|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#661
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الحجرات من صــ 321 الى صــ 330 الحلقة (661) فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة ، إلا إذا أصرتا فحينئذ تجب المقاتلة ، وأما الضمان فلا يتجه. وليس كذلك إذا بغت إحداهما ، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين. التاسعة : ولو تغلبوا (أي البغاة) على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود وحكموا فيهم بالأحكام ، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود ، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع ، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة ، قال مطرف وابن الماجشون. وقال ابن القاسم : لا تجوز بحال. وروي عن أصبغ أنه جائز. وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم. وبه قال أبو حنيفة ، لأنه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته. فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة. والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم ، لما أنجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح ، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم. قال ابن العربي : الذي عندي أن ذلك لا يصلح ، لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ، ولم يكن هناك من يعترضه والله أعلم. العاشرة : لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل ، وهم كلهم لنا أئمة ، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم ، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر ، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم ، وأن الله غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه ، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة ، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار. وقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "بشر قاتل ابن صفية بالنار" . وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا أثمين بالقتال ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة : "شهيد" . ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار. وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل. بل صواب أراهم الله الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم ، وإبطال فضائلهم وجهادهم ، وعظيم غنائهم في الدين ، رضي الله عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة : 141] . وسئل بعضهم عنها أيضا فقال : تلك دماء طهر الله منها يدي ، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. قال ابن فورك : ومن أصحابنا من قال : إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف ، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة ، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة. وقال المحاسبي : فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال : قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا ، ونتبع ما اجتمعوا عليه ، ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا ، ونعلم أنهم أجتهدوا وأرادوا الله عز وجل ، إذ كانوا غير متهمين في الدين ، ونسأل الله التوفيق. الآية : 10 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أي في الدين والحرمة لا في النسب ، ولهذا قيل : أخوة الدين أثبت من أخوة النسب ، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين ، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا" . وفي رواية : "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب أمريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" لفظ مسلم. وفي غير الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها" . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "احفظوا ولايحفظ منكم إلا قليل" . الثانية : قوله تعالى : {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} أي بين كل مسلمين تخاصما. وقيل : بين الأوس والخزرج ، على ما تقدم. وقال أبو علي : أراد بالأخوين الطائفتين ، لأن لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة ، كقوله تعالى : {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة : 64] . وقال أبو عبيدة : أي أصلحوا بين كل أخوين ، فهو آت على الجميع. وقرأ ابن سيرين ونصر بن عاصم وأبو العالية والجحدري ويعقوب {بين إخوتكم} بالتاء على الجمع. وقرأ الحسن {إخوانكم} . الباقون : {أخويكم} بالياء على التثنية. الثالثة : في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين. قال الحارث الأعور : سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو القدوة عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين : أمشركون هم ؟ قال : لا ، من الشرك فروا. فقيل : أمنافقون ؟ قال : لا ، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل له : فما حالهم ؟ قال إخواننا بغوا علينا. الآية : 11 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} قيل عند الله. وقيل {خيرا منهم} أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا (بالتحريك) ومسخرا وسخرا (بالضم) . وحكى أبو زيد سخرت به ، وهو أردأ اللغتين. وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وهزئت به ، كل يقال. والاسم السخرية والسخري ، وقرئ بهما قوله تعالى : {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف : 32] وقد تقدم. وفلان سخرة ، يتسخر في العمل. يقال : خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة (بفتح الخاء) يسخرمن الناس. الثانية : واختلف في سبب نزولها ، فقال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر ، فإذا سبقوه الى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه ، فرفض كل رجل منهم بمجلسه ، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما ، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطي رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح. فقال له الرجل : قد وجدت مجلسا فأجلس فجلس ثابت من خلفه مغضبا ، ثم قال : من هذا ؟ قالوا فلان ، فقال ثابت : ابن فلانة يعيره بها ، يعني أما له في الجاهلية ، فاستحيا الرجل ، فنزلت. وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول "السورة" استهزؤوا بفقراء الصحابة ، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد : هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد : لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله ، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما ، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله ، والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبدالله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و {قوم} في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير : وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل : إنه جمع قائم ، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا ، وقد مضى في "البقرة" بيانه. الثالثة : قوله تعالى : {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر. وقد قال الله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوج : 1] فشمل الجميع. قال المفسرون : نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة ، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض ، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب ، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد : نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل : نزلت في عائشة ، أشارت بيدها إلى أم سلمة ، يا نبي الله إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس : إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن النساء يعيرنني ، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد" . فأنزل الله هذه الآية. الرابعة : في صحيح الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا ، فقال : "ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا" . قالت فقلت : يا رسول الله ، إن صفية امرأة - وقالت بيدها - هكذا ، يعني أنها قصيرة. فقال : "لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج" . وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة قال : نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس. وقال : "لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" . وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا ، فإنه نظر دقيق ، وبالله التوفيق. قوله تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} اللمز : العيب ، وقد مضى في "التوبة" عند قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة : 58] . وقال الطبري : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء : 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى : {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور : 61] يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ : {ولا تُلمزوا} بالضم. وفي قوله : {أنفسكم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه ، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه ، قال صلى الله عليه وسلم : "المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" . وقال بكر بن عبدالله المزني : إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا ، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صلى الله عليه وسلم : "يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه" وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر : المرء إن كان عاقلا ورعا ... أشغله عن عيوبه ورعه كما السقيم المريض يشغله ... عن وجع الناس كلهم وجعه وقال آخر : لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله سترا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا الثانية : قوله تعالى : {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} النبز "بالتحريك" اللقب ، والجمع الأنباز. والنبز (بالتسكين) المصدر ، تقول : نبزه ينبزه نبزا ، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم ، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب : أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره ، فنزلت هذه الآية : {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري. وأبو زيد سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال : فينا نزلت هذه الآية ، في بني سلمة {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ } قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا الاسم ، فنزلت هذه الآية : {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} فهذا قول. وقول ثان - قال الحسن ومجاهد : كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني ، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة : هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق ، وقاله مجاهد والحسن أيضا. {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته ، قال ابن زيد. وقيل : المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه" . فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه" يعني بالتقوى ، ونزلت : {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . وقال ابن عباس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب ، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة" . الثالثة : وقع من ذلك مستثني من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه ، فجوزته الأمة وأتفق على قول أهل الملة. قال ابن العربي : وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة ، لأنه صحف "خرزة" فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي : مطين ، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين ، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول : لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل ، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله : أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية. والله أعلم. قلت : وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في (كتاب الأدب) من الجامع الصحيح. في (باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل) قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يقول ذو اليدين" قال أبو عبدالله بن خويز منداد : تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره ، ويجوز تلقيبه بما يحب ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق ، وأبا بكر بالصديق ، وعثمان بذي النورين ، وخزيمة بذي الشهادتين ، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين ، في أشباه ذلك. الزمخشري : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه" . ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن ، قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي : فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب. قلت : فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبدالله بن المبارك عن الرجل يقول : حُميد الطويل ، وسليمان الأعمش ، وحُميد الأعرج ، ومروان الأصغر ، فقال : إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن سرجس قال : رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. في رواية الأصيلع. قوله تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي. الآية : 12 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} قيل : إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي ![]()
__________________
|
#662
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الحجرات من صــ 331 الى صــ 340 الحلقة (662) صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا ، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما ، فقالا له : انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما ، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك" وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه ، فقال أسامة : ما عندي شيء ، فرجع إليهما فأخبرهما ، فقالا : قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ، فقالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سُمَيحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء ، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما" فقالا : يا نبي الله ، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال : "ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة" فنزلت : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير. الثانية : ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا" لفظ البخاري. قال علماؤنا : فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها ، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه ، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظن الفساد به والخيانة محرم ، بخلاف من أشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء" . وعن الحسن : كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام ، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت. الثالثة : وللظن حالتان : حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها ، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن ، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانيه : أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده ، فهذا هو الشك ، فلا يجوز الحكم به ، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبدالله بالظن وجواز العمل به ، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه ، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه ، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة "إياكم والظن" فإن هذا لا حجة فيه ، لأن الظن في الشريعة قسمان : محمود ومذموم ، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده ، بدلالة قوله تعالى : {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، وقوله : {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور : 12] ، وقوله : {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح : 12] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا" . وقال : "إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض" خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح ، قاله المهدوي. الرابعة : قوله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما {ولا تحسسوا} بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ، فقال الأخفش : ليس تبعد إحداهما من الأخرى ، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس (بالحاء) طلب الأخبار والبحث عنها. وقيل : إن التجسس (بالجيم) هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء : هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق : أنه بالحاء تطلبه لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره ، قال ثعلب. والأول أعرف. جسست الأخبار وتجسستها أي تفحصت عنها ، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية : خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم" فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" . وعن زيد بن وهب قال : أتي ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبدالله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. وعن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" . وقال عبدالرحمن بن عوف : حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن شرب فما ترى ! ؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال الله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} وقد تجسسنا ، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة : حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن : إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس ، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم : خرج عمر وعبدالرحمن يعسان ، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب ، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح ، فقال عمر : وأنت بهذا يا فلان ؟ فقال : وأنت بهذا يا أمير المؤمنين! قال عمر : فمن هذه منك ؟ قال امرأتي ، قال فما في هذا القدح ؟ قال ماء زلال ، فقال للمرأة : وما الذي تغنين ؟ فقالت : تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا الله أني أراقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه ولكن عقلي والحياء يكفني ... وأ كرم بعلي أن تنال مراكبه ثم قال الرجل : ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال الله تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا} . قال صدقت. قلت : لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل ، لأن عمر لا يقر على الزنى ، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها ، وأنها قالتها في مغيبه عنها. والله أعلم. وقال عمرو بن دينار : كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت ، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها ، فسقط من كمه كيس فيه دنانير ، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال : لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه ، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا ، فجاء إلى أمه فقال : أخبريني ما كان عمل أختي ؟ فقالت : قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها فلم يزل بها حتى قالت له : كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها ، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم ، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم ، فقال : بهذا هلكت الخامسة : قوله تعالى : {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} نهى عز وجل عن الغيبة ، وهي أن تذكر الرجل بما فيه ، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أتدرون ما الغيبة" ؟ قالوا : الله ورسول أعلم. قال : "ذكرك أخاك بما يكره" قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته" . يقال : اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. قال الحسن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى : الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال : قال لي معاومة - يعني ابن قرة - : لو مر بك رجل أقطع ، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة : فذكرته لأبي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال : "أين فلان وفلان" ؟ فقالا : نحن ذا يا رسول الله ، قال : "انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال : "فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" . السادسة : قوله تعالى : {أََيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} مثل الله الغيبة بأكل الميتة ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر ، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر : فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وقال صلى الله عليه وسلم : "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس" . فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا ، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" . وعن المستورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة" . وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين" . وقوله للرجلين : "ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما" . وقال أبو قلابة الرقاشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا ، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده ، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال : قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا فقال : "أكلتم لحم أخيكم وأغتبتموه" . وعن سفيان الثوري قال : أدني الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط ، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وذكر الناس فإنه داء ، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر ، فقال : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا. وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني فقال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. السابعة : ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا : ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا : لا تكون الغيبة إلا في الخَلْق والخُلُق والحسب. والغيبة في الخلق أشد ، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية : إنها امرأة قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته" . خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي : حديث حسن صحيح ، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء ، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين ، لأن عيب الدين أعظم العيب ، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قول عليه السلام : "إذا قلت في أخيك ما يكره فقد أغتبته..." الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصا. وكفى بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : "دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي : "من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه" . فعم كل عرض ، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. الثامنة : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب ؟ اختلف فيه ، فقالت فرقة : ليس عليه استحلاله ، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه ، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه ، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقال فرقة : هي مظلمة ، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة : هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته" . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال وسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" . وقد تقدم هذا المعنى في سورة "آل عمران" عند قوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران : 169] . وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة : ما أطول ذيلها فقالت لها عائشة : لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال : إنما الغيبة في المال والبدن ، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه ، وذلك ليس في البدن ولا في المال ، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال ، وقد قال الله تعالى في القاذف : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور : 13] . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال" . وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال : إنها مظلمة ، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها ، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال : كفارتها أن يستغفر لصاحبها ، لأن قول مظلمة تثبت ظلامة المظلوم ، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه" . وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله ، ورأى أنه لا يحل ما حرم الله عليه ، منهم سعيد بن المسيب قال : لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين : يا أبا بكر ، هذا رجل سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده ، فقال : إني لم أحرمها عليه فأحلها ، إن الله حرم الغيبة عليه ، وماكنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل ، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو ، وقد قال تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشوري : 40] . التاسعة : ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر ، فإن في الخبر "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" . وقال صلى الله عليه وسلم : "اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس" . فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب الهوي ، والفاسق المعان ، والإمام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج : اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش ، يمد بيد قصيرة البنان ، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله ، يرجل جمته ويخطر في مشيته ، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن : هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال : ليس لأهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي ، ليس بغيبة. وعلماء الأمة على ذلك مجمعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : "لصاحب الحق مقال" . وقال : "مطل الغني ظلم" وقال : "لَيّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" . ومن ذلك الاستفتاء ، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي ، فآخذ من غير علمه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم فخذي" . فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها ، ولم يرها مغتابة ، لأنه لم يغير عليها ، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" . فهذا جائز ، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله. العاشرة : قوله تعالى : {مَيْتاً} وقريء {ميِّتاً} وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الأخ ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى : {فَكَرِهْتُمُوهُ} وفيه وجهان : أحدهما : فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة ، روي معناه عن مجاهد. الثاني : فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء : أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل : لفظه خبر ومعناه أمر ، أي اكرهوه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} عطف عليه. وقيل : عطف على قوله : "اجتنبوا. ولا تجسسوا" . {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} . الآية : 13 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند ، ذكره أبو داود في (المراسيل) ، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نزوج ![]()
__________________
|
#663
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الحجرات من صــ 341 الى صــ 350 الحلقة (663) بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل : {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً} الآية. قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة. وقيل : إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له : ابن فلانة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من الذاكر فلانة" ؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "انظر في وجوه القوم" فنظر ، فقال : "ما رأيت" ؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر ، فقال : "فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى" فنزلت في ثابت هذه الآية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة : 11] الآية. قال ابن عباس : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء ، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال : "يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} خرجه من حديث عبدالله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف ، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب (آداب النفوس) وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال : حدثني أو حدثنا من" شهد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : "أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت ؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب" . وفيه عن أبو مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم" . ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره : الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء نفس كنفس وأرواح مشاكلة ... وأعظم خلقت فيهم وأعضاء فإن يكن لهم من أصلهم حسب ... يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدىأدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... وللرجال على الأفعال سيماء وضد كل امرئ ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء الثانية : بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى ، وكذلك في أول سورة "النساء" . ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم ، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام ، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه ، فلعله هذا القسم ، قاله ابن العربي. الثالثة : خلق الله الخلق بين الذكر والأنثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا ، وخلق لهم منها التعارف ، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها ، فصار كل أحد يحوز نسبه ، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه ، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه ، بقول للعربي : يا عجمي ، وللعجمي : يا عربي ، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى. الرابعة : ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده ، ويتربى في رحم الأم ، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات : 21] . وقوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة : 8] . وقوله : {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة : 37] . فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية ، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعال : {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق : 6] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء ، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل ، وعن ذلك يكون الشبه ، حسب ما تقدم بيانه في آخر "الشورى" . وقد قال في قصة نوج : {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر : 12] وإنما أراد ماء السماء وماء الأرض ، لأن الالتقاء لا يكون إلا من أثنين ، فلا ينكر أن يكون {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة : 8] . وقوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات : 21] ويريد ماءين. والله أعلم. الخامسة : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الشعوب رؤوس القبائل ، مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، وأحدها شَعْب بفتح الشين ، سموا به لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الأضداد ، يقال شعبته إذا جمعته ، ومنه المشعب (بكسر الميم) وهو الإشفي ، لأنه يجمع به ويشعب. قال : فكاب على حر الجبين ومتق ... بمدرية كأنه ذلق مشعب وشعبته إذا فرقته ، ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة. فأما الشعب (بالكسر) فهو الطريق في الجبل ، والجمع الشعاب. قال الجوهري : الشعب : ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب. والشعوبية : فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث : أن رجلا من الشعوب أسلم ، فإنه يعني من العجم. والشعب : القبيلة العظيمة ، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه ، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس : الشعوب الجمهور ، مثل مضر. والقبائل الأفخاذ. وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب ، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الأقرب. وقال قتادة. ذكر الأول عنه المهدوي ، والثاني الماوردي. قال الشاعر : رأيت سعودا من شعوب كثيرة ... فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك وقال آخر : قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب وقيل : إن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل : إن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية : إن الشعوب الموالي ، والقبائل العرب. قال القشيري : وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل والترك ، والقبائل من العرب. الماوردي : ويحتمل أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشركون في الأنساب. قال الشاعر : وتفرقوا شعبا فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه : الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل : الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة ، وقد نظمها بعض الأدباء فقال : اقصد الشعب فهو أكثر حي ... عددا في الحواء ثم القبيله ثم تتلوها العمارة ثم الـ ... ـبطن والفخذ بعدها والفصيله ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرناه قليله وقال آخر : قبيلة قبلها شعب وبعدهما ... عمارة ثم بطن تلوه فجذ وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ... ولا سداد لسهم ماله قذذ السادسة : قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقد تقدم في سورة "الزخرف" عند قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف : 44] . وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقريء {أن} بالفتح. كأنه قيل : لم يتفاخر بالأنساب ؟ قيل : لأن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الحسب المال والكرم التقوى" . قال : هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام : "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله" . والتقوى معناه مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا ، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به ، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع. وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم" نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون ". وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب. يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا ". وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول :" إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ". وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : من أكرم الناس ؟ فقال :" يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم "قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال :" فأكرمهم عند الله أتقاهم "فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، فقال :" عن معادن العرب ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "وأنشدوا في ذلك :" ما يصنع العبد بعز الغني ... والعز كل العز للمتقي من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشقي السابعة : ذكر الطبري حدثني عمر بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال : تزوج رجل من الأنصار امرأة فطُعِن عليها في حسبها ، فقال الرجل : إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة" . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تبارك وتعالى جاء بالإسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية" . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى. قال ابن العربي : وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبدالله عن مالك : يتزوج المولى العربية ، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي : يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبني سالما وأنكحه هندا بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار. وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الأسود. قلت : وأخت عبدالرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدل على جواز نكاح الموالي العربية ، وإنما تراعى الكفاءة في الدين. والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال : "ما تقولون في هذا" ؟ فقالوا : حَري إن خطب أن يُنكَح ، وإن شفع أن يُشْفَّع وإن قال أن يُسْمَع. قال : ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : "ما تقولون في هذا" قالوا : حري إن خطب ألا يُنْكَح ، وإن شفع ألا يُشَفّع ، وإن قال ألا يُسمَع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" . وقال صلى الله عليه وسلم : "تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك" . وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه ، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه ، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها ، قال بلال : يا رسول الله ، ماذا لقيت من بني البكير خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بلال ، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا : ماذا لقينا من سببك ؟ فقالت أختهم : أمري بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجوها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي هند حين حجمه : "أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه" . وهو مولى بني بياضة. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنكحوه وأنكحوا إليه" . قال القشيري أبو نصر : وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب ، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما ، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى. الآية : 14 {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت في أعرب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعاوها ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتينال بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس : نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا ، فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا ، فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب ، لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى. ومعنى {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي استسلمنا خوف القتل والسبي ، وهذه صفة المنافقين ، لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم ، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب. وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، وذلك يحقن الدم. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني إن تخلصوا الإيمان {لا يَلِتْكُمْ} أي لا ينقصكم. {مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } لاته يليته ويلوته : نقصه. وقرأ أبو عمرو {لا يألتكم} بالهمزة ، من ألت يألت ألتا ، وهو اختيار أبي حاتم ، اعتبارا بقوله تعالى : {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور : 21] قال الشاعر : أبلغ بني ثعل عني مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا واختاو الأولى أبو عبيد. قال رؤبة : وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت أي لم يمنعني عن سراها مانع ، وكذلك ألته عن وجهه ، فعل وأفعل بمعنى. ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا ، أي ما نقصه ، مثل ألته ، قال الفراء. وأنشد : ويأكلن ما أعني الولي فلم يلت ... كأن بحافات النهاء المزارعا قوله : فلم {يَلِتْ} أي لم ينقص منه شيئا. و {أَعْنَي} بمعنى أنبت ، يقال : ما أعنت الأرض شيئا ، أي ما أنبتت. و {الوَلِيّ} المطر بعد الوسمي ، سمي وليا لأنه يلي الوسمي. ولم يقل : لا يألتاكم ، لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول. الآية : 15 - 16 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي صدقوا ولم يشكوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة. {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم ، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر والعلانية وكذبوا ، فنزلت. {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} الذي أنتم عليه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الآية : 17 - 18 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قوله تعالى : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} إشارة إلى قولهم : جئناك بالأثقال والعيال. و "أن" في موضع نصب على تقدير لأن أسلموا. {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} أي بإسلامكم. {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} {أن} موضع نصب ، تقديره بأن. وقيل : لأن. وفي مصحف عبدالله {إذ هداكم} . {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} صادقين أنكم مؤمنون. وقرأ عاصم {إن هداكم} بالكسر ؛ وفيه بعد ؛ لقوله : {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ولا يقال يمن عليكم أن يهديكم إن صدقتم. والقراءة الظاهرة {أَنْ هَدَاكُمْ} . وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين ، لأن تقدير الكلام : إن آمنتم فذلك منة الله عليكم. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو بالياء على الخبر ، ردا على قوله : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} . الباقون بالتاء على الخطاب. ![]()
__________________
|
#664
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ ق من صــ 1 الى صــ 10 الحلقة (664) المجلد السابع عشر مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال ابن عباس وقتادة : إلا آية ، وهي قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق : 38] . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين - أو سنة وبعض سنة - وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر ؟ فقال : كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} . وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وكانت صلاته بعد تخفيفا. سورة ق الجزء 17 من الطبعة سورة ق مقدمة السورة 1 {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} . 2 {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} . 3 {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . 4 {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} . 5 {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} . قوله تعالى : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} قرأ العامة "قاف" بالجزم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم "قاف" بكسر الفاء ؛ لأن الكسر أخو الجزم ، فلما سكن آخره حركوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع "قاف" بالضم ؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذ وقد وقبل وبعد. واختلف في معنى "قاف" ما هو ؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه ، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية ، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس. قال الفراء : كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في {ق} ؛ لأنه اسم وليس بهجاء. قال : ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه ؛ كقوله القائل : قلت لها قفي فقالت قاف أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدم أول "البقرة" . وقال وهب : أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا ، فقال له : ما أنت ؟ قال : أنا قاف ، قال : فما هذه الجبال حولك ؟ قال : هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي ، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض ؛ فقال له : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله ؛ قال : إن شأن ربنا لعظيم ، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم به بعضها بعضا ، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها ؛ وأين هي من الأرض. قال : زدني ، قال : إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه ، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك ، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا الله ؛ وهو قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ : 38] يعني قوله : لا إله إلا الله. وقال الزجاج : قوله {ق} أي قضي الأمر ، كما قيل في {حم} أي حم الأمر. وقال ابن عباس : {ق} اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وعنه أيضا : أنه اسم من أسماء القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي : افتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي : فاتحة السورة. وقال أبو بكر الوراق : معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم الأنطاكي : هو قرب الله من عباده ، بيانه {وََنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق : 16] وقال ابن عطاء : أقسم الله بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله. {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي الرفيع القدر. وقيل : الكريم ؛ قاله الحسن. وقيل : الكثير ؛ مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد ، من قولهم : كثير فلان في النفوس ؛ ومنه قول العرب في المثل السائر : "كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار" . أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر ؛ قاله ابن بحر. وجواب القسم قيل هو : {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} على إرادة اللام ؛ أي لقد علمنا. وقيل : هو {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} وهو اختيار الترمذي محمد بن علي قال : {ق} قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة ، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد ، ثم اقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد ، وخلق الآدميين ، وصفة يوم القيامة والجنة والنار ، ثم قال : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق : 37] فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال : {ق} أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما أقتصصت في هذه السورة {لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ ق : 37] . وقال ابن كيسان : جوابه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} . وقال أهل الكوفة : جواب هذا القسم {بَلْ عَجِبُوا} وقال الأخفش : جوابه محذوف كأنه قال : {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} لتبعثن ؛ يدل عليه {أئذا متنا وكنا ترابا } . قوله تعالى : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} "أن" في موضع نصب على تقدير لأن جاءهم منذر منهم ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والضمير للكفار. وقيل : للمؤمنين والكفار جميعا. ثم ميز بينهم بقوله تعالى { فقال الكافرون} ولم يقل فقالوا ، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر ، كما تقول : جاءني فلان فأسمعني المكروه ، وقال لي الفاسق أنت كذا وكذا. {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} العجيب الأمر الذي يتعجب منه ، وكذلك العجاب بالضم ، والعجاب بالتشديد أكثر منه ، وكذلك الأعجوبة. وقال قتادة : عجبهم أن دعوا إلى إله واحد. وقيل : من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى. قوله تعالى : {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} نبعث ؛ ففيه إضمار. {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال : رجعته أرجعه رجعا ، ورجع هو يرجع رجوعا ، وفيه إضمار آخر ؛ أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع ، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله : {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} لأنه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة. قوله تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شيء حتى تتعذر علينا الإعادة. وفي التنزيل : {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه : 51] . وفي الصحيح : "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب" وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء والأولياء والشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم ؛ حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب "التذكرة" وتقدم أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي : النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى ؛ لأن من مات دفن فكأن الأرض تنقص من الناس. وعن ابن عباس : هو من يدخل في الإسلام من المشركين. {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أي بعدتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل : اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شيء. وقيل : الكتاب عبارة عن العلم والإحصاء ؛ كما تقول : كتبت عليك هذا أي حفظته ؛ وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل : أي وعندنا كتاب حفيظ لأعمال بني آدم لنحاسبهم عليها. قوله تعالى : {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} أي القرآن في قول الجميع ؛ حكاه الماوردي. وقال الثعلبي : بالحق القرآن. وقيل : الإسلام. وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم. {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن ؛ قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة : مختلف. الحسن : ملتبس ؛ والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة : فاسد ، ومنه مرجت أمانات الناس أي فسدت ؛ ومرج الدين والأمر اختلط ؛ قال أبو دواد : مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد وقال ابن عباس : المريج الأمر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء : {مَرِيجٍ} مختلط. وأنشد : فجالت فالتمست به حشاها ... فخر كأنه خوط مريج الخوط الغصن. وقال عنه العوفي : في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل : متغير. وأصل المرج الاضطراب والقلق ؛ يقال : مرج أمر الناس ومرج أمر الدين ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال. وفي الحديث : "كيف بك يا عبدالله إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" .. *3*الآية : 6 - 11 {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} . قوله تعالى : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} نظر اعتبار وتفكر ، وأن القادر على إيجادها قادر على الإعادة. {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} فرفعناها بلا عمد {وَزَيَّنَّاهَا} بالنجوم {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} جمع فرج وهو الشق ؛ ومنه قول امرىء القيس : تسد به فرجها من دبر وقال الكسائي : ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} تقدم في "الرعد.بيانه. {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي من كل نوع من النبات {بَهِيجٍ} أي حسن يسر الناظرين ؛ وقد تقدم في" الحج "بيانه. {تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم : نصب على المصدر ؛ يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على قدرتنا {وَذِكْرَى} معطوف عليه. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} راجع إلى الله تعالى ، مفكر في قدرته." قوله تعالى : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} أي من السحاب {مَاءً مُبَارَكاً} أي كثير البركة. {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} التقدير : وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. هذا قول البصريين. وقال الكوفيون : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، كما يقال : مسجد الجامع وربيع الأول وحق اليقين وحبل الوريد ونحوها ؛ قال الفراء. والأصل الحب الحصيد فحذفت الألف واللام وأضيف المنعوت إلى النعت. وقال الضحاك : حب الحصيد البر والشعير. وقيل : كل حب يحصد ويدخر ويقتات. {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} نصب على الحال ردا على قوله : {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} و { بَاسِقَاتٍ} حال. والباسقات الطوال ؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال قتادة وعبدالله بن شداد : بسوقها استقامتها في الطول. وقال سعيد بن جبير : مستويات. وقال الحسن وعكرمة أيضا والفراء : مواقير حوامل ؛ يقال للشاة بسقت إذا ولدت ، قال الشاعر : فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر والأول في اللغة أكثر وأشهر ؛ يقال بسق النخل بسوقا إذا طال. قال : لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة ويقال : بسق فلان على أصحابه أي علاهم ، وأبسقت الناقة إذا وقع في ضرعها للبن قبل النتاج فهي مبسق ونوق مباسيق. وقال قطبة بن مالك : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ {بَاصِقَاتٍ} بالصاد ؛ ذكره الثعلبي. قلت : الذي في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال : "صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} حتى قرأ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} قال فجعلت أرددها" ولا أدري ما قال ؛ إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لأجل القاف. {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل ؛ يقال : طلع الطلع طلوعا وأطلعت النخلة ، وطلعها كفراها قبل أن ينشق. {نَضِيدٌ} أي متراكب قد نضد بعضه على بعض. وفي البخاري "النضيد" الكفري ما دام في أكمامه ومعناه منضود بعضه على بعض ؛ فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} أي رزقناهم رزقا ، أوعلى معنى أنبتناها رزقا ؛ لأن الإنبات في معنى الرزق ، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها لرزقهم ، والرزق ما كان مهيأ للانتفاع به. وقد تقدم القول فيه. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي من القبور أي كما أحيا الله هذه الأرض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم ؛ فالكاف في محل رفع على الابتداء. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع. وقال {مَيْتاً} لأن المقصود المكان ولو قال ميتة لجاز. *3*الآية : 12 - 15 {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب ؛ ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} من هذه الأمم المكذبة. {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فحق عليهم وعيدي وعقابي. قوله تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم : {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق : 3] . يقال : عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب ؛ يقال : لبس عليه الأمر يلبسه لبسا. *3*الآية : 16 - 19 {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِِنْسَانَ} يعني الناس ، وقيل آدم. {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره ، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال : إن المراد بالإنسان آدم ؛ فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة ، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الأعشى : تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل وقد مضى في "الأعراف" . {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن : الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب ؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه ، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل : أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل : أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه ، لأنه عرق يخالط القلب ، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب ، روي معناه عن مقاتل قال : الوريد عرق يخالط القلب ، وهذا القرب قرب العلم والقدرة ، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء. قوله تعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان ، وهما الملكان الموكلان به ، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر ، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة ، وتوكيدا للأمر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة : {الْمُتَلَقِّيَانِ} ملكان يتلقيان عملك : أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكب سيئاتك. قال الحسن : حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة : {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء : 14] عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد : وكل الله بالإنسان مع علمه بأحوال ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ، ويكتبان أثره إلزاما للحجة : أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيئات ، فذلك قوله تعالى : {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . وقال سفيان : بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة ؛ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر" . وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن مقعد ملكيك على ثنيتك لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما" . وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال : وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال : {قَعِيدٌ} ولم يقل قعيدان وهما اثنان ؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه ؛ ومنه قول الشاعر : نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق : إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى فكان وكنت غير غدور ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد : أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا ، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ومذهب الأخفش والفراء : أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و {قَعِيدٌ} بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل : {قَعِيدٌ} بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم. وقال الجوهري : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ؛ كقوله تعالى : {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 16] وقوله : {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم : 4] . وقال الشاعر في الجمع ، أنشده الثعلبي : ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر ![]()
__________________
|
#665
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (17) سُورَةُ ق من صــ 11 الى صــ 20 الحلقة (665) والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لا ضد القائم. قوله تعالى : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه ؛ مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه : أحدها : أنه المتبع للأمور. الثاني : أنه الحافظ ، قال السدي. الثالث : أنه الشاهد ، قال الضحاك. وفي العتيد وجهان : أحدهما : أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني : أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري : العتيد الشيء الحاضر المهيأ ؛ وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم ، ومنه قوله تعالى : {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف : 31] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء وكسرها المعد للجري. قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور ، ومنه قول الشاعر : لئن كنت مني في العيان مغيبا ... فذكرك عندي في الفؤاد عتيد قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه. وقال عكرمة : لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. وقيل : يكتب عليه كل ما يتكلم به ، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا ، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر ، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة" . وقال علي رضي الله عنه : "إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك" . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال : سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للأخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فاذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ" إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ "غريب ، من حديث الأعمش عن زيد ، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن ، إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة "." قوله تعالى : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي غمرته شدته ؛ فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها ، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل : الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلي دار الحق ؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل : يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى ؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل : الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت ؛ ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال : أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ : وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان : إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل ، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها ، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبوبكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبدالله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال : لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما. دخلت عليه قالت : هذا كما قال الشاعر : إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فقال أبو بكر : هلا قلت كما قال الله : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أوعلبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء ، فيمسح بهما وجهه ويقول : "لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم نصب يده فجعل يقول : "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة" . وقال عيسى ابن مريم : "يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة" يعني سكرات الموت. وروي : "إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض" . {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال : حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت ؛ لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الأخبار عن نفسك : حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه ؛ قال طرفة : أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض *3*الآية : 20 {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هي النفخة الآخرة للبعث {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله. قوله تعالى : {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} اختلف في السائق والشهيد ؛ فقال ابن عباس : السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل ؛ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة : السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة : المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم : السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لأنه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد : السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر : {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} سائق : ملك يسوقها إلى أمر الله ، وشهيد : يشهد عليها بعملها. قلت : هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبدالله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت ارتفع ذلك الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لتركبن طبقا عن طبق} قال :" حالا بعد حال "ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم "خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه : هذا حديث غريب من حديث جعفر ، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان : أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر ؛ قاله الضحاك." قوله تعالى : {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} قال ابن زيد : المراد به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك : إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين : إن المراد به البر والفاجر. وهو اختيار الطبري. وقيل : أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد ؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} أي عماك ؛ وفيه أربعة أوجه : أحدها إذ كان في بطن أمه فولد ؛ قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة ؛ قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. {فبصرك اليوم حديد} قيل : يراد به. بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه ؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار ، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام. وقيل : المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد ؛ أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد : {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقال الضحاك. وقيل : يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل : يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ {لَقَدْ كُنْتَ} {عَنْكَ} {فَبَصَرُكَ} بالكسر على خطاب النفس. *3*الآية : 23 - 27 {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ َلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} قوله تعالى : {وَقَالَ قَرِينُهُ} يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. {هذا ما لدي عتيد} أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد : يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل : المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا : قرينه الذي قيض له من الشياطين. {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه : إنه قرينه من الإنس ، فيقول الله تعالى لقرينه : {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قال الخليل والأخفش : هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول : ويلك ارحلاها وازجراها ، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء : تقول للواحد قوما عنا ، وأصل ذلك أن أدنى ، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه ، ومنه قولهم للواحد في الشعر : خليلي ، ثم يقول : يا صاح. قال امرؤ القيس : خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب وقال أيضا : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقال آخر : فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا وقيل : جاء كذلك لأن القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني : قوله {أَلْقِيَا} يدل على ألق ألق. وقال المبرد : هي تثنية على التوكيد ، المعنى ألق ألق فناب {أَلْقِيَا} مناب التكرار. ويجوز أن يكون {أَلْقِيَا} تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل : هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل : إن الأصل القين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن {أَلْقِيَنَ} بالنون الخفيفة نحو قوله : {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف : 32] وقوله : {لنَسْفَعاً} [العلق : 15 ] . {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أي معاند ؛ قال مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم : العنيد المعرض عن الحق ؛ يقال عند يعند بالكسر عنودا أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند ، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} يعني الزكاة المفروضة وكل حق واجب. {مُعْتَدٍ} في منطقه وسيرته وأمره ؛ ظالم. {مُرِيبٍ} شاك في التوحيد ؛ قاله الحسن وقتادة. يقال : أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى : {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله : {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أنه كان يمنع بني أخيه من الإسلام. { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} تأكيد للأمر الأول. قوله تعالى : {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. { وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل : قرينه الملك ؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته : رب إنه أعجلني ، فيقول الملك : ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير : يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة ، فيقول الملك : ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة ؛ فحينئذ يقول الله تعالى : {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري : وهذا يدل على أن القرين الشيطان. {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} أي أرسلت الرسل. وقيل : هذا خطاب لكل من اختصم. وقيل : هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قيل هو قوله : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام : 160] وقيل هو قوله : {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [السجدة : 13] . وقال الفراء : ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب . {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي ما أنا بمعذب من لم يجرم ؛ قال ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في "الحج" وغيرها. *3*الآية : 30 - 35 { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قوله تعالى : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} قرأ نافع وأبو بكر { يوم يقول} بالياء أعتبارا بقوله : { لا تختصموا لدي} . الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة. وقرأ الحسن "يوم أقول" . وعن ابن مسعود وغيره "يوم يقال" . وأنتصب "يوم" علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل : بفعل مقدر معناه : وأنذرهم {يوم نقول لجهنم هل أمتلات} لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره ، والتحقيق لوعده ، والتقريع لأعدائه ، والتنبيه لجميع عباده. "وتقول" جهنم {هل من مزيد } أي ما بقي في موضع للزيادة ؛ كقوله عليه السلام : "هل ترك لنا عقيل من ربع أومنزل" أي ما ترك ؛ بمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الاستزادة ؛ أي هل من مزيد فأزداد ؟ . وإنما صلح هذا للوجهين ؛ لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل : ليس ثم قول وإنما هو على طريق ، المثل ؛ أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك ؛ كما قال الشاعر : امتلأ الحوض وقال قَطني ... مهلا رويدا قد ملأتَ بطني وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلأت. وقيل : ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة "الفرقان" وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط به بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة" لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة : "وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا" . علماؤنا رحمهم الله : أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار ، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم ؛ يقال : رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد ، فال الشاعر : فمر بنا رجل من الناس وانزوى ... إليهم من الحي اليماني أرجل قبائل من لخم وعكل وحمير ... على ابني نزار بالعداوة أحفل وبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه ، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته ، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة : قط قط حسبنا حسبنا! أي اكتفينا اكتفينا ، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم ؛ ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث : "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة" وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام : "حتى يضع الجبار فيها قدمه" أي من سبق في علمه أنه من أهل النار. قوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي قربت منهم. وقيل : هذا قبل الدخول في الدنيا ؛ أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل : بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي منهم وهذا تأكيد . {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة. {تُوعَدُونَ} بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر ؛ لأنه أتى بعد ذكر المتقين. {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي ، ثم يرجع يذنب ثم يرج هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء : الأواب المسبح من قوله : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ : 10] . وقال الحكم بن عتيبة : هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير : هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال : كنا نحدث أن الأواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده ، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث : "من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس" . وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء : أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة ، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته. قلت : هذا استحسان واتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق : هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم : هو الذي لا يشتغل إلا بالله عز وجل. {حَفِيظٍ} قال ابن عباس : هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة : حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا : هو الحافظ لأمر الله. مجاهد : هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك : هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا" ذكره الماوردي. قوله تعالى : {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} {مَنْ} في محل خفض على البدل من قوله : {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أو في موضع الصفة لـ {أَوَّابٍ} . ويجوز الرفع على الاستئناف ، والخبر ![]()
__________________
|
#666
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (17) سُورَةُ الذاريات من صــ 21 الى صــ 30 الحلقة (666) {ادْخُلُوهَا} على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم : {ادْخُلُوهَا} . والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي : يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب. {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} مقبل على الطاعة. وقيل : مخلص. وقال أبو بكر الوراق : علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له ، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت : ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم ؛ كما قال تعالى : {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 89] على ما تقدم ؛ والله أعلم. {ادْخُلُوهَا} أي يقال لأهل هذه الصفات : {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} أي بسلامة من العذاب. وقيل : بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل : بسلامة من زوال النعم. وقال : {ادْخُلُوهَا} وفي أول الكلام {مَنْ خَشِيَ} ؛ لأن {مَنْ} تكون بمعنى الجمع. قوله تعالى : {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر : المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس : 26] قال : الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام ، قالا : أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعود قال : تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك : على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام : لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا ، وزاد "فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك" . فال يحيى : وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى : {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} . قلت : قوله "في كثيب" يريد أهل الجنة ، أي وهم على كثب ؛ كما في مرسل الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور" الحديث وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" . وقيل : إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين ؛ رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا. *3*الآية : 36 - 38 {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} قوله تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة. {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} أي ساروا فيها طلبا للمهرب. وقيل : أثروا في البلاد ؛ قال ابن عباس. وقال مجاهد : ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل : دوروا. وقال قتادة : طوفوا. وقال المؤرخ تباعدوا ؛ ومنه قول امرئ القيس : وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب ثم قيل : طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات ، وهل وجدوا من الموت محيصا ؟ . وقيل : طوفوا في البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة : نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال وقرأ الحسن وأبو العالية {فَنَقََبُوا} بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشيء. وقيل : النقب الطريق في الجبل ، وكذلك المنقب والمنقبة ؛ عن ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا ، واسم تلك النقبة نقب أيضا ، وجمع النقب النقوب ؛ أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل : أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ السلمي يحيى بن يعمر {فَنَقِّبُوا} بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد ؛ أي طوفوا البلاد وسيروا فيها فانظروا {هَلْ مِنْ} الموت {مَحِيصٍ} ومهرب ؛ ذكره الثعلبي. وحكى القشيري {فَنَقِبُوا} بكسر القاف مع التخفيف ؛ أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم. الجوهري : ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه ، وأنقب الرجل ، إذا نقب بعيره ، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا ؛ أي عدل وحاد. يقال : ما عنه محيص أي محيد ومهرب. والانحياص مثله ؛ يقال للأولياء : حاصوا عن العدو وللأعداء انهزموا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي عقل يتدبر به ؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه ؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل : لمن كان له حياة ونفس مميزة ، فعبر عن النفس الحية بالقلب ؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها ؛ كما قال امرؤ القيس : أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل وفي التنزيل : {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يس : 70] . وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان ؛ قلب محتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع ، وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي استمع القرآن. تقول العرب : ألق إلى سمعك أي استمع. وقد مضى في "طه" كيفية الاستماع وثمرته. {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي شاهد القلب ؛ قال الزجاج : أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان : أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل : الآية لأهل الكتاب ؛ قال مجاهد وقتادة. وقال الحسن : إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد بن كعب وأبو صالح : إنها في أهل القرآن خاصة. قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} تقدم في "الأعراف" وغيرها. واللغوب التعب والإعياء ، تقول منه : لغب يلغب بالضم لغوبا ، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي : هذه الآية نزلت في يهود المدينة ؛ زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ؛ فجعلوه راحة ، فأكذبهم الله تعالى في ذلك. *3*الآية : 39 - 40 {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قوله تعالى : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أمره بالصبر على ما يقوله المشركون ؛ أي هون أمرهم عليك. ونزلت قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة. وقيل : هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وقيل معناه : فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم : إن الله استراح يوم السبت. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} قيل : إنه أراد به الصلوات الخمس. قال أبو صالح : قبل طلوع الشمس صلاة الصبح ، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبدالله مرفوعا ؛ قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : "أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} " [طه : 130] متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس : {قَبْلَ الْغُرُوبِ} الظهر والعصر. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} يعني صلاة العشاءين. وقيل : المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ؛ قاله عطاء الخراساني وأبو الأحوص. وقال بعض العلماء في قوله : {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} قال ركعتي الفجر {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} الركعتين قبل المغرب ؛ وقال ثمامة ابن عبدالله بن أنس : كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين ، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة : ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الأسلمي. قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} فيه أربعة أقوال : الأول : هو تسبيح الله تعالى في الليل ، قال أبو الأحوص. الثاني : أنها صلاة الليل كله ، قال مجاهد. الثالث : أنها ركعتا الفجر ، قاله ابن عباس. الرابع : أنها صلاة العشاء الآخرة ، قاله ابن زيد. قال ابن العربي : من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح "من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" . وأما من قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله ، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلأنهما من صلاة الليل ، والعشاء أوضحه. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي والزهري : أدبار السجود الركعتان بعد المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر ، ورواه العوفي عن ابن عباس ، وقد رفعه ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ركعتان بعد المغرب أدبار السجود" ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي : وروي عن ابن عباس قال : بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال : "يا ابن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود" . وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم "من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين" . قال أنس فقرأ في الركعة الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون : 1] وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص : 1] قال مقاتل : ووقتها ما لم يغرب الشفق الأحمر. وعن ابن عباس أيضا : هو الوتر. قال ابن زيد : هو النوافل بعد الصلوات ، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة ، قال النحاس : والظاهر يدل على هذا إلا أن الأولى اتباع الأكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الأحوص : هو التسبيح في أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الأقوى في النظر. وفي صحيح الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وقيل : إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات ، نقل ذلك الجماعة. الخامسة- قرأ نافع وابن كثير وحمزة {وَإِدْبَارَ السُّجُودِ} بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشيء إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي قراءة علي وابن عباس ، ومثالها طنب وأطناب ، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر {وَالطُّورِ} [الطور : 49] أنه بالكسر مصدر ، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني ، وهو البياض المنشق من سواد الليل. *3*الآية : 41 - 45 {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} قوله تعالى : {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} مفعول الاستماع محذوف ؛ أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة ، وهي النفخة الثانية ، والمنادي جبريل. وقيل : إسرافيل. الزمخشري : وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي ، فينادي بالحشر ويقول : هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل : واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب ، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء. قال عكرمة : ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل : المكان القريب صخرة بيت المقدس. ويقال : إنها وسط الأرض وأقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب : بثمانية عشر ميلا ، ذكر الأول القشيري والزمخشري ، والثاني الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، ويا عظاما نخرة ، ويا أكفانا فانية ، ويا قلوبا خاوية ، ويا أبدانا فاسدة ، ويا عيونا سائلة ، قوموا لعرض رب العالمين. قال قتادة : هو إسرافيل صاحب الصور. {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} يعني صيحة البعث. ومعنى {الْخُرُوجِ} الاجتماع إلى الحساب. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} أي يوم الخروج من القبور. {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} نميت الأحياء ونحيي الموتى ؛ أثبت هنا الحقيقة {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي هين سهل. وقرأ الكوفيون {تَشَقَّقُ} فيف الشين على حذف التاء الأولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء {الْمُنَادِ} في الحالين على الأصل ، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير ، وحذف الباقون في الحالين. قلت : وقد زادت السنة هذه الآية بيانا ؛ فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره ؛ قال وأشار بيده إلى الشام فقال : "ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه" في رواية أخرى "خذه وكفه" و خرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره : ثم يقول - يعني الله تعالى - لإسرافيل : "نفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الأرض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية" وذكر الحديث ، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في "التذكرة" مستوفى والحمد لله. قوله تعالى : {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي من تكذيبك وشتمك. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي بمسلط تجبرهم على الإسلام ؛ فتكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال. والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر ، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج ؛ حكاه القشيري. النحاس : وقيل معنى جبار لست تجبرهم ، وهو خطأ لأنه لا يكون فعال من أفعل. وحكى ، الثعلبي : وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة ، جبار بمعنى مجبر ، ودراك بمعنى مدرك ، وسراع بمعنى مسرع ، وبكاء بمعنى مبك ، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر : 29] بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى. وقيل : هو الله. وكذلك قرئ {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف : 79] يعني ممسكين. وقال أبو حامد الخارزنجي : تقول العرب : سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل : {بِجَبَّارٍ} بمسيطر كما في الغاشية {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [ الغاشية : 21] . وقال الفراء : سمعت من العرب من يقول جبره على الأمر أي قهره ، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل : الجبار من قولهم جبرته على الأمر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري : وأجبرته على الأمر أكرهته عليه ، وأجبرته أيضا نسبته إلى الجبر ، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} قال ابن عباس : قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب ؛ فالوعيد العذاب والوعد الثواب ، قال الشاعر : وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وكان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في {وَعِيدِ} يعقوب في الحالين ، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف ، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة {ق} والحمد لله. سورة الذريات الآية : 1- 6 {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} سورة الذاريات قوله تعالى : {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} قال أبوبكر الأنباري : حدثنا عبدالله بن ناجية ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا الجعيد بن عبدالرحمن ، عن يزيد بن خصيفة ، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه : إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ؛ فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن ، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ما {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ، ثم قال : ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ما {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} قال : يلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} الرياح {فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} السحاب {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} السفن {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الملائكة. وروى الحرث عن علي رضي الله عنه {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} قال : الرياح {فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} قال : السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} قال : السفن موقرة {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} قال : الملائكة تأتي بأمر مختلف ؛ جبريل بالغلظة ، وميكائيل صاحب الرحمة ، وملك الموت يأتي بالموت. وقال الفراء : وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث. ويقال : ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل : {وَالذَّارِيَاتِ} وما بعده أقسام ، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا. وقيل : المعنى ورب الذاريات ، والجواب {إنما توعدون} أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب {لَصَادِقٌ} لا كذب فيه ؛ ومعنى {لَصَادِقٌ} لصدق ؛ وقع الاسم موقع المصدر. {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} يعني الجزاء نازل بكم. ثم ابتدأ قسما آخر فقال : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات : 7] وقيل إن الذاريات النساء الولودات لأن في ذرايتهن ذرو الخلق ؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ؛ وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخصى النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين : أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال ، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر. الثاني : أن الذرو فيهن أطول زمانا ، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. {فالحاملات وقرا} السحاب. وقيل : الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، يقال : جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها ؛ يقال : نخلة موقرة وموقر وموقرة ، وحكي موقر وهو على غير القياس ، لأن الفعل للنخلة. وإنما قيل : موقر بكسر القاف على قياس قولك امرأة حامل ، لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء ؛ فأما موقر بالفتح فشاذ ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا : عصب كوارع في خليج محلم ... حملت فمنها موقر مكموم ![]()
__________________
|
#667
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (17) سُورَةُ الذاريات من صــ 31 الى صــ 40 الحلقة (667) والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن ، وقد وقررت أذنه توقر وقرا أي صمت ، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في "الأنعام" القول فيه. {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت. وقيل : السحاب ؛ وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان : أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع. الثاني : هو سهولة تسييرها ؛ وذلك معروف عند العرب ، كما قال الأعشى : كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل *3*الآية : 7 {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} قوله تعالى : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قيل : المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض. وقيل : السماء المرفوعة. ابن عمر : هي السماء السابعة ؛ ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي {الْحُبُكِ} أقوال سبعة : الأول : قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع : ذات الخلق الحسن المستوي. وقال عكرمة ؛ قال : ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه ؛ يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي : كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد أحتبكته. والثاني : ذات الزينة ؛ قال الحسن وسعيد بن جبير ، وعن ، الحسن أيضا : ذات النجوم وهو الثالث. الرابع : قال الضحاك : ذات الطرائق ؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء ؛ قال : الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة ، والماء القائم إذا مرت به الريح ، ودرع الحديد لها حبك ، والشعرة الجعدة تكسرها حبك. وفي حديث الدجال : أن شعره حبك. قال زهير : مكلل بأصول النجم تنسِجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس - ذات الشدة ، قال ابن زيد ، وقرأ {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ : 12] . والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره ، قال امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه ... لا حق الإطلين محبوك ممر وقال آخر : مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكَتَد وفي الحديث : أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة ؛ أي تشد الإزار وتحكمه. السادس : ذات الصفاقة ؛ قاله خصيف ، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع : أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء ؛ سميت بذلك لأنها كأثر المجر. و {الْحُبُكِ} جمع حباك ، قال الراجز : كأنما جللها الحُوَّاك ... طنفسة في وشيها حِباك والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك ، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق ، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله : {ذَاتِ الْحُبُكِ} {الْحُبْكِ} و {الْحِبِكِ} و {الْحِبْكِ} والحبَك والحِبُك وقرأ أيضا {الْحُبُكِ} كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز {الْحُبُكِ} و {الْحُبُكِ} واحدتها حبيكة ؛ {الْحُبْكِ} مخفف منه. و {الْحُبَكِ} واحدتها حبكة. ومن قرأ {الْحُبَكِ} فالواحدة حبكة كبرقة وبرق أوحبكة كظلمة وظلم. ومن قرأ {الْحِبِكِ} فهو كإبل وإطل و {الْحِبْكِ} مخففة منه. ومن قرأ {الْحِبُكِ} فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل ، وهو محمول على تداخل اللغات ، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور {الْحُبُكِ} فضم الباء. وقال جميعه المهدوي. قوله تعالى : {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} هذا جواب القسم الذي هو {وَالسَّمَاءَ} أي إنكم يا أهل مكة {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب. وقيل : نزلت في المقتسمين. وقيل : أختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل أفتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين. وقيل : أختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل : المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عن الإيمان بمحمد والقرآن من صرف ؛ عن الحسن وغيره. وقيل : المعنى يصرف عن الإيمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين. وقيل : المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه أفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء ؛ ومنه قوله تعالى : {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} [الأحقاف : 22] . وقال مجاهد : معنى { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يؤفك عنه من أفك ، والأفك فساد العقل. الزمخشري : وقرئ {يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنََ} أي يحرمه من حرم ؛ من أفك الضرع إذا أنهكه حلبا. وقال قطرب : يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي : يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف. قوله تعالى : {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} في التفسير : لعن الكذابون. وقال ابن عباس : أي قتل المرتابون ؛ يعني الكهنة. وقال الحسن : هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى {قُتِلَ} أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفراء : معنى {قُتِلَ} لعن ؛ قال : و {الْخَرَّاصُونَ} الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون ؛ فيقولون : إن محمدا مجنون كذاب. ساحر شاعر ؛ وهذا دعاء عليهم ؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري : علمنا الدعاء عليهم ؛ أي قولوا : {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب ، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب ؛ يقال : خرص واخترص ، وخلق واختلق ، وبشك وابتشك ، وسرج واسترج ، ومان ، بمعنى كذب ؛ حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر ؛ يقال : كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. وأصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في "الأنعام" ومنه الخريص للخليج ؛ لأنه ينقطع إليه الماء ، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة ؛ لانقطاعها عن أخواتها ، والخرص العود ؛ لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به ، يقال : خرص الرجل بالكسر فهو خرص ، أي جائع مقرور ، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين. وقال ابن عباس : هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة ، واقتسموا القول في نبي الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليصرفوا الناس عن الإيمان به. {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله ، ومنه غمرات الموت. {سَاهُونَ} أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي متى يوم الحساب ؛ يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة. قوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} نصب {يَوْمَ} على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يحرقون ، وهو من قولهم : فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره ؛ وأصل الفتنة الاختبار. وقيل : إنه مبني بني لإضافته إلى غير متمكن ، وموضعه نصب على التقدير المتقدم ، أو رفع على البدل من {يَوْمُ الدِّينِ} . وقال الزجاج : يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم ، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع ، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ابن عباس : {يُفْتَنُونَ} يعذبون. ومنه قول الشاعر : كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون قوله تعالى : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي يقال لهم ذوقوا عذابكم ؛ قاله ابن زيد. مجاهد : حريقكم. ابن عباس : أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء : أي عذابكم {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الدنيا. وقال : {هَذَا} ولم يقل هذه ؛ لأن الفتنة هنا بمعنى العذاب. الآية : 15 - 19 {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} لما ذكر مآل الكفار ذكر مآل المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. {آخِذِينَ} نصب على الحال. {مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات ؛ قاله الضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي عاملين بالفرائض. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا ِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ {مُحْسِنِينَ} بالفرائض. وقال ابن عباس : المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم. الآية : 17 {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} معنى {يَهْجَعُونَ} ينامون ؛ والهجوع النوم ليلا ، والتهجاع النومة الخفيفة ؛ قال أبو قيس بن الأسلت : قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع وقال عمرو بن معد يكرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة : أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع يقال : هجع يهجع هجوعا ، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام ؛ قاله الجوهري. واختلف في "ما" فقيل : صلة زائدة - قاله إبراهيم النخعي - والتقدير كانوا قليلا من الليل يهجعون ؛ أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء : وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل : 2] الآية. وقيل : ليس {مَا} صلة بل الوقف عند قوله : {قَلِيلاً} ثم يبتدئ {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فـ {مَا} للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال : اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم : {كَانُوا قَلِيلاً} معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال : {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} على معنى من الليل يهجعون ؛ قال ابن الأنباري : وهذا فاسد ؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم ، وبعد فلو ابتدأنا {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم ؛ لأن الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون {مَا} جحدا. قلت : وعلى ما تأوله بعض الناس - وهو قول الضحاك - من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي كان المحسنون قليلا ، ثم استأنف فقال : {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وعلى التأويل الأول والثاني يكون {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ} خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على {مَا يَهْجَعُونَ} ، وكذلك إن جعلت {قَلِيلاً} خبر كان وترفع {مَا} بقليل ؛ كأنه قال : كانوا قليلا من الليل هجوعهم. فـ {مَا} يجوز أن تكون نافية ، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا ، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان ، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل ، وانتصاب قوله : {قَلِيلاً} إن قدرت {مَا} زائدة مؤكدة بـ {يَهْجَعُونَ} على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون ، وإن لم تقدر {مَا} زائدة كان قوله : {قليلا} خبر كان ولم يجز نصبه بـ {يَهْجَعُونَ} لأنه إذا قدر نصبه بـ {يَهْجَعُونَ} مع تقدير {مَا} مصدرا قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية : أي كانوا يصلون بين العشاءين : المغرب والعشاء. أبو العالية : كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب. وقال مجاهد : نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم يمضون إلى قباء. وقال محمد بن علي بن الحسين : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن : كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ابن عباس ومطرف : قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها. الثانية : روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه أت في منامه فأنشده : وكيف تنام الليل عين قريرة ... ولم تدر في أي المجالس تنزل وروي عن رجل من الأزد أنه قال : كنت لا أنام الليل فنمت في آخر الليل ، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل ، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة ، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم ، فقلت لهما : أكسواني من حللكما هذا ؛ فقالا لي : إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال : حدثني صاحب لي قال : فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة ، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم ، وأشرقت ألوانهم ، وعليهم الحلل من دون الخلائق ، فقلت : ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة ، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة ! فقال لي قائل : الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة ، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد ، قال : ورأيت أقواما على نجائب ، فقلت : ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة ؟ فقال لي : هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا بالله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب ؛ قال : فصحت في منامي : واها للعابدين ، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف. الثالثة : قوله تعالى : {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} مدح ثان ؛ أي يستغفرون من ، ذنوبهم ، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في "آل عمران" القول فيه. وقال ابن عمر ومجاهد : أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا. وقال الحسن في قوله تعالى : {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} مدوا الصلاة من أول الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب : هي في الأنصار ؛ يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قالوا : كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا ، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك : صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس : عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم ، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت ، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. الرابعة - قوله تعالى : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} مدح ثالث. قال محمد بن سيربن وقتادة : الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل : إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما ، أو يقري به ضيفا ، أو يحمل به كلا ، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس ؛ لأن السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي : والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة ؛ لقوله تعالى في سورة "المعارج" : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج : 25] والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها ، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم ؛ لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت. الخامسة - {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السائل الذي يسأل الناس لفاقته ؛ قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما . {وَالْمَحْرُومِ} الذي حرم المال. واختلف في تعيينه ؛ فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما : المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها : المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه ؛ يقال : رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم ، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه. وقال قتادة والزهري : المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية : المحروم الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} . وقال عكرمة : المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم : هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أونسل ماشيته. وقال القرظي : المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بََلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا : {بََلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . [الواقعة : 66] وقال أبو قلابة : كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله ، فقال رجل من أصحابه : هذا المحروم فاقسموا له. وقيل : إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا. وقال عبدالرحمن بن حميد : المحروم المملوك. وقيل : إنه الكلب ؛ روي أن عمر بن عبدالعزيز كان في طريق مكة ، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم. وقيل : إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب ؛ لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ابن وهب عن مالك : أنه الذي يحرم الرزق ، وهذا قول حسن ؛ لأنه يعم جميع الأقوال. وقال الشعبي : لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع ؛ من الحرمان وهو المنع. علقمة : ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ذكره الثعلبي. الآية : 20 - 23 {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قوله تعالى : {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور ؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما ، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قواما للحيوانات ، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها أثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم ، وصدق نبوة نبيهم ؛ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قيل : التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين. وقال قتادة : المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا ، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد : المراد سبيل الخلاء والبول. وقال السائب بن شريك : يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين ؛ ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط ؛ فتلك الآية في النفس. وقال ابن زيد : المعنى أنه خلقكم من تراب ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم : 20] . السدي : {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي في حياتكم وموتكم ، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن : وفي الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، والشيب بعد السواد. وقيل : المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح ، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور ، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول ، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون ، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والأطراف وسائر الجوارح ، وتأتيها لما خلقت له ، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني ، وأنه إذا جسا شيء منها جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ الذل {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 14] . {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته. وقيل : إنه نجح العاجز ، وحرمان الحازم. قلت : كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة "البقرة" أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شيء إلا وله نظير في العالم الكبير ، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر. ![]()
__________________
|
#668
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (17) سُورَةُ الذاريات من صــ 41 الى صــ 50 الحلقة (668) قوله تعالى : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} قال سعيد بن جبير والضحاك : الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير : كل عين قائمة إنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} معناه وفي المطر رزقكم ؛ سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر : إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا وقال ابن كيسان : يعني وعلى رب السماء رزقكم ؛ نظيره : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود : 6] . وقال سفيان الثوري : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل : المعنى وفي السماء تقدير رزقكم ، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال : قرأ واصل الأحدب {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فقال : ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} بالألف وكذلك في أخرها {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} {وَمَا تُوعَدُونَ} قال مجاهد : يعني من خير وشر. وقال غيره : من خير خاصة. وقيل : الشر خاصة. وقيل : الجنة ؛ عن سفيان بن عيينة. الضحاك : {وَمَا تُوعَدُونَ} من الجنة والنار. وقال ابن سيرين : {وَمَا تُوعَدُونَ} من أمر الساعة. وقاله الربيع. قوله تعالى : {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق ، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله : {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وخص النطق من بين سائر الحواس ؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه ، كالذي يرى في المرآة ، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها ، والدوى والطنين في الأذن ، والنطق سالم من ذلك ، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به. وقال بعض الحكماء : كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره ، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. وقال الحسن : بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى : {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} " . وقال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه ، فدنا وسلم وقال : ممن الرجل ؟ قلت من بني أصمع ، قال : أنت الأصمعي ؟ قلت : نعم. قال : ومن أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ؛ قال : وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت : نعم ؛ قال : فاتل علي منه شيئا ؛ فقرأت {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} إلى قوله : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فقال : يا أصمعي حسبك! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها ، وقال : أعني على توزيعها ؛ ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فمقت نفسي ولمتها ، ثم حججت مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر ، فسلم علي وأخذ بيدي وقال : اتل علي كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام فقرأت {وَالذَّارِيَاتِ} حتى وصلت إلى قوله تعالى : {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا ، وقال : وهل غير هذا ؟ قلت : نعم ؛ يقول الله تبارك وتعالى : {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قال فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. وقال يزيد بن مرثد : إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال : اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به ؛ فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لو أن أحدكم" فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت "أسنده الثعلبي. وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا : دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه ، فقال :" لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله ". وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله ، فخرجت عليهم أعرابية فقالت : ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم ، وضاقت صدوركم ، هو ربنا والعالم بنا ، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول :" لو كان في صخرة في البحر راسية ... صما ململمة ملسا نواحيها رزق لنفس براها الله لانفلقت ... حتى تؤدي إليها كل ما فيها أو كان بين طباق السبع مسلكها ... لسهل الله في المرقى مراقيها حتى تنال الذي في اللوح خط لها ... إن لم تنله وإلا سوف يأتيها قلت : وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمع قوله تعالى : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود : 6] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب ؛ وقد ذكرناه في سورة "هود" . وقال لقمان : {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان : 16] الآية. وقد مضى في "لقمان" وقد استوفينا هذا الباب في كتاب "قمع الحرص بالزهد والقناعة" والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء ، وهو فراغ القلب مع الرب ؛ رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه. قوله تعالى : {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قراءة العامة {مِثْلَ} بالنصب أي كمثل {مَا أَنَّكُمْ} فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و {مَا} زائدة ؛ قاله بعض الكوفيين. وقال الزجاج والفراء : يجوز أن ينتصب على التوكيد ؛ أي لحق حقا مثل نطقك ؛ فكأنه نعت لمصدر محذوف وقول سيبوبه : انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و {مَا} زائدة للتوكيد. المازني : {مِثْلَ} مع {مَا} بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ قال : ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا ؛ فتقول : قال لي رجل مثلك ، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش {مِثْلَ} بالرفع على أنه صفة لحق ؛ لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة ، إذ لا يختصى بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و {مِثْلَ} مضاف إلى {أَنَّكُمْ} و {مَا} زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة. المصدر إذ لا فعل معه تكون معه مصدرا. ومجوز أن تكون بدلا من {لَحَقٌّ} الآية : 24 - 28 {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} قوله تعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. {هَلْ أَتَاكَ} أي ألم يأتك. وقيل : {هَلْ} بمعنى قد ؛ كقوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان : 1] . وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في "هود" "والحجر" . {الْمُكْرَمِينَ} أي عند الله ؛ دليله قوله تعالى : {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء : 26] قال ابن عباس : يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل - زاد عثمان بن حصين - ورفائيل عليهم الصلاة والسلام. وقال محمد بن كعب : كان جبريل ومعه تسعة. وقال عطاء وجماعة : كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر. قال ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم غير مذعورين. وقال مجاهد : سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبدالوهاب : قال لي علي بن عياض : عندي هريسة ما رأيك فيها ؟ قلت : ما أحسن رأيي فيها ؛ قال : امض بنا ؛ فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب ، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل ، فقلت : إنا لله وإن إليه راجعون ، لو علمت يا أبا الحسن أن الأمر هكذا ؛ قال : هون عليك فإنك عندنا مكرم ، والمكرم إنما يخدم بالنفس ؛ انظر إلى قوله تعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} . قوله تعالى : {إِِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً} تقدم في "الحجر" . {قَالَ سَلامٌ} أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أو ردي لكم سلام. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما {سِلْمٌ} بكسر السين. {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . أي أنتم قوم منكرون ؛ أي غرباء لا نعرفكم. وقيل : لأنه رآهم على غير صورة البشر ، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم ، فقال : {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . وقيل : أنكرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان. وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. وقيل : خافهم ؛ يقال أنكرته إذا خفته ، قال الشاعر : فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا قوله تعالى : {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} قال الزجاج : أي عدل إلى أهله. وقد مضى في "والصافات" . ويقال : أراغ وارتاغ بمعنى طلب ، وماذا تريغ أي تريد وتطلب ، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد ، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في "هود" : {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود : 69] . ويقال : إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي من ضيفه ، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. قوله تعالى : { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} يعني العجل. {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} قال قتادة : كان عامة مال إبراهيم البقر ، واختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم. وقيل : العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري. وفي الصحاح : العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة ، عن أبي الجراح ، وبقرة معجل ذات عجل ، وعجل قبيلة من ربيعة. قوله تعالى : {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل : أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس : أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو بن دينار : قالت الملائكة لا نأكل إلا بالثمن. قال : كلوا وأدوا ثمنه. قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في "هود" ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف {قَالُوا لا تَخَفْ} وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي بولد يولد له من سارة زوجته. وقيل : لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم ، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم. وروى عون بن أبي شداد : أن جبريل مسح العجل بجناحه ، فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار. ومعنى {عَلِيمٍ} أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحاق. وقال مجاهد وحده : هو إسماعيل وليس بشيء فإن الله تعالى يقول : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات : 112] . وهذا نص. الآية : 29 - 30 {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} قوله تعالى : {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} أي في صيحة وضجة ؛ عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته. وقال عكرمة وقتادة : إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء : وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي. وقيل : أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء تسمع كلام الملائكة. قال الجوهري : الصرة الضجة والصيحة ، والصرة الجماعة ، والصرة الشدة من كرب وغيره ، قال امرؤ القيس : فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها ؛ أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب ؛ قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس : صكت وجهها لطمته. وأصل الصك الضرب ؛ صكه أي ضربه ؛ قال الراجز : يا كروانا صك فاكبأنَّا قال الأموي : كَبَن الظبي إذا لطأ بالأرض واكبأن انقبض. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج : أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد كما قالت : {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود : 72] {قَالُوا كَذَلِكِ} أي كما قلنا لك وأخبرناك {قَالَ رَبُّكِ} فلا تشكي فيه ، وكان بين البشارة والولادة سنة وقد مضى هذا . {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه. الآية : 31 - 37 {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قوله تعالى : {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} لما تيقن إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم : {فَمَا خَطْبُكُمْ} أي ما شأنكم وقصتكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يريد قوم لوط. {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} أي لنرجمهم بها . {مُسَوَّمَةً} أي معلمة. قيل : كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل : بسواد وحمرة. وقيل : {مُسَوَّمَةً} أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل : على كل حجر اسم من يهلك به. وقيل : عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في "هود" . فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر . {عِنْدَ رَبِّكَ} أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل : كانت مطبوخة طبخ الآجر ، قال ابن زيد ؛ وهو معنى قوله تعالى : {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر : 74] على ما تقدم بيانه في "هود" . وقيل : هي الحجارة التي نراها وأصلها طين ، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال : {مِنْ طِينٍ} ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري. قوله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي لما أردنا إهلال قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين ؛ لئلا يهلك المومنون ، وذلك قوله تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود : 81] . {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار ؛ أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله : {فِيهَا} كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر ؛ لأن المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى : {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يدل على القرية ؛ لأن القوم إنما يسكنون قرية. وقيل : الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر ، كما قال : {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف : 86] . وقيل : الإيمان تصديق القلب ، والإسلام الانقياد بالظاهر ، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين ؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقوله : قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات : 14] يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم ؛ نظيره : {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت : 35] . ثم قيل : الآية المتروكة نفس القرية الخربة. وقيل : الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ} لأنهم المنتفعون. الآية : 38 - 40 {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} قوله تعالى : {وَفِي مُوسَى} أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء : هو معطوف على قوله : {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} {وَفِي مُوسَى} {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل : أي بالمعجزات من العصا وغيرها . {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي فرعون أعرض عن الإيمان {بِرُكْنِهِ} أي بمجموعة وأجناده ؛ قال ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد ، ومنه قوله : {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود : 80] يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة : بقوته. ومنه قوله عنترة : فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني وقيل : بنفسه. وقال الأخفش : بجانبه ؛ كقوله تعالى : {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت : 51] وقاله المؤرج. الجوهري : وركن الشيء جانبه الأقوى ، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري : والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الإعراض عن الشيء {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {أَوْ} بمعنى الواو ، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء ، وأنشد بيت جرير : أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهية والخشابا وقد توضع {أَوْ} بمعنى الواو ؛ كقوله تعالى : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان : 24] والواو بمعنى أو ، كقوله تعالى : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء : 3] وقد تقدم جميع هذا. {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} لكفرهم وتوليهم عن الإيمان. { "فَنَبَذْنَاهُمْ} أي طرحناهم {فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} يعني فرعون ، لأنه أتى ما يلام عليه." الآية : 41 - 42 {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} قوله تعالى : {وَفِي عَادٍ} أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا ، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة ؛ ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل : هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الريح العقيم الجنوب" وقال مقاتل : هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" . وقال ابن عباس : هي النكباء. وقال عبيد بن عمير : مسكنها الأرض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا ؛ فالله أعلم. قوله تعالى : {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي كالشيء الهشيم ؛ يقال للنبت إذا يبس وتفتت : رميم وهشيم. قال ابن عباس : كالشيء الهالك البالي ؛ وقاله مجاهد : ومنه قول الشاعر : ![]()
__________________
|
#669
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (17) سُورَةُ الطور من صــ 51 الى صــ 60 الحلقة (669) تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي وقال قتادة : إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي : كالتراب المدقوق. قطرب : الرميم الرماد. وقال يمان : ما رمته الماشية من الكلأ بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر ، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي ؛ تقول منه : رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم ، قال الشاعر : ورأى عواقب خلف ذاك مذمة ... تبقى عليه والعظام رميم والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف : 25] حسب ما تقدم. الآية : 43 - 45 {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} قوله تعالى : {وَفِي ثَمُودَ} أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا {حَتَّى حِينٍ} أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود : {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود : 65] . وقيل : معنى {تَمَتَّعُوا} أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} أي الموت. وقيل : هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد : كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي {الصَّاعِقَةُ} يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في "البقرة" وغيرها. {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} إليها نهارا. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} قيل : معناه من نهوض. وقيل : ما أطاقوا أن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم ؛ تقول : لا أقوم لهذا الأمر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس : أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب . {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا ، أي ما كان لهم ناصر. الآية : 46 { وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} قوله تعالى : {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {وَقَوْمِ نُوحٍ} بالخفض ؛ أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوج ، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في {أَخَذَتْهُمُ} أو الهاء في {أَخَذْنَاهُمْ} أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوج ، أو {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات : 40] ونبذنا قوم نوج ، أو يكون بمعنى اذكر. الآية : 47 - 49 {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} لما بين هذه الآيات قال : وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال ، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى {بِأَيْدٍ} أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره . {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قال ابن عباس : لقادرون. وقيل : أي وإنا لذو سعة ، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده. وقيل : أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن : وإنا لمطيقون. وعنه أيضا : وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك : أغنيناكم ؛ دليله : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة : 236] . وقال القتبي : ذو سعه على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل : جعلنا بينهما وبين الأرض سعة. الجوهري : وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى ، ومنه قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الأقوال. {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} أي فنعم الماهدون نحن لهم. والمعنى في الجمع التعظيم ؛ مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته ، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد : أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد. يعني الذكر والأنثى ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والنور والظلام ، والسهل والجبل ، والجن والإنس ، والخير والشر ، والبكرة والعشي ، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا ، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة. وقيل : {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} لتعلموا أن خالق الأزواج فرد ، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون ، ولا ضياء ولا ظلام ، ولا قعود ولا قيام ، ولا ابتداء ولا انتهاء ؛ إذ عز وجل وتر { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] . {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . الآية : 50 - 55 {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} قوله تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم ؛ لذلك قال الله تعالى : لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد ؛ أي قل لقومك : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس : فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين ابن الفضل : احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق : فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد : الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري : ففروا من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان : فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا : فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله : فروا مما سوى الله إلى الله . {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية. قوله تعالى : {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل : هو خطاب من الله للخلق. {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ} أي من محمد وسيوفه {نََذِيرٌ مُبِينٌ} أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي ؛ قاله ابن عباس. قوله تعالى : {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون ، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من {كَذَلِكَ} يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم ، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين ، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله : {كَذَلِكَ} عن يعقوب وغيره. {أَتَوَاصَوْا بِهِ} أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه ؛ والألف للتوبيخ والتعجب. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان ، وهو مجاوزة الحد في الكفر. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم أصفح عنهم {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة ، ثم نسخ هذا بقوله تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقيل : نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك ؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عنهم {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك {وَذَكِّرْ} أي بالعظة فإن العظة {تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . قتادة : { وَذَكِّرْ} بالقرآن {فَإِنَّ الذِّكْرَى} به {تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . وقيل : ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين ؛ لأنهم المنتفعون بها. الآية : 56 - 60 {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قيل : إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده ، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى : وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري : والآية دخلها التخصيص على القطع ؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة ، وقد قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأعراف : 179] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة ، فالآية محمولة على المؤمنين منهم ؛ وهو كقوله تعالى : {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات : 14] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبدالله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ من المؤمنين إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال علي رضي الله عنه : أي وما خلقت الجن ولإنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول ، ويدل عليه قوله تعالى : {وََمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة : 31] . فإن قيل : كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته ؟ قيل تذللوا لقضائه عليهم ؛ لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه ، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به ، فأما التذلل لقضامه فإنه غير ممتنع منه. وقيل : {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها ؛ رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد : إلا ليعرفوني. الثعلبي : وهذا قول حسن ؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف : 87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف : 9] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا : إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم : هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة ؛ فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة ، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا : إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ؛ يدل عليه قوله تعالى : {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان : 32] الآية. وقال عكرمة : إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل : المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب ؛ تقول : عبد بين العبودة والعبودية ، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل ؛ يقال : طريق معبد. قال : وظيفا وظيفا فوق مور معبد والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة ، والتعبد التنسك. فمعنى {لِيَعْبُدُونِ} ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} {مِنْ} صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء : أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل : المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} وقرأ ابن محيصن وغيره {الرَّزَّاقُ} {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي {الْمَتِينُ} بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ {الرَّزَّاقُ} أو {ذُو} من قوله : {ذُو الْقُوَّةِ} أو يكون خبر ابتداء محذوف ؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع ، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء : كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل ؛ يقال : حبل متين. وأنشد الفراء : لكل دهر قد لبست أثوبا ... حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا من ريطة واليمنة المعصبا فذكر المعصب ؛ لأن اليمنة صنف من الثياب ؛ ومن هذا الباب قوله تعالى : {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة : 275] أي وعظ {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود : 67] أي الصياح والصوت. قوله تعالى : {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي كفروا من أهل مكة {ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة ، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا ؛ قال الراجز : لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب وقال علقمة : وقال آخر : لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب الجوهري : والذنوب الفرس الطويل الذنب ، والذنوب النصيب ، والذنوب لحم أسفل المتن ، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت : فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر ، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب ، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب ، مثل قلوص وقلائص . {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم ؛ لأنهم قالوا : يا محمد {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف : 70] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه ، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم ، والخزي القائم ، الذي لا انقطاع له ولا نفاد ، ولا غاية ولا آباد. تم تفسير سورة "الذاريات" والحمد لله سورة الطور روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه. مقدمة السورة الآية : 1- 8 {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} قوله تعالى : {وَالطُّورِ} الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى ؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات ، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة" قيل : فما الأجبل ؟ قال : "جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة" وذكر الحديث ، وقد استوفيناه في كتاب "التذكرة" قال مجاهد : الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان : هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا ؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل : هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري : والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام. قلت : ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل : إن الطور كل جبل أنبت ، وما لا ينبت فليس بطور ؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في "البقرة" مستوفى. قوله تعالى : {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} أي مكتوب ؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ ؛ كما قال تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة : 78] . وقيل : يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء ، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي : هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء : هو صحائف الأعمال ؛ فمن أخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله ؛ نظيره : {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء : 13] وقوله : {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير : 10] . وقيل : إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل : المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين ؛ بيانه : {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} [المجادلة : 22] . قلت : وفي هذا القول تجوز ؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد : الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه ، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح ، قال : والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى : {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة : وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء ؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها ؛ ومنه قول المتلمس : فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور وأما الرق بالكسر فهو الملك ؛ يقال : عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس : أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب. قوله تعالى : {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} قال علي وابن عباس وغيرهما : هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه : هو بيت في السماء السادسة. وقيل : في السماء الرابعة ؛ روى أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه" ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري : سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال : فما البيت المعمور ؟ قال : بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في "الصحاح" : والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه : حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء : "ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم" وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أتيت بالبراق" الحديث ؛ وفيه : "ثم عرج بنا إلى السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه" . وعن ابن عباس أيضا قال : لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا ، سبعة في السموات. وسبعة في الأرضين والكعبة ، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن : البيت المعمور هو الكعبة ، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس ، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة ، وهو أول ببت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس : إن البيت المعمور كان ![]()
__________________
|
#670
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (17) سُورَةُ الطور من صــ 61 الى صــ 70 الحلقة (670) في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام ، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه ، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا ، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور ، قال : فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان ؛ قال الله تعالى : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحح : 26] . قوله تعالى : {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء سماها سقفا ؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت ؛ بيانه : {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء : 32] . وقال ، ابن عباس : هو العرش وهو سقف الجنة . {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال مجاهد : الموقد ؛ وقد جاء في الخبر : "إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا" . وقال قتادة : المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب : إذا شاء طالع سجورة ... ترى حولها النبع والساسما يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل : للمسعر مسجر ؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى : {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير : 6] أي أوقدت ؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب : قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ قال : البحر. قال ما أراك إلا صادقا ، وتلا : . {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير : 6] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب : يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم ؛ فهذا قول وقال ابن عباس : المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور أي فارع ، قال ابن أبي داود : ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل : المسجور أي المفجور ؛ دليله : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار : 3] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين : سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال : هو بحر دون العرش. وقال علي : تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس : المسجور المختلط العذب بالملح. قلت : إليه يرجع معنى {فُجِّرَتْ} في أحد التأويلين ؛ أي فجر عذبها في مالحها : والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المسجور المحبوس. قوله تعالى : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب القسم ؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر ، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب {وَالطُّورِ} إلى قوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ {وَالطُّورِ} حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فبكى الحسن وبكى أصحابه ؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين ، فرغب إلى الصلح بينهما ، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين ، فأحلفه بأول {وَالطُّورِ} إلى أن قال له قل {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} إن كنت كاذبا ؛ فقالها فخرج فكسر من حينه. الآية : 9 - 16 {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قوله تعالى : {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} العامل في يوم قوله : {وَاقِعٌ} أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة : مار الشيء يمور مورا ، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة ، أي الطويلة ، والتمور مثله. وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض. مجاهد : تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش : تكفأ ، وأنشد للأعشى : كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير : وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل وقال ابن عباس : تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل : يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة : . .. فوق مور معبد والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه ، قال الشاعر : على ظهر موار الملاط حصان الملاط الجنب. وقولهم : لا أدري أغار أم مار ؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل : إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره ؛ قاله ابن بحر . {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} قال مقاتل : تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل : تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا ؛ بيانه {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل : 88] . وقد مضى هذا المعنى في "الكهف" . {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {وَيْلٌ} كلمة تقال للهالك ، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي في تردد في الباطل ، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل : في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في "التوبة" . قوله تعالى : {يََوْمَ يُدَعُّونَ} {يََوْمَ} بدل من يومئذ. و {يُدَعُّونَ} معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف ، يقال : دععته أدعه دعا أي دفعته ، ومنه قوله تعالى : {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون : 2] . وفي التفسير : إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم ، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة : {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدنيا. قوله تعالى : {أَفَسِحْرٌ هَذَا} استفهام معناه التوبيخ والتقريع ؛ أي يقال لهم : {أَفَسِحْرٌ هَذَا} الذي ترون الآن بأعينكم {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} وقيل : {أَمْ} بمعنى بل ؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها . {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ . {سَوَاءٌ} خبره محذوف ، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء ، كما أخبر عنهم أنهم يقولون : {سََوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم : 21] . {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . الآية : 17 - 20 {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا {فَاكِهِينَ} أي ذوي فاكهة كثيرة ؛ يقال : رجل فاكه أي ذو فاكهة ، كما يقال : لابن وتامر ؛ أي ذو لبن وتمر ؛ قال : وغررتني وزعمت أنـ ... ـك لابنٌ بالصيف تامر أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره : {فَاكِهِينَ} بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره ؛ يقال : فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في "الدخان" القول في هذا. {بِمَا آتَاهُمْ} أي أعطاهم {رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم ذلك . {هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج : أي ليهنئكم ما صرتم إليه. {هَنِيئاً} وقيل : أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل : أي كلوا واشربوا هنئتم . {هَنِيئاً} فهو صفة في موضع المصدر .. {هَنِيئاً} أي حلالا. وقيل : لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل : . {هَنِيئاً} أي لا تموتون ؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء. قوله تعالى : {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ} سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره : متكئين على نمارق سرر. {مَصْفُوفَةٍ} قال ابن الأعرابي : أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا ؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له ؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس : هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير ما بين مكة وأيلة. {وزوجناهم بحور عين} أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب : تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة ؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال : وقول الله عز وجل : {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي قرناهم بهن ؛ من قول الله تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات : 22] أي وقرناءهم. وقال الفراء : تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين. الآية : 21 - 24 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} قرأ العامة {وَاتَّبَعَتْهُمْ} بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو {وَأتْبَعَنَاهُمْ} بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون ؛ أعتبارا بقوله : {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} ليكون الكلام على نسق واحد. {ذُرِّيَّتَهُمْ} الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون {ذُرِّيَّتَهُمْ} على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون {ذُرِّيَّتَهُمْ} على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه ؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات : الأولى أنه قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه ، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه" ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتْبَعَنَاهُمْ ذُرِّيَاتِهِمْ بِإِيمَانٍ} الآية. قال أبو جعفر : فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون ؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وعن ابن عباس أيضا أنه قال : إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان ؛ قال المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار ، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى : {بِإِيمَانٍ} في موضع الحال من المفعولين ، وكان التقدير {بِإِيمَانٍ} من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله : {بِإِيمَانٍ} حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس : أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه : إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء ، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء ؛ فالأباء داخلون في اسم الذرية ؛ كقوله تعالى : {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس : 41] . وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ": إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به" . وقالت خديجة رضي الله عنها : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي : "هما في النار" فلما رأى الكراهية في وجهي قال : "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما" قالت : يا رسول الله فولدي منك ؟ قال : "في الجنة" ثم قال : "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية. قوله تعالى : {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم ، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال ابن زيد : المعنى {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل ؛ فالهاء والميم على ، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة {آَلَتْنَاهُمْ} بالمد ؛ قال ابن الأعرابي : الته يألته ألتا ، وآلته يولته إيلاتا ، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. وفي الصحاح : ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه ، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى ، ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ "الحجرات" . قوله تعالى : {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قيل : يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس : ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم ، ولهذا قال : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر : 38] . وقيل : هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله ، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم. قوله تعالى : {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله ، أمدهم بها غير الذي كان لهم. {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس : إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره ؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل : وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وقال امرؤ القيس : فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال وقد مضى هذا في "والصافات" . {لا لَغْوٌ فِيهَا} أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو {وَلا تَأْثِيمٌ} ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم ؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل : {لا لَغْوٌ فِيهَا} أي في الجنة. قال ابن عطاء : أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن ، وسقاتهم الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ، وريحانهم وتحيتهم من عند الله ، والقوم أضياف الله! {وَلا تَأْثِيمٌ} أي ولا كذب ؛ قاله ابن عباس. الضحاك : يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو : {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في "البقرة" عند قوله تعالى : {وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة : 254] والحمد لله. قوله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب ؛ ودليله : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف : 71] ، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الصافات : 45] . ثم قيل : هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم ، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل : إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل : هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي : لا يكبرون أبدا {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} في الحسن والبياض {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} في الصدف ، والمكنون المصون. وقوله تعالى : {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة : 17] . قيل : هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة ، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك" . وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه" . وعن الحسن أنهم قالوا : يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم ؟ فقال : "ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب" . قال الكسائي : كننت الشيء سترته وصنته من الشمس ، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد : كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا ؛ تقول : كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة ومكنة. الآية : 25 - 28 {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} قوله تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس : إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل : في الجنة {يَتَسَاءَلُونَ} أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة ، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل : يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة ؟ {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي قال كل مسؤول منهم لسائله : {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله . {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالجنة والمغفرة. وقيل : بالتوفيق والهداية . {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} قال الحسن : {السَّمُومِ} اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل : هو النار كما تقول جهنم. وقيل : نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث ؛ يقال منه : سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد تكون بالليل ، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار ؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر ؛ قال الراجز : اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا ألومه قوله تعالى : {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل : {نَدْعُوهُ} أي نعبده. {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} وقرأ نافع والكسائي {أَنَّهُ} بفتح الهمزة ؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و {الْبَرُّ} اللطيف ؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا : أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج. ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |