تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 56 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4952 - عددالزوار : 2055896 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4527 - عددالزوار : 1323728 )           »          احمى أسرتك وميزانيتك.. دليلك الشامل لشراء أفضل اللحوم الطازجة والمجمدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          4 خطوات تقلل من شيب الشعر وتجعله صحيا وحيويا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          4 وصفات سموزي مناسبة للرجيم.. نكهات لذيذة لحر الصيف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          طريقة عمل الفراخ في المقلاة الهوائية بطعم حكاية.. السر في العسل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          وصفات طبيعية لتفتيح الأندر أرم.. تقشير آمن وترطيب للبشرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          4 أفكار مختلفة لتصميمات مطبخ عصري.. موضة 2025 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          خلصي بيتك من السموم في 5 خطوات.. أهمها تغيير أدوات الطهي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          7 خضراوات تحتوي على فيتامين سي أكثر من البرتقال.. هتنور وشك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #551  
قديم 08-07-2025, 02:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 321 الى صــ 330
الحلقة (551)






الآية : [87] {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين}
الآية : [88] {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لأعدائه وقيل : هو بشارة له بالجنة والأول أكثر وهو قول جابر بن عبدالله وابن عباس ومجاهد وغيرهم قال القتبي : معاد الرجل بلده لأنه ينصرف ثم يعود وقال مقاتل : خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير طريق مخافة الطلب ، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فقال له جبريل إن الله يقول : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي إلى مكة ظاهرا عليها قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالجحفة ليست مكية ولا مدنية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {إِلَى مَعَادٍ} قال : إلي الموت وعن مجاهد أيضا وعكرمة والزهري والحسن : إن المعنى لرداك إلي يوم القيامة ، وهو اختيار الزجاج يقال : بيني وبينك المعاد ؛ أي يوم القيامة ؛ لأن الناس يعودون فيه أحياء {فَرَضَ} معناه أنزل وعن مجاهد أيضا وأبي مالك وأبي صالح : {إِلَى مَعَادٍ} إلي الجنة وهو قول أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضا ؛ لأنه دخلها ليلة الإسراء وقيل : لأن أباه آدم خرج منها. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ} أي قل لكفار مكة إذا قالوا إنك لفي ضلال مبين {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أنا أم أنتم.
قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي ما علمت أننا نرسلك إلي الخلق وننزل عليك القرآن. {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال الكسائي : هو استثناء منقطع بمعنى لكن. {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} أي عونا لهم ومساعدا. وقد تقدم في هذه السورة.
قوله تعالى : {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم ، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك وقرأ يعقوب : {يَصُدُّنَّكَ} مجزوم النون وقرئ : {يُصُِدُّنَّكَ} من أصده بمعنى صدره وهى لغة في كلب قال الشاعر :
أناس أصدرا الناس بالسيف عنهم ... صدود السواقي عن أنوف الحوائم
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي إلى التوحيد وهذا يتضمن المهادنة والموادعة وهذا كله منسوخ بآية السيف وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تعظيم أوثانهم ، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أم الغرانيق على ما تقدم والله أعلم. {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي لا تعبد معه غيره فإنه لا إله إلا هو نفي لكل معبود وإثبات لعبادته. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال مجاهد : معناه إلا هو وقال الصادق : دينه وقال أبو العالية وسفيان : أي إلا ما أريد به وجهه ؛ أي ما يقصد إليه بالقربة قال :
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وقال محمد بن يزيد : حدثني الثوري قال سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فقال : إلا جاهه ، كما تقول لفلان وجه في الناس أي جاه. {لَهُ الْحُكْمُ} في الأولى والآخرة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . قال الزجاج : {وَجْهَهُ} منصوب على الاستثناء ، ولو كان في غير القرآن كان إلا وجهه بالرفع ، بمعنى كل شيء غير وجهه هالك كما قال :
وكل أخ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بمعنى ترجعون إليه.
تمت سورة القصص والحمد لله
"صفحة رقم 323"
تفسير سورة العنكبوت
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ومدنية كلها في أحد قولي بن عباس وقتادة وفي القول الآخر لهما وهو قول يحيى بن سلام أنها مكية إلا عشر آيات من أولها فإنها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نزلت بين مكة والمدينة وهي تسع وستون آية بسم الله الرحمن الرحيم
العنكبوت : ) 1 ( الم
)
العنكبوت 1 : 3 (

قوله تعالى : ) الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولو آمنا وهم لا يفتنون ( تقدم القول في أوائل السور وقال بن عباس : المعنى أنا الله أعلم وقيل : هو اسم للسورة وقيل اسم للقرآن أحسب استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن أن يتركوا في موضع نصب ب حسب وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه وأن الثانية من أن يقولوا في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا والجهة الأخرى أن يكون على التكرير والتقدير الم أحسب الناس أن يتركوا أحسبوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون قال بن عباس وغيره : يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين قال مجاهد وغيره : فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة قال بن عطية : وهذه الآية وإن كانت
"صفحة رقم 324"
نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) موجود حكمها بقية الدهر وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك وإذا اعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر قلت : ما أحسن ما قاله ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه وقال مقاتل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ : ) سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة ) فجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت : الم أحسب الناس أن يتركوا وقال الشعبي : نزل مفتتح هذه السورة في أناس كانوا بمكة من المسلمين فكتب إليهم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الحديبية أنه لا يقبل منكم إقرار الإسلام حتى تهاجروا فخرجوا فأتبعهم المشركون فآذوهم فنزلت فيهم هذه الآية : الم أحسب الناس أن يتركوا فكتبوا إليهم : نزلت فيكم آية كذا فقالوا : نخرج وإن اتبعنا أحد قاتلناه فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل فيهم : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وهم لا يفتنون يمتحنون أي أظن الذين جزعوا من أذى المشركين أن يقنع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بما يتبين به حقيقة إيمانهم قوله تعالى : ) ولقد فتنا الذين من قبلهم ( أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه وروى البخاري عن خباب بن الأرت : قالوا شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال : ) قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) وخرج بن ماجة عن
"صفحة رقم 325"
أبي سعيد الخدري قال : دخلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت : يا رسول الله ما أشدها عليك قال : ) إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر ) قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال : ) الأنبياء ) وقلت : ثم من قال ) ثم الصالحون أن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ) وروى سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال : ) الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة ) وروى عبد الرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير فركب يوما فأخذه السبع فأكله فقال عيسى : يا رب وزيري في دينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم سلطت عليه كلبا فأكله قال : نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة وقال وهب : قرأت في كتاب رجل من الحواريين : إذا سلك بك سبيل البلاء فقر عينا فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك فقد خولف بك عن سبيلهم قوله تعالى : ) فليعلمن الله الذين صدقوا ( أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم وقد مضى هذا المعنى في البقرة وغيرها قال الزجاج : ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه وقد علم أنه سيقع وقال النحاس : فيه قولان أحدهما أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق والكاذبين مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق ويكون المعنى فليبينن الله الذي صدقوا فقالوا نحن مؤمنون
"صفحة رقم 326"
واعتقدوا مثل ذلك والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق وهو الصلب والكاذبين مشتقا من كذب إذا انهزم فيكون المعنى فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا كما قال الشاعر : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا فجعل ليعلمن في موضع فليبينن مجازا وقراءة الجماعة : فليعلمن بفتح الياء واللام وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قاله النحاس ويحتمل ثلاثة معان : الأول أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا بمعنى يوقفهم على ما كان منهم الثاني أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين أي يفضحهم ويشهرهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر وذلك في الدنيا والآخرة : الثالث أن يكون ذلك من العلامة أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) من أسر سريرة ألبسه الله رداءها )
العنكبوت : ) 4 ( أم حسب الذين . . . . .
)
العنكبوت 4 : 7 (

قوله تعالى : ) أم حسب الذين يعملون السيئات ( أي الشرك ) أن يسبقونا ( أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون قال بن عباس : يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبه وعتبه والوليد بن عتبه وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل ) ساء ما يحكمون ( أي بئس الحكم ما حكموا في صفات
"صفحة رقم 327"
ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شيء وما في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون ويجوز أن تكون ما في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم وهذا قول الزجاج وقدرها بن كيسان تقديرين آخرين خلاف ذينك : أحدهما أن يكون موضع ما يحكمون بمنزلة شيء واحد كما تقول : أعجبني ما صنعت أي صنيعك ف ما والفعل مصدر في موضع رفع التقدير ساء حكمهم والتقدير الآخر أن تكون ما لا موضع لها من الإعراب وقد قامت مقام الاسم لساء وكذلك نعم وبئس قال أبو الحسن بن كيسان : وأنا أختار أن أجعل ل ما موضعا في كل ما أقدر عليه نحو قوله عز وجل : فبما رحمة من الله وكذا فبما نقضهم وكذا أيما الأجلين قضيت ما في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها وكذا إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة ما في موضع نصب وبعوضة تابع لها قوله تعالى : ) من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ( يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي في وصف عسال : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وأجمع أهل التفسير على أن المعنى : من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه ذكره النحاس قال الزجاج : معنى يرجو لقاء الله ثواب الله ومن في موضع رفع بالابتداء وكان في موضع الخبر وهي في موضع جزم بالشرط ويرجو في موضع خبر كان والمجازاة ) فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ( قوله تعالى : ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ( أي ومن جاهد في الدين وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات فإنما يسعى لنفسه أي ثواب ذلك كله له ولا يرجع إلى الله نفع من ذلك ) إن الله لغني عن العالمين ( أي عن أعمالهم وقيل : المعنى من جاهد عدوة لنفسه لا يريد وجه الله فليس لله حاجة بجهاده
"صفحة رقم 328"
قوله تعالى : ) والذين آمنوا ( أي صدقوا ) وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ( أي لنغطينها عنهم بالمغفرة لهم ) ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ( أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعات ثم قيل : يحتمل أن تكفر عنهم كل معصية عملوها في الشرك ويثابوا على ما عملوا من حسنة في الإسلام ويحتمل أن تكفر عنهم سيئاتهم في الكفر والإسلام ويثابوا على حسناتهم في الكفر والإسلام
العنكبوت : ) 8 ( ووصينا الإنسان بوالديه . . . . .
)
العنكبوت 8 : 9 (

قوله تعالى : ) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ( نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال : أنزلت في أربع آيات فذكر قصة فقالت أم سعد : أليس قد أمر الله بالبر والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية ) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ( الآية قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وروي عن سعد أنه قال : كنت بارا بأمي فأسلمت فقالت : لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ويقال يا قاتل أمه وبقيت يوما ويوما فقلت : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت ونزلت : ) وإن جاهداك لتشرك بي ( الآية وقال بن عباس : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه وقد فعلت أمه مثل ذلك وعنه أيضا : نزلت في جميع الأمة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صديق وحسنا نصب عند البصريين على التكرير أي ووصيناه حسنا وقيل : هو على القطع تقديره ووصيناه بالحسن كما تقول وصيته خيرا أي
"صفحة رقم 329"
بالخير وقال أهل الكوفة : تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا فيقدر له فعل وقال الشاعر : عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيرا بها كأنما خافونا أي يوصينا أن نفعل بها خيرا كقوله : فطفق مسحا أي يمسح مسحا وقيل : تقديره ووصيناه أمرا ذا حسن فأقيمت الصفة مقام الموصوف وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل : معناه ألزمناه حسنا وقراءة العامة : حسنا بضم الحاء وإسكان السين وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والضحاك : بفتح الحاء والسين وقرأ الجحدري : إحسانا على المصدر وكذلك في مصحف أبي التقدير : ووصينا الإنسان أن يحسن إحسانا ولا ينتصب بوصينا لأنه قد استوفى مفعوليه ) إلي مرجعكم ( وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر ) فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ( كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحرك النفوس إلى نيل مراتبهم وقوله : لندخلنهم في الصالحين مبالغة على معنى فالذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته وإذا تحصل للمؤمن هذا الحكم تحصل ثمرته وجزاؤه وهو الجنة
العنكبوت : ) 10 ( ومن الناس من . . . . .
)
العنكبوت 10 : 11 (

قوله تعالى : ) ومن الناس من يقول آمنا بالله ( الآية نزلت في المنافقين كانوا يقولون آمنا بالله ) فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس ( أي أذاهم ) كعذاب الله ( في الآخرة فارتد عن إيمانه وقيل : جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذية في الله
"صفحة رقم 330"
)
ولئن جاء ( المؤمنين ) نصر من ربك ليقولن ( هؤلاء المرتدون ) إنا كنا معكم ( وهم كاذبون فقال الله لهم : ) أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ( يعني الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم وقال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم إفتتنوا وقال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك وقال عكرمة : كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر فقتل بعضهم فأنزل الله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فكتب بها المسلمون من المدينة إلى المسلمين بمكة فخرجوا فلحقهم المشركون فإفتتن بعضهم فنزلت هذه الآية فيهم وقيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر ثم أوذي وضرب فإرتد وإنما عذبه أبو جهل والحرث وكانا أخويه لأمه قال بن عباس : ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه ) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ( قال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة

العنكبوت : ) 12 ( وقال الذين كفروا . . . . .
)
العنكبوت 12 : 13 (

قوله تعالى : ) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ( أي ديننا ) ولنحمل خطاياكم ( جزم على الأمر قال الفراء والزجاج : هو أمر في تأويل الشرط والجزاء أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم كما قال فقلت إدعي وأدع فإن أندى لصوت أن ينادى داعيان أي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #552  
قديم 08-07-2025, 02:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 331 الى صــ 340
الحلقة (552)






"صفحة رقم 331"
إن دعوت دعوت قال المهدوي : وجاء وقوع ) إنهم لكاذبون ( بعده على الحمل على المعنى لأن المعنى إن إتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر وقع عليه التكذيب كما يوقع عليه الخبر قال مجاهد : قال المشركون من قريش نحن وأنتم لا نبعث فإن كان عليكم وزر فعلينا أي نحن نحمل عنكم ما يلزمكم والحمل ها هنا بمعنى الحمالة لا الحمل على الظهر وروي أن قائل ذلك الوليد بن المغيرة ) وليحملن أثقالكم وأثقالا مع أثقالهم ( يعني ما يحمل عليهم من سيئات من ظلموه بعد فراغ حسناتهم روي معناه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد تقدم في آل عمران قال أبو أمامة الباهلي : ) يؤتى بالرجل يوم القيامة وهو كثير الحسنات فلا يزال يقتص منه حتى تفنى حسناته ثم يطالب فيقول الله عز وجل إقتصوا من عبدي فتقول الملائكة ما بقيت له حسنات فيقول خذوا من سيئات المظلوم فإجعلوا عليه ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقال قتادة : من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء ونظيره قوله تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ونظير هذا قوله عليه السلام : ) من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) روي من حديث أبي هريرة وغيره وقال الحسن قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) من دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور من إتبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها بعده فعليه مثل أوزار من عمل بها ممن إتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ) ثم قرأ الحسن : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم قلت : هذا مرسل وهو معنى حديث أبي هريرة خرجه مسلم ونص حديث أنس بن مالك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن له مثل أوزار من إتبعه ولا ينقص من أوزارهم شيئا وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من إتبعه
"صفحة رقم 332"
ولا ينقص من أجورهم شيئا ) خرجه بن ماجة في السنن وفي الباب عن أبي جحيفة وجرير وقد قيل : إن المراد أعوان الظلمة وقيل : أصحاب البدع إذا اتبعوا عليها وقيل : محدثو السنن الحادثة إذا عمل بها من بعدهم والمعنى متقارب والحديث يجمع ذلك كله
العنكبوت : ) 14 ( ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
)
العنكبوت 14 : 15 (

قوله تعالى : ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا مسين عاما ( ذكر قصة نوح تسلية لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أي إبتلي النبيون قبلك بالكفار فصبروا وخص نوحا بالذكر لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض وقد امتلأت كفرا على ما تقدم بيانه في هود وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح على ما تقدم في هود عن الحسن وروي عن قتادة عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) أول نبي أرسل نوح ) قال قتادة : وبعث من الجزيرة وأختلف في مبلغ عمره فقيل : مبلغ عمره ما ذكره الله تعالى في كتابه قال قتادة : لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة وقال بن عباس : بعث نوح لأربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الغرق ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وعنه أيضا : أنه بعث وهو بن مئتين وخمسين سنة ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين وعاش بعد الطوفان مائتي سنة وقال وهب : عمر نوح ألفا وأربعمائة سنة وقال كعب الأحبار : لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان سبعين عاما فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين عاما وقال عون بن أبي شداد : بعث نوح وهو بن خمسين وثلاثمائة سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة
"صفحة رقم 333"
وخمسين سنة فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة سنة وخمسين سنة ونحوه عن الحسن قال الحسن : لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال : يا نوح كم عشت في الدنيا قال : ثلاثمائة قبل أن أبعث وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي وثلاثمائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان قال ملك الموت : فكيف وجدت الدنيا قال نوح : مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا وروي من حديث أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لما بعث الله نوحا إلى قومه بعثه وهو بن خمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا قال مثل رجل بنى له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر وقد قيل : دخل من أحدهما وجلس هنيهة ثم خرج من الباب الآخر وقال بن الوردي : بنى نوح بيتا من قصب فقيل له : لو بنيت غير هذا فقال : هذا كثير لمن يموت وقال أبو المهاجر : لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما في بيت من شعر فقيل له : يا نبي الله بن بيتا فقال : أموت اليوم أو أموت غدا وقال وهب بن منبه : مرت بنوح خمسمائة سنة لم يقرب النساء وجلا من الموت وقال مقاتل وجويبر : إن آدم عليه السلام حين كبر ورق عظمه قال يا رب إلى متى أكد وأسعى قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشرة أبطن وهو يومئذ بن ألف سنة إلا ستين عاما وقال بعضهم : إلا أربعين عاما والله أعلم فكان نوح بن لامك بن متوشلخ بن إدريس وهو أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم وكان إسم نوح السكن وإنما سمي السكن لأن الناس بعد آدم سكنوا إليه فهو أبوهم وولد له سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير وولد حام القبط والسودان والبربر وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وليس في شيء من هؤلاء خير وقال بن عباس : في ولد سام بياض وأدمة وفي ولد حام سواد وبياض قليل وفي ولد يافث وهم الترك والصقالبة الصفرة والحمرة وكان له ولد رابع وهو كنعان الذي غرق والعرب تسميه يام وسمي نوح نوحا لأنه ناح على قومه ألف سنة
"صفحة رقم 334"
إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى فإذا كفروا بكى وناح عليهم وذكر القشيري أبو القاسم عبد الكريم في كتاب التخبير له : يروى أن نوحا عليه السلام كان إسمه يشكر ولكن لكثرة بكائه على خطيئته أوحى الله إليه يا نوح كم تنوح فسمي نوحا فقيل : يا رسول الله فأي شيء كانت خطيئته فقال : ) أنه مر بكلب فقال في نفسه ما أقبحه فأوحى الله إليه أخلق أنت أحسن من هذا وقال يزيد الرقاشي : إنما سمي نوحا لطول ما ناح على نفسه فإن قيل : فلم قال : ألف سنة إلا خمسين عاما ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما ففيه جوابان : أحدهما أن المقصود به تكثير العدد فكان ذكره الألف أكثر في اللفظ وأكثر في العدد الثاني ما روي أنه أعطي من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده فلما حضرته الوفاة رجع في إستكمال الألف فذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن النقيصة كانت من جهته ) فأخذهم الطوفان ( قال بن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : المطر الضحاك : الغرق وقيل : الموت روته عائشة رضي الله عنها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنه قول الشاعر : أفناهم طوفان موت جارف قال النحاس : يقال لكل كثير مطيف بالجميع من مطر أو قتل أو موت طوفان ) وهم ظالمون ( جملة في موضع الحال وألف سنة منصوب على الظرفإلا خمسين عاما منصوب على الإستثناء من الموجب وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول لأنه مستغنى عنه كالمفعول فأما المبرد أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض كأنك قلت إستثنيت زيدا تنبيه روى حسان بن غالب بن نجيح أبو القاسم المصري حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن بن المسيب عن أبي بن كعب قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) كان جبريل يذاكرني فضل عمر فقلت يا جبريل ما بلغ فضل عمر قال لي يا محمد لو لبثت معك ما لبث نوح في قومه ما بلغت لك فضل عمر ) ذكرهالخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت البغدادي وقال : تفرد بروايته حسان بن غالب عن مالك وليس بثابت من حديثه قوله تعالى : ) فأنجيناه وأصحاب السفينة ( معطوف على الهاء ) وجعلناها آية للعالمين ( الهاء والألف في جعلناها للسفينة أو للعقوبة أو للنجاة ثلاثة أقوال
"صفحة رقم 335"
العنكبوت : ) 16 ( وإبراهيم إذ قال . . . . .
)
العنكبوت 16 : 19 (

قوله تعالى : ) وإبراهيم ( قال الكسائي : وإبراهيم منصوب ب أنجينا يعني أنه معطوف على الهاء وأجاز الكسائي أن يكون معطوفا على نوح والمعنى وأرسلنا إبراهيم وقول ثالث : أن يكون منصوبا بمعنى واذكر إبراهيم ) إذ قال لقومه اعبدوا الله ( أي أفردوه بالعبادة ) واتقوه ( أي اتقوا عقابه وعذابه ) ذلكم خير لكم ( أي من عبادة الأوثان ) إن كنتم تعلمون ( قوله تعالى : ) إنما تعبدون من دون الله أوثانا ( أي أصناما قال أبو عبيدة : الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة الجوهري : الوثن الصنم والجمع وثن وأوثان مثل أسد وآساد ) وتخلقون إفكا ( قال الحسن : معنى تخلقون تنحتون فالمعنى إنما تعبدون أوثانا وأنتم تصنعونها وقال مجاهد : الإفك الكذب والمعنى تعبدون الأوثان وتخلقون الكذب وقرأ أبو عبد الرحمن : وتخلقون وقرئ : تخلقون بمعنى التكثير من خلق وتخلقون من تخلق بمعنى تكذب وتخرص وقرئ : إفكا وفيه وجهان : أن يكون مصدرا نحو كذب ولعب والإفك مخففا منه كالكذب واللعب وأن يكون صفة على فعل أي خلقا أفكا أي ذا إفك وباطل وأوثانا نصب ب تعبدون وما كافة ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل ما إسما لأن وتعبدون صلته وحذفت الهاء لطول الاسم وجعل أوثان خبر إن فأما وتخلقون إفكا فهو منصوب بالفعل لا غير وكذا ) لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند
"صفحة رقم 336"
الله الرزق ( أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فإياه فاسألوه وحده دون غيره ) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ( فقيل : هو من قوله إبراهيم أي التكذيب عادة الكفار وليس على الرسل إلا التبليغ قوله تعالى : ) أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ( قراءة العامة بالياء على الخبر والتوبيخ لهم وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم قال أبو عبيد : لذكر الأمم كأنه قال أو لم ير الأمم كيف وقرأ أبو بكر والأعمش وبن وثاب وحمزة والكسائي : تروا بالتاء خطابا لقوله : وإن تكذبوا وقد قيل : وإن تكذبوا خطاب لقريش ليس من قول إبراهيم ) ثم يعيده ( يعني الخلق والبعث وقيل : المعنى أو لم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبدا وكذلك يبدأ خلق الإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا وخلق من الولد ولدا وكذلك سائر الحيوان أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة ) إن ذلك على الله يسير ( لأنه إذا أراد أمرا قال له كن فيكون
العنكبوت : ) 20 ( قل سيروا في . . . . .
)
العنكبوت 20 : 25 (

"صفحة رقم 337"
قوله تعالى : ) قل سيروا في الأرض ( أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض ) فانظروا كيف بدأ الخلق ( على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم لتعلموا بذلك كمال قدرة الله ) ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ( وقرأ أبو عمرو وبن كثير : النشاءة بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفة والرآفة وشبهه الجوهري : أنشأه الله خلقه والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبي عمرو بن العلاء ) إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ( أي بعدله ) ويرحم من يشاء ( أي بفضله ) وإليه تقلبون ( ترجعون وتردون ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ( قال الفراء : معناه ولا من في السماء بمعجزين الله وهو غامض في العربية للضمير الذي لم يظهر في الثاني وهو كقول حسان : فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء أراد ومن يمدحه وينصره سواء فأضمر من وقاله عبد الرحمن بن زيد ونظيره قوله سبحانه : وما منا إلا له مقام معلوم أي من له والمعنى إن الله لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء إن عصوه وقال قطرب : ولا في السماء لو كنتم فيها كما تقول : لا يفوتني فلان بالبصرة ولا ها هنا بمعنى لا يفوتني بالبصرة لو صار إليها وقيل : لا يستطيعون هربا في ألارض ولا في السماء وقال المبرد : والمعنى ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن تكون نكرة وفي السماء صفة لها فأقيمت الصفة مقام الموصوف ورد ذلك علي بن سليمان وقال : لا يجوز وقال : إن من إذا كانت نكرة فلا بد من وصفها فصفتها كالصلة ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة قال : والمعنى إن الناس خوطبوا بما يعقلون والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله كما قال : ولو كنتم في بروج مشيدة ) وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( ويجوز نصير بالرفع على الموضع وتكون من زائدة ) والذين كفروا بآيات الله ولقائه ( أي بالقرآن أو بما نصب من الأدلة والأعلام ) أولئك يئسوا من رحمتي ( أي من الجنة ونسب اليأس إليهم والمعنى أو يسوا وهذه
"صفحة رقم 338"
الآيات اعتراض من الله تعالى تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة ثم عاد الخطاب إلى قصة إبراهيم فقال : ) فما كان جواب قومه ( حين دعاهم إلى الله تعالى ) إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه ( ثم اتفقوا على تحريفه ) فأنجاه الله من النار ( أي من إذابتها ) إن في ذلك ( أي في إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقي فيها ) لآيات ( وقراءة العامة : جواب بنصب الباء على أنه خبر كان وأن قالوا في محل الرفع اسم كان وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار : جواب بالرفع على أنه اسم كان وأن في موضع الخبر نصبا ) وقال ( إبراهيم ) إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ( وقرأ حفص وحمزة : مودة بينكم وبن كثير وأبو عمرو والكسائي : مودة بينكم والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وبن وثاب والأعمش : مودة بينكم الباقون مودة بينكم فأما قراءة بن كثير ففيها ثلاثة أوجه ذكر الزجاج منها وجهين : أحدهما أن المودة إرتفعت على خبر إن وتكون ما بمعنى الذي والتقدير أن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدإ أي هي مودة أو تلك مودة بينكم والمعنى آلهتكم أو جماعتكم مودة بينكم قال بن الأنباري : ) أوثانا ( وقف حسن لمن رفع المودة بإضمار ذلك مودة بينكم ومن رفع المودة على أنها خبر إن لم يقف والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون مودة رفعا بالإبتداء وفي الحياة الدنيا خبره فأما إضافة مودة إلى بينكم فإنه جعل بينكم إسما غير ظرف والنحويون يقولون جعله مفعولا على السعة وحكى سيبويه : يا سارق الليلة أهل الدار ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف لعلة ليس هذا موضع ذكرها ومن رفع مودة ونونها فعلى معنى ما ذكر وبينكم بالنصب ظرفا ومن نصب مودة ولم ينونها جعلها مفعولة بوقوع الإتخاذ عليها وجعل إنما حرفا واحدا ولم يجعلها بمعنى الذي ويجوز نصب المودة على أنه مفعول من أجله كما تقول : جئتك ابتغاء الخير وقصدت فلانا مودة له بينكم بالخفض ومن نون مودة ونصبها فعلى ما ذكر بينكم بالنصب من غير إضافة قال بن الأنباري : ومن قرأ : مودة بينكم
"صفحة رقم 339"
و مودة بينكم لم يقف على الأوثان ووقف على الحياة الدنيا ) ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ( نتبرأ الأوثان من عبادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) ومأواكم النار ( هو خطاب لعبدة الأوثان الرؤساء منهم والأتباع وقيل : تدخل فيه الأوثان كقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
العنكبوت : ) 26 ( فآمن له لوط . . . . .
)
العنكبوت 26 : 27 (

قوله تعالى : ) فآمن له لوط ( لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردا وسلاما قال بن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان بن أخته وآمنت به سارة وكانت بنت عمه ) وقال إني مهاجر إلى ربي ( قال النخعي وقتادة : الذي قال : إني مهاجر إلى ربي هو إبراهيم عليه السلام قال قتادة هاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه بن أخيه لوط بن هاران بن تارخ وامرأته سارة قال الكلبي : هاجر من أرض حران إلى فلسطين وهو أول من هاجر من أرض الكفر قال مقاتل : هاجر إبراهيم وهو بن خمس وسبعين سنة وقيل : الذي قال : إني مهاجر إلى ربي لوط عليه السلام ذكر البيهقي عن قتادة قال : أول من هاجر إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قتادة : سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول : خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أرض الحبشة فأبطأ على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خبرهم فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته قال : ) على أي حال رأيتهما ) قالت : رأيته وقد حمل
"صفحة رقم 340"
امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط ) قال البيهقي : هذا في الهجرة الأولى وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلى ربي ( أي إلى رضا ربي وإلى حيث أمرني ) إنه هو العزيز الحكيم ( تقدم وتقدم الكلام في الهجرة فيالنساء وغيرها قوله تعالى : ) ووهبنا له إسحاق ( أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولد وإنما وهب له إسحاق من بعد إسماعيل ويعقوب من إسحاق ) وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ( فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه ووحد الكتاب لأنه أراد المصدر كالنبوة والمراد التوراة والإنجيل والفرقان فهو عبارة عن الجمع فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم والإنجيل على عيسى من ولده والفرقان على محمد من ولده ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين ) وآتيناه أجره في الدنيا ( يعني اجتماع أهل الملل عليه قاله عكرمة وروى سفيان عن حميد بن قيس قال : أمر سعيد بن جبير إنسانا أن يسأل عكرمة عن قوله جل ثناؤه : وآتيناه أجره في الدنيا فقال عكرمة : أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منا فقال سعيد بن جبير : صدق وقال قتادة : هو مثل قوله : وآتيناه في الدنيا حسنة أي عاقبة وعملا صالحا وثناء حسنا وذلك أن أهل كل دين يتولونه وقيل : آتيناه أجره في الدنيا أن أكثر الأنبياء من ولده ) وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( ليس في الآخرة داخلا في الصلة وإنما هو تبيين وقد مضى في البقرة بيانه وكل هذا حث على الاقتداء بإبراهيم في الصبر على الدين الحق
العنكبوت : ) 28 ( ولوطا إذ قال . . . . .
)
العنكبوت 28 : 35 (





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #553  
قديم 08-07-2025, 02:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 341 الى صــ 350
الحلقة (553)






"صفحة رقم 341"
قوله تعالى : ) ولوطا إذ قال لقومه ( قال الكسائي : المعنى وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا قال : وهذا الوجه أحب إلي ويجوز أن يكون المعنى واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا أو محذرا ) أئنكم لتأتون الفاحشة ليبين أنها زنى كما قال الله تعالى ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة الإسراء من لاستغراق الجنس أي لم يكن اللواط في أمة قبل قوم لوط والملحدون يزعمون أن ذلك كان قبلهم والصدق ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( أئنكم تقدم القراءة في هذا وبيانها في سورة الأعراف وتقدم قصة لوط وقومه في الأعراف وهود أيضا ) وتقطعون السبيل ( قيل : كانوا قطاع الطريق قاله بن زيد وقيل : كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة حكاه بن شجرة وقيل : إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال قاله وهب بن منبه أي استغنوا بالرجال عن النساء قلت : ولعل الجميع كان فيهم فكانوا يقطعون الطريق لأخذ الأموال والفاحشة ويستغنون عن النساء بذلك ) وتأتون في ناديكم المنكر ( النادي المجلس واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه فقالت فرقة : كانوا يخذفون النساء بالحصى ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هانئ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت أم هانئ : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
"صفحة رقم 342"
عن قول الله عز وجل : ) وتأتون في ناديكم المنكر ( قال : ) كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه فذلك المنكر الذي كانوا يأتونه ) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وذكره النحاس والثعلبي والمهدوي والماوردي وذكر الثعلبي قال معاوية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل قصعة فيها الحصى للخذف فإذا مر بهم عابر قذفوه فأيهم أصابه كان أولى به ) يعني يذهب به للفاحشة فذلك قوله : ) وتأتون في ناديكم المنكر ( وقالت عائشة وبن عباس والقاسم بن أبي بزة والقاسم بن محمد : إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وقال منصور عن مجاهد كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا وعن مجاهد : كان من أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم قال بن عطية : وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالتناهي واجب قال مكحول : في هذه الأمة عشرة من أخلاق قوم لوط : مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار وتنقيض الأصابع والعمامة التي تلف حول الرأس والتشابك ورمي الجلاهق والصفير والخذف واللوطية وعن بن عباس قال : إن قوم لوط كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة منها أنهم يتظالمون فيما بينهم ويشتم بعضهم بعضا ويتضارطون في مجالسهم ويخذفون ويلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات ويتناقرون بالديكة ويتناطحون بالكباش ويطرفون أصابعهم بالحناء وتتشبه الرجال بلباس النساء والنساء بلباس الرجال ويضربون المكوس على كل عابر ومع هذا كله كانوا يشركون بالله وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسحاق فلما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج فقالوا : ) أئتنا بعذاب الله ( أي إن ذلك لا يكون ولا يقدر عليه وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا ثم استنصر
"صفحة رقم 343"
لوط عليه السلام ربه فبعث عليهم ملائكة لعذابهم فجاؤوا إبراهيم أولا مبشرين بنصرة لوط على قومه حسبما تقدم بيانه في هود وغيرها وقرأ الأعمش ويعقوب وحمزة والكسائي : ) لننجينه وأهله ( بالتخفيف وشدد الباقون وقرأ بن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي : ) إنا منجوك وأهلك ( بالتخفيف وشدد الباقون وهما لغتان : أنجى ونجى بمعنى وقد تقدم وقرأ بن عامر : ) إنا منزلون ( بالتشديد وهي قراءة بن عباس الباقون بالتخفيف وقوله : ) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ( قال قتادة : هي الحجارة التي أبقيت وقاله أبو العالية وقيل : إنه يرجم بها قوم من هذه الأمة وقال بن عباس : هي آثار منازلهم الخربة وقال مجاهد : هو الماء الأسود على وجه الأرض وكل ذلك باق فلا تعارض
العنكبوت : ) 36 ( وإلى مدين أخاهم . . . . .
)
العنكبوت 36 : 37 (

قوله تعالى : ) وإلى مدين أخاهم شعيبا ( أي وأرسلنا إلى مدين وقد تقدم ذكرهم وفسادهم فيالأعرافوهود ) وارجوا اليوم الآخر ( وقال يونس النحوي : أي اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( أي لا تكفروا فإنه أصل كل فساد والعثو والعثي أشد الفساد عثي يعثي وعثا يعثو بمعنى واحد وقد تقدم وقيل : وارجوا اليوم الآخر أي صدقوا به فإن القوم كانوا ينكرونه
العنكبوت : ) 38 ( وعادا وثمود وقد . . . . .
)
العنكبوت 38 (

قوله تعالى : ) وعادا وثمود ( قال الكسائي : قال بعضهم هو راجع إلى أول السورة أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عادا وثمود قال : وأحب إلي أن يكون معطوفا على
"صفحة رقم 344"
فأخذتهم الرجفة وأخذت عادا وثمودا وزعم الزجاج : أن التقدير وأهلكنا عادا وثمودا وقيل : المعنى واذكر عادا إذ أرسلنا إليهم هودا فكذبوه فأهلكناهم وثمودا أيضا أرسلنا إليهم صالحا فكذبوه فأهلكناهم بالصيحة كما أهلكنا عادا بالريح العقيم ) وقد تبين لكم ( يا معشر الكفار ) من مساكنهم ( بالحجر والأحقاف آيات في إهلاكهم فحذف فاعل التبيين ) وزين لهم الشيطان أعمالهم ( أي أعمالهم الخسيسة فحسبوها رفيعة ) فصدهم عن السبيل ( أي عن طريق الحق ) وكانوا مستبصرين ( فيه قولان : أحدهما وكانوا مستبصرين في الضلالة قاله مجاهد والثاني كانوا مستبصرين قد عرفوا الحق من الباطل بظهور البراهين وهذا القول أشبه لأنه إنما يقال فلان مستبصر إذا عرف الشيء على الحقيقة قال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم وقيل : أتوا ما أتوا وقد تبين لهم أن عاقبتهم العذاب
العنكبوت : ) 39 ( وقارون وفرعون وهامان . . . . .
)
العنكبوت 39 : 40 (

قوله تعالى : ) وقارون وفرعون وهامان ( قال الكسائي : إن شئت كان محمولا على عاد وكان فيه ما فيه وإن شئت كان على فصدهم عن السبيل وصد قارون وفرعون وهامان وقيل : أي وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل ) فاستكبروا في الأرض ( عن الحق وعن عبادة الله ) وما كانوا سابقين ( أي فائتين وقيل : سابقين في الكفر بل قد سبقهم للكفر قرون كثيرة فأهلكناهم ) فكلا أخذنا بذنبه ( قال الكسائي : فكلا منصوب ب أخذنا أي أخذنا كلا بذنبه ) فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ( يعني قوم لوط والحاصب ريح يأتي بالحصباء وهي الحصى الصغار وتستعمل في كل عذاب
"صفحة رقم 345"
)
ومنهم من أخذته الصيحة ( يعني ثمودا وأهل مدين ) ومنهم من خسقنا به الأرض ( يعني قارون ) ومنهم من أغرقنا ( قوم نوح وقوم فرعون ) وما كان الله ليظلمهم ( لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر

العنكبوت : ) 41 ( مثل الذين اتخذوا . . . . .
)
العنكبوت 41 : 43 (

قوله تعالى : ) مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت ( قال الأخفش : كمثل العنكبوت وقف تام ثم قص قصتها فقال : ) اتخذت بيتا ( قال بن الأنباري : وهذا غلط لأن اتخذت بيتا صلة للعنكبوت كأنه قال : كمثل التي اتخذت بيتا فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول وهو بمنزلة قوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا فيحمل صلة للحمار ولا يحسن الوقف على الحمار دون يحمل قال الفراء : هو مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا ولا يحسن الوقف على العنكبوت لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء فشبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به ) وإن أوهن البيوت ( أي أضعف البيوت ) لبيت العنكبوت ( قال الضحاك : ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها فشبهها ببيت العنكبوت ) لو كانوا يعلمون ( لو متعلقة ببيت العنكبوت أي لو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا وأن هذا مثلهم لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف وقال النحاة : إن تاء العنكبوت في آخرها مزيدة لأنها تسقط في التصغير والجمع وهي مؤنثة وحكى الفراء تذكيرها وأنشد : هلى هطالهم منهم بيوت كأن العنكبوت قد ابتناها
"صفحة رقم 346"
ويروى : على أهطالهم منهم بيوت قال الجوهري والهطال : اسم جبل والعنكبوت الدوبية المعروفة التي تنسج نسجا وفيها مهلهلا بين الهواء ويجمع عناكب وعناكب وعكاب وعكب وأعكب وقد حكي أنه يقال عنكب وعكنباة قال الشاعر : كأنما يسقط من لغامها بيت عكنباة على زمامها وتصغر فيقال عنيكب وقد حكى عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى وقال عطاء الخرساني : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان جالوت يطلبه ومرة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولذلك نهى عن قتلها ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : طهروا بيوتكم من نسخ العنكبوت فإنه تركه في البيوت يورث الفقر ومنع الخمير يورث الفقر قوله تعالى : ) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء ( ما بمعنى الذي ومن للتبعيض ولو كانت زائدة للتوكيد لانقلب المعنى والمعنى : إن الله يعلم ضعف ما يعبدون من دونه وقرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب : يدعون بالياء وهو اختيار أبي عبيد لذكر الأمم قبلها الباقون بالتاء على الخطاب قوله تعالى : ) وتلك الأمثال نضربها ( أي هذا المثل وغيره مما ذكر في البقرة والحج وغيرهما ) نضربها ( نبينها ) للناس وما يعقلها ( أي يفهمها ) إلا العالمون ( أي العالمون بالله كما روى جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه )
العنكبوت : ) 44 ( خلق الله السماوات . . . . .
)
العنكبوت 44 (

قوله تعالى : ) خلق الله السماوات والأرض بالحق ( أي بالعدل والقسط وقيل : بكلامه وقدرته وذلك هو الحق ) إن في ذلك لآية ( أي علامة ودلالة ) للمؤمنين ( المصدقين
"صفحة رقم 347"
العنكبوت : ) 45 ( اتل ما أوحي . . . . .
)
العنكبوت 45 (

فيه أربع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) اتل ( أمر من التلاوة والدءوب عليها وقد مضى في طه الوعيد فيمن أعرض عنها وفي مقدمة الكتاب الأمر بالحض عليها والكتاب يراد به القرآن الثانية قوله تعالى : ) وأقم الصلاة ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها وقد تقدم بيان ذلك في البقرة فلا معنى للإعادة الثالثة قوله تعالى : ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( يريد إن الصلاة الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب كما قال عليه السلام : ) أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ) قالوا : لا يبقى من درنه شيء قال : ) فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال فيه حديث حسن صحيح وقال بن عمر : الصلاة هنا القرآن والمعنى : الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر وعن الزنى والمعاصي قلت : ومنه الحديث الصحيح : ) قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) يريد قراءة الفاتحة وقال حماد بن أبي سليمان وبن جريج والكلبي : العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرا أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها قال بن عطية : وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه فذكر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ) إن الصلاة ستنهاه
"صفحة رقم 348"
)
فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ألم أقل لكم ) وفي الآية تأويل ثالث وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون فقيل المراد ب أقم الصلاة إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكما منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة والصلاة تشغل كل بدن المصلى فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه وأنه مطلع عليه ويراه صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة فهذا معنى هذه الأخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون قلت : لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد فإن الموت ليس له سن محدود ولا زمن مخصوص ولا مرض معلوم وهذا مما لا خلاف فيه وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال : إني واقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل كصلاتنا وليتها تجزي فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن بن مسعود وبن عباس والحسن والأعمش قولهم : ) من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا ) وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك غير صحيح السند قال بن عطية سمعت أبي رضي الله عنه يقول : فإذا قررنا ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله بل تتركه على حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر والبعد فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله وقيل لابن مسعود : إن فلانا كثير الصلاة فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها

"صفحة رقم 349"
قلت : وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث : ) لم تزده من الله إلا بعدا ولم يزدد بها من الله إلا مقتا ) إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته لغلبة المعاصي على صاحبها وقيل : هو خبر بمعنى الأمر أي لينته المصلي عن الفحشاء والمنكر والصلاة بنفسها لا تنهى ولكنها سبب الانتهاء وهو كقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وقوله : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون الرابعة قوله تعالى : ) ولذكر الله أكبر ( أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم قال معناه بن مسعود وبن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن وهو اختيار الطبري وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن بن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في قول الله عز وجل : ولذكر الله أكبر قال : ) ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ) وقيل : ذكركم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شيء وقيل : المعنى إن ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر وقال الضحاك : ولذكر الله عندما يحرم فيترك أجل الذكر وقيل : المعنى ولذكر الله للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير وأكبر يكون بمعنى كبير وقال بن زيد وقتادة : ولذكر الله أكبر من كل شيء أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر وقيل : ذكر الله يمنع من المعصية فإن من كان ذاكرا له لا يخالفه قال بن عطية : وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقب له وثواب ذلك أن يذكره الله تعالى كما في الحديث ) من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ) والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة لذكر العبد ربه قال الله عز وجل : فاذكروني أذكركم وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة
"صفحة رقم 350"
العنكبوت : ) 46 ( ولا تجادلوا أهل . . . . .
)
العنكبوت 46 : 47 (

فيه مسألتان : الأولى اختلف العلماء في قوله تعالى : ) ولا تجادلوا أهل الكتاب ( فقال مجاهد : هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة وقوله على هذا : إلا الذين ظلموا منهم معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلم 4 ة على الإطلاق وقيل : المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله بن سلام ومن آمن معه ) إلا بالتي هي أحسن ( أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك وقوله على هذا التأويل : ) إلا الذين ظلموا ( يريد به من بقي على كفره منهم كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم والآية على هذا أيضا محكمة وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله قاله قتادة إلا الذين ظلموا أي جعلوا لله ولدا وقالوا : يد الله مغلولة وإن الله فقير فهؤلاء المشركون الذين نصبوا الحرب ولم يؤدوا الجزية فانتصروا منهم قال النحاس وغيره : من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول واختار هذا القول بن العربي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #554  
قديم 08-07-2025, 02:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 351 الى صــ 360
الحلقة (554)






"صفحة رقم 351"
قال مجاهد وسعيد بن جبير : وقوله : إلا الذين ظلموا منهم معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية الثانية قوله تعالى : ) وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ( روى البخاري عن أبي هريرة : قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وروى عبد الله بن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل ) وفي البخاري : عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب
العنكبوت : ) 48 ( وما كنت تتلو . . . . .
)
العنكبوت 48 (

فيه ثلاث مسائل : الأولى قوله تعالى : ) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ( الضمير في ) قبله ( عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله ولا تختلف إلى أهل الكتاب بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك فلو كنت ممن يقرأ كتابا ويخط حروفا ) لارتاب المبطلون ( أي من أهل الكتاب وكان لهم في ارتيابهم متعلق وقالوا الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية قال النحاس : دليلا على نبوته لقريش لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم وزالت الريبة والشك
"صفحة رقم 352"
الثانية ذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال : ما مات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى كتب وأسند أيضا حديث أبي كبشة السلولي مضمنه : أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها قال بن عطية : وهذا كله ضعيف وقول الباجي رحمه الله منه قلت : وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعلي : ) اكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) فقال له المشركون : لو نعلم أنك رسول الله تابعناك وفي رواية بايعناك ولكن أكتب محمد بن عبد الله فأمر عليا أن يمحوها فقال علي : والله لا أمحاه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أرني مكانها ) فأراه فمحاها وكتب بن عبد الله قال علماؤنا رضي الله عنهم : وظاهر هذا أنه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده وكتب مكانها بن عبد الله وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال : فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الكتاب فكتب وزاد في طريق أخرى : ولا يحسن أن يكتب فقال جماعة بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده منهم السمناني وأبو ذر والباجي ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميا ولا معارض بقوله : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ولا بقوله : ) إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) بل رأوه زيادة في معجزاته واستظهارا على صدقه وصحة رسالته وذلك أنه كتب من غير تعلم لكتابه ولا تعاط لأسبابها وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها بن عبد الله لمن قرأها فكان ذلك خارقا للعادة كما أنه عليه السلام علم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ولا إكتساب فكان ذلك أبلغ في معجزاته وأعظم في فضائله ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة : ولا يحسن أن يكتب فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال كتب قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وقد أنكر هذا كثير من
"صفحة رقم 353"
متفقهة الأندلس وغيرهم وشددوا النكير فيه ونسبوا قائله إلى الكفر وذلك دليل على عدم العلوم النظرية وعدم التوقف في تكفير المسلمين ولم يتفطنوا لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة على أن المسألة ليست قطعية بل مستندها ظواهر أخبار أحاد صحيحة غير أن العقل لا يحيلها وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها قلت : وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة فيقال له : كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أميا لا يكتب وبكونه أميا في أمة أمية قامت الحجة وأفحم الجاحدون وانحسمت الشبهة فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية وإنما الآية ألا يكتب والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا وإنما معنى كتب وأخذ القلم أي أمر من يكتب به من كتابه وكان من كتبه الوحي بين يديه ( صلى الله عليه وسلم ) ستة وعشرون كاتبا الثالثة ذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : ) ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم ) قال القاضي : وهذا وإن لم تصح الرواية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ويمنع القراءة والكتابة قلت : هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى فإن قيل : فقد تهجى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين ذكر الدجال فقال : ) مكتوب بين عينيه ك ا ف ر ) وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أميا قال الله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب الآية وقال : ) إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) فكيف هذا فالجواب ما نص عليه ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث حذيفة والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا ففي حديث حذيفة ) يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ) فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميا وهذا من أوضح ما يكون جليا
"صفحة رقم 354"
العنكبوت : ) 49 ( بل هو آيات . . . . .
)
العنكبوت 49 (

قوله تعالى : ) بل هو آيات بينات ( يعني القرآن قال الحسن : وزعم الفراء في قراءة عبد الله بل هي آيات بينات المعنى بل آيات القرآن آيات بينات قال الحسن : ومثله هذا بصائر ولو كانت هذه لجاز نظيره : هذا رحمة من ربي قال الحسن : أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرؤون كتابهم إلا نظرا فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيون فقال كعب في صفة هذه الأمة : إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء ) في صدور الذين أوتوا العلم ( أي ليس هذا القرآن كما يقوله المبطلون من أنه سحر أو شعر ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه وهي كذلك في صدور الذين أوتوا العلم وهم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون به يحفظونه ويقرءونه ووصفهم بالعلم لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين وقال قتادة وبن عباس : بل هو يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب يجدونه مكتوبا عندهم في كتبهم بهذه الصفة أميا لا يقرأ ولا يكتب ولكنهم ظلموا أنفسهم وكتموا وهذا اختيار الطبري ودليل هذا القول قراءة بن مسعود وبن السميقع : بل هذا آيات بينات وكان عليه السلام آيات لا آية واحدة لأنه دل على أشياء كثيرة من أمر الدين فلهذا قال : بل هو آيات بينات وقيل : بل هو ذو آيات بينات فحذف المضاف ) وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( أي الكفار لأنهم جحدوا نبوته وما جاء به
العنكبوت : ) 50 ( وقالوا لولا أنزل . . . . .
)
العنكبوت 50 : 52 (

"صفحة رقم 355"
قوله تعالى : ) وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه ( هذا قول المشركين لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعناه هلا أنزل عليه آية كآيات الأنبياء قيل : كما جاء صالح بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى أي ) قل ( لهم يا محمد : ) إنما الآيات عند الله ( فهو يأتي بها كما يريد إذا شاء أرسلها وليست عندي ) وإنما أنا نذير مبين ( وقرأ بن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي : آية بالتوحيد وجمع الباقون وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى : قل إنما الآيات عند الله قوله تعالى : ) أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ( هذا جواب لقولهم لولا أنزل عليه آيات من ربه أي أو لم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا ولو أتيتهم بآيات موسى وعيسى لقالوا : سحر ونحن لا نعرف السحر والكلام مقدور لهم ومع ذلك عجزوا عن المعارضة وقيل : إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال : أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بكتف فيه كتاب فقال ) كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم ) فأنزل الله تعالى : أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب أخرجه أبو محمد الدارمي في مسنده وذكره أهل التفسير في كتبهم وفي مثل هذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر رضي الله عنه : ) لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي ) وفي مثله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) أي يستغنى به عن غيره وهذا تأويل البخاري رحمه الله في الآية وإذا كان لقاء ربه بكل حرف عشر حسنات فأكثر على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب فالرغبة عنه إلى غيره ضلال وخسران وغبن ونقصان ) إن في ذلك ( أي في القرآن ) لرحمة ( في الدنيا والآخرة وقيل : رحمة في الدنيا باستنقاذهم من الضلالة ) وذكرى ( في الدنيا بإرشادهم به إلى الحق ) لقوم يؤمنون ( قوله تعالى : ) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا ( أي قل للمكذبين لك كفى بالله شهيدا يشهد لي بالصدق فيما أدعيه من أني رسوله وأن هذا القرآن كتابه ) يعلم ما في السماوات والأرض ( أي لا يخفى عليه شيء وهذا إحتجاج عليهم في صحة شهادته عليهم لأنهم قد
"صفحة رقم 356"
أقروا بعلمه فلزمهم أن يقروا بشهادته ) والذين آمنوا بالباطل ( قال يحيى بن سلام : بإبليس وقيل : بعبادة الأوثان والأصنام قاله بن شجرة ) وكفروا بالله ( أي لتكذيبهم برسله وجحدهم لكتابه وقيل : بما أشركوا به من الأوثان وأضافوا إليه من الأولاد والأضداد ) أولئك هم الخاسرون ( أنفسهم وأعمالهم في الآخرة
العنكبوت : ) 53 ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا . . . . .
)
العنكبوت 53 : 55 (

قوله تعالى : ) ويستعجلونك بالعذاب ( لما أنذرهم بالعذاب قالوا لفرط الإنكار : عجل لنا هذا العذاب وقيل : إن قائل ذلك النضر بن الحرث وأبو جهل حين قالا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء وقولهم : ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وقوله : ) ولولا أجل مسمى ( في نزول العذاب قال بن عباس : يعني هو ما وعدتك ألا أعذب قومك وأؤخرهم إلى يوم القيامة بيانه : بل الساعة موعدهم وقال الضحاك : هو مدة أعمارهم في الدنيا وقيل : المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى قاله يحيى بن سلام وقيل : الوقت الذي قدره الله لهلاكهم وعذابهم قاله بن شجرة وقيل : هو القتل يوم بدر وعلى الجملة فلكل عذاب أجل لا يتقدم ولا يتأخر دليله قوله : لكل نبإ مستقر ) لجاءهم العذاب ( يعني الذي استعجلوه ) وليأتينهم بغتة ( أي فجأة ) وهم لا يشعرون ( أي لا يعلمون بنزوله عليهم ) يستعجلونك بالعذاب ( أي يستعجلونك وقد أعد لهم جهنم وأنها ستحيط بهم لا محالة فما معنى الإستعجال وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي أمية وأصحابه من المشركين حين قالوا : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا
"صفحة رقم 357"
قوله تعالى : ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ( قيل : هو متصل بما هو قبله أي يوم يصيبهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فإذا غشيهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فإذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم وإنما قال : ) من تحت أرجلهم ( للمقاربة وإلا فالغشيان من فوق أعم كما قال الشاعر : علفتها تبنا وماء باردا وقال آخر : لقد كان قواد الجياد إلى العدا عليهن غاب من قنى ودروع ) ويقول ذوقوا ( قرأ أهل المدينة والكوفة : نقول بالنون الباقون بالياء واختاره أبو عبيد لقوله : قل كفى بالله ويحتمل أن يكون الملك الموكل بهم يقول : ذوقوا والقراءتان ترجع إلى معنى أي يقول الملك بإمرنا ذوقوا
العنكبوت : ) 56 ( يا عبادي الذين . . . . .
)
العنكبوت 56 : 60 (

قوله تعالى : ) يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ( هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة في قول مقاتل والكلبي فأخبرهم الله تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب بل الصواب أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة لإظهار التوحيد بها وقال بن جبير وعطاء : إن الأرض التي فيها الظلم
"صفحة رقم 358"
والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق وقاله مالك وقال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا وقال مطرف بن الشخير : المعنى إن رحمتي واسعة وعنه أيضا : إن رزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض قال سفيان الثوري : إذا كنت بأرض غالية فانتقل إلى غيرها تملأ فيها جرابك خبزا بدرهم وقيل : المعنى : إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة ) فاعبدون ( حتى أورثكموها فإياي فاعبدون إياي منصوب بفعل مضمر أي فاعبدوا إياي فاعبدون فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني والفاء في قوله : فإياي بمعنى الشرط أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوني في غيره لأن أرضي واسعة قوله تعالى : ) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ( تقدم في آل عمران وإنما ذكره ها هنا تحقيرا لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه من مكة أنه يموت أو يجوع أو نحو هذا فحقر الله شأن الدنيا أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى وذكر الجزاء الذي ينالونه ثم نعتهم بقوله : ) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( وقرأ أبو عمر ويعقوب والجحدري وبن أبي إسحاق وبن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : يا عبادي بإسكان الياء وفتحها الباقون إن أرضي فتحها بن عامر وسكنها الباقون وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من فر بدينه من أرض إلى أرض ولو قيد شبر استوجب الجنة وكان رفيق محمد وإبراهيم ) عليهما السلام ثم إلينا ترجعون وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم : يرجعون بالياء لقوله : كل نفس ذائقة الموت وقرأ الباقون بالتاء لقوله : يا عبادي الذين آمنوا وأنشد بعضهم : الموت في كل حين ينشد الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا لا تركنن إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
"صفحة رقم 359"
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لها سكنا سقاهم الموت كأسا غير صافة صيرهم تحت أطباق الثرى رهنا قوله تعالى : ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبؤنهم من الجنة غرفا ( وقرأ بن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : لنثوينهم بالثاء مكان الباء من الثوى وهو الإقامة أي لنعطينهم غرفا يثوون فيها وقرأ رويس عن يعقوب والجحدري والسلمي : ليبوئنهم بالباء مكان النون الباقون ) لنبوئنهم ( أي لننزلهم غرفا جمع غرفة وهي العلية المشرفة وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ) قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال ) بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) وخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها ( فقام إليه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله قال : ) هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام ) وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب التذكرة والحمد لله قوله تعالى : ) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم
"صفحة رقم 360"
قلت : وهذا ضعيف يضعفه أنه عليه السلام كان يدخر لأهله قوت سنتهم اتفق البخاري عليه ومسلم وكانت الصحابة يفعلون ذلك وهم القدوة وأهل اليقين والأئمة لمن بعدهم من المتقين المتوكلين وقد روى بن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للمؤمنين بمكة حين أذاهم المشركون ) اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة ) قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا فنزلت : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم أي ليس معها رزقها مدخرا وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة وهذا أشبه من القول الأول وتقدم الكلام في كأين وأن هذه أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم والتقدير عند الخليل وسيبويه كالعدد أي كشيء كثير من العدد من دابة قال مجاهد : يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئا الحسن : تأكل لوقتها ولا تدخر لغد وقيل : لا تحمل رزقها أي لا تقدر على رزقها الله يرزقها أينما توجهت وإياكم وقيل : الحمل بمعنى الحمالة وحكى النقاش : أن المراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأكل ولا يدخر قلت : وليس بشيء لإطلاق لفظ الدابة وليس مستعملا في العرف إطلاقها على الآدمي فكيف على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد مضى هذا في النمل عند قوله : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم قال بن عباس : الدواب هو كل ما دب من الحيوان فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا بن آدم والنمل والفأر وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في محضنه ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها ) الله يرزقها وإياكم ( يسوى بين الحريص والمتوكل في رزقه وبين الراغب والقانع وبين الحيول والعاجز حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه وفي الصحيح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) وهو السميع ( لدعائكم وقولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة ) العليم ( بما في قلوبكم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #555  
قديم 08-07-2025, 03:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ الروم
من صــ 361 الى صــ 365
الحلقة (555)






"صفحة رقم 361"
العنكبوت : ) 61 ( ولئن سألتهم من . . . . .
)
العنكبوت 61 : 62 (

قوله تعالى : ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ( الآية لما عير المشركون المسلمين بالفقر وقالوا لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء وكان هذا تمويها وكان في الكفار فقراء أيضا أزال الله هذه الشبهة وكذا قول من قال إن هاجرنا لم نجد ما ننفق أي فإذا اعترفتم بأن الله خالق هذه الأشياء فكيف تشكون في الرزق فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن رزق العبد ولهذا وصله بقوله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ) فأنى يؤفكون ( أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي ) الله يبسط الرزق لمن يشاء ( أي لا يختلف أمر الرزق بالإيمان والكفر فالتوسيع والتقتير منه فلا تعيير بالفقر فكل شيء بقضاء وقدر ) إن الله بكل شيء عليم ( من أحوالكم وأموركم وقيل : عليم بما يصلحكم من إقتار وتوسيع
العنكبوت : ) 63 ( ولئن سألتهم من . . . . .
)
العنكبوت 63 : 64 (

قوله تعالى : ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء ( أي من السحاب مطرا ) فاحيا به الأرض من بعد موتها ( أي جدبها وقحط أهلها ) ليقولن الله ( أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الإعادة وإذا قدر على ذلك فهو القادر على إغناء المؤمنين فكرر تأكيدا ) قل الحمد لله ( أي على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته ) بل أكثرهم لا يعقلون (
"صفحة رقم 362"
أي لا يتدبرون هذه الحجج وقيل : الحمد لله على إقرارهم بذلك وقيل : على إنزال الماء وإحياء الأرض ) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ( أي شيء يلهى به ويلعب أي ليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات قال بعضهم : الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها وأنشد : تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمور وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور عفا الله عمن صير الهم واحدا وأيقن أن الدائرات تدور قلت : وهذا كله في أمور الدنيا من المال والجاه والملبس الزائد على الضروري الذي به قوام العيش والقوة على الطاعات وأما ما كان منها لله فهو من الآخرة وهو الذي يبقى كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام أي ما ابتغى به ثوابه ورضاه ) وإن الدارالآخرة لهي الحيوان ( أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها وزعم أبو عبيدة : أن الحيوان والحياة والحي بكسر الحاء واحد كما قال : وقد ترى إذ الحياة حي وغيره يقول : إن الحي جمع على فعول مثل عصي والحيوان يقع على كل شيء حي وحيوان عين في الجنة وقيل : أصل حيوان حييان فأبدلت إحداهما واوا لإجتماع المثلين ) لو كانوا يعلمون ( أنها كذلك
العنكبوت : ) 65 ( فإذا ركبوا في . . . . .
)
العنكبوت 65 : 66 (

"صفحة رقم 363"
قوله تعالى : ) فإذا ركبوا في الفلك ( يعني السفن وخافوا الغرق ) دعوا الله مخلصين له الدين ( أي صادقين في نياتهم وتركوا عبادة الأصنام ودعاءها ) فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ( أي يدعون معه غيره وما لم ينزل به سلطانا وقيل : إشراكهم أن يقول قائلهم لولا الله والرئيس أو الملاح لغرقنا فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين خلقه قوله تعالى : ) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا ( قيل : هما لام كي أي لكي يكفروا ولكي يتمتعوا وقيل : إذا هم يشركون ليكون ثمرة شركهم أن يجحدوا نعم الله ويتمتعوا بالدنيا وقيل : هما لام أمر معناه التهديد والوعيد أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا ودليل هذا قراءة أبي وتمتعوا بن الأنباري : ويقوي هذا قراءة الأعمش ونافع وحمزة : وليتمتعوا بجزم اللام النحاس : وليتمتعوا لام كي ويجوز أن تكون لام أمر لأن أصل لام الأمر الكسر إلا أنه أمر فيه معنى التهديد ومن قرأ وليتمتعوا بإسكان اللام لم يجعلها لام كي لأن لام كي لا يجوز إسكانها وهي قراءة بن كثير والمسيبي وقالون عن نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الباقون بكسر اللام وقرأ أبو العالية : ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون تهديد ووعيد
العنكبوت : ) 67 ( أو لم يروا . . . . .
)
العنكبوت 67 : 68 (

قوله تعالى : ) أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ( قال عبد الرحمن بن زيد : هي مكة وهم قريش أمنهم الله تعالى فيها ) ويتخطف الناس من حولهم ( قال الضحاك : يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا والخطف الأخذ بسرعة وقد مضى في القصص
"صفحة رقم 364"
وغيرها فأذكرهم الله عز وجل هذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة أي جعلت لهم حرما آمنا أمنوا فيه من السبي والغارة والقتل وخلصتهم في البر كما خلصتهم في البحر فصاروا يشركون في البر ولا يشركون في البحر فهذا تعجب من تناقض أحوالهم ) أفبالباطل يؤمنون ( قال قتادة : أفبالشرك وقال يحيى بن سلام : أفبإبليس ) وبنعمة الله يكفرون ( قال بن عباس : أفبعافية الله وقال بن شجرة : أفبعطاء الله وإحسانه وقال بن سلام : أفبما جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الهدى وحكى النقاش : أفبإطعامهم من جوع وأمنهم من خوف يكفرون وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الإستفهام قوله تعالى : ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ( أي لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا وإذا فعل فاحشة قال : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) أو كذب بالحق لما جاءه ( قال يحيى بن سلام : بالقرآن وقال السدي : بالتوحيد وقال بن شجرة : بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكل قول يتناول القولين ) أليس في جهنم مثوى للكافرين ( أي مستقر وهو استفهام تقرير
العنكبوت : ) 69 ( والذين جاهدوا فينا . . . . .
)
العنكبوت 69 (

قوله تعالى : ) والذين جاهدوا فينا ( أي جاهدوا الكفار فينا أي في طلب مرضاتنا وقال السدي وغيره : إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال قال بن عطية : فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته قال الحسن بن أبي الحسن : الآية في العباد وقال بن عباس وإبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما يعلمون وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ) من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم ) ونزع بعض العلماء إلى قوله : واتقوا الله ويعلمكم الله وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا قال الله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله وقال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد في الآية
"صفحة رقم 365"
قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر وقال سفيان بن عيينة لإبن المبارك : إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول : لنهدينهم وقال الضحاك : معنى الآية والذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبل الثبات على الإيمان ثم قال : مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم كذلك من لزم السنة في الدنيا سلم وقال عبد الله بن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال ونحوه قول عبد الله بن الزبير قال : تقول الحكمة من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين : أن يعمل بأحسن ما يعلمه ويجتنب أسوأ ما يعلمه وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير أي الذين هديناهم هم الذين جاهدوا فينا ) لنهدينهم سبلنا ( أي طريق الجنة قاله السدي النقاش : يوفقهم لدين الحق وقال يوسف بن أسباط : المعنى لنخلصن نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم ) وإن الله لمع المحسنين ( لام تأكيد ودخلت في مع على أحد وجهين : أن يكون إسما ولام التوكيد إنما تدخل على الأسماء أو حرفا فتدخل عليها لأن فيها معنى الإستقرار كما تقول إن زيدا لفي الدار ومع إذا سكنت فهي حرف لا غير وإذا فتحت جاز أن تكون إسما وأن تكون حرفا والأكثر أن تكون حرفا جاء لمعنى وتقدم معنى الإحسان والمحسنين في البقرة وغيرها وهو سبحانه معهم بالنصرة والمعونة والحفظ والهداية ومع الجميع بالإحاطة والقدرة فبين المعيتين بون


المجلد الرابع عشر
تفسير سورة الروم
الجزء 14 من الطبعة
تفسير سورة الروم
سورة الروم مكية كلها من غير خلاف وهي ستون آية

الآية : [1] {الم}
الآية : [2] {غُلِبَتِ الرُّومُ}
الآية : [3] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}
الآية : [4] {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}
الآية : [5] {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
قوله تعالى : {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ} روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت : {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ - إلى قول - يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} . قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس. قال : هذا حديث غريب من هذا الوجه. هكذا قرأ نصر بن علي الجهضمي {غََلَبَتِ الرُّومُ} . ورواه أيضا من حديث ابن عباس بأتم منه. قال ابن عباس في قول الله عز وجل : {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ} قال : غَلبت وغُلبت ، قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ؛ فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أما إنهم سيغلبون" فذكره أبو بكر لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس سنين ، فلم يظهروا ؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ألا جعلته"
إلى دون "- أراه قال العشر - قال قال أبو سعيد : والبضع ما دون العشرة. قال : ثم ظهرت الروم بعد ، قال : فذلك قوله { الم. غُلِبَتِ الرُّومُ - إلى قوله - وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} . قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب. ورواه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ} وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك نزل قول الله تعالى : {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة : {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ} . قال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى. وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان. وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ ثلاث سنين أو تسع سنين ؟ فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه ؛ قال فسموا بينهم ست سنين ؛ قال : فمضت الست سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله تعالى قال {فِي بِضْعِ سِنِينَ} قال : وأسلم عند ذلك ناس كثير. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى القشيري وابن عطية وغيرهما : أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال : أسركم أن غَلبت الروم ؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين. فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه - وقيل أبو سفيان بن حرب - : يا أبا فصيل - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب - أي نتراهن"
في ذلك فراهنهم أبو بكر. قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار ، وجعلوا الرهان خمس قلائص والأجل ثلاث سنين. وقيل : جعلوا الرهان ثلاث قلائص. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : "فهلا احتطت ، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل" ففعل أبو بكر ، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ؛ فغلبت الروم في أثناء الأجل. وقال الشعبي : فظهروا في تسع سنين. القشيري : المشهور في الروايات أن ظهور الروم كان في السابعة من غلبة فارس للروم ، ولعل رواية الشعبي تصحيف من السبع إلى التسع من بعض النقلة. وفي بعض الروايات : أنه جعل القلائص سبعا إلى تسع سنين. ويقال : إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار ؛ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وحكى النقاش وغيره : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت ؛ فكفل به ابنه عبد الرحمن ، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم. وقال الشعبي : لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس ؛ وربطوا خيلهم بالمدائن ، وبنوا رومية ؛ فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "تصدق به" فتصدق به. وقال المفسرون : إن سبب غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال ، فقال لها كسرى : أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم ؛ فقالت : هذا هرمز أروع من ثعلب وأحذر من صقر ، وهذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل ، وهذا شهر بزان أحلم من كذا ، فاختر ؛ قال فاختار الحليم وولاه ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على
لروم. قال عكرمة وغيره : إن شهر بزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج ، فقال أخوه فرخان : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى ؛ فكتب كسرى إلى شهر بزان أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل ؛ فكتب كسرى إلى فارس : إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهر بزان ، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهر بزان ؛ فأراد فرَّخان قتل شهر بزان فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان ، فقال شهر بزان لفرخان : إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك ، أفتقتلني أنت بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهر بزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ومات كسرى. وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين ؛ فذلك قوله تعالى : {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ} يعني أرض الشام. عكرمة : بأذرعات ، وهي ما بين بلاد العرب والشام. وقيل : إن قيصر كان بعث رجلا يدعى يحنس وبعث كسرى شهر بزان فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم. مجاهد : بالجزيرة ، وهو موضع بين العراق والشام. مقاتل : بالأردن وفلسطين. و {أدنى} معناه أقرب. قال ابن عطية : فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم. فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب.
وقد مضى الكلام في فواتح السور. وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة {غَلَبت الرُّومُ} بفتح الغين واللام. وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر بذلك المسلمون ، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضا في بضع سنين ؛ ذكر هذا التأويل أبو حاتم. قال أبو جعفر النحاس :
قراءة أكثر الناس {غُلِبَتِ الرُّومُ} بضم العين وكسر اللام. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأ {غَلَبت الرُّومُ} وقرأ {سيُغلبون} . وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون : أن هذه قراءة أهل الشام ؛ وأحمد بن حنبل يقول : إن عصمة هذا ضعيف ، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه ، والحديث يدل على أن القراءة {غُلبت} بضم الغين ، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الروم غلبتها فارس ، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، وأن المؤمنين يفرحون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب ، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه ، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان ، ثم حرم الرهان بعد ونسخ بتحريم القمار. قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على {سيغلبون} أنه بفتح الياء ، يراد به الروم. ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا بضم الياء في {سيغلبون} ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به. قال أبو جعفر النحاس : ومن قر {سيُغلبون } فالمعنى عنده : وفارس من بعد غلبهم ، أي من بعد أن غلبوا ، سيغلبون. وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية ، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان ؛ قاله عكرمة وقتادة. قال ابن عطية : وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين. وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، وفارس من أهل الأوثان ؛ كما تقدم بيانه في الحديث. قال النحاس : وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى ؛ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه. قال ابن عطية : ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة ، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ؛ فتأمل هذا المعنى ، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #556  
قديم 08-07-2025, 03:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ الروم
من صــ 361 الى صــ 365
الحلقة (556)






رجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم ، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. وقيل : سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين ؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر ؛ حكاه القشيري.
قلت : ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك ، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا وبإنجاز وعد الله. وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع {من بعد غَلْبهم} بسكون اللام ، وهما لغتان ؛ مثل الظعن والظعن. وزعم الفراء أن الأصل {من بعد غلبتهم} فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} وأصله وإقامة الصلاة. قال النحاس : وهذا غلط لا يخيل على كثير من أهل النحو ؛ لأن {إقام الصلاة} مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله ، فجعلت التاء عوضا من المحذوف ، و {غلب} ليس بمعتل ولا حذف منه شيء. وقد حكى الأصمعي : طرد طردا ، وجلب جلبا ، وحلب حلبا ، وغلب غلبا ؛ فأي حذف في هذا ، وهل يجوز أن يقال في أكل أكلا وما أشبهه - : حذف منه "؟ . {فِي بِضْعِ سِنِينَ} حذفت الهاء من {بِضع} فرقا بين المذكر والمؤنث ، وقد مضى الكلام فيه في {يوسف} . وفتحت النون من {سِنِينَ} لأنه جمع مسلم. ومن العرب من يقول {في بضع سنين} كما يقول في {غِسِلين} . وجاز أن يجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون ، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا من النقص الذي في واحده ؛ لأن أصل {سنة} سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه. خارج عن قياسه ونمطه ؛ هذا قول البصريين. ويلزم الفراء أن يضمها لأنه يقول : الضمة دليل على الواو وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ، ولا يضمها أحد علمناه."
قوله تعالى : {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته فقال {لِلَّهِ الأَمْرُ} أي إنفاذ الأحكام.
{من قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي من قبل هذه الغلبة ومن بعدها. وقيل : من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء. و {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ظرفان بنيا على الضم ؛ لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليهما وصارا متضمنين ما حذف فخالفا تعريف الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبنِيا ، وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر وأضيف زال بناؤه ، وكذلك هما فضما. ويقال : {مِنْ قبلِ وَمِن بعدِ} . وحكى الكسائي عن بعض بني أسد {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} الأول مخفوض منون ، والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء "من قبل ومن بعد" مخفوضين بغير تنوين. وأنكره النحاس ورده. وقال الفراء في كتابه : في القرآن أشياء كثيرة ، الغلط فيها بين ، منها أنه زعم أنه يجوز {مِنْ قبلِ وَمِن بعدِ} وإنما يجوز {مِنْ قبلِ وَمِن بعدِ} على أنهما نكرتان. قال الزجاج : المعنى من متقدم ومن متأخر. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} تقدم ذكره. {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} يعني من أوليائه ؛ لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه ، فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصره ، وإنما هو ابتلاء وقد يسمى ظفرا. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في نقمته {الرَّحِيمُ} لأهل طاعته.
الآية : [6] {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
الآية : [7] {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
قوله تعالى : {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} لأن كلامه صدق. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وهم الكفار وهم أكثر. وقيل : المراد مشركو مكة. وانتصب {وَعْدَ اللَّهِ} على المصدر ؛ أي وعد ذلك وعدا. ثم بين تعالى مقدار ما يعلمون فقال : {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني أمر معايشهم ودنياهم : متى يزرعون ومتى يحصدون ، وكيف يغرسون وكيف يبنون ؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقال الضحاك : هو بنيان قصورها ، وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها ؛ والمعنى واحد. وقيل : هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا
عند استراقهم السمع من سماء الدنيا ؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل : الظاهر والباطن ؛ كما قال في موضع آخر {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}
قلت : وقول ابن عباس أشبه بظاهر الحياة الدنيا ، حتى لقد قال الحسن : بلغ والله من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي. وقال أبو العباس المبرد : قسم كسرى أيامه فقال : يصلح يوم الريح للنوم ، ويوم الغيم للصيد ، ويوم المطر للشرب واللهو ، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خالويه : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا. {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ} أي عن العلم بها والعمل لها {هُمْ غَافِلُونَ} قال بعضهم :
ومن البلية أن ترى لك صاحبا ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطنٍ بكل مصيبة في ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعر
الآية : [8] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}
قوله تعالى : {فِي أَنْفُسِهِمْ} ظرف للتفكير وليس بمفعول ، تعدى إليه {يَتَفَكَّرُوا} بحرف جر ؛ لأنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم ، إنما أمروا أن يستعملوا التفكر في خلق السموات والأرض وأنفسهم ، حتى يعلموا أن الله لم يخلق السموات وغيرها إلا بالحق. قال الزجاج : في الكلام حذف ، أي فيعلموا ؛ لأن في الكلام دليلا عليه. {إِلاَّ بِالْحَقِّ} قال الفراء : معناه إلا للحق ؛ يعني الثواب والعقاب. وقيل : إلا لإقامة الحق. وقيل : {بِالْحَقِّ} بالعدل. وقيل : بالحكمة ؛ والمعنى متقارب. وقيل : {بِالْحَقِّ} أي أنه هو الحق وللحق خلقها ، وهو الدلالة على توحيده وقدرته. {وَأَجَلٍ مُسَمّىً} أي للسموات والأرض أجل
ينتهيان إليه وهو يوم القيامة. وفي هذا تنبيه على الفناء ، وعلى أن لكل مخلوق أجلا ، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء. وقيل : {وَأَجَلٍ مُسَمّىً} أي خلق ما خلق في وقت سماه لأن يخلق ذلك الشيء فيه. {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} اللام للتوكيد ، والتقدير : لكافرون بلقاء ربهم ، على التقديم والتأخير ؛ أي لكافرون بالبعث بعد الموت. وتقول : إن زيدا في الدار لجالس. ولو قلت : إن زيدا لفي الدار لجالس جاز. فإن قلت : إن زيدا جالس لفي الدار لم يجز ؛ لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إن وخبرها ، وإذا جئت بهما لم يجز أن تأتي بها. وكذا إن قلت : إن زيدا لجالس لفي الدار لم يجز.
الآية : [9] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} ببصائرهم وقلوبهم. {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ} أي قلبوها للزراعة ؛ لأن أهل مكة لم يكونوا أهل حرث ؛ قال الله تعالى : {تُثِيرُ الْأَرْضَ} {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي وعمروها أولئك أكثر مما عمروها هؤلاء فلم تنفعهم عمارتهم ولا طول مدتهم. {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات. وقيل : بالأحكام فكفروا ولم يؤمنوا. {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بأن أهلكهم بغير ذنب ولا رسل ولا حجة. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالشرك والعصيان.
الآية : [10] {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} السوأى فعلى من السوء تأنيث الأسوأ وهو الأقبح ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، وقيل : يعني بها ها هنا النار ؛ قاله ابن عباس. ومعنى {أَسَاءُوا} أشركوا ؛ دل عليه {أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} . {السُّوأَى} : اسم جهنم ؛ كما أن الحسنى اسم الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ} بالرفع اسم كان ، وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. و {السُّوءى} خبر كان. والباقون بالنصب على خبر كان. {السُّوءَى} بالرفع اسم كان. ويجوز أن يكون اسمها التكذيب ؛ فيكون التقدير : ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ويكون السوأى مصدرا لأساؤوا ، أو صفة لمحذوف ؛ أي الخلة السوأى. وروي عن الأعمش أنه قرأ {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءُ} برفع السوء. قال النحاس : السوء أشد الشر ؛ والسوأى الفعلى منه. {أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} أي لأن كذبوا ؛ قاله الكسائي. وقيل : بأن كذبوا. وقيل بمحمد والقرآن ؛ قاله الكلبي. مقاتل : بالعذاب أن ينزل بهم. الضحاك : بمعجزات محمد صلى الله عليه وسلم {وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} .
الآية : [11] {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
الآية : [12] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}
الآية : [13] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ}
قرأ أبو عمرو وأبو بكر {يرجعون} بالياء. الباقون بالتاء. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي {يُبْلِسُ} بفتح اللام ؛ والمعروف في اللغة : أبلس الرجل إذا سكت وانقطعت حجته ، ولم يؤمل أن يكون له حجة. وقريب منه : تحير ؛ كما قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا
وقد زعم بعض النحويين أن إبليس مشتق من هذا ، وأنه أبلس لأنه انقطعت حجته. النحاس : ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف ، وهو في القرآن غير منصرف. الزجاج : المبلس الساكت المنقطع في حجته ، اليائس من أن يهتدي إليها. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} أي ما عبدوه من دون الله {شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} قالوا ليسوا بآلهة فتبرؤوا منها وتبرأت منهم ؛ حسبما تقدم في غير موضع.
الآية : [14] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}
الآية : [15] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} يعني المؤمنين من الكافرين ؛ ثم بين كيف تفريقهم فقال : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} قال النحاس : سمعت الزجاج يقول : معنى {أمّا} دع ما كنا فيه وخذ في غيره. وكذا قال سيبويه : إن معناها مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه. {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال الضحاك : الروضة الجنة ، والرياض الجنان. وقال أبو عبيد : الروضة ما كان في تسفل ، فإذا كانت مرتفعة فهي ترعة. وقال غيره : أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ ؛ كما قال الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
إلا أنه لا يقال لها روضة إلا إذا كان فيها نبت ، فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة. وقد قيل في الترعة غير هذا. وقال القشيري : والروضة عند العرب ما ينبت حول
الغدير من البقول ؛ ولم يكن عند العرب شيء أحسن منه. الجوهري : والجمع روض ورياض ، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. والروض : نحو من نصف القربة ماء. وفي الحوض روضة من ماء إذا غطى أسفله. وأنشد أبو عمرو :
وروضة سقيت منها نِضوتي
{يُحْبَرُونَ} قال الضحاك وابن عباس : يكرمون. وقيل ينعمون ؛ وقاله مجاهد وقتادة. وقيل يسرون. السدي : يفرحون. والحبرة عند العرب : السرور والفرح ؛ ذكره الماوردي. وقال الجوهري : الحبر : الحبور وهو السرور ؛ ويقال : حبره يحبره "بالضم" حبرا وحبرة ؛ قال تعالى : {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي ينعمون ويكرمون ويسرون. ورجل يحبور يفعول من الحبور. النحاس : وحكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. وسمعت علي بن سليمان يقول : هو مشتق من قولهم : على أسنانه حبرة أي أثر ؛ فـ {يحبرون} يتبين عليهم أثر النعيم. والحبر مشتق من هذا. قال الشاعر :
لا تملأ الدلو وعرق فيها ... أما ترى حبار من يسقيها
وقيل : أصله من التحبير وهو التحسين ؛ فـ {يُحْبَرُونَ} يحسنون. يقال : فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة. ويقال أيضا : فلان حسن الحبر والسبر "بالفتح" ؛ وهذا كأنه مصدر قولك : حبرته حبرا إذا حسنته. والأول اسم ؛ ومنه الحديث : "يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره" وقال يحيى بن أبي كثير {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال : السماع في الجنة ؛ وقاله الأوزاعي ، قال : إذا أخذ أهل الجنة في السماع لم تبق شجرة في الجنة إلا رددت الغناء بالتسبيح والتقديس. وقال الأوزاعي : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم. زاد غير الأوزاعي : ولم تبق شجرة في الجنة إلا رددت ، ولم يبق ستر ولا باب إلا ارتج وانفتح ، ولم تبق حلقة
إلا طنت بألوان طنينها ، ولم تبق أجمة من أجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر ، ولم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنت بأغانيها ، والطير بألحانها ، ويوحي الله تبارك وتعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم وأسمعوا عبادي الذين نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان وأصوات روحانيين فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة ، ثم يقول الله جل ذكره : يا داود قم عند ساق عرشي فمجدني ؛ فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يغمر الأصوات ويجليها وتتضاعف اللذة ؛ فذلك قوله تعالى : {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} . ذكره الترمذي الحكيم رحمه الله. وذكر الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الناس ؛ فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم ؛ وفي أخريات القوم أعرابي فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من سماع ؟ فقال : "نعم يا أعرابي ، إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خمصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة" فسأل رجل أبا الدرداء : بماذا يتغنين ؟ فقال : بالتسبيح. والخمصانية : المرهفة الأعلى ، الخمصانة البطن ، الضخمة الأسفل.
قلت : وهذا كله من النعيم والسرور والإكرام ؛ فلا تعارض بين تلك الأقوال. وأين هذا من قوله الحق : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} على ما يأتي. وقوله عليه السلام : "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" . وقد روي : "إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا" . ذكره الزمخشري.
الآية : [16] {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}
قوله تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} تقدم الكلام فيه. {وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي بالبعث. {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي مقيمون. وقيل : مجموعون. وقيل : معذبون. وقيل : نازلون ؛ ومنه قوله تعالى : {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي نزل به ؛ قاله ابن شجرة ، والمعنى متقارب.
الآية : [17] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}
الآية : [18] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولي- قوله تعالى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} الآية فيه ثلاثة أقوال : الأول : أنه خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس : الصلوات الخمس في القرآن ؛ قيل له : أين ؟ فقال : قال الله تعالى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر {وَعَشِيّاً} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر ؛ وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة : أن الآية تنبيه على أربع صلوات : المغرب والصبح والعصر والظهر ؛ قالوا : والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} وفي ذكر أوقات العورة. وقال النحاس : أهل التفسير على أن هذه الآية {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} في الصلوات. وسمعت على بن سليمان يقول : حقيقته عندي : فسبحوا الله في الصلوات ، لأن التسبيح في الصلاة ؛ وهو القول الثاني. والقول الثالث : فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون ؛ ذكره الماوردي. وذكر القول
الأول ، ولفظه فيه : فصلوا لله حين تمسون وحين تصبحون. وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان : أحدهما : لما تضمنها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود. الثاني : مأخوذ من السبحة والسبحة الصلاة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تكون لهم سبحة يوم القيامة" أي صلاة.
الثانية- قوله تعالى : {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اعتراض بين الكلام بدؤوب الحمد على نعمه وألائه. وقيل : معنى {وَلَهُ الْحَمْدُ} أي الصلاة له لاختصاصها بقراءة الحمد. والأول أظهر ؛ فإن الحمد لله من نوع تعظيم الله تعالى والحض على عبادته ودوام نعمته ؛ فيكون نوعا آخر خلاف الصلاة ، والله أعلم. وبدأ بصلاة المغرب لأن الليل يتقدم النهار. وفي سورة {سبحان} بدأ بصلاة الظهر إذ هي أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الماوردي : وخص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن للإنسان في النهار متقلبا في أحوال توجب حمد الله تعالى عليها ، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها ؛ فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار ، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.
الثالثة- قرأ عكرمة {حِينَا تُمْسُونَ وَحِينَا تُصْبِحُونَ} والمعنى : حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه ؛ فحذف فيه تخفيفا ، والقول فيه كالقول في {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} {وَعَشِيّاً} قال الجوهري : العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة ؛ تقول : أتيته عشية أمس وعشي أمس. وتصغير العشي : عشيان ، على غير قياس مكبره ؛ كأنهم صغروا عشيانا ، والجمع عشيانات. وقيل أيضا في تصغيره : عشيشيان ، والجمع عشيشيات. وتصغير العشية عشيشية ، والجمع عشيشيات. والعشاء "بالكسر والمد" مثل العشي. والعشاء إن المغرب والعتمة. وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، وأنشدوا :
غدونا غدوة سحرا بليل ... عشاء بعدما انتصف النهار




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #557  
قديم 08-07-2025, 03:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ الروم
من صــ 16 الى صــ 25
الحلقة (557)






الماوردي : والفرق بين المساء والعشاء : أن المساء بدو الظلام بعد المغيب ، والعشاء آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب ، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس.
الآية : [19] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}
بين كمال قدرته ؛ أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها ، كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس ؛ وقد مضى في {آل عمران} بيان {وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}
الآية : [20] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}
الآية : [21] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
الآية : [22] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ}
الآية : [23] {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}
الآية : [24] {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
الآية : [25] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}
الآية : [26] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب ؛ أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل ، وقد مضى بيان هذا في {الأنعام} . و {أنْ} في موضع رفع بالابتداء وكذا {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} .
قوله تعالى : {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم ، فلم يكن ليخلقكم عبثا ؛ ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى : {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} لتسكنوا أي نساء تسكنون إليها. {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل : المراد حواء ، خلقها من ضلع آدم ؛ قاله قتادة. {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} قال ابن عباس ومجاهد : المودة الجماع ، والرحمة الولد ؛ وقاله الحسن. وقيل : المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي : المودة : المحبة ، والرحمة : الشفقة ؛ وروي معناه عن ابن عباس قال : المودة حب الرجل امرأته ، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال : إن الرجل أصله من الأرض ، وفيه قوة الأرض ، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن ، وخلقت المرأة سكنا للرجل ؛ قال الله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية. وقال : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة ، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه ، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج ، وللرجال خلق البضع منهن ، قال الله تعالى : {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال ، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج ؛ فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم ؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها" . وفي لفظ آخر : "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح" . {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تقدم
في {البقرة} . وكانوا يعترفون بأن الله هو الخالق. {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} اللسان في الفم ؛ وفيه اختلاف اللغات : من العربية والعجمية والتركية والرومية. واختلاف الألوان في الصور : من البياض والسواد والحمرة ؛ فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين ؛ فلا بد من فاعل ، فعلم أن الفاعل هو الله تعالى ؛ فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} أي للبر والفاجر. وقرأ حفص : {للعالِمين} بكسر اللام جمع عالم. {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قيل : في هذه الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه ، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة ؛ فجعل النوم بالليل دليلا على الموت ، والتصرف بالنهار دليلا على البعث. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل : يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل : يسمعون الوعظ فيخافونه. وقيل : يسمعون القرآن فيصدقونه ؛ والمعنى متقارب. وقيل : كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع ؛ فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه. {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} قيل : المعنى أن يريكم ، فحذف {أن} لدلالة الكلام عليه ؛ قال طرفة :
ألا أيهذا اللائمي أحضُرُ الوغى ... وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي
وقيل : هو على التقديم والتأخير ؛ أي ويريكم البرق من آياته. وقيل : أي ومن آياته آية يريكم بها البرق ؛ كما قال الشاعر :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقيل : أي من آياته أنه يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته ؛ قاله الزجاج ، فيكون عطف جملة على جملة. {خَوْفاً} أي للمسافر. {وَطَمَعاً} للمقيم ؛ قاله قتادة. الضحاك :
{خَوْفاً} من الصواعق ، {وَطَمَعاً} في الغيث. يحيى بن سلام : {خَوْفاً} من البرد أن يهلك الزرع ، {وَطَمَعاً} في المطر أن يحيي الزرع. ابن بحر : {خَوْفاً} أن يكون البرق برقا خُلَّبا لا يمطر ، {وطمعا} أن يكون ممطرا ؛ وأنشد قول الشاعر :
لا يكن برقك برقا خلّبا ... إن خير البرق ما الغيث معه
وقال آخر :
فقد أرد المياه بغير زاد ... سوى عدي لها برق الغمام
والبرق الخلّب : الذي لا غيث فيه كأنه خادع ؛ ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز : إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضا : السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال : برق خلب ، بالإضافة.
قوله تعالى : {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} تقدم. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} {أَنْ} في محل رفع كما تقدم ؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل : بتدبيره وحكمته ؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل : {بِأَمْرِهِ} بإذنه ؛ والمعنى واحد. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم ؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث ؛ كما يجيب الداعي المطاع مدعوه ؛ كما قال القائل :
دعوت كليبا باسمه فكأنما ... دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود : الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بـ {ثم} لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يأهل القبور قوموا ؛ فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر ؛ كما قال تعالى : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} و {إذا} الأولى في قوله تعالى :
{إِذَا دَعَاكُمْ} للشرط ، والثانية في قوله تعالى : {إِذَا أَنْتُمْ} للمفاجأة ، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في {تَخْرُجُونَ} . واختلفوا في التي في {الأعراف} فقرأ أهل المدينة : {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} بضم التاء ، وقرأ أهل العراق : بالفتح ، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان ، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام ، فنسق الكلام في التي في {الأعراف} بالضم أشبه ؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم ، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام ؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم ؛ فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل النفخة الآخرة ؛ على ما تقدم ويأتي. وقرئ {تخرجون} بضم التاء وفتحها ، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئا ، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق ، والله أعلم. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خلقا وملكا وعبدا. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كل قنوت في القرآن فهو طاعة" . قال النحاس : مطيعون طاعة انقياد. وقيل : {قَانِتُونَ} مقرون بالعبودية ، إما قالة وإما دلالة ؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. وقال ابن عباس : {قَانِتُونَ} مصلون. الربيع بن أنس : {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي قائم يوم القيامة ؛ كما قال : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي للحساب. الحسن : كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير {قَانِتُونَ قانتون} مخلصون.
الآية : [27] {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته ، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث ؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته ؛ استدلالا بالشاهد على الغائب ، ثم أكد ذلك بقوله
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقرأ ابن مسعود وابن عمر : {يَبْدئُ الْخَلْقَ} من أبدأ يبدئ ؛ دليله قوله تعالى : {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} ودليل قراءة العامة قوله سبحانه : {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} و {أهْوَنُ} بمعنى هين ؛ أي الإعادة هين عليه ؛ قاله الربيع بن خثيم والحسن. فأهون بمعنى هين ؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء. قال أبو عبيدة : ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى : {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} وبقوله : {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}
والعرب تحمل أفعل على فاعل ، ومنه قول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيزة طويلة. وقال آخر :
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
أراد : إني لوجل. وأنشد أبو عبيدة أيضا :
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل
أراد لمائل. وأنشد أحمد بن يحيى :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد. وقال آخر :
لعمرك إن الزبرقان لباذل ... لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل. ومنه قولهم : الله أكبر ؛ إنما معناه الله الكبير. وروى معمر عن قتادة قال : في قراءة عبدالله بن مسعود {وهو عليه هين} . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية ؛ أي أيسر ، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا ؛ وقاله ابن عباس. ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده ؛ يقول : إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه ؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم
أهون عليه من الإنشاء. وقيل : الضمير في {عَلَيهِ} للمخلوقين ؛ أي وهو أهون عليه ، أي على الخلق ، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم : كونوا فيكونون ؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء. وقاله ابن عباس وقطرب. وقيل أهون أسهل ؛ قال :
وهان على أسماء أن شطت النوى ... يحن إليها واله ويتوق
أي سهل عليها ، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال : ما شيء على الله بعزيز. عكرمة : تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي ما أراده جل وعز كان. وقال الخليل : المثل الصفة ؛ أي وله الوصف الأعلى {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كما قال : {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها. وقد مضى الكلام في ذلك. وعن مجاهد : {الْمَثَلُ الأَعْلَى} قول لا إله إلا الله ؛ ومعناه : أي الذي له الوصف الأعلى ، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية. وكذا قال قتادة : إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ويعضده قوله تعالى : {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقال الزجاج : {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل ؛ يريد التفسير الأول. وقال ابن عباس : أي ليس كمثله شيء {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم.
الآية : [38] {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
فيه مسألتان :
الأولي- قوله تعالى : {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ثم قال : {مِنْ شُرَكَاءَ} ؛ ثم قال : {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فـ {من} الأولى للابتداء ؛ كأنه قال : أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. والثانية للتبعيض ، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام. والآية نزلت في كفار قريش ، كانوا يقولون في التلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ؛ قال سعيد بن جبير. وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله للمشركين ؛ والمعنى : هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله ، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
الثانية- قال بعض العلماء : هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه ، وذلك أنه لما قال جل وعز : {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية ، فيجب أن يقولوا : ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا ، فيقال لهم : فكيف يتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي ؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعمى قلب ، فإذا بطلت الشركة بين العبيد وسادتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله ؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك ، إذ الشركة تقتضي المعاونة ، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل ؛ والقديم الأزلي منزه عن ذلك جل وعز.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه ؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب ، فافهم ذلك.
الآية : [29] {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
قوله تعالى : {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك. {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي لا هادي لمن أضله الله تعالى. وفي هذا رد على القدرية. {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .
آية : [30] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ} فيه ثلاث مسائل :
الأولي- قال الزجاج : {فِطْرَتَ} منصوب بمعنى اتبع فطرة الله. قال : لأن معنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله. وقال الطبري : {فِطْرَتَ اللَّهِ} مصدر من معنى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لأن معنى ذلك : فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل : معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له ؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على {حَنِيفاً} تاما. وعلى القولين الأولين يكون متصلا ، فلا يوقف على {حَنِيفاً} . وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له ، قال جل وعز : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ويقال : {عَلَيْهَا} بمعنى لها ؛ كقوله تعالى : {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . والخطاب بـ {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم ؛ كما قال : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين ؛ وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و {حَنِيفاً} معناه معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
الثانية- في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم ؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، في رواية : "حتى"
تكونوا أنتم تجدعونها "قالوا : يا رسول الله ؛ أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال :" الله أعلم بما كانوا عاملين ". لفظ مسلم."
الثالثة- واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعددة ؛ منها الإسلام ؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما ؛ قالوا : وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل ؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة ، وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما : "ألا أحدثكم بما حدثني الله في كتابه ، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما.." الحديث. وبقوله صلى الله عليه وسلم : "خمس من الفطرة" فذكر منها قص الشارب ، وهو من سنن الإسلام ، وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث : أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه ، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يدركوا في الجنة ؛ أولاد مسلمين كانوا أو أولاد كفار. وقال آخرون : الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها ؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء ، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ. قالوا : والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر : المبتدئ ؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال : لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ؛ أي ابتدأتها. قال المروزي : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه. قال أبو عمر في كتاب التمهيد له : ما رسمه مالك في موطئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار - يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا ، والله أعلم. ومما احتجوا به ما روي عن كعب القرظي في قول الله تعالى : {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال : من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى ، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة ، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة ، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه ، قال : وكان من الكافرين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #558  
قديم 08-07-2025, 03:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ الروم
من صــ 26 الى صــ 35
الحلقة (558)






قلت : قد مضى قول كعب هذا في {الأعراف} وجاء معناه مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه ، قال : "أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم" خرجه ابن ماجة في السنن. وخرج أبو عيسى الترمذي عن عبدالله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال : "أتدرون ما هذان الكتابان" ؟ فقلنا : لا يا رسول الله ، إلا أن تخبرنا ؛ فقال للذي في يده اليمنى : "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال للذي في شماله - هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على أخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا." وذكر الحديث ، وقال فيه : حديث حسن. وقالت فرقة : ليس المراد بقوله تعالى : {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ولا قوله عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" العموم ، وإنما المراد بالناس المؤمنون ؛ إذا لو فطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد ، وقد ثبت أنه خلق أقواما للنار ؛ كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} وأخرج الذرية من صلب آدم سوداء وبيضاء. وقال في الغلام الذي قتله الخضر : طبع يوم طبع كافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار ؛ وفيه : وكان فيما حفظنا أن قال : "ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا ، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب" . ذكره حماد بن زيد بن سلمة في مسند الطيالسي قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قالوا : والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب ؛ ألا ترى إلى قوله
عز وجل : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ولم تدمر السموات والأرض. وقوله : {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.وقال إسحاق بن راهويه الحنظلي : تم الكلام عند قوله : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} ثم قال : {فِطْرَتَ اللَّهِ} أي فطر الله الخلق فطرة إما بجنة أو نار ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "كل مولود يولد على الفطرة" ولهذا قال : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال شيخنا أبو العباس : من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن ؛ لأن الله تعالى قال : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وأما في الحديث فلا ؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغير. وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر : الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه ؛ فكأنه قال : كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. واحتجوا على أن الفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق ؛ لقول الله عز وجل : {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعني خالقهن ، وبقوله : {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} يعني خلقني ، وبقوله : {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} يعني خلقهن. قالوا : فالفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق ؛ وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قالوا : وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث : "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء - يعني سالمة - هل تحسون فيها من جدعاء" يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها ؛ فيقال : هذه بحائر وهذه سوائب. يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة ، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم ، وعصم الله أقلهم. قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا ، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون. قالوا :
ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا ، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا ، قال الله تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان ، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر بن عبدالبر : هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها. ومن الحجة أيضا في هذا قوله تعالى : {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. وقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ولما أجمعوا على دفع القود والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك. والله أعلم. ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورة الإسلام ، كما قال ابن شهاب ؛ لأن الإسلام والإيمان : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، وهذا معدوم من الطفل ، لا يجهل ذلك ذو عقل. وأما قول الأوزاعي : سألت الزهري عن رجل عليه رقبة أيجزي عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال نعم ؛ لأنه ولد على الفطرة يعني الإسلام ؛ فإنما أجزى عتقه عند من أجازه ؛ لأن حكمه حكم أبويه. وخالفهم آخرون فقالوا : لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى ، وليس في قوله تعالى : {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ولا في "أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه" : دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا ؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا ، والحديث الذي جاء فيه : "أن الناس خلقوا على طبقات" ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها ؛ لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان ، وقد كان شعبة يتكلم فيه. على أنه يحتمل قوله : "يولد مؤمنا" أي يولد ليكون مؤمنا ، ويولد ليكون كافرا على سابق علم الله فيه ، وليس في قوله في الحديث "خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار" أكثر من مراعاة ما يختم به لهم ؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا ، أو يعقل كفرا أو إيمانا.
قلت : وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له ، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة ، وشيخنا أبو العباس. قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ؛ فكأنه تعالى قال : أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرضهم العوارض ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه" فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال شيخنا في عبارته : إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق ، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله : "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات ، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب ، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل ؛ وكذلك الإنسان ، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت : وهذا القول مع القول الأول موافق له في المعنى ، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا ، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة : من خلق السموات والأرض ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، واختلاف الليل والنهار ؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينا وشمالا ، وأنهم إن ماتوا صغارا فهم في الجنة ، أعني جميع الأطفال ، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا له بالربوبية وهو قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} . ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالربوبية ، وأنه الله لا إله غيره ، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على
الكتاب الأول ؛ فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك ، ومن كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدا ، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة ، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم ؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق ، ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل ، وهو يجمع بين الأحاديث ، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال : "الله أعلم بما كانوا عاملين" يعني لو بلغوا. ودل على هذا التأويل أيضا حديث البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا ، وفيه قول عليه السلام : "وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة" . قال فقيل : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأولاد المشركين" . وهذا نص يرفع الخلاف ، وهو أصح شيء روي في هذا الباب ، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء ؛ قاله أبو عمر بن عبدالبر. وقد روي من حديث أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال : "لم تكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة ، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار ، فهم خدم لأهل الجنة" ذكره يحيى بن سلام في التفسير له. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في كتاب التذكرة ، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك ، والحمد لله. وذكر إسحاق بن راهويه قال : حدثنا يحيى بن آدم قال : أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي قال : سمعت ابن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا - أو كلمة تشبه هاتين - حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال : أيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ قال فسكت. وقال أبو بكر الوراق : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} هي الفقر والفاقة ؛ وهذا حسن ؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج ، نعم ، وفي الآخرة.
قوله تعالى : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق. ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه ؛ أي لا يشقى من خلقه سعيدا ، ولا يسعد من خلقه شقيا. وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ؛ وقال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي ، قالوا : هذا معناه في المعتقدات. وقال عكرمة : وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى : لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها ؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقد مضى هذا في {النساء} . {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك القضاء المستقيم ؛ قاله ابن عباس. وقال مقاتل : ذلك الحساب البين. وقيل : {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا معبودا ، وإلها قديما سبق قضاؤه ونفذ حكمه.
الآية : [31] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
الآية : [32] {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}
قوله تعالى : {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} اختلف في معناه ، فقيل : راجعين إليه بالتوبة والإخلاص. وقال يحيى بن سلام والفراء : مقبلين إليه. وقال عبدالرحمن بن زيد : مطيعين له. وقيل تائبين إليه من الذنوب ؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
والمعنى واحد ؛ فإن "ناب وتاب وثاب وآب" معناه الرجوع. قال الماوردي : وفي أصل الإنابة قولان : أحدهما : أن أصله القطع ؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع ؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني : أصله الرجوع ؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى ؛ ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. الجوهري :
وأناب إلى الله أقبل وتاب. والنوبة واحدة النوب ، تقول : جاءت نوبتك ونيابتك ، وهم يتناوبون النوبة فيما بينهم في الماء وغيره. وانتصب على الحال. قال محمد بن يزيد : لأن معنى : {أَقِمْ وَجْهَكَ} فأقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين. وقيل : انتصب على القطع ؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه ؛ لأن الأمر له ، أمر لأمته ؛ فحسن أن يقول منيبين إليه ، وقد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بين أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص ؛ فلذلك قال : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقد مضى هذا مبينا {في النساء والكهف} وغيرهما. {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} تأوله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة : أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع. وقد مضى {في الأنعام} بيانه. وقال الربيع بن أنس : الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ وقاله قتادة ومعمر. وقرأ حمزة والكسائي : {فَارقُوا دِينَهُمْ } ، وقد قرأ ذلك علي بن أبي طالب ؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه ، وهو التوحيد. {وَكَانُوا شِيَعاً} أي فرقا ؛ قاله الكلبي. وقيل أديانا ؛ قاله مقاتل. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي مسرورون معجبون ، لأنهم لم يتبينوا الحق وعليهم أن يتبينوه. وقيل : كان هذا قبل أن تنزل الفرائض. وقول ثالث : أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحا بمعصيته ، فكذلك الشيطان وقطاع الطريق وغيرهم ، والله أعلم. وزعم الفراء أنه يجوز أن يكون التمام {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ويكون المعنى : من الذين فارقوا دينهم {وَكَانُوا شِيَعاً} على الاستئناف ، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله. النحاس : وإذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين البدل بإعادة الحرف ؛ كما قال جل وعز : {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} ولو كان بلا حرف لجاز.
الآية : [33] {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} أي قحط وشدة {دَعَوْا رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس : مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب ، عجب نبيه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم ؛ أي إذا مس هؤلاء الكفار ضر من مرض وشدة دعوا ربهم ؛ أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم ، مقبلين عليه وحده دون الأصنام ، لعلمهم بأنه لا فرج عندها. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} أي عافية ونعمة. {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يشركون به في العبادة.
الآية : [34] {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} قيل : هي لام كي. وقيل : هي لام أمر فيه معنى التهديد ؛ كما قال جل وعز : {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد. وفي مصحف عبدالله {وَلِيَتَمَتَّعُوا} ؛ أي مكناهم من ذلك لكي يتمتعوا ، فهو إخبار عن غائب ؛ مثل : {لِيَكْفُرُوا} . وهو على خط المصحف خطاب بعد الإخبار عن غائب ؛ أي تمتعوا أيها الفاعلون لهذا.
الآية : [35] {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحاك : {سُلْطَاناً} أي كتابا ؛ وقاله قتادة والربيع بن أنس. وأضاف الكلام إلى الكتاب توسعا. وزعم الفراء أن العرب تؤنث السلطان ؛ تقول : قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح ، وبه جاء القرآن ، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة ؛ أي حجة
تنطق بشرككم ؛ قاله ابن عباس والضحاك أيضا. وقال علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد قال : سلطان جمع سليط ؛ مثل رغيف ورغفان ، فتذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة. وقد مضى في {آل عمران} . والسلطان : ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة ؛ كما قال تعالى : {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية : [36] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}
قوله تعالى : {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} يعني الخصب والسعة والعافية ؛ قاله يحيى ابن سلام. النقاش : النعمة والمطر. وقيل : الأمن والدعة ؛ والمعنى متقارب. {فَرِحُوا بِهَا} أي بالرحمة. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي بلاء وعقوبة ؛ قاله مجاهد. السدي : قحط المطر. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بما عملوا من المعاصي. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي ييأسون من الرحمة والفرج ؛ قاله الجمهور. وقال الحسن : إن القنوط ترك فرائض الله سبحانه وتعالى في السر. قنط يقنط ، وهي قراءة العامة. وقنط يقنط ، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ومعقوب. وقرأ الأعمش : قنِط يقنَط بالكسر فيهما ؛ مثل حسب يحسب. والآية صفة للكافر ، يقنط عند الشدة ، ويبطر عند النعمة ؛ كما قيل :
كحمار السوء إن أعلفته ... رمَح الناس وإن جاع نهق
وكثير ممن لم يرسخ الإيمان في قلبه بهذه المثابة ؛ وقد مضى في غير موضع. فأما المؤمن فيشكر ربه عند النعمة ، ويرجوه عند الشدة.
الآية : [37] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء أو يضيق ؛ فلا يجب أن يدعوهم الفقر إلى القنوط. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
الآية : [38] {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالي : {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} فيه ثلاث مسائل :
الأولي- لما تقدم أنه سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر أمر من وسع عليه الرزق أن يوصل إلى الفقير كفايته ليمتحن شكر الغني. والخطاب للنبي عليه السلام والمراد هو وأمته ؛ لأنه قال : {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} . وأمر بإيتاء ذي القربى لقرب رحمه ؛ وخير الصدقة ما كان على القريب ، وفيها صلة الرحم. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على الأقارب على عتق الرقاب ، فقال لميمونة وقد أعتقت وليدة : "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" .
الثانية- واختلف في هذه الآية ؛ فقيل : إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل : لا نسخ ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال ؛ وهو الصحيح. قال مجاهد وقتادة : صلة الرحم فرض من الله عز وجل ، حتى قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة. وقيل : المراد بالقربى أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم. والأول أصح ؛ فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وقيل : إن الأمر بالإيتاء لذي القربى على جهة الندب. قال الحسن : {حَقَّهُ} المواساة في اليسر ، وقول ميسور في العسر. {وَالْمِسْكِينَ} قال ابن عباس : أي أطعم السائل الطواف ؛ "وَابْنَ السَّبِيلِ" الضيف ؛ فجعل الضيافة فرضا ، وقد مضى جميع هذا مبسوطا مبينا في مواضعه والحمد لله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #559  
قديم 08-07-2025, 03:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ الروم
من صــ 36 الى صــ 45
الحلقة (559)






الثالثة- قوله تعالى : {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي إعطاء الحق أفضل من الإمساك إذا أريد بذلك وجه الله والتقرب إليه. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفائزون بمطلوبهم من الثواب في الآخرة. وقد تقدم في {البقرة} القول فيه.
الآية : [39] {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
وقوله تعالي : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}
فيه أربع مسائل :
الأولي- لما ذكر ما يراد به وجهه ويثبت عليه ذكر غير ذلك من الصفة وما يراد به أيضا وجهه. وقرأ الجمهور : {آتَيْتُمْ} بالمد بمعنى أعطيتم. وقرأ ابن كثير ومجاهد وحميد بغير مد ؛ بمعنى ما فعلتم من ربا ليربو ؛ كما تقول : أتيت صوابا وأتيت خطأ. وأجمعوا على المد في قوله : {آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} . والربا الزيادة وقد مضى في {البقرة} معناه ، وهو هناك محرم وها هنا حلال. وثبت بهذا أنه قسمان : منه حلال ومنه حرام. قال عكرمة في قوله تعالى : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} قال : الربا ربوان ، ربا حلال وربا حرام ؛ فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى ، يلتمس ما هو أفضل منه. وعن الضحاك في هذه الآية : هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه ، لا له ولا عليه ، ليس له فيه أجر وليس عليه فيه إثم. وكذلك قال ابن عباس : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه ؛ فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه ولكن لا إثم عليه ، وفي هذا المعنى نزلت الآية. قال ابن عباس وابن جبير وطاوس ومجاهد : هذه آية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية : وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره ؛ فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى. وقاله القاضي أبو بكر بن العربي. وفي كتاب النسائي
عن عبدالرحمن بن علقمة قال : قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية فقال : "أهدية أم صدقة فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة ، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل" قالوا : لا بل هدية ؛ فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسألونه. وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على وجه النفع لهم. وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف له لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله. وقيل : كان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص ؛ قال الله تعالى : {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} فنهى أن يعطي شيئا فيأخذ أكثر منه عوضا. وقيل : إنه الربا المحرم ؛ فمعنى : {لا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} على هذا القول لا يحكم به لآخذه بل هو للمأخوذ منه. قال السدي : نزلت هذه الآية في ربا ثقيف ؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش.
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : صريح الآية فيمن يهب يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة. قال المهلب : اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب ثوابها وقال : إنما أردت الثواب ؛ فقال مالك : ينظر فيه ؛ فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك ؛ مثل هبة الفقير للغني ، وهبة الخادم لصاحبه ، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه ؛ وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ؛ وهو قول الشافعي الآخر. قال : والهبة للثواب باطلة لا تنفعه ؛ لأنها بيع بثمن مجهول. واحتج الكوفي بأن موضوع الهبة التبرع ، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع وصارت في معنى المعاوضات ، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة ، فجعلت لفظ البيع على ما يستحق فيه العوض ، والهبة بخلاف ذلك. ودليلنا ما رواه مالك في موطئه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى
منها. ونحوه عن علّي رضي الله عنه قال : المواهب ثلاثة : موهبة يراد بها وجه الله ، وموهبة يراد بها وجوه الناس ، وموهبة يراد بها الثواب ؛ فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها. وترجم البخاري رحمه الله "باب المكافأة في الهبة" وساق حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ، وأثاب على لقحة ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب ، وإنما أنكر سخطه للثواب وكان زائدا على القيمة. خرجه الترمذي.
الثالثة- ما ذكره علّي رضي الله عنه وفصّله من الهبة صحيح ؛ وذلك أن الواهب لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يريد بها وجه الله تعالى ويبتغي عليها الثواب منه. والثاني : أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها. والثالث : أن يريد بها الثواب من الموهوب له ؛ وقد مضى الكلام فيه. وقال صلى الله عليه وسلم : "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" . فأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى وابتغى عليه الثواب من عنده فله ذلك عند الله بفضله ورحمته ؛ قال الله عز وجل : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
وكذلك من يصل قرابته ليكون غنيا حتى لا يكون كلا فالنية في ذلك متبوعة ؛ فإن كان ليتظاهر بذلك دنيا فليس لوجه الله ، وإن كان لما له عليه من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحم فإنه لوجه الله.
وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها فلا منفعة له في هبته ؛ لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة ؛ قال الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الآية.
وأما من أراذ بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد بهبته ، وله أن يرجع فيها ما لم يثب بقيمتها ، على مذهب ابن القاسم ، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها ، على ظاهر قول عمر
وعلّي ، وهو قول مطرف في الواضحة : أن الهبة ما كانت قائمة العين ، وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها وإن أثابه الموهوب فيها أكثر منها. وقد قيل : إنها إذا كانت قائمة العين لم تتغير فإنه يأخذ ما شاء. وقيل : تلزمه القيمة كنكاح التفويض ، وأما إذا كان بعد فوت الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا ؛ قاله ابن العربي.
الرابعة- قوله تعالى : {لِيَرْبُوَ} قرأ جمهور الفراء القراء ؟ ؟ السبعة : {لِيَرْبُوَ} بالياء وإسناد الفعل إلى الربا. وقرأ نافع وحده : بضم التاء والواو ساكنة على المخاطبة ؛ بمعنى تكونوا ذوي زيادات ، وهذه قراءة ابن عباس والحسن وقتاده والشعبي. قال أبو حاتم : هي قراءتنا. وقرأ أبو مالك : {لتربوها} بضمير مؤنث. {فلا يربو عند الله} أي لا يزكو ولا يثيب عليه ؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه وكان خالصا له ؛ وقد تقدم في {النساء} . {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} قال ابن عباس : أي من صدقة. {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي ذلك الذي يقبله ويضاعفه له عشرة أضعافه أو أكثر ؛ كما قال : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وقال : {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} وقال : 0 {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ولم يقل فأنتم المضعفون لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة ؛ مثل قوله : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وفي معنى المضعفين قولان : أحدهما : أنه تضاعف لهم الحسنات ذكرنا. والآخر : أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم ؛ أي هم أصحاب أضعاف ، كما يقال : فلان مقو إذا كانت إبله قوية ، أو له أصحاب أقوياء. ومسمن إذا كانت إبله سمانا. ومعطش إذا كانت إبله عطاشا. ومضعف إذا كان إبله ضعيفة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم" . فالمخبث : الذي أصابه خبث ، يقال : فلان رديء أي هو رديء ؛ في نفسه. ومردئ : أصحابه أردئاء.
الآية : [40] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ابتداء وخبر. وعاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين وأنه الخالق الرازق المميت المحيي. ثم قال على جهة الاستفهام : {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} لا يفعل. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم نزه نفسه عن الأنداد والأضداد والصاحبة والأولاد وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم بالآلهة والشركاء ، ويجعلون لهم من أموالهم.
الآية : [41] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} اختلف العلماء في معنى الفساد والبر والبحر ؛ فقال قتادة والسدي : الفساد الشرك ، وهو أعظم الفساد. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : فساد البر قتل ابن آدم أخاه ؛ قابيل قتل هابيل. وفي البحر بالملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا. وقيل : الفساد القحط وقلة النبات وذهاب البركة. ونحوه قال ابن عباس قال : هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. قال النحاس : وهو أحسن ما قيل في الآية. وعنه أيضا : أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. وقال عطية : فإذا قل المطر قل الغوص عنده ، وأخفق الصيادون ، وعميت دواب البحر. وقال ابن عباس : إذا مطرت السماء تفتحت الأصداف في البحر ، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ. وقيل : الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش. وقيل : الفساد المعاصي وقطع السبيل والظلم ؛ أي صار هذا العمل مانعا من الزرع والعمارات والتجارات ؛ والمعنى كله متقارب. والبر والبحر هما المعروفان المشهوران في اللغة وعند الناس ؛ لا ما قاله بعض العباد : أن البر اللسان ، والبحر القلب ؛ لظهور
ما على اللسان وخفاء ما في القلب. وقيل : البر : الفيافي ، والبحر : القرى ؛ قاله عكرمة. والعرب تسمي الأمصار البحار. وقال قتادة : البر أهل العمود ، والبحر أهل القرى والريف. وقال ابن عباس : إن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر ؛ وقاله مجاهد ، قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهي بحر. وقال معناه النحاس ، قال : في معناه قولان : أحدهما : ظهر الجذب في البر ؛ أي في البوادي وقراها ، وفي البحر أي في مدن البحر ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ} أي عقاب بعض {الَّذِي عَمِلُوا} ثم حذف. والقول الآخر : أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم ، فهذا هو الفساد على الحقيقة ، والأول مجاز إلا أنه على الجواب الثاني ، فيكون في الكلام حذف واختصار دل عليه ما بعده ، ويكون المعنى : ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهما الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض الذي عملوا. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعلهم يتوبون. وقال : {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لأن معظم الجزاء في الآخرة. والقراءة {لِيُذِيقَهُمْ} بالياء. وقرأ ابن عباس بالنون ، وهي قراءة السلمي وابن محيصن وقنبل ويعقوب على التعظيم ؛ أي نذيقهم عقوبة بعض ما عملوا.
الآية : [42] {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}
قوله تعالى : {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض ليعتبروا بمن قبلهم ، وينظروا كيف كان عاقبة من كذب الرسل {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أي كافرين فأهلكوا.
الآية : [43] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}
قوله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} قال الزجاج : أي أقم قصدك ، واجعل جهتك اتباع الدين القيم ؛ يعني الإسلام. وقيل : المعنى أوضح الحق وبالغ في الإعذار ، واشتغل بما أنت فيه ولا تحزن عليهم. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ} أي لا يرده الله عنهم ، فإذا لم يرده لم يتهيأ لأحد دفعه. ويجوز عند غير سيبويه {لا مَرَدَّ لَهُ} وذلك عند سيبويه بعيد ، إلا أن يكون في الكلام عطف. والمراد يوم القيامة.
قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} قال ابن عباس : معناه يتفرقون. وقال الشاعر :
وكنا كنَدْمانَي جَذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
أي لن يتفرقا ؛ نظيره قوله تعالى : {وْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . والأصل يتصدعون ؛ ويقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ؛ ومنه اشتق الصداع ، لأنه يفرق شعب الرأس.
الآية : [44] {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
قوله تعالى : {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي جزاء كفره. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح ؛ ومنه : مهد الصبي. والمهاد الفراش ، وقد مهدت الفراش مهدا : بسطته ووطأته. وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها. وتمهيد العذر : بسطه وقبوله. والتمهد : التمكن. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد {فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} قال : في القبر.
الآية : [45] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}
قوله تعالى : {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل يصدعون ليجزيهم الله ؛ أي ليتميز الكافر من المسلم. {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
الآية : [46] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قوله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات أي بالمطر لأنها تتقدمه. وقد مضى في {الحجر} بيانه. {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} يعني الغيث والخصب. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} أي في البحر عند هبوبها. وإنما زاد {أَمْرِهِ} لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال بحبسها ، وربما عصفت فأغرقتها بأمره. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يعني الرزق بالتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم بالتوحيد والطاعة. وقد مضى هذا كله مبينا.
الآية : [47] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي المعجزات والحجج النيرات {فَانْتَقَمْنَا} أي فكفروا فانتقمنا ممن كفر. {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {حَقّاً} نصب على خبر كان ، {نَصْرُ} اسمها. وكان أبو بكر يقف على {حَقّاً} أي وكان عقابنا حقا ، ثم قال : {عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ابتداء وخبر ؛ أي أخبر بأنه لا يخلف الميعاد ، ولا خلف في خبرنا. وروي من حديث أبي الدرداء قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يذب عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة - ثم تلا -" وكان حقا علينا نصر المؤمنين ". ذكره النحاس والثعلبي والزمخشري وغيرهم."
الآية : [48] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
الآية : [49] {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}
قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} قرأ ابن محيصن وابن كثير وحمزة والكسائي : {الرِّيَحَ} بالتوحيد. والباقون بالجمع. قال أبو عمرو : وكل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع ، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد. وقد مضى في {البقرة} معنى هذه الآية وفي غيرها. {كِسَفاً} جمع كسفة وهي القطعة. وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبدالرحمن الأعرج وابن عامر {كِسَفا} بإسكان السين ، وهي أيضا جمع كسفة ؛ كما يقال : سدرة وسدر ؛ وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه ؛ أي فترى الودق أي المطر يخرج من خلال الكسف ؛ لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء لا غير فالتذكير فيه حسن. ومن قرأ : {كِسَفاً} فالمضمر عنده عائد على السحاب. وفي قراءة الضحاك وأبي العالية وابن عباس : {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خَلَلِهِ} ويجوز أن يكون خلل جمع خلال. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} أي بالمطر. {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بنزول المطر عليهم. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} أي يائسين مكتئبين قد ظهر الحزن عليهم لاحتباس المطر عنهم. و {مِنْ قَبْلِهِ} تكرير عند الأخفش معناه التأكيد ؛ وأكثر النحويين على هذا القول ؛ قاله النحاس. وقال قطرب : إن {قبل} الأولى للإنزال والثانية للمطر ؛ أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل : المعنى من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع ، ودل على الزرع المطر إذ بسببه يكون. ودل عليه أيضا {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} على ما يأتي. وقيل : المعنى من قبل السحاب من قبل رؤيته ؛ واختار هذا القول النحاس ، أي من قبل رؤية السحاب {لَمُبْلِسِينَ} أي ليائسين. وقد تقدم ذكر السحاب.
الآية : [50] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قوله تعالى : {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} يعني المطر ؛ أي انظروا نظر استبصار واستدلال ؛ أي استدلوا بذلك على أن من قدر عليه قادر على إحياء الموتى. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزه والكسائي : {آثَارِ} بالجمع. الباقون "بالتوحيد ؛ لأنه مضاف إلى مفرد. والأثر فاعل" يحيي "ويجوز أن يكون الفاعل اسم الله عز وجل. ومن قرأ : {آثَارِ} بالجمع فلأن رحمة الله يجوز أن يراد بها الكثرة ؛ كما قال تعالى : {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وقرأ الجحدري وأبو حيوة وغيرهما : {كَيْفَ تُحْيِي الأَرْضَ} بتاء ؛ ذهب بالتأنيث إلى لفظ الرحمة ؛ لأن أثر الرحمة يقوم مقامها فكأنه هو الرحمة ؛ أي كيف تحيي الرحمة الأرض أو الآثار." ويحيي "أي يحيي الله عز وجل أو المطر أو الأثر فيمن قرأ بالياء. و {كَيْفَ تُحْيِي الأَرْضَ} في موضع نصب على الحال على الحمل على المعنى لأن اللفظ لفظ الاستفهام والحال خبر ؛ والتقدير : فانظر إلى أثر رحمة الله محيية للأرض بعد موتها. {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} استدلال بالشاهد على الغائب."
الآية : [51] { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }
قوله تعالى : {و وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } يعني الريح ، والريح يجوز تذكيره. قال محمد بن يزيد : لا يمتنع تذكير كل مؤنث غير حقيقي ، نحو أعجبني الدار وشبهه. وقيل : فرأوا السحاب. وقال ابن عباس : الزرع ، وهو الأثر ؛ والمعنى : فرأوا الأثر مصفرا ؛ واصفرار الزرع بعد اخضراره يدل على يبسه ، وكذا السحاب يدل على أنه لا يمطر ، والريح على أنها لا تلقح {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} أي ليظلن ؛ وحسن وقوع الماضي في موضع المستقبل لما في الكلام من معنى المجازاة ، والمجازاة لا تكون إلا بالمستقبل ؛ قاله الخليل وغيره.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #560  
قديم 08-07-2025, 03:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ لقمــان
من صــ 46 الى صــ 55
الحلقة (560)






الآية : [52] {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
الآية : [53] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}
قوله تعالى : {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي وضحت الحجج يا محمد ؛ لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت عقولهم وعميت بصائرهم ، فلا يتهيأ لك إسماعهم وهدايتهم. وهذا رد على القدرية. {إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا} أي لا تسمع مواعظ الله إلا المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد وخلقت لهم الهداية. وقد مضى هذا في {النمل} ووقع قوله {بِهَادِ الْعُمْيِ} هنا بغير ياء.
الآية : [54] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}
قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ذكر استدلالا آخر على قدرته في نفس الإنسان ليعتبر. ومعنى : {مِنْ ضَعْفٍ} من نطفة ضعيفة. وقيل : {مِنْ ضَعْفٍ} أي في حال ضعف ؛ وهو ما كانوا عليه في الابتداء من الطفولة والصغر. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} يعني الشبيبة. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} يعني الهرم. وقرأ عاصم وحمزة : بفتح الضاد فيهن ، الباقون بالضم ، لغتان ، والضم لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الجحدري : {مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ} بالفتح فيهما ؛ {ضُعْفَا} بالضم خاصة. أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفراء : الضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم. الجوهري : الضعف والضعف : خلاف القوة. وقيل : الضعف بالفتح في الرأي ، وبالضم في الجسد ؛ ومنه الحديث في الرجل
الذي كان يخدع في البيوع : "أنه يبتاع وفي عقدته ضعف" . {وَشَيْبَةً} مصدر كالشيب ، والمصدر يصلح للجملة ، وكذلك القول في الضعف والقوة. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} عني من قوة وضعف. {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبيره. {الَقَدِيرُ} على إرادته. وأجاز النحويون الكوفيون {من ضَعَف} بفتح العين ، وكذا كل ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا.
الآية : [55] {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي يحلف المشركون. {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ليس في هذا رد لعذاب القبر ؛ إذ كان قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق أنه تعوذ منه ، وأمر أن يتعوذ منه ؛ فمن ذلك ما رواه عبدالله بن مسعود قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وهي تقول : اللهم أمتعني بزوجي رسول الله ، وبأبي أبي سفيان ، وبأخي معاوية ؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد سألت الله لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر" في أحاديث مشهورة خرجها مسلم والبخاري وغيرهما. وقد ذكرنا منها جملة في كتاب "التذكرة" . وفي معنى : {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} قولان : أحدهما : أنه لا بد من خمدة قبل يوم القيامة ؛ فعلى هذا قالوا : ما لبثنا غير ساعة. والقول الآخر : أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها ، كما قال الله تعالى : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون. قال تعالى : {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي كانوا يكذبون في الدنيا ؛ يقال : أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة : ممنوعة من المطر. وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه ، والقرآن يدل على غير ذلك ، قال الله عز وجل : كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ أي كما صرفوا عن الحق في قسمهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا ؛ وقال جل وعز : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقال : {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا}
الآية : 56 {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} اختلف في الذين أوتوا العلم ؛ فقيل الملائكة. وقيل الأنبياء. وقيل علماء الأمم. وقيل مؤمنو هذه الأمة. وقيل جميع المؤمنين ؛ أي يقول المؤمنون للكفار ردا عليهم لقد لبثتم في قبوركم إلى يوم البعث. والفاء في قوله : {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} جواب لشرط محذوف دل عليه الكلام ؛ مجازه : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث. وحكى يعقوب عن بعض القراء وهي قراءة الحسن : {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} بالتحريك ؛ وهذا مما فيه حرف من حروف الحلق. وقيل : معنى {فِي كِتَابِ اللَّهِ } في حكم الله. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ أي وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إلى يوم البعث ؛ قاله مقاتل وقتادة والسدي. القشيري : وعلى هذا {أُوتُوا الْعِلْمَ} بمعنى كتاب الله. وقيل : الذين حكم لهم في الكتاب بالعلم {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} أي اليوم الذي كنتم تنكرونه.
الآية : [57] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}
قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفعهم العلم بالقيامة ولا الاعتذار يومئذ. وقيل : لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا حالهم حال من يستعتب ويرجع ؛ يقال : استعتبته فأعتبني ، أي استرضيته فأرضاني ، وذلك إذا كنت جانيا عليه. وحقيقة أعتبته : أزلت عتبه. وسيأتي في "فصلت" بيانه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ} بالياء ، والباقون بالتاء.
الآية : [58] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ}
الآية : [59] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
الآية : [60] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه ، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل. {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أي معجزة ؛ كفلق البحر والعصا وغيرهما {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ} يقول الكفار إن أنتم يا معشر المؤمنين. {إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي تتبعون الباطل والسحر {كَذَلِكَ} أي كما طبع الله على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات عن الله فكذلك {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أدلة التوحيد { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي اصبر على أذاهم فإن الله ينصرك {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي لا يستفزنك عن دينك {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} قيل : هو النضر بن الحارث. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ يقال : استخف فلان فلانا أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغّي. وهو في موضع جزم بالنهي ، أكد بالنون الثقيلة فبني على الفتح كما يبنى الشيئان إذا ضم أحدهما إلى الآخر. {الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} في موضع رفع ، ومن العرب من يقول : الذون في موضع الرفع. وقد مضى في "الفاتحة" .
تفسير سورة لقمان
سورة لقمان
مقدمة السورة

وهي مكية ، غير آيتين قال قتادة : أولهما {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} إلى آخر الآيتين. وقال ابن عباس : ثلاث آيات ، أولهن {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ} وهي أربع وثلاثون آية.
الآية : [1] {الم}
الآية : [2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}
الآية : [3] {هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}
الآية : [4] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية : [5] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالى : {الم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} مضى الكلام في فواتح السور. و {تِلْكَ} في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أي هذه تلك. ويقال : {تِيكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} بدلا من تلك. والكتاب : القرآن. والحكيم : المحكم ؛ أي لا خلل فيه ولا تناقض. وقيل ذو الحكمة وقيل الحاكم {هُدىً وَرَحْمَةً} بالنصب على الحال ؛ مثل : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي. وقرأ حمزة : {هُدىً وَرَحْمَةً} بالرفع ، وهو من وجهين : أحدهما : على إضمار مبتدأ ؛ لأنه أول آية. والآخر : أن يكون خبر {تِلْكَ} . والمحسن : الذي يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإنه يراه. وقيل : هم المحسنون في الدين وهو الإسلام ؛ قال الله تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في موضع الصفة ، ويجوز الرفع على القطع بمعنى : هم الذين ، والنصب بإضمار أعني. وقد مضى الكلام في هذه الآية والتي بعدها في {البقرة} وغيرها.

الآية : [6] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}

قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} {من} في موضع رفع بالابتداء. و {لَهْوَ الْحَدِيثِ} : الغناء ؛ في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وهو ممنوع بالكتاب والسنة ؛ والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو.
قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية قوله تعالى : {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} قال ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ؛ اسمدي لنا ؛ أي غني لنا. والآية الثالثة قوله تعالى : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال مجاهد : الغناء والمزامير. وقد مضى في {سبحان} الكلام فيه. وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة وعلّي ابن يزيد يضعّف في الحديث ؛ قاله محمد بن إسماعيل. قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد ، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعّي."
قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء. روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبدالله بن مسعود عن قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ؛ يرددها ثلاث مرات. وعن ابن عمر أنه الغناء ؛ وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال قال عبدالله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ؛ وقاله مجاهد ، وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل. وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء. وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار. وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال : قال الله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري "باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك" ، وقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} فقوله : "إذا شغل عن طاعة الله" مأخوذ من قوله تعالى : {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وعن الحسن أيضا : هو الكفر والشرك. وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب. وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم ، واسفنديار ؛ فكان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد ؛ حكاه الفراء والكلبي وغيرهما. وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ؛ ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وهذا القول والأول ظاهر في الشراء. وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل. قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات
"من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين" . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : "قراء أهل الجنة" خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : "فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" . إلى غير ذلك. وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك. ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه" . ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء.
الثانية- وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ؛ فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ؛ كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام. قال ابن العربّي : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو. وفي اليراعة تردد. والدف مباح. الجوهريّ : وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة. قال القشيريّ : ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح" فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار. وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث
الثالثة- الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم ترد. وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق. وذكر أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبريّ قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ؛ وهو مذهب سائر أهل المدينة ؛ إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا. وقال ابن خويز منداد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان مذهبه تحريمها. وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أي بنّي! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك ، فطلب العلوم الدينية ؛ فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا. قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك. وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ؛ إلا ما روي عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا. قال : وأما مذهب الشافعّي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبدالعزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ؛ قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ؛ ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية. فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ؛ ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة. قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق.
وهذا دليل على أن الغناء محظور ؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم. وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : "أرِقْها" . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى. قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه. وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيدالله العنبري ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالسواد الأعظم. ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" . قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص.
قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز. وقد ادعى أبو عمر بن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. وقد مضى في الأنعام عند قوله : {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وحسبك
الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها. أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله. وقال أبو الطيب الطبري : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرة أو مملوكة. قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ؛ ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها.
الخامسة- قوله تعالى : {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قراءة العامة بضم الياء ؛ أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق "بفتح الياء" على اللازم ؛ أي ليضل هو نفسه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 388.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 383.13 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.49%)]