|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (194) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (10) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة الحادية عشرة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في دعوته لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) فيه: أنه ينبغي على الداعي إلى الله -عز وجل- أن يكون في قلبه الشفقة والخوف على مَن يدعوه إلى الله -عز وجل-، وأن يظهر ذلك له، وهكذا كانت الرسل دائمًا يخافون على أقوامهم ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الطيبة التي يريد الشيطان ألا يشعر الإنسان بها؛ حتى لا تستجيب الفطرة للدعوة الحق التي هي تطابق الفطرة السليمة؛ العلاقة الطيبة التي بها يستجيب هذا الأب لابنه لأنه مشفق عليه وخائف عليه، ورحيم به، وقد قال مؤمن آل فرعون نفس هذه الكلمة قال الله: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (غافر: 30-33). والأنبياء قبل ذلك قالوا هذه الكلمة: قال الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 59)، وقال هود -عليه السلام-: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ . أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ . وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 132-135)، وقال شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (هود: 84). وقال الله -عز وجل- مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود: 3). فلا بد أيها الداعي إلى الله أن تكون أولًا خائفًا على الناس؛ لا يكون همك أن تدخلهم النار، أو تحكم عليهم بها، أو تحكم عليهم بأنواع العقوبات، أو تنالهم بها، وإنما تريد لهم الخير والنجاة، وتخاف عليهم فعلًا، وتشفق عليهم؛ فالدعاة إلى الله أتباع الأنبياء يخافون على الناس ويرفقون بهم، وهذا الرفق وهذه الشفقة تحيي في القلوب الفطرة السليمة في اتباع مَن هذا شأنه، فإذا أظهرتَ صفات الرب الذي هو أرحم بعباده من الأم بولدها، بذكر اسم الرحمن متكررًا في الآيات السابقة: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)، وإذا أظهرت شفقتك على الناس بأنواع مختلفة من الأساليب، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الدعوة، وحصول الخير في قلب المدعو. الفائدة الثانية عشرة: قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا): تأمل في قوله: (أَنْ يَمَسَّكَ)؛ فإبراهيم -عليه السلام- يخاف على أبيه من مجرد المسيس؛ أن يمسه شيء من العذاب، هو لا يخاف فقط أن يُلقى في النار، بل هو يخاف مجرد أن يمسه أدنى شيء من العذاب؛ فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، لكن (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)، وهو -عز وجل- كما قال: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام: 58)؛ فيضع الظلم في موضعه، والشكر في موضعه (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، ويضع الهداية في موضعها (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وهكذا فليكن هذا أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، وليكن أسوة حسنة في الصبر والاحتمال حتى ولو لم يجد الداعي أثر لذلك. قوله -عز وجل-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ): إذا عذبك الرحمن فمَن يرحمك؟! الرحمن الذي صفته اللازمة له الرحمة، فإذا عذَّب فلا يوجد مَن يرحم، الله إذا لم يرحم عبده لم يرحمه أحدٌ غيره؛ فهو الرحمن، وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واقترفه، وليس لأن الله لم يعطه ما يستحقه، إنما العبد هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الله، وعذاب الرحمن؛ فالرحمة أحب إليه -سبحانه- من العذاب، ورحمته تغلب غضبه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) (متفق عليه)، والله كتب على نفسه الرحمة كما قال -تعالى-: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الأنعام: 12)، ورحمته وسعت كل شيء، فإذا عذَّب الإنسان فقد خرج من أي رحمة محتملة؛ لذا لا ترحمه الملائكة، ولا يرحمه المؤمنون، ولا يرحمه شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحدٌ، ولا ترحمه النار، ويمقت نفسه ويبغضها، وأهل النار يسترحمون خزنة النار: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) (غافر: 49، 50). وكذلك يسترحمون مالكًا فلا يرحمهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77)، فيسترحمون المؤمنين فلا يرحمونهم: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ? قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعراف: 50). فإذا كان الإنسان قد خرج من رحمة الرحمن الرحيم فلن يرحمه أحد، فهذا الذي ينبغي أن يُدعَى به إلى الله، أن يريد أن يرحمنا بالإيمان وبالإسلام والإحسان، فإذا لم نفعل استحققنا عذاب الرحمن، وإذا عذَّب الرحمن فلن يجد الإنسان رحمة عند غيره. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (195) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة الثالثة عشرة: في قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي: تكون من أولياء الشيطان، ومن المقرَّبين منه؛ فتشقى شقاءً لا نعيم بعده أبدًا، وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، وإنما يتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقرَّبون إلى الله، وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وعلى قَدْر قربه يكون نعيمه في الدنيا والآخرة، وإن كان لا يمكنه أن يتقرَّب ببدنه، وإنما يتقرب بروحه؛ أما في الآخرة فإنه يكون قريبًا بروحه وبدنه معًا في الجنة، وقال الله -عز وجل-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19)؛ فلذا يسجد المقرَّبون لله، ومن سجد تقرب إلى الله، والله يقترب منه؛ إثابة منه لتقربه إليه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه). فمَن قرب مِن الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي وبعُد عن الله؛ لأن الشطان مطرود ومُبْعَد عن الله -عز وجل-؛ كما قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 78)؛ أي: عليه الإبعاد من رحمة الله، والبعد عن الله أعظم شقاء للإنسان، وإنما المعاصي هي سبب البُعد، وأعظمها: الكفر، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله وقرب من الشيطان، فالشياطين تأوي إلى كل قبيح؛ ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن في مجالس الفسوق والعصيان عذابًا للإنسان -نعوذ بالله من ذلك، ونعوذ بالله من ولاية الشيطان-. والقرب من الشيطان وطاعة الشيطان متلازمان، ومَن أطاع الشيطان كان معذبًا في دنياه قبل أخراه؛ لضيق صدره وعدم انشراح قلبه، قال الله -عز وجل-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125). وقال الله -عز وجل- عن قوم نوح: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود: 60). وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ) (هود: 68)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (هود: 95)، وقال -عز وجل-: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، وقال -سبحانه وتعالى-: (فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، وكل هذا لأنهم اقتربوا من الشيطان، فبعدوا عن الرحمن -نعوذ بالله من ولاية الشيطان-. الفائدة الرابعة عشرة: الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء، وهذه الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومع ذلك؛ فعلى الداعي أن يكون مستعدًا في نفسه لعدم قبول دعوته فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم -عليه السلام- استعمل أربعة أساليب؛ استعمل الحجج العقلية: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، واستعمل المؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، واستعمل أحسن الأدب مع أبيه، وترفَّق له أعظم الترفق، وأحسن إليه، فناداه مرات بـ(يَا أَبَتِ)، ووعده بالاستغفار له، وأبوه آذر قد صُدَّ عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح؛ لا لحجة عقلية، ولا لوجدان عاطفي، ولا لرفقه به وخوفه عليه (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)؛ حين يذكِّره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله؛ يرجيه ويخوفه، ومع ذلك لا يتذكر! يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان في الكفر التي هي عبادة له، وأنه يقترب بذلك منه، ويكون له وليًّا، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة بعده أبدًا، ومع ذلك فالقلب مغلق، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فليست ثمرة الدعوة بالضرورة تظهر في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين -ولو كان من الأقربين-؛ فالنور الذي عند إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- نور يكفي البشرية عبر الزمان والمكان، وبهذا النور انتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله منسوبة إليه؛ قال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، والله له الحكمة البالغة، وهو يجعل في إبراهيم الأسوة الحسنة، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العِبَاد: أن الله -عز وجل- يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، وأن القلوب بيده يصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ؛ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (متفق عليه). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |