتَّى ذَهَبَ الْمُشْتَرِي ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى بِرِّهِ بِأَبِيهِ أَنْ نَتَجَتْ لَهُ بَقَرَةً مِنْ بَقَرَةٍ ، تِلْكَ الْبَقَرَةُ .

[ ص: 100 ] وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَنَّ فَتًى كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ ، وَكَانَ يَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِذَا بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثُلْثِهِ ، وَأَعْطَى أَمَّهُ ثُلْثَهُ ، وَأَبْقَى لِنَفْسِهِ ثُلْثَهُ ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ يَوْمًا: إِنِّي وَرِثْتُ مِنْ أَبِيكَ بَقَرَةٍ ، فَتَرَكْتُهَا فِي الْبَقَرِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ، فَإِذَا أَتَيْتَ الْبَقَرَ ، فَادْعُهَا بِاسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ ، فَذَهَبَ فَصَاحَ بِهَا ، فَأَقْبَلَتْ ، فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ ، فَقَالَتِ: ارْكَبْنِي يَا فَتَى ، فَقَالَ [الْفَتَى: إِنَّ أُمِّي ] لَمْ تَأْمُرْنِي بِهَذَا . فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْبَرُّ بِأُمِّهِ! لَوْ رَكِبْتَنِي لَمْ تَقْدِرْ عَلِيَّ ، فَانْطَلَقَ ، فَلَوْ أَمَرَتُ الْجَبَلَ أَنْ يَنْقَلِعَ مِنْ أَصْلِهِ [وَيَنْطَلِقَ مَعَكَ ] لَانْقَلَعَ لِبِرِّكَ بِأُمِّكَ . فَلَمَّا جَاءَ بِهَا قَالَتْ أُمُّهُ: بِعْهَا بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ عَلَى رِضًى مِنِّي ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلِكًا فَقَالَ: بِكُمْ هَذِهِ؟ قَالَ: بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ عَلَى رِضًى مِنْ أُمِّي . قَالَ: لَكَ سِتَّةٌ وَلَا تَسْتَأْمِرْهَا ، فَأَبَى ، وَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ: بِعْهَا بِسِتَّةٍ عَلَى رِضًى مِنِّي ، فَجَاءَ الْمَلِكُ فَقَالَ: خُذِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَسْتَأْمِرْهَا ، فَأَبَى ، وَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ! ذَاكَ مَلِكٌ ، فَقُلْ لَهُ: بِكَمْ تَأْمُرُنِي أَنْ أَبِيعَهَا؟ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ: يَا فَتَى يَشْتَرِي بَقْرَتَكَ هَذِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِقَتِيلٍ يُقْتَلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هَذِهِ الْآَيَةُ مُؤَخَّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ ، مُقَدَّمَةٌ فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ قَتْلُ النَّفْسِ ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ، فَسَأَلْتُمْ مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا [ الْكَهْفِ: 1 ] أَرَادَ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّمًا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ، فَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ وَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ ، لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ:


إِنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ طَالَتْ فَلَيْسَ تَنَالُهَا الْأَوْعَالَا


أَرَادَ: طَالَتِ الْأَوْعَالُ . وَقَالَ جَرِيرٌ:


طَافَ الْخَيَالُ وَأَيْنَ مِنْكَ لِمَامًا فَارْجِعْ لِزَوْرِكَ بِالسَّلَامِ سَلَامًا
[ ص: 101 ] أَرَادَ: طَافَ الْخَيَالُ لِمَامًا ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْكَ؟ وَقَالَ الْآَخَرُ:


خَيْرٌ مِنَ الْقَوْمِ الْعُصَاةُ أَمِيرُهُمْ يَا قَوْمِ فَاسْتَحْيُوا النِّسَاءَ الْجُلَّسِ


أَرَادَ: خَيْرٌ مِنَ الْقَوْمِ الْعُصَاةُ النِّسَاءَ فَاسْتَحْيَوْا مِنْ هَذَا .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَادَّارَأْتُمْ : اخْتَلَفْتُمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ادَّارَأْتُمْ ، بِمَعْنَى: تَدَارَأْتُمْ ، أَيْ: تَدَافَعْتُمْ ، وَأَلْقَى بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، تَقُولُ: دَرَأْتُ فُلَانًا: إِذَا دَفَعْتَهُ ، وَدَارَيْتَهُ: إِذَا لَايَنْتَهُ ، وَدَرَيْتَهُ إِذَا خَتَلْتَهُ ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا الَّذِي كَتَمُوهُ; فَهُوَ أَمْرُ الْقَتِيلِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

مَنْ قَالَ: أَقَامُوا فِي طَلَبِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً; قَالَ: ضَرَبُوا قَبْرَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، قَالَ: ضَرَبُوا جِسْمَهُ قَبْلَ دَفْنِهِ . وَفِي الَّذِي ضَرَبَ بِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَذَلِكَ الْعَظْمُ هُوَ أَصْلُ الْأُذُنِ ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَكْسِرُ ذَلِكَ الْعَظْمَ مِنْ أَحَدٍ فَيَعِيشُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْغُضْرُوفُ فِي الْأُذُنِ ، وَهُوَ مَا أَشْبَهَ الْعَظْمَ الرَّقِيقَ مِنْ فَوْقِ الشَّحْمَةِ ، وَجَمِيعٌ أَعْلَى صَدَفَةِ الْأُذُنِ ، وَهُوَ مُعَلَّقُ الشُّنُوفِ ، فَأَمَّا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ خَلْفَ الْأُذُنِ النَّاتِئَانِ مِنْ مُؤَخَّرِ الْأُذُنِ ، فَيُقَالُ لَهُمَا: الْخَشَّاوَانِ ، وَأَحَدُهُمَا: خَشَّاءُ ، وَخُشُشَاءُ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْفَخْذِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَعِكْرِمَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُ الْفَخْذُ الْأَيْمَنُ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْبِضْعَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ . رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الذَّنَبُ ، رَوَاهُ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ [ ص: 102 ] . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَهُوَ عَظَمٌ بُنِيَ عَلَيْهِ الْبَدَنُ ، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .

وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ اللِّسَانُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .

وَفِي الْكَلَامِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا ، فَضَرَبُوهُ فَيَحْيَ ، فَقَامَ فَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ .

وَفِي قَاتِلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: بَنُو أَخِيهِ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: ابْنَا عَمِّهِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ . وَالثَّالِثُ: ابْنُ أَخِيهِ ، قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ وَعُبَيْدَةُ . وَالرَّابِعُ: أَخُوهُ ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى : فِيهِ قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِقَوْمِ مُوسَى . وَالثَّانِي: لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ ، احْتَجَّ عَلَيْهِمْ إِذْ جَحَدُوا الْبَعْثَ بِمَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَآَيَاتُهُ: عَجَائِبُهُ .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهِ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ : قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسَتْ ، فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ: ذِهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وِالْخُشُوعِ مِنْهُ . وَالْقَاسِي: وَالْعَاسِي: الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ وَاحِدٌ ، أَيْ: يَبِسَتْ .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17-12-2021, 12:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (20)

صــ103 إلى صــ 108

وَفِي الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَالثَّانِي: الْقَاتِلُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ سَمَّى قَاتِلَهُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ . وَفِي كَافِ "ذَلِكَ" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَالثَّانِي: [ ص: 103 ] إِلَى كَلَامِ الْقَتِيلِ ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْقَاتِلِ ، ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ . وَالثَّالِثُ: إِلَى مَا شُرِحَ مِنَ الْآَيَاتِ مِنْ مَسْخِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ وَانْبِجَاسِ الْمَاءِ ، وَإِحْيَاءِ الْقَتِيلِ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .

وَفِي "أَوْ" أَقْوَالٌ ، هِيَ بِعَيْنِهَا مَذْكُورَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ حَجَرٍ يَنْفَجِرُ مِنْهُ الْمَاءُ ، وَيَنْشَقُّ عَنْ مَاءٍ ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ ، فَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَاصَّةً ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُونَ ، تَقْدِيرُهُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ تُصْدِّقُوا نَبِيَّكُمْ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا أَحَبُّوا إِسْلَامَ الْيَهُودِ لِلرَّضَاعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ ، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَلِفُ "أَفَتَطْمَعُونَ" أَلِفُ اسْتِخْبَارٍ ، كَأَنَّهُ آَيَسَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ .

وَفِي سَمَاعِهِمْ لِكَلَامِ اللَّهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَرَؤُوا التَّوْرَاةَ فَحَرَّفُوهَا ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ فِي آَخَرِينَ ، فَيَكُونُ سَمَاعُهُمْ لِكَلَامِ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ نَبِيِّهِمْ ، وَتَحْرِيفِهِمْ: تَغْيِيرُ مَا فِيهَا . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ كِفَاحًا عِنْدَ الْجَبَلِ ، فَلَمَّا جَاؤُوا إِلَى قَوْمِهِمْ قَالُوا: قَالَ لَنَا: كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ فِي آَخِرِ قَوْلِهِ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا تَرْكَ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ; فَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ . هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ "النَّوَادِرِ" هَذَا الْقَوْلُ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ ، وَقَالَ إِنَّمَا خَصَّ [ ص: 104 ] بِالْكَلَامِ مُوسَى وَحْدَهُ ، وَإِلَّا فَأَيُّ مِيزَةٍ؟! وَجَعَلَ هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا الْكَلْبِيُّ وَكَانَ كَذَّابًا .

وَمَعْنَى (عَقَلُوهُ) سَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ .

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوهُ . وَالثَّانِي: وَهُمْ يَعْلَمُونَ عِقَابَ تَحْرِيفِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَّلًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .

هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ ، كَانُوا إِذَا لَقُوا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آَمَنَّا ، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَسَانِيِّ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٍ .

وَفِي مَعْنَى بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، وَالْفَتْحُ: الْقَضَاءُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [ الْأَعْرَافِ: 89 ] قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آَمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا ، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ . [مِنَ الْعَذَابِ ، لِيَقُولُوا: نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ ] . وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِمَا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ: مَا أَنْزَلُهُ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُسْلِمُ يَلْقَى حَلِيفَهُ ، أَوْ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الْيَهُودِ ، فَيَسْأَلُهُ: أَتَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كِتَابِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ، إِنَّهُ لَحَقٌّ . فَسَمِعَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَغَيْرُهُ ، فَقَالَ لِلْيَهُودِ فِي السِّرِّ: أَتُحَدِّثُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، أَيْ: بِمَا بَيَّنَ لَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَمْرٍ مُحَمَّدٍ لِيُخَاصِمُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ بِاعْتِرَافِكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؟! [ ص: 105 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى: فِي حُكْمِ رَبِّكُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ النُّورِ: 13 ] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ يَعْنِي: الْيَهُودَ . وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْأُمِّيِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ عَلَى خِلْقَةِ الْأُمَّةُ الَّتِي لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَ ، فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي الرِّجَالِ كَانَتْ دُونَ النِّسَاءِ . وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ قَالَ قَتَادَةُ: يَدْرُونَ مَا فِيهِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا أَمَانِيَّ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ ، بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ ، وَكَذَلِكَ: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [ الْبَقَرَةِ: 111 ] وَ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [ النِّسَاءِ: 123 ] فِي أُمْنِيَّتِهِ [ الْحَجِّ: 52 ] وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ [ الْحَدِيدِ: 14 ] كُلُّهُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ "أَمَانِيِّهِمْ" . وَلَا بِخِلَافٍ فِي فَتْحِ يَاءِ "الْأَمَانِي" .

وَفِي مَعْنَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْأَكَاذِيبُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَمَانِي: يُرِيدُ إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ . وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ لِابْنِ دَأْبٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ ، أَمْ شَيْءٌ تَمَنَّيْتَهُ؟ يُرِيدُ: افْتَعَلْتَهُ؟ .

وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمَانِيَّ: التِّلَاوَةُ ، فَمَعْنَاهُ: يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّاعِرُ:


تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ


وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالزَّجَّاجِ .

[ ص: 106 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانِيُّهُمْ عَلَى اللَّهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ قَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ ، فَإِنْ كَذَبَ الرُّؤَسَاءُ أَوْ صَدَّقُوا ، تَابَعُوهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ

هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ [الَّذِينَ ] بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَغَيَّرُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَسُفْيَانَ . فَأَمَّا الْوَيْلُ: فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَيْلٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ ، يَهْوِي الْكَافِرُ فِيهِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَيْلُ: كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ ، وَيَسْتَعْمِلُهَا هُوَ أَيْضًا . وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَذَابُ ، وَالْهَلَاكُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَيُقَالُ: مَعْنَى الْوَيْلِ الْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ . وَيُقَالُ: أَصْلُهُ: وَيْ لِفُلَانٍ ، أَيْ: حُزْنٌ لِفُلَانٍ ، فَكَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ لِلْحَرْفَيْنِ ، فَوَصَلَتِ اللَّامُ بِ "وَيْ" وَجُعِلَتْ حَرْفًا وَاحِدًا ، ثُمَّ خَبَّرَ عَنْ "وَيْلٍ" بِلَامٍ أُخْرَى ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ . وَالْكِتَابُ هَاهُنَا: التَّوْرَاةُ . وَذِكْرُ الْأَيْدِي تَوْكِيدٌ ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ: مَا يَفْنَى مِنَ الدُّنْيَا .

وَفِيمَا يَكْسِبُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَوَّضَ مَا كَتَبُوا . وَالثَّانِي: إِثْمُ مَا فَعَلُوا .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهِ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَهْمُ: الْيَهُودُ . وَفِيمَا عَنَوْا بِهَذِهِ الْأَيَّامِ قَوْلَانِ .

[ ص: 107 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .

وَلِمَاذَا قَدَّرُوهَا بِأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ مَسِيرَةَ كُلِّ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ ، ثُمَّ يَنْقَضِي الْعَذَابُ وَتَهْلَكُ النَّارُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: عَتَبَ عَلَيْنَا رَبُّنَا فِي أَمْرٍ ، فَأَقْسَمَ لِيُعَذِّبَنَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ ، فَلَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدُوا فِيهَا الْعِجْلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَةِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةَ آَلَافٍ ، سَنَةٍ وَالنَّاسُ يُعَذَّبُونَ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَيْ: عُهِدَ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ؟!
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : بَلَى: بِمَنْزِلَةِ "نَعَمْ" إِلَّا أَنَّ "بَلَى" جَوَابُ النَّفْيِ ، وَنَعَمْ ، جَوَابُ الْإِيجَابِ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ ، فَقَالَ الْآَخَرُ: نَعَمْ ، كَانَ تَصْدِيقًا أَنَّ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَ: بَلَى; كَانَ رَدًّا لِقَوْلِهِ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا صَارَتْ "بَلَى" تَتَّصِلُ بِالْجَحْدِ ، لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنِ الْجَحْدِ إِلَى التَّحْقِيقِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ "بَلْ" وَ"بَلْ" سَبِيلُهَا أَنْ تَأْتِيَ بَعْدَ الْجَحْدِ ، كَقَوْلِهِمْ: مَا قَامَ أَخُوكَ ، بَلْ أَبُوكَ . وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَلَا تَقُومُ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى; أَرَادَ: بَلْ أَقُومُ ، فَزَادَ الْأَلِفَ عَلَى "بَلْ" لِيَحْسُنَ السُّكُوتُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَلْ; كَانَ يَتَوَقَّعُ كَلَامًا بَعْدَ بَلْ ، فَزَادَ الْأَلِفَ لِيَزُولَ هَذَا التَّوَهُّمُ عَنِ الْمُخَاطَبِ . [ ص: 108 ] وَمَعْنَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : بَلْ مَنَ كَسَبَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: بَلَى: رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَالسَّيِّئَةُ هَاهُنَا: الشِّرْكُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَأَبِي وَائِلٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلٍ .

وَأَحَاطَتْ بِهِ أَيْ: أَحْدَقَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ . وَقَرَأَ نَافِعٌ "خَطِيئَاتُهُ" بِالْجَمْعِ . قَالَ عِكْرِمَةُ: مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: الْخَطِيئَةُ: صِفَةٌ لِلشِّرْكِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَحَاطَتْ بِحَسَنَتِهِ خَطِيئَتُهُ ، أَيْ: أَحْبَطَتْهَا ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُحِيطَ أَكْثَرُ مِنَ الْمُحَاطِ بِهِ ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [ التَّوْبَةِ: 49 ] وَقَوْلُهُ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الْكَهْفِ: 29 ] أَوْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَاطَتْ بِهِ: أَهْلَكَتْهُ ، كَقَوْلِهِ: إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [ يُوسُفَ: 66 ] .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَذَا الْمِيثَاقُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْبُدُونَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لَهُمْ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِالْيَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَوَصَّيْنَاهُمْ بِآَبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ خَيْرًا . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أُوصِيكَ بِهِ خَيْرًا ، وَآَمُرُكَ بِهِ خَيْرًا وَالْمَعْنَى: آَمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِهِ ، ثُمَّ تُحْذَفُ "أَنْ" فَيُوصَلُ الْخَيْرُ ، بِالْوَصِيَّةِ وَالْأَمْرِ . قَالَ الشَّاعِرُ


عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا

خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافَوْنَا


وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ; فَهُوَ بِرُّهُمَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَنْفُضْ ثَوْبَكَ فَيُصِيبَهُمَا الْغُبَارُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ . وَقَالَ عُرْوَةُ: لَا تَمْتَنِعْ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 23-12-2021, 05:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (22)

صــ115 إلى صــ 120

فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ ، جَاءُوا بِتَأْيِيدِ التَّوْرَاةِ . وَإِنَّمَا نَسَبَ الْقَتْلَ إِلَى الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْمُتَقَدِّمِينَ . [ ص: 115 ] وَتَقْتُلُونَ بِمَعْنَى: قَتَلْتُمْ ، فَوَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي ، لِأَنَّ الْوَهْمَ لَا يَذْهَبُ إِلَى غَيْرِهِ . وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:


شَهِدَ الْحَطِيئَةَ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: مَا فِي الْأَلْوَاحِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْآَيَاتُ التِّسْعُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَفِي هَاءِ "بَعْدَهُ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى مُوسَى ، فَمَعْنَاهُ: مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْمَجِيءِ ، لِأَنَّ "جَاءَكُمْ" يَدُلُّ عَلَى الْمَجِيءِ وَفِي ذِكْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ; قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أَيْ: سُقُوا حُبَّ الْعِجْلِ ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، وَهُوَ الْحُبُّ ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ: 197 ] [أَيْ: وَقْتَ الْحَجِّ ] وَقَوْلُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ [ التَّوْبَةِ: 19 ] [أَيْ: أَجَعَلْتُمْ صَاحِبَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ] . وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ يُوسُفَ: 82 ] [أَيْ: أَهْلُهُا ] وَقَوْلُهُ: إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ [ الْإِسْرَاءِ: 75 ] . أَيْ: ضِعْفُ عَذَابِ الْحَيَاةِ . وَقَوْلُهُ: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ [ الْحَجِّ: 40 ] . أَيْ: بُيُوتُ صَلَوَاتٍ . وَقَوْلُهُ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [ سَبَإِ: 30 ] . أَيْ: مَكْرُكُمْ فِيهِمَا . وَقَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [ الْعَلَقِ: 17 ] أَيْ: أَهْلُهُ . [ ص: 116 ] وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:


أُنْبِئَتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ


أَيْ: أَهْلُ الْمَجْلِسِ . وَقَالَ الْآَخَرُ


وَشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ بَيْنَ أَهْلِهِ


أَيْ: وَشَرُّ الْمَنَايَا مَنِيَّةُ مَيِّتٍ بَيْنَ أَهْلِهِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ أَيْ: أَنْ تُكَذِّبُوا الْمُرْسَلِينَ ، وَتَقْتُلُوا النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَتَكْتُمُوا الْهُدَى .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي "إِنْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: الْجَحْدِ ، فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِذْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ ، وَعَبَدْتُمُ الْعِجْلَ . وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ "إِنْ" شَرْطًا مُعَلَّقًا بِمَا قَبْلَهُ ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ; فَبِئْسَ الْإِيمَانُ إِيمَانٌ يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ كَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الْجَنَّةَ إِلَّا لِإِسْرَائِيلَ وَوَلَدِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ ، أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ ، وَأَكْبَرُ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ: قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبُهُمْ ، وَتَبْدِيلُ التَّوْرَاةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) اللَّامُ: لَامُ الْقَسَمِ ، وَالنُّونُ تَوْكِيدٌ لَهُ ، وَالْمَعْنَى: وَلَتَجِدَنَّ الْيَهُودَ فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ، وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا . وَفِي "الَّذِينَ أَشْرَكُوا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمَجُوسُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، [ ص: 117 ] وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ "أَحَدِهِمْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: تَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ ، قَالَ مُقَاتِلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ "أَلْفَ سَنَةٍ" لِأَنَّهَا نِهَايَةٌ مَا كَانَتِ الْمَجُوسُ تَدْعُو بِهَا لِمُلُوكِهَا ، كَانَ الْمَلِكُ يَحْيَا بِأَنْ يُقَالَ: لَهُ عِشْ أَلْفَ نَيْرُوزَ ، وَأَلْفَ مَهْرَجَانَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا هُوَ) فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَحَدِهِمُ الَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَحَدُهُمْ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ تَعْمِيرُهُ . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنَ التَّعْمِيرِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا تَعْمِيرُهُ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ، ثُمَّ جَعَلَ "أَنْ يُعَمَّرَ" مُبَيِّنًا عَنْهُ ، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الشَّيْءُ الدَّنِيءُ لَيْسَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَتِ الْيَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ ، فَقَالُوا: ذَاكَ يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ ، ذَاكَ عَدُوُّنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا .

وَفِي جِبْرِيلَ إِحْدَى عَشْرَةَ لُغَةً .

إِحْدَاهَا: جِبْرِيلُ ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:


وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلَ
[ ص: 118 ] وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حَطَّانٍ:


وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ فِيهِمْ لَا كَفَاءَ لَهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللَّهِ مَأْمُونًا


وَقَالَ حَسَّانُ:


وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ لَهُ كَفَاءُ


وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةِ: جَبْرِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ: فَعْلِيلٍ ، وَبِهَا قَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا أَشْتَهِيهَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلِيلٌ ، وَلَا أَرَى الْحَسَنَ قَرَأَهَا إِلَّا وَهُوَ صَوَابٌ ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ .

وَالثَّالِثَةُ: جَبْرَئِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ ، وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ عَلَى وَزْنِ: جَبْرَعِيلَ ، وَبِهَا قَرَأَ ، الْأَعْمَشُ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ أَجْوَدُ اللُّغَاتِ ، وَقَالَ جَرِيرٌ:


عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ وَبَجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا


وَالرَّابِعَةُ: جَبْرَئِلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهَمْزَةٌ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ ، مَكْسُورَةٌ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ عَلَى وَزْنِ: جَبْرَعِلِ ، رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ .

وَالْخَامِسَةُ جَبْرَئِلُّ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ عَنْ عَاصِمٍ ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ .

وَالسَّادِسَةُ: جِبْرَائِيلُ ، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مَعَ الْأَلِفِ .

وَالسَّابِعَةُ: جِبْرَايِيلُ بِيَائَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ أَوَّلَهُمَا مَكْسُورَةٌ .

وَالثَّامِنَةُ: جَبْرِينُ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَنُونٍ مَكَانَ اللَّامِ .

وَالتَّاسِعَةُ: جِبْرِينُ ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَنُونٍ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ . وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ: فِي جِبْرِيلَ تِسْعُ لُغَاتٍ ، فَذَكَرَهُنَّ .

[ ص: 119 ] وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ "الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ" جِبْرَائِلَ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِثْبَاتٍ الْأَلِفِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ لَيْسَ بَعْدَهَا يَاءٌ . وَجَبْرَئِينُ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَنُونٌ .

فَأَمَّا مِيكَائِيلُ ، فَفِيهِ خَمْسُ لُغَاتٍ .

إِحْدَاهُنَّ: مِيكَالُ ، مِثْلُ: مِفْعَالُ بِغَيْرِ هَمْزٍ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ .

وَالثَّانِيَةُ: مِيكَائِيلَ بِإِثْبَاتِ يَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ ، مِثْلُ: مِيكَاعِيلُ ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ .

وَالثَّالِثَةُ: مِيكَائِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ ، مِثْلُ مِيكَاعِلُ ، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ شَنَبُوذَ ، وَابْنُ الصَّبَاحِ ، جَمِيعًا عَنْ قُنْبُلٍ .

وَالرَّابِعَةُ: مِيكَئِلُ ، عَلَى وَزْنِ: مِيكَعِلُ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ .

وَالْخَامِسَةُ: مِيكَائِينُ بِهَمْزَةٍ مَعَهَا يَاءٌ وَنُونٌ بَعْدَ الْأَلِفِ ، ذَكَرَهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

قَالَ الْكِسَائِيُّ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، اسْمَانِ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُمَا ، فَلَمَّا جَاءَا عَرَّبَتْهُمَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، كَقَوْلِكَ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّ "إِيلَ" اسْمُ اللَّهِ ، وَاسْمُ الْمَلِكِ ، "جَبْرَ" وَ"مِيكَا" . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَى جِبْرِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ ، وَمَعْنَى مِيكَائِيلَ: عُبَيْدُ اللهِ ، وَقَدْ دَخَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فِي الْمَلَائِكَةِ ، لَكِنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَهُمَا لِشَرَفِهِمَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [ الرَّحْمَنِ: 68 ] . وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ: لَهُمْ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِهَذِهِ الْعَدَاوَةِ .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ ص: 120 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ ، أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمُ: الْيَهُودُ . وَقِيلَ: الْعَهْدُ الَّذِي عَاهَدُوهُ ، أَنَّهُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ ، فَنَقَضُوهَا ، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ . وَمَعْنَى نَبَذَهُ: رَفَضَهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْنِي الْيَهُودَ . وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ .

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابَ اللَّهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْقُرْآَنُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، لِأَنَّ الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَبَذُوا التَّوْرَاةَ .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانَ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينُ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ .

فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَّا أَجَابَهُمْ ، فَسَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ سُلَيْمَانُ فِي الْقُرْآَنِ قَالَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةَ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا؟! وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ .

و"تَتْلُوَا" بِمَعْنَى: تَلَتْ ، وَ"عَلَى" بِمَعْنَى: فِي ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُهُ: عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَيْ: عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ .

وَفِي كَيْفِيَّةِ مَا تَلَتِ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 23-12-2021, 05:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (23)

صــ121 إلى صــ 126


[ ص: 121 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ سُلَيْمَانُ عَنْ مُلْكِهِ; كَتَبَتِ الشَّيَاطِينُ السِّحْرَ ، وَدَفَنَتْهُ فِي مُصَلَّاهُ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اسْتَخْرَجُوهُ ، وَقَالُوا: بِهَذَا كَانَ يَمْلِكُ الْمُلْكَ ، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ .

وَالثَّانِي: أَنْ آَصَفَ كَانَ يَكْتُبُ مَا يَأْمُرُ بِهِ سُلَيْمَانُ ، وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجَتْهُ الشَّيَاطِينُ ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكَذِبًا ، وَأَضَافُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَتَبَتِ السِّحْرَ بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ ، ثُمَّ أَضَافَتْهُ إِلَيْهِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ ابْتَدَعَتِ السِّحْرَ ، فَأَخَذَهُ سُلَيْمَانُ ، فَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّمَهُ النَّاسُ ، فَلَمَّا قُبِضَ اسْتَخْرَجَتْهُ ، فَعَلَّمَتْهُ النَّاسَ وَقَالُوا: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

وَالْخَامِسُ: أَنَّ سُلَيْمَانَ أَخَذَ عُهُودَ الدَّوَابِّ ، فَكَانَتِ الدَّابَّةُ إِذَا أَصَابَتْ إِنْسَانًا طَلَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ الْعَهْدِ ، فَتَخَلَّى عَنْهُ ، فَزَادَ السَّحَرَةُ السَّجْعَ وَالسِّحْرَ ، قَالَهُ أَبُو مِجْلَزٍ .

وَالسَّادِسُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ ، فَتَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْثٍ أَوْ أَمْرٍ ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُمْ ، فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ النَّاسَ ، فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالُوا ، حَتَّى إِذَا أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ [وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ ] فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً ، فَاكْتَتَبَ النَّاسُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي الْكُتُبِ ، وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ ، فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ ، فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فِي صُنْدُوقٍ ، ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ [وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ ] ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ; جَاءَ شَيْطَانٌ إِلَى نَفَرٍ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَدَلَّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَضْبِطُ أَمْرَ الْخَلْقِ بِهَذَا ، فَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا ، وَاتَّخَذَ [ ص: 122 ] بَنُوا إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَاصَمُوهُ بِهَا ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيُّ .

وَسُلَيْمَانُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ ، وَقَدْ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ النَّابِغَةُ سَلِيمًا ضَرُورَةً ، فَقَالَ:


وَنَسَجَ سَلِيمُ كُلَّ قَضَاءٍ ذَائِلٍ


وَاضْطَرَّ الْحَطِيئَةُ فَجَعَلَهُ: سَلَامًا ، فَقَالَ:


فِيهِ الرِّمَاحُ وَفِيهِ كُلُّ سَابِغَةٍ جَدْلَاءُ مَحْكَمَةٌ مَنْ نَسْجَ سَلَامٍ


وَأَرَادَا جَمِيعًا: دَاوُدَ أَبَا سُلَيْمَانَ ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمَا الشِّعْرُ ، فَجَعَلَاهُ: سُلَيْمَانَ وَغَيَّرَاهُ .

كَذَلِكَ قَرَأْتُهُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ . وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ ، لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى السِّحْرِ ، لَا إِلَى الْكُفْرِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا .

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ بِتَشْدِيدِ نُونِ (وَلَكِنْ) وَنُصْبِ نُونِ (الشَّيَاطِينَ) . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ (لَكِنْ) وَرَفْعِ نُونِ (الشَّيَاطِينَ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ (الْمَلِكَيْنِ) بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ .

وَفِي "مَا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى "مَا" الْأُولَى ، فَتَقْدِيرُهُ" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى السِّحْرِ ، فَتَقْدِيرُهُ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ السِّحْرُ نَزَلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ، فَلِمَاذَا كَرِهَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ السَّرِيِّ ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ: مَا السِّحْرُ ، وَيَأْمُرَانِ بِاجْتِنَابِهِ ، وَفِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ; لِأَنَّ سَائِلًا لَوْ قَالَ: مَا الزِّنَا؟ لَوَجَبَ [ ص: 123 ] أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ ، فَمَنْ قَبِلَ التَّعَلُّمَ كَانَ كَافِرًا ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، كَمَا امْتُحِنَ بِنَهْرِ طَالُوتَ .

وَفِي الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السِّحْرُ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ زَيْدٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، لَا السِّحْرُ ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْقَوْلَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ أَيْضًا .

الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ الْمَلَكَيْنِ .

ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا أُنْزِلَا إِلَى الْأَرْضِ لِسَبَبٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ خَطَايَا بَنِي آَدَمَ; دَعَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ أُنْزِلَتِ الشَّهْوَةُ وَالشَّيَاطِينُ مِنْكُمْ مَنْزِلَتَهُمَا مِنْ بَنِي آَدَمَ ، لَفَعَلْتُمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا ، فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ ابْتُلُوا ، اعْتَصَمُوا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ [ ص: 124 ] [أَنِ ] اخْتَارُوا مِنْ أَفْضَلِكُمْ مَلَكَيْنِ ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: مَاذَا فَعَلَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا زَنَيَا ، وَقَتَلَا ، وَشَرِبَا الْخَمْرَةَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا جَارَا فِي الْحُكْمِ ، قَالَهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا هُمَا بِالْمَعْصِيَةِ فَقَطْ . وَنُقِلَ عَنْ عَلَيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ الزُّهْرَةَ كَانْتِ امْرَأَةً جَمِيلَةً ، وَأَنَّهَا خَاصَمَتْ إِلَى الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، فَرَاوَدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ صَاحِبَهُ ، وَكَانَا يَصْعَدَانِ السَّمَاءَ آَخِرَ النَّهَارِ ، فَقَالَتْ لَهُمَا: بِمَ تَهْبِطَانِ وَتَصْعَدَانِ؟ قَالَا: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ ، فَقَالَتْ: مَا أَمَّا بِمُوَاتِيَتِكُمَا إِلَى مَا تُرِيدَانِ حَتَّى تُعَلِّمَانِيهِ ، فَعَلَّمَاهَا إِيَّاهُ ، فَطَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ ، فَمَسَخَهَا اللَّهُ كَوْكَبًا .

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَعَنَ الزُّهْرَةَ ، وَقَالَ: إِنَّهَا فَتَنَتْ مَلَكَيْنِ" إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بَعِيدٌ عَنِ الصِّحَّةِ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ، هَذَا فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ ، ذَكَرَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ، [ ص: 125 ] لَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُسِخَتْ نَجْمًا .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمَا; فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ بِشُعُورِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ جُبًّا مُلِئَ نَارًا فَجُعِلَا فِيهِ .

فَأَمَّا بَابِلُ; فَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ أَلْسُنَ النَّاسِ تَبَلْبَلَتْ بِهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا: الْكُوفَةُ وَسَوَادُهَا ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ نَصِيبَيْنِ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَبَلٌ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ: اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ يُرِيدُ: بِقَضَائِهِ . وَلَقَدْ عَلِمُوا : إِشَارَةٌ إِلَى الْيَهُودِ لَمَنِ اشْتَرَاهُ يَعْنِي: اخْتَارَهُ ، يُرِيدُ: السِّحْرَ . وَاللَّامُ لَامُ الْيَمِينِ . فَأَمَّا الْخَلَاقُ; فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ النَّصِيبُ وَالْوَافِرُ مِنَ الْخَيْرِ .

وَلَهُ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بَاعُوهَا بِهِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْعِقَابَ فِيهِ .

[ ص: 126 ] فَصْلٌ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ; فَمَذْهَبُ إِمَامِنَا أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ ، قَتَلَ بِهِ ، أَوْ لَمْ يَقْتُلْ ، وَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ ، فَإِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ وَقَالَ: سِحْرِي يَقْتُلُ مِثْلَهُ ، وَتَعَمَّدْتَ ذَلِكَ ، قُتِلَ قَوْدًا . وَإِنْ قَالَ: قَدْ يَقْتُلُ ، قَدْ يُخْطِئُ ، لَمْ يَقْتُلْ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ . فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَحْمَدَ إِلَّا أَنْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَيَقْتُلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حُكْمُ سَاحِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ حُكْمُ سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِيجَابِ الْقَتْلِ ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ السَّاحِرَةُ ، فَقَالَ: تُحْبَسُ ، وَلَا تُقْتَلُ .
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا يَعْنِي: الْيَهُودَ ، وَالْمَثُوبَةُ: الثَّوَابُ . لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: يُعَلِّمُونَ بِعِلْمِهِمْ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِلَا تَنْوِينٍ ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَالْأَعْمَشُ ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّنْوِينِ ، "وَرَاعِنَا" بِلَا تَنْوِينٍ مِنْ رَاعَيْتُ ، وَبِالتَّنْوِينِ مِنَ الرُّعُونَةِ ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: رَاعِنَا بِالتَّنْوِينِ: هُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ [الرَّعْنِ ] وَالرُّعُونَةِ ، أَرَادَ: لَا تَقُولُوا جَهْلًا وَلَا حُمْقًا . وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ اسْتِنْصَاتَ صَاحِبِهِ ، قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: رَاعِنَا ، يُرِيدُونَ: أَنْتَ أَرْعَنُ . وَقَوْلُهُ: (انْظُرْنَا) بِمَعْنَى: انْتَظِرْنَا ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: انْظُرْنَا: اسْمَعْ مِنَّا ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تُعَجِّلْ عَلَيْنَا .
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مِنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ ، وَنَصَارَى نَجْرَانَ ، فَالْمُشْرِكُونَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ .

أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى رَسُولِكُمْ . مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَرَادَ: النُّبُوَّةَ وَالْإِسْلَامَ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23-12-2021, 05:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (24)

صــ127 إلى صــ 132


وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَرَادَ بِالْخَيْرِ: الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْحِكْمَةُ .

وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ

فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا النُّبُوَّةُ ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَمُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهَ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ .

سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لَمَّا نُسِخَتِ الْقِبْلَةُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَحِلُّ لِأَصْحَابِهِ إِذَا شَاءَ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ إِذَا شَاءَ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ .

قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّسْخُ فِي اللُّغَةِ: إِبْطَالُ شَيْءٍ وَإِقَامَةُ آَخَرَ مَقَامِهِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ: إِذَا أَذْهَبَتْهُ ، وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا النَّسْخِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: رَفْعُ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ . وَالثَّانِي: تَبْدِيلُ الْآَيَةِ بِغَيْرِهَا ، رُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ السُّدِّيُّ ، . وَالثَّانِي: قَوْلُ مُقَاتِلٍ . وَالثَّالِثُ: رَفْعُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ اللَّفْظِ ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (مَا نَنْسَخُ) بِضَمِّ النُّونِ ، وَكَسْرِ السِّينِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَيْ: مَا نَجِدُهُ مَنْسُوخًا كَقَوْلِكَ: أَحَمَدْتُ فُلَانًا ، أَيْ: وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا ، وَإِنَّمَا يَجِدُهُ مَنْسُوخًا بِنَسْخِهِ إِيَّاهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ نُنْسِهَا) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (نَنَسْأَهَا) بِفَتْحِ النُّونِ مَعَ [ ص: 128 ] الْهَمْزَةُ ، وَالْمَعْنَى نُؤَخِّرُهَا . قَالَ أَبُو زَيْدٍ: نَسَأَتِ الْإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ ، فَإِنْ أَنْسَأَهَا: إِذَا أَخَّرَتْهَا ، وَمِنْهُ: النَّسِيئَةُ فِي الْبَيْعِ . وَفِي مَعْنَى نُؤَخِّرُهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: نُؤَخِّرُهَا عَنِ النَّسْخِ فَلَا نَنْسَخُهَا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: نُؤَخِّرُ إِنْزَالهَا ، فَلَا نَنْزِلُهَا الْبَتَّةَ . وَالثَّالِثُ: نُؤَخِّرُهَا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا بِنَسْخِنَا إِيَّاهَا ، حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ . وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: (تَنْسَهَا) بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ . وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالضَّحَّاكُ: (تَنْسَهَا) بِضَمِّ التَّاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ: (أَوَنُنْسُهَا) بِنُونَيْنِ ، الْأُولَى مَضْمُومَةٌ ، وَالثَّانَيَةُ سَاكِنَةٌ . أَرَادَ: أَوْ نُنْسِكَهَا ، مِنَ النِّسْيَانِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِاللِّينِ مِنْهَا ، وَأَيْسَرَ عَلَى النَّاسِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مِثْلِهَا) أَيْ: فِي الثَّوَابِ وَالْمَنْفَعَةِ ، فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي تَبْدِيلِهَا بِمِثْلِهَا الِاخْتِبَارَ . (أَلَمْ تَعْلَمْ) لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَعْنَاهُ التَّوْقِيفُ وَالتَّقْرِيرُ . وَالْمُلْكُ فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الْقُدْرَةِ وَاسْتِحْكَامُهَا ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَحْكُمُ بِمَا يَشَاءُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَبِغَيْرِ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحْكَامٍ .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ .

فِي سَبَبِ نُزُولِهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّ رَافِعَ بْنَ حُرَيْمِلَةَ ، وَوَهْبَ بْنَ زَيْدٍ ، قَالَا لِرَسُولِ اللَّهِ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ نَقْرَؤُهُ تُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْنَا ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا حَتَّى نَتَّبِعَكَ ، فَنَزَلَتِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي: أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا ، فَقَالَ: "هُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [إِنْ كَفَرْتُمْ ] فَأَبَوْا" قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

[ ص: 129 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَتْ كَفَّارَتُنَا كَكَفَّارَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا ، مَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ ، خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، كَانُوا إِذَا أَصَابَ أَحَدَهُمُ الْخَطِيئَةُ; وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا ، فَإِنَّ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآَخِرَةِ ، فَقَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ] [ النِّسَاءِ: 110 ] . وَقَالَ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّ أَتَى النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: وَاللَّهِ لَا أُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . ذَكَرَهُ ابْنُ السَّائِبِ .

وَالْخَامِسُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا . وَقَالَ آَخَرُ: لَنْ أُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَسِيرَ لَنَا جِبَالُ مَكَّةَ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: لَنْ أُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ ، فِيهِ: مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى ابْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: اعْلَمْ أَنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ مُحَمَّدًا إِلَى النَّاسِ . وَقَالَ آَخَرُ: هَلَّا جِئْتَ بِكِتَابِكَ مُجْتَمِعًا ، كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ .

وَفِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قُرَيْشٍ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: الْيَهُودُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: جَمِيعُ الْعَرَبِ ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . [ ص: 130 ] وَفِي "أَمْ" قَوْلَانِ .

أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: بَلْ ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَلْ لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ ، أَمْ أَنْتَ مَعْرُوفٌ بِالظُّلْمِ . يُرِيدُونَ: بَلْ أَنْتَ . وَأَنْشَدُوا:


بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتَهَا أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ


ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ .

وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ . فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ ، فَقَالَ: إِنَّمَا تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ إِذَا كَانَتْ مَرْدُودَةً عَلَى اسْتِفْهَامٍ قَبْلَهَا ، فَأَيْنَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَقَدَّمَهَا؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهَا اسْتِفْهَامٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى الْأَلِفِ فِي: (أَلَمْ تَعْلَمْ) فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْعَطْفُ وَلَفْظُ: (أَلَمْ تَعْلَمْ) يُنْبِئُ عَنِ الْوَاحِدِ ، وَ(تُرِيدُونَ) عَنْ جَمَاعَةٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ الْخِطَابُ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى الْجَمْعِ ، لِأَنَّ مَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خُوطِبَتْ بِهِ أُمَّتُهُ ، فَاكْتَفَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْمُخَاطَبَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْمَعْنَى فِي الْمُخَاطَبَةِ الثَّانِيَةِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ: 1 ] . ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ (أَمْ); فَهُوَ أَنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ ، وَلَيْسَتْ مَرْدُودَةً عَلَى شَيْءٍ . قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا تَوَسَّطَ الِاسْتِفْهَامُ الْكَلَامَ; ابْتُدِئَ بِالْأَلِفِ وَبِأَمْ ، وَإِذَا لَمْ يَسْبِقْهُ كَلَامٌ; لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْأَلِفِ أَوْ بِ"هَلْ" وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: "أَمْ" جَارِيَةٌ مَجْرَى "هَلْ" غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ "هَلْ" اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ ، لَا يَتَوَسَّطُ وَلَا يَتَأَخَّرُ ، وَ"أَمْ": اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ ، لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ .

فَأَمَّا الرَّسُولُ هَاهُنَا; فَهُوَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالَّذِي سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلِ قَوْلُهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [ النِّسَاءِ: 153 ] . وَهَلْ سَأَلُوا ذَلِكَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ ، فَقَالُوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قُبَيْلًا ) [ الْإِسْرَاءِ: 92 ] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بِالَغُوا فِي الْمَسَائِلِ ، [ ص: 131 ] فَقِيلَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآَيَةِ: لَعَلَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا مُحَمَّدًا أَنْ يُرِيَكُمُ اللَّهُ جَهْرَةً ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .

وَالْكُفْرُ: الْجُحُودُ . وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْنَى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الشِّدَّةَ بِالرَّخَاءِ . وَسَوَاءَ السَّبِيلِ: وَسْطُهُ .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ ، وَأَبَا يَاسِرٍ كَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ يَهْجُوا النَّبِيَّ ، وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ قَدِمَهَا ، فَأَمَرَ النَّبِيَّ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ دَعَوْا حُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا إِلَى دِينِهِمْ ، فَأَبَيَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَمَعْنَى "وَدَّ" أَحَبَّ وَتَمَنَّى . وَأَهْلُ الْكِتَابِ: الْيَهُودُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مَوْصُولٌ: بِـ (وَدَّ كَثِيرٌ) ، لَا بِقَوْلِهِ: حَسَدًا لِأَنَّ حَسَدَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، وَالْمَعْنَى مَوَدَّتُهُمْ لِكُفْرِكُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ، لَا أَنَّهُ عِنْدَهُمُ الْحَقُّ . فَأَمَّا الْحَسَدُ ، فَهُوَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا ، وَتُفَارِقُهُ الْغِبْطَةُ ، فَإِنَّهَا تَمَنِّي مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِ حُبِّ زَوَالِهَا عَنِ الْمَغْبُوطِ . وَحَدَّ بَعْضُهُمُ الْحَسَدَ فَقَالَ: هُوَ أَذًى يَلْحَقُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِحُسْنِ حَالِ الْأَخْيَارِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ حَسُودًا ، لِأَنَّ الْفَاضِلَ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ الْجَمِيلُ [ ص: 132 ] وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُ أَنْ تُرْضِيهِ إِلَّا الْحَاسِدُ ، فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ نِعْمَتِكَ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنَ الْحَاسِدِ ، حُزْنٌ لَازِمٌ ، وَنَفَسٌ دَائِمٌ ، وَعَقْلٌ هَائِمٌ ، وَحَسْرَةٌ لَا تَنْقَضِي .

قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فِي النَّضِيرِ بِالْجَلَاءِ وَالنَّفْيِ ، وَفِي قُرَيْظَةَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ .

فَصْلٌ

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ التَّوْبَةِ: 29 ] وَأَبَى هَذَا الْقَوْلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءُ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ إِلَى غَايَةٍ ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمَنْسُوخِ ، بَلْ يَكُونُ الْأَوَّلُ قَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ بِغَايَتِهِ ، وَالْآَخَرُ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمٍ آَخَرَ .
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَجِدُوهُ) أَيْ: تَجِدُوا ثَوَابَهُ .
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 23-12-2021, 05:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (25)

صــ133 إلى صــ 138

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَصَمَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتِ الْيَهُودَ: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا ، وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى . وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ، وَكَفَرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى; فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآَيَةِ مُجْمَلٌ ، وَمَعْنَاهُ: قَالَتِ الْيَهُودَ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا . وَالْيَهُودُ ، جَمْعُ: هَائِدٍ . (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) أَيْ: ذَاكَ شَيْءٌ يَتَمَنَّوْنَهُ ، وَظَنٌّ يَظُنُّونَهُ ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ .

قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ أَيْ: حُجَّتُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يُدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا زَعَمُوا فَقَالَ: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وَأَسْلَمَ ، بِمَعْنَى: أَخْلَصَ . وَفِي الْوَجْهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الدِّينُ . وَالثَّانِي: الْعَمَلُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ: فِي عَمَلِهِ; فَلَهُ أَجْرُهُ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُرِيدُ: فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمْ يَتْلُوا كِتَابَهُ بِتَصْدِيقِ مَا كَفَرَ بِهِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَقَتَادَةُ . كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وَفِيهِمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُشْرِكُوا الْعَرَبِ قَالَهُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أُمَمٌ كَانُوا قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، كَقَوْمِ نُوحٍ ، وَهُودٍ ، وَصَالِحٍ ، قَالَهُ عَطَاءٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُرِيدُ حُكْمَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ ، فَيُرِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَيَانًا [وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عَيَانًا ] فَأَمَّا الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَدِ فَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا أَقَامَ عَلَى الصَّوَابِ مِنَ الْحُجَجِ .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .

[ ص: 134 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرُّومِ ، كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتِنْصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ، فَخَرَّبَ وَطُرِحَتِ الْجِيَفُ فِيهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آَخَرِينَ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبَيةَ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَفِي الْمُرَادِ بِخَرَابِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَقَضَهَا ، . وَالثَّانِي: مَنَعَ ذِكْرَ اللَّهِ فِيهَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ . قَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَدْخُلُ رُومِيٌّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ ، أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ ، تَقْدِيرُهُ: عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ فِي جِهَادِهِمْ كَيْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ .

لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ خِزْيَهُمُ الْجِزْيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَتَحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ طَرَدَهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَلَا يَدْخُلُهُ مُشْرِكٌ أَبَدًا ظَاهِرًا ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهِ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ .

فِي نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، فَلَمْ يَعْرِفُوا الْقِبْلَةَ ، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَلَّى ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا هُمْ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآَيَةَ . رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ بِالنَّافِلَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غَافِرِ: 60 ] قَالُوا إِلَى أَيْنَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ; قَالُوا إِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: فَثَمَّ اللَّهُ يُرِيدُ: عِلْمَهُ مَعَكُمْ أَيْنَ كُنْتُمْ ، [ ص: 135 ] وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالْوَاسِعُ: الَّذِي وَسِعَ غِنَاهُ مَفَاقِرَ عِبَادِهِ ، وَرَزَقَهُ جَمِيعَ خَلْقِهِ . وَالسِّعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغِنَى .

فَصْلٌ

وَهَذِهِ الْآَيَةُ مُسْتَعْمَلَةُ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَهِدِ إِذَا صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَفِي صَلَاةِ الْمُتَطَوِّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَالْخَائِفِ . وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى نَسْخِهَا ، فَقَالُوا: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ; تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ الْبَقَرَةِ: 144 ] .

وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآَنِ أَمْرٌ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَقَوْلُهُ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لَيْسَ صَرِيحًا بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَاتِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْقُرْآَنِ .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا .

اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ إِذْ جَعَلُوا عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ حَيْثُ قَالُوا: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي النَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ، لِأَنَّ النَّصَارَى قَالَتْ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ، وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ .

فَأَمَّا الْقُنُوتُ; فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا: الْقِيَامُ . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ . وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْقُنُوتَ: الدُّعَاءُ فِي الْقِيَامِ ، فَالْقَانِتُ: الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي جَمِيعِ الطَّاعَاتِ ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَامٌ عَلَى الرِّجْلَيْنِ; فَهُوَ قِيَامٌ بِالنِّيَّةِ ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا أَرَى أَصْلَ الْقُنُوتِ [ ص: 136 ] إِلَّا الطَّاعَةَ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْخِلَال مِنَ الصَّلَاةِ ، وَالْقِيَامِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْهَا .

وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالْقُنُوتِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الطَّاعَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِقْرَارُ بِالْعِبَادَةِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: الْقِيَامُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَالرَّبِيعُ .

وَفِي مَعْنَى الْقِيَامِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقِيَامُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْعُبُودِيَّةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَمَّ بِهَذَا الْقَوْلِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ لَيْسَ لَهُ بِمُطِيعٍ؟ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ . أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا ظَاهِرَ الْعُمُومِ ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْخُصُوصِ . وَالْمَعْنَى: كُلُّ أَهْلِ الطَّاعَةِ لَهُ قَانِتُونَ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ تَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ لِلَّهِ بِالْغَدَوَاتِ وَالْعَشِيَّاتِ ، فَنُسِبَ الْقُنُوتُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ قَانِتٍ هَلْ بِأَثَرِ صُنْعِهِ فِيهِ ، وَجَرْيِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ذُلِّهِ لِلرَّبِّ . ذَكَرَهُنَّ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ

الْبَدِيعُ: الْمُبْدِعُ ، وَكُلُّ مَنْ أَنْشَأَ شَيْئًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ: أَبْدَعْتَ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَدِيعُ ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى: مُفْعِلٍ ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ فَطَرَ الْخَلَقَ مُخْتَرِعًا لَهُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَبَقَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى الْقَضَاءِ: الْإِرَادَةُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا قَضَى أَمْرًا فِي عِلْمِهِ ، فَإِنَّ مَا يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ نُونِ (فَيَكُونُ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ . وَالْمَعْنَى: فَهُوَ يَكُونُ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِنَصْبِ النُّونِ . قَالَ مَكِّيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ: النَّصْبُ عَلَى الْجَوَابِ ، لَكِنَّ فِيهِ بُعْدٌ .

فَصْلٌ

وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى قِدَمِ الْقُرْآَنِ بِقَوْلِهِ: (كُنْ) فَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ "كُنْ" مَخْلُوقَةً; لَافْتَقَرَتْ إِلَى إِيجَادِهَا بِمِثْلِهَا وَتَسَلْسُلُ ذَلِكَ ، وَالْمُتَسَلْسِلُ مُحَالٌ . فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِمَعْدُومٍ; [ ص: 137 ] فَالْجَوَابُ أَنَّهُ خِطَابُ تَكْوِينٍ يُظْهِرُ أَثَرَ الْقُدْرَةِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ مَوْجُودًا ، لِأَنَّهُ بِالْخِطَابِ كَانَ ، فَامْتَنَعَ وَجُودُهُ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ . وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ مَا سَيَكُونُ مُتَصَوِّرَ الْعِلْمِ ، فَضَاهَى بِذَلِكَ الْمَوْجُودَ ، فَجَازَ خِطَابُهُ لِذَلِكَ .
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: النَّصَارَى ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَلَوْلَا بِمَعْنَى: هَلَّا .

وَفِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّالِثُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .

تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: فِي الْكُفْرِ .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ .

فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: "لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ!" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَأْسَهُ بِالْيَهُودِ لَآَمَنُوا" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَفِي الْمُرَادِ (بِالْحَقِّ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ كِيسَانَ . وَالثَّالِثُ: الصِّدْقُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْأَلُ عَنْ : الْأَكْثَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْخَبَرِ ، وَالْمَعْنَى: لَسْتُ بِمَسْؤُولٍ عَنْ أَعْمَالِهِمْ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ ، عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ .

[ ص: 138 ] وَجَوَّزَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: لَا تَسْأَلُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ . فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِمَا هُمْ فِيهِ . فَأَمَّا الْجَحِيمُ; فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَحِيمُ: النَّارُ ، وَالْجَمْرُ عَلَى الْجَمْرِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجَحِيمُ: النَّارُ الْمُسْتَحْكِمَةُ الْمُتَلَظِّيَةُ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَحِيمُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْوَقُودِ ، وَقَدْ جَحَمَ فَلَانٌ النَّارَ: إِذَا شَدَّدَ وَقُودَهَا ، وَيُقَالُ: لَعَيْنِ الْأَسَدِ: جُحْمَةٌ لِشِدَّةِ تُوَقُّدِهَا . وَيُقَالُ: لِوَقُودِ الْحَرْبِ ، وَهُوَ شِدَّةُ الْقِتَالِ فِيهَا: جَاحِمٌ . وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْجَاحِمُ: الْمَكَانُ الشَّدِيدُ الْحُرِّ . قَالَ الْأَعْشَى:


يُعِدُّونَ لِلْهَيْجَاءِ قَبْلَ لِقَائِهَا غَدَاةَ اخْتِضَارِ الْبَأْسِ وَالْمَوْتُ جَاحِمٌ


وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْجَحِيمُ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّارُ جَحِيمًا ، لِأَنَّهَا أُكْثِرَ وُقُودُهَا ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: جَحَمْتُ النَّارَ أَجْحَمُهَا: إِذَا أَكْثَرْتَ لَهَا الْوَقُودَ .

قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ:


يَرَى طَاعَةَ اللَّهِ الْهُدَى وَخِلَافَهُ الضَّلَالَةُ يُصْلِي أَهْلَهَا جَاحِمُ الْجَمْرِ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 23-12-2021, 06:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (26)

صــ139 إلى صــ 144

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنَ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى .

فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ ، فَلَمَّا صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَئِسُوا مِنْهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى دِينِهِمْ ، فَنَزَلَتْ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ الْهُدْنَةَ ، وَيُطْمِعُونَهُ فِي أَنَّهُ إِنْ هَادَنَهُمْ وَافَقُوهُ; فَنَزَلَتْ ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ .

قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمِلَّةُ فِي اللُّغَةِ: السُّنَّةُ وَالطَّرِيقُهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَ(هُدَى اللَّهِ) هَاهُنَا: الْإِسْلَامُ . وَفِي الَّذِي جَاءَهُ مِنَ الْعِلْمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّحَوُّلُ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبَيَانُ بِأَنَّ دِينَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ . وَالرَّابِعُ: [ ص: 139 ] الْعِلْمُ بِضَلَالَةِ الْقَوْمِ . مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنَ وَلِيٍّ يَنْفَعُكَ وَلا نَصِيرٍ يَمْنَعُكَ مِنْ عُقُوبَتِهِ .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ .

اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ . وَفِي الْكِتَابِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أَيْ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي هَاءِ "بِهِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ . وَالثَّانِي: عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بَعْدَ هَذَا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ . وَفِي إِبْرَاهِيمَ سِتُّ لُغَاتٍ . أَحَدُهَا: إِبْرَاهِيمُ ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَّةُ . وَالثَّانِيَةُ: إِبْرَاهُمْ . وَالثَّالِثَةُ: إِبْرَاهَمْ وَالرَّابِعَةُ: إِبْرَاهِمْ ، ذَكَرَهُنَّ الْفَرَّاءُ . وَالْخَامِسَةُ: إِبْرَاهَامُ . وَالسَّادِسَةُ: إِبَرَهَمُ . قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ:


عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبَرَهَمُ مُسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةِ وَهْوَ قَائِمٌ


وَقَالَ أَيْضًا:


نَحْنُ آَلُ اللَّهِ فِي كَعْبَتِهِ لَمْ يَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ إِبَرِهِيمَ


وَفِي الْكَلِمَاتِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .

أَحَدُهَا: أَنَّهَا خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ . أَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ; فَالْفَرْقُ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَالسِّوَاكُ . وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ ، وَحَلْقُ [ ص: 140 ] الْعَانَةِ ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ، وَالِاسْتِطَابَةُ بِالْمَاءِ ، وَالْخِتَانُ ، رَوَاهُ طَاوُسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَشْرٌ ، سِتٌّ فِي الْإِنْسَانِ ، وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ . فَالَّتِي فِي الْإِنْسَانِ: حَلْقُ الْعَانَةِ ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ، وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَالْغَسْلُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ . وَالَّتِي فِي الْمَشَاعِرِ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَالْإِفَاضَةُ . رَوَاهُ حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمَنَاسِكُ ، رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ ، وَالشَّمْسِ ، وَالْقَمَرِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالنَّارِ ، وَذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَالْخِتَانِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .

وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآَنِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [ إِبْرَاهِيمَ: 35 ] . وَنَحْوَ ذَلِكَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ فَمَنْ قَالَ: هِيَ أَفْعَالٌ فَعَلَهَا; قَالَ: مَعْنَى فَأَتَمَّهُنَّ: عَمِلَ بِهِنَّ . وَمَنْ قَالَ: هِيَ دَعَوَاتٌ وَمَسَائِلٌ; قَالَ: مَعْنَى فَأَتَمَّهُنَّ: أَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِنَّ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: (إِبْرَاهِيمُ) بِرَفْعِ الْمِيمِ (رَبَّهُ) بِنَصْبِ الْبَاءِ ، عَلَى مَعْنَى: اخْتَبَرَ رَبَّهُ هَلْ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ ، وَيَتَّخِذُهُ خَلِيلًا أَمْ لَا؟ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فِي الذُّرِّيَّةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِعْلِيَّةٌ مِنَ الذَّرِّ ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ صُلْبِ آَدَمَ كَالذَّرِّ . وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلَهَا ذَرُّورَةٌ ، عَلَى وَزْنِ: فَعْلُولَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَثُرَ التَّضْعِيفُ أُبْدِلَ مِنَ الرَّاءِ الْأَخِيرَةِ يَاءٌ ، فَصَارَتْ: ذُرْوِيَّةً ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ ، فَصَارَتْ: ذُرِّيَّةً ، ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ ، وَصَوَّبَ الْأَوَّلَ .

وَفِي الْعَهْدِ هَاهُنَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْإِمَامَةُ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الطَّاعَةُ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: الرَّحْمَةُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ . وَالرَّابِعُ: الدِّينُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالْخَامِسُ: [ ص: 141 ] النُّبُوَّةُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالسَّادِسُ: الْأَمَانُ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالسَّابِعُ: الْمِيثَاقُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

وَفِي الْمُرَادِ بِالظَّالِمِينَ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الْعُصَاةُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ الْبَيْتُ هَاهُنَا: الْكَعْبَةُ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَدْخُلُ لِلْمَعْهُودِ ، أَوْ لِلْجِنْسِ ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْجِنْسَ; انْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمُثَابُ وَالْمَثَابَةُ وَاحِدٌ ، كَالْمُقَامِ وَالْمَقَامَةِ ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالْمَثَابَةُ: الْمَعَادُ ، مِنْ قَوْلِكَ: ثُبْتُ إِلَى كَذَا ، أَيْ: عُدْتُ إِلَيْهِ ، وَثَابَ إِلَيْهِ جِسْمُهُ بَعْدَ الْعِلَّةِ: إِذَا عَادَ ، فَأَرَادَ: أَنَّ النَّاسَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمْنًا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدِيثًا فِي غَيْرِهِ ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ; فَهُوَ آَمِنٌ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُ ، وَلَا يُطْعِمُوهُ ، وَلَا يَسْقُوهُ ، وَلَا يُؤْوُوهُ ، وَلَا يُكَلَّمْ حَتَّى يَخْرُجَ ، فَإِذَا خَرَجَ; أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْحَرَمِ ، كَمَا قَالَ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ وَالْمُرَادُ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يَذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ ، وَلَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْحُكْمِ ، لَا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ فَقَطْ .

وَفِي (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ . وَعَنْ مُجَاهِدٍ كَالْقَوْلَيْنِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، قَالُوا: الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ . وَالثَّالِثُ: الْحَجَرُ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ، فَنَزَلَتْ .

[ ص: 142 ] وَفِي سَبَبِ وُقُوفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَجَرِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَاءَ يَطْلُبُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ ، فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: انْزِلْ ، فَأَبَى ، فَقَالَتْ: فَدَعْنِي أَغْسِلْ رَأْسَكَ ، فَأَتَتْهُ بِحَجْرٍ فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ رَاكِبٌ ، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ ، ثُمَّ رَفَعَتْهُ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِيهِ ، فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الْآَخَرِ وَغَسَلَتْهُ ، فَغَابَتْ رِجْلُهُ فِيهِ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ شِعَارِهِ ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَامَ عَلَى الْحَجَرِ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

قَرَأَ الْجُمْهُورُ ، مِنْهُمُ: ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ: (وَاتَّخِذُوا) بِكَسْرِ الْخَاءِ; عَلَى الْأَمْرِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْخَبَرِ . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ تَرَوْنَ أَنْ نُصَلِّيَ؟" فَقَالَ عُمَرُ: إِلَى الْمَقَامِ ، فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجْهُ فَتْحِ الْخَاءِ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذِ اتَّخَذُوا . وَيُؤَكِّدُ الْفَتْحَ فِي الْخَاءِ أَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ خَبَرٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَهِدْنَا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَيْ: أَمَرْنَاهُمَا وَأَوْصَيْنَاهُمَا . وَإِسْمَاعِيلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: إِسْمَاعِيلُ ، وَإِسْمَاعِينُ . وَأَنْشَدُوا:


قَالَ جِوَارِي الْحَيِّ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْمَاعِينَا


قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ قَالَ قَتَادَةُ: يُرِيدُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ . فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَيْتٌ; فَمَا مَعْنَى أَمَرَهُمَا بِتَطْهِيرِهِ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَتْ هُنَاكَ أَصْنَامٌ ، فَأُمِرَا بِإِخْرَاجِهِا ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: ابْنِيَاهُ مُطَهَّرًا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالْعَاكِفُونَ: الْمُقِيمُونَ ، يُقَالُ: عَكَفَ يَعْكِفُ وَيَعْكُفُ عُكُوفًا: إِذَا أَقَامَ ، وَمِنْهُ: الِاعْتِكَافُ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ فِي [ ص: 143 ] كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَوْمَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ يَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتَ: سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ" .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِنَ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا الْبَلَدُ: صَدْرُ الْقُرَى ، وَالْبَالِدُ: الْمُقِيمُ بِالْبَلَدِ ، وَالْبَلْدَةُ: الصَّدْرُ ، وَوَضَعَتِ النَّاقَةُ بَلْدَتَهَا: إِذَا بَرَكَتْ ، وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ هَاهُنَا: مَكَّةُ . وَمَعْنَى (آمِنًا): ذَا أَمْنٍ . وَأَمْنُ الْبَلْدَةِ مَجَازٌ ، وَالْمُرَادُ: أَمِنَ مِنْ فِيهِ . وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْأَمْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ الْأَمْنَ مِنَ الْقَتْلِ . وَالثَّانِي: مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ . وَالثَّالِثُ: مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ . قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ إِبْرَاهِيمَ: لِمَنْ آَمَنَ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَسَأَرْزُقُهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأُمَتِّعُهُ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (فَأُمَتِّعُهُ) بِالتَّخْفِيفِ ، مِنْ أَمْتَعْتَ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ . مِنْ: مُتِّعْتُ . وَالْإِمْتَاعُ: إِعْطَاءُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُتْعَةُ . وَالْمُتْعَةُ: أَخْذُ الْحَظِّ مِنْ لَذَّةِ مَا يَشْتَهِي . وَبِمَاذَا يُمَتِّعُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: بِالْأَمْنِ . وَالثَّانِي: بِالرِّزْقِ .

وَالِاضْطِّرَارُ: الْإِلْجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ ، وَالْمَصِيرُ: مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْأَمْرُ .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ ص: 144 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ .

الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُ الْبَيْتِ ، وَاحِدُهَا: قَاعِدَةٌ . فَأَمَّا قَوَاعِدُ النِّسَاءِ; فَوَاحِدَتُهَا: قَاعِدٌ ، وَهِيَ الْعَجُوزُ . (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أَيْ: يَقُولَانِ: رَبَّنَا ، فَحَذَفَ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [ الرَّعْدِ: 25 ] . أَرَادَ: يَقُولُونَ . وَ(السَّمِيعُ) بِمَعْنَى: السَّامِعُ ، لَكِنَّهُ أَبْلُغُ ، لِأَنَّ بِنَاءَ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيَكُونُ السَّمَاعُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: :"أَعُوذُ بِكَ مِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ" أَيْ: لَا يُسْتَجَابُ . وَقَوْلُ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، أَيْ: قَبِلَ اللَّهُ حَمْدَ مَنْ حَمَدَهُ . وَأَنْشَدُوا:


دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ


الْإِشَارَةُ إِلَى بِنَاءِ الْبَيْتِ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23-12-2021, 06:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,655
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (27)

صــ145 إلى صــ 150

رَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحُجُّ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ آَدَمَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُهْبِطَ آَدَمُ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آَدَمُ اذْهَبْ فَابْنِ لِي بَيْتًا فَطُفْ بِهِ ، وَاذْكُرْنِي حَوْلَهُ كَمَا رَأَيْتَ مَلَائِكَتِي تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي . فَأَقْبَلَ يَسْعَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجُبِلٍ: مِنْ لِبْنَانَ ، وَطُورِ سَيْنَاءَ ، وَطُورِ زِيتَا ، وَالْجُودِيِّ ، وَحِرَاءَ ، فَكَانَ آَدَمُ أَوَّلَ مَنْ أَسَّسَ الْبَيْتَ ، وَطَافَ بِهِ ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الطُّوفَانَ ، فَدَرَسَ مَوْضِعَ الْبَيْتِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ; ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا ، وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَهَيْئَةِ السَّحَابَةِ ، فِيهَا رَأْسٌ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ عَلِّمْ عَلَى ظِلِّي ، فَلَمَّا عَلَّمَ ارْتَفَعَتْ . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَبْنِي عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ: وَحَفَرَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ تَحْتِ السِّكِّينَةِ ، فَأَبْدَى عَنْ قَوَاعِدَ ، مَا تُحَرِّكُ الْقَاعِدَةَ مِنْهَا دُونَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا . فَلَمَّا بَلَغَ مَوْضِعَ الْحَجَرِ ، قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: [ ص: 145 ] الْتَمِسْ لِي حَجَرًا ، فَذَهَبَ يَطْلُبُ حَجَرًا ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، فَوَضَعَهُ ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ ، قَالَ: مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِلْ عَلَى بِنَائِي وَبِنَائِكَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: رَفَعَا الْقَوَاعِدَ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ; لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَبْنِي ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ رِيحًا ، فَكَنَسَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنِ الْأَسَاسِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ الْبَيْتُ عَلَيْهِ قَبْلَ الطُّوفَانِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُسْلِمُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي قَدِ اسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَخَضَعَ . وَالْمَنَاسِكُ: الْمُتَعَبِّدَاتُ . فَكُلُّ مُتَعَبَّدٍ مَنْسَكٌ وَمَنْسِكٌ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعَابِدِ: نَاسِكٌ . وَتُسَمَّى الذَّبِيحَةُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ: النَّسِيكَةُ . وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّسُكِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الذَّبِيحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أَيْ: مَذَابِحُنَا . قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (وَأَرِنَا) بِجَزْمِ الرَّاءِ . وَ رَبِّ أَرِنِي [ الْأَعْرَافِ: 143 ] . وَ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا [ فُصِّلَتْ: 29 ] . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ (أَرِنَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُمَا أَسْكَنَا الرَّاءَ مِنْ (أَرِنَا اللَّذَيْنِ) وَحْدَهَا . قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: (أَرِنَا) وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَجْزِمُ الرَّاءَ ، فَيَقُولُ: (أَرْنَا مَنَاسِكَنَا) وَقَرَأَ بِهَا بَعْضُ الثِّقَاتِ . وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:


قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرِ لَنَا دَقِيقًا وَاشْتَرِ فَعَجِّلْ خَادِمًا لَبِيقًا


وَأَنْشَدَنِي الْكِسَائِيُّ:


وَمَنْ يَتَّقِ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَهُ وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِي


قَالَ قَتَادَةُ: أَرَاهُمَا اللَّهُ مَنَاسِكَهُمَا: الْمَوْقِفُ بِعَرَفَاتٍ ، وَالْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَالطَّوَافُ ، وَالسَّعْيُ . وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْبَيْتِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَأَرَاهُ الطَّوَافَ ، [ ص: 146 ] ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةَ ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمُ سَبْعًا ، وَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ . ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْرَةَ الْوُسْطَى ، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، فَقَالَ: ارْمِ وَكَبِّرْ ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ . ثُمَّ أَتَى بِهِ الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى ، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ . فَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ ، ثُمَّ أَتَى بِهِ مِنَى ، فَقَالَ: هَاهُنَا يَحْلِقُ النَّاسُ رُؤُوسَهُمْ ، ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْعًا ، فَقَالَ: هَاهُنَا يُجْمَعُ النَّاسُ ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ ، فَقَالَ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ (فِيهِمْ) قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي قَوْلِهِ: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ؟ قَالَ: "دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ، وَبُشْرَى عِيسَى ، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ" وَالْكِتَابُ: الْقُرْآَنُ . وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ: الْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ ، وَمَوَاعِظُ الْقُرْآَنِ . وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْجَهْلِ .

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُزَكِّيهِمْ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْهُمْ فَيُطَهِّرُهُمْ بِهَا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يَصِيرُونَ بِهِ أَزْكِيَاءَ .

[ ص: 147 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعِزُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ ، يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ . أَيْ: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعُزُّ ، بِضَمِّ الْعَيْنِ مَنْ يَعُزُّ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ ص: 28 ] . وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعَزُّ ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَنْ يَعَزُّ . وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى نَفَّاسَةِ الْقِدْرِ ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعِزُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ، مَنْ يَعِزُّ . وَيَتَنَاوَلُ مَعْنَى الْعَزِيزِ عَلَى أَنَّهُ الَّذِي لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ ، وَلَا مِثْلَ لَهُ .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ

سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ دَعَا ابْنَيْ أَخِيهِ مُهَاجِرًا وَسَلَمَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَسْلَمَ سَلَمَةُ ، وَرَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ مُهَاجِرٌ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَ "مِنْ" لَفْظِهَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَعْنَاهَا التَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ . وَالْمَعْنَى: مَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ . وَيُقَالُ: رَغِبْتُ فِي الشَّيْءِ: إِذَا أَرَدْتُهُ . وَرَغِبْتُ عَنْهُ: إِذَا تَرَكْتُهُ . وَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: دِينُهُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ . قَالَ يُونُسَ: وَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى النَّفْسِ فَنَصَبَهَا ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: نُصِبَتِ النَّفْسُ لِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ .

[ ص: 148 ] قَالَ الشَّاعِرُ:


نُغَالِي اللَّحْمَ لِلْأَضْيَافِ نِيئًا وَنُرَخِّصُهُ إِذَا نَضِجَ الْقُدُورَ


وَالثَّانِي: إِلَّا مَنْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّالِثُ: إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ ، كَمَا يُقَالُ: غَبَنَ فُلَانٌ رَأْيَهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ . قَالَ الْفَرَّاءُ: نَقَلَ الْفِعْلَ عَنِ النَّفْسِ إِلَى ضَمِيرِ "مَنْ" وَنُصِبَتِ النَّفْسُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّفْسِيرِ ، كَمَا يُقَالُ: ضِقْتُ بِالْأَمْرِ ذَرْعًا ، يُرِيدُونَ: ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ ، وَمِثْلُهُ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [ مَرْيَمَ: 4 ] . وَالرَّابِعُ: إِلَّا مَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ ، فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَمِنَ الصَّالِحِي الْحَالِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ فِي الْآَخِرَةِ: الْفَائِزُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ وَذَلِكَ حِينَ وُقُوعِ الِاصْطِفَاءِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ، أَيْ: أَخْلِصْ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَوَصَّى) قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: (وَأَوْصَى) بِأَلِفٍ ، مَعَ تَخْفِيفِ الصَّادِ ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مُشَدَّدَةِ الصَّادِ ، وَهَذَا لِاخْتِلَافِ الْمَصَاحِفِ . أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ قُشَيْشٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيُّويَهْ ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، قَالَ: أَخْبَرْنَا ثَعْلَبٌ ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ قَالَ: اخْتَلَفَ مُصْحَفَا أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ حَرْفًا: كَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: (وَأَوْصَى) وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَوَصَّى) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: سَارَعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [ آَلِ عِمْرَانَ: 133 ] . بِغَيْرِ وَاوٍ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَسَارَعُوا) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا [ الْمَائِدَةِ: 56 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَيَقُولُ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: مِنْ يَرْتَدِدْ [ الْمَائِدَةِ: 57 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (مَنْ يَرْتَدُّ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا [ التَّوْبَةِ: 108 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَالَّذِينَ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: خَيْرًا مِنْهُمَا مُنْقَلِبًا [ الْكَهْفِ: 37 ] . وَأَهْلُ [ ص: 149 ] الْعِرَاقِ (مِنْهَا) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَتَوَكُّل عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [ الشُّعَرَاءِ: 217 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَتَوَكَّلْ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادُ [ الْمُؤْمِنِ: 26 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي "حم عسق": (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) بِغَيْرِ فَاءٍ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (فَبِمَا) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَا تَشْتَهِيه الْأَنْف [ الزُّخْرُفِ: 71 ] . بِالْهَاءِ . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (مَا تَشْتَهِي) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيَّ الْحَمِيدَ [ الْحَدِيدِ: 26 ] وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فُلًّا يَخَافُ عُقْبَاهَا [ الشَّمْسِ: 15 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَلَا يَخَافُ) .

وَوَصَّى أَبْلَغُ مَنْ أَوْصَى ، لِأَنَّهَا تَكُونُ لِمَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَهَاءُ "بِهَا" تَعُودُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ . قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالزَّجَّاجُ . قَالَ مُقَاتِلٌ: وَبَنُوهُ أَرْبَعَةٌ: إِسْمَاعِيلُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمَدِينُ ، وَمَدَائِنُ . وَذَكَرَ غَيْرُ مُقَاتِلٍ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يُرِيدُ: الْزَمُوا الْإِسْلَامَ ، فَإِذَا أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ صَادَفَكُمْ عَلَيْهِ .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ

سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ يَعْقُوبَ أَوْصَى بَنِيهِ يَوْمَ مَاتَ بِالْيَهُودِيَّةِ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أَيْ: مَضَتْ ، يُشِيرُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ ، وَيَعْقُوبُ وَبَنِيهِ .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ ص: 150 ] وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا .

مَعْنَاهُ: قَالَتِ الْيَهُودَ: كُونُوا هُودًا ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى ، تَهْتَدُوا .

بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا الْمَعْنَى: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي حَالِ حَنِيفِيَّتِهِ . وَفِي الْحَنِيفِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَائِلُ إِلَى الْعِبَادَةِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَنِيفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَائِلُ إِلَى الشَّيْءِ ، أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ أَحْنَفٌ ، وَهُوَ الَّذِي تَمِيلُ قَدَمَاهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى أُخْتِهَا بِأَصَابِعِهَا . قَالَتْ أُمُّ الْأَحْنَفِ تُرَقِّصُهُ:


وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ وَدِقَّةٌ فِي سَاقِهِ مِنْ هَزْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ


وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَعْرَجِ: حَنِيفٌ نَظَرًا لَهُ إِلَى السَّلَامَةِ ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ . وَقَدْ وَصَفَ الْمُفَسِّرُونَ الْحَنِيفَ بِأَوْصَافٍ ، فَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الْمُخْلِصُ ، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: هُوَ الَّذِي يَحُجُّ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُوَ الَّذِي يُوَحِّدُ وَيَحُجُّ ، وَيُضَحِّي وَيَخْتَتِنُ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ .

فَأَمَّا الْأَسْبَاطُ: فَهُمْ بَنَوْا يَعْقُوبَ ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا . قَالَ الزَّجَّاجُ: السِّبْطُ فِي اللُّغَةِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ . وَالسِّبْطُ فِي اللُّغَةِ: الشَّجَرَةُ لَهَا قَبَائِلُ ، فَالسِّبْطُ: الَّذِينَ هُمْ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 338.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 332.80 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (1.73%)]