الباعث المعرفي على دراسة اللسان العربي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4479 - عددالزوار : 990068 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4016 - عددالزوار : 508988 )           »          ماذا يأكل المسلمون حول العالم؟ استكشف سفرة عيد الأضحى من مصر إلى كينيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 164 )           »          طريقة عمل الفتة بخطوات سريعة.. الطبق الرسمى على سفرة عيد الأضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 125 )           »          مقاصد الحج (ليشهدوا منافع لهم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 133 )           »          آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          أحكام وفضائل يوم النحر وأيام التشريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 135 )           »          أحكام الأضحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 136 )           »          يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 149 )           »          الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 127 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 21-10-2022, 07:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,519
الدولة : Egypt
افتراضي الباعث المعرفي على دراسة اللسان العربي

الباعث المعرفي على دراسة اللسان العربي
د. عبدالله معروف







"الملخص":
نروم - من خلال هذه الورقة - البحثَ في الدوافع المعرفية التي جعلت اللُّغويين العرب يُقعِّدون لسانهم، وينشئون علومًا استفاد منها مَنْ جاء بعدَهم في الدراسات اللِّسانية الحديثة، وهذا أمرٌ جليٌّ لا يُنكره إلَّا جاحدٌ، فلماذا فكَّر اللُّغويون الأوائل في إنشاء علومٍ للعربية؟ وما هي العوارض المعرفية التي حدَّدت منهجهم في الدراسة؟ وما هي العلوم اللِّسانية التي وضعوها ابتداءً؟


تقديم:
لقد كان اهتمامُ اللُّغويين العرب بدراسة اللِّسان العربي من اهتمامهمبالقرآن الكريم، وهذا يظهر بجَلاءٍ في خُطب مؤلَّفاتهم؛ إذ تجدهم يؤكِّدون على أن الغرض من هذه المصنَّفات خِدْمةُ كتاب الله عز وجل؛ ومِنْ ثمَّ فالنصُّ المخصوص بالوصْفِ هو الكتاب المنزَّل باللِّسان المبين، وما ورُود كلام العرب إلَّا للاستشهاد به في تفسير الظواهر، والاستدلال على الاطِّراد في القواعد.


وحِرْصًا من العرب على الحفاظ على لسانهم المبين الذي اختاره الله عز وجل وِعاءً لهذه الرسالة الخاتمة - ولاسيَّما بعد دخول الأعاجم فيالإسلام، وانتشار اللَّحْن على مستويات متعدِّدة (الصوتية والنحوية وغيرها) - عَمَدَ اللُّغويون إلى جمْع لسانهم لحفْظِه من التشويه والتحريف، ولفَهْمِ القرآن الكريم، والوقوف على معانيه، والإحاطة بدقائقه، أضِفْ إلى هذا رغبة اللُّغويين في أن يلتحق بهم غيرُ العرب في تعلُّم اللِّسان العربي؛ ليسهُل عليهم التعامُل مع القرآن تلاوةً وفهمًا ودراسةً، وبهذا كان لنزول كتاب الله عز وجل دورٌ أساسيٌّ في نشأة العلوم اللِّسانية العربية؛ حيث عَكَفَ العلماءُ على دراسةِ أصواتها ومفرداتها، ووصْفِ تراكيبها، وألَّفُوا في ذلك كُتبًا لضبْطِها وروايتها، ووضعوا القواعد التي تَصِفُ هذا اللِّسان وصْفًا مُحكمًا ودقيقًا.


وقد انْتهج علماءُ العربية للقيام بذلك منهجًا مُتميِّزًا في البحث اللُّغوي، مُعتمدين على ذوقهم، وإعمال العَقْل، ودقَّة الملاحظة، وكان ذلك في إطار الدراسة القرآنية، فكان لهم فَضْلُ السَّبْق في الوقوف على كثيرٍ من الظواهر الصوتية والصرفية والنَّحْوية التي أفادت المحدثين إفادةً جمَّةً، ولاسيَّما الغرب، فسبقت الأمةُ العربيةُ غيرَها من الأُمَم في التقعيد اللِّساني بمستوياته الصوتية والصرفية والنَّحْوية والدِّلالية.


وحسبُنا في هذا المقام أن نتناول الدافع وراء ظُهور الدرس الصوتي (علم الأصوات)، والدرس النَّحْوي (التركيب) عِلْمَين من علوم اللِّسان العربي، ونضع بهذا العمل البسيط الأساسَ لطرْح أسئلة عن الأُسُس المعرفية الأولى والإشكالات التي انبنى عليها هذا الصَّرْحُ الكبيرُ من العلوم، والكَشْف عن سرِّ بقاء هذا اللِّسان حيًّا دون عِلَّةٍ ولا نَقْصٍ على مرِّ العصور، فإنْ أصبْنا بعضَ الذي رُمْنا إليه فهو المبتغى، وإلَّا فحسبُنا إثارة الإشكال؛ لأنَّ معرفة الإشكال فتحٌ مِن الله، وعِلْمٌ في حدِّ ذاته.


1) الباعث على جَمْع القرآن الكريم وإعجامه:
مِن الأكيد أن الدافع إلى نشأة عِلْم اللِّسان عند العرب - كما سبقت الإشارة - مرتبطٌ بنُزُولِ القرآن الكريم وفسادِ السليقة؛ لاختلاط أقْحاحِ العرب بالعَجَم، وإسلام الموالي؛ فقد ذكَر ابنُ جنِّي أنَّ رجلًا لحَنَ بحضْرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((أرشِدُوا أخَاكُمْ؛ فَقَدْ ضَلَّ))[1]، فعدَّ اللَّحْنَ في الكلام ضلالةً؛ لأنه قد يُؤدي إلى لَحْنٍ في القرآن، وقد أورد ابنُ عساكر أن أعرابيًّا قَدِم زمن عمر بن الخطاب، فقال: من يُقْرئني ممَّا أُنزل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم؟ فأقْرأه رجلٌ من سورة براءة: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3] بكسر ورسولِه، فقال الأعرابيُّ: أوقد بَرِئ اللهُ من رسوله؟ إنْ يَكُن اللهُ قد بَرِئ من رسولِه، فأنا أبرأُ منه، فبلغ عمرَ مقالةُ الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتَبْرأُ مِن رسول الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني قدمْتُ المدينةَ، ولا عِلْمَ لي بالقرآن، فسألتُ مَنْ يُقْرئني، فأقرأني هذا سورةَ براءةٍ، وقصَّ عليه الخبرَ، فعَلَّمَه عمرُ، ثم قال: لا يُقرئ القرآنَ إلَّا عالمٌ باللُّغة[2]!


فاشترط الخليفة عمر على مُقْرئ القرآن العِلْمَ باللِّسان العربي؛ لأنه وِعاءُ القرآن الكريم الذي يُعَدُّ دستورَ المسلمين، ويشمل شريعتَهم ودليل عباداتهم ومعاملاتهم، وهذا الدستور صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومَتْنُه محفوظٌ بأمر الله عز وجل؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، محفوظٌ بعُمُومه لفظًا ومعنًى، وقد قيَّد له اللهُ عز جل رجالًا عَكَفُوا على خِدْمته لتحقيق مُرادِ الله تعالى في استمراره؛ فهذا عثمانُ رضي الله عنه سعى في جمْع مَتْنِه بعدَ حروب الرِّدَّة في مصحف سُمِّي باسمه، وكان الخطُّ الذي كُتِبَ به خاليًا مِن النقط؛ لهذا لم يكُنْ في مَأْمَنٍ مِن التصحيف والتحريف، على الرغم مِن كون جمْع المتْنِ اللَّبِنةَ الأساسيةَ في التَّقْعيد للِّسان، ويُعَدُّ أبو الأسود الدؤلي أوَّلَ مُشتغِلٍ بهذا المتْن؛ حيثُ وضَعَ أساسًا للحركات الإعرابية باستعمال النقط؛ فقد روي أنه قال لكاتبه: "خُذِ المصحفَ وصِبْغًا يُخالفُ لونَ المداد، فإذا فتحْتُ شفتي فانقُطْ واحدةً فوقَ الحَرْف، وإذا ضممْتُها فاجعل النُّقْطة إلى جَنْب الحرف، وإذا كسرْتُها فاجعل النُّقْطة في أسْفَلِه، فإنْ أتْبعْتُ شيئًا من هذه الحركات غُنَّةً فانقُطْ نُقْطتَين"، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، وانتشرت هذه الطريقة في ضَبْط القرآن الكريم إعرابًا إلى نهاية القَرْن الثاني الهجري عندما اقترح الخليلُ الحركاتِ الإعرابيةَ المتداولة اليوم؛ فجعل الضمَّ واوًا صغيرةً فوق الحرف، والكسرةَ ياءً مردودةً تحت الحرف، والفتحةَ ألِفًا مائلةً فوق الحرف، ووضَعَ علاماتٍ للهمزة والتشديد والرَّوم والإشمام[3]، كما عمِل تلامذةُ أبي الأسود الدؤلي على الفصْلِ بين الحروف المتشابهة في الصُّوَر بوضْع النُّقَطِ عليها أزواجًا وأفرادًا؛ فوضع نصْرُ بنُ عاصم الليثي، ويحيى بن يَعْمُر للباء واحدةً في الأسفل، وللتاء اثنتين من أعلى، وهكذا في بقية الحروف على ما نجده اليوم[4].


هكذا كان نزولُ القرآن وتكفُّلُ اللهِ عز وجل بحفْظِه - الدافعَ للاعتناء به كتابةً وإعرابًا، مِنْ خلال الاهتمام بفنِّ الخطِّ وتطويره، والحركات الإعرابية؛ حيثُ سخَّر الله عبادَه لخِدْمة وجَمْع مَتْنِه في مصحفٍ، وإعجامِ حروفه المتشابهة بوضْع نُقَطٍ عليها لبيانها، وضبْطِ إعرابه بإنشاء حركاتٍ إعرابيةٍ لألفاظه؛ لتلافي اللَّحْن، والمساهمةِ في ضَبْطِ الدِّلالة لما تقوم به الحركةُ الإعرابيةُ من دورٍ مُهِمٍّ في بيان رُتْبة الكَلِم وتحديد المعنى.
هذا بخصوص المصحف وحفظه.


ولما كانت تلاوةُ القرآن الكريم وتجويدُه أمرًا تعبُّديًّا مأمُورًا به جُلُّ المسلمين، فإنَّ هذا استدعى الاهتمام بأصواته وصفاتها، وحيثُ إنَّ القرآن مُنزَّلٌ بلسان عربيٍّ فإنَّ أصواته هي أصوات اللِّسان العربي، وهذا أدَّى إلى ظهور عِلْم الأصوات.



2) علم الأصوات العربية، دواعي الظهور والنشأة:
أمر اللهُ عز وجل عبادَه بترتيل القرآن العظيم، وإجادةِ نُطْقِه دون لَحْنٍ وتحريفٍ في التلفُّظ بأصواته، وهذا أمرٌ لا يُتاح إلَّا بالدُّرْبة والمشافهة وفق قواعدَ مُحدَّدةٍ ومُقرَّرةٍ يستطيع بها غيرُ ذي السليقة العربية نُطْقَ الأصوات العربية بالكيفية السليمة؛ ولهذا ظَهَرَ عِلْمٌ جليلٌ يُيسِّر قراءة القرآن بإعطاء كلِّ حرفٍ منه حقَّه ومُستحقَّه في مَخْرجه وصفاته، وهذا العلمُ لم يستأثر به علماءُ التجويد والقراءات فقط، بل اهتمَّ به علماء اللِّسان أيضًا فنجده أساسًا لبعض الدراسات المعجمية، وعند علماء الصرف وعلماء النحو وغيرهم، ولا ضيرَ ما دام الكلُّ يعمَل لخدمة كتاب الله عز وجل ودينه.


وقد وُسِمَتْ مصنفاتُ علماء القراءة والتجويد والرَّسْم والضَّبْط بأنها أكثرُ الكُتُب احتفاءً بالمادة الصوتية العربية؛ وذلك لابتغائها الدِّقَّة في تأدية كلمات القرآن الكريم قراءةً وتدوينًا إلى حدٍّ جعل بعضَ الباحثين يذهبون إلى أن هذه المؤلَّفات انفردت بالدرس الصوتي وأغْنَتْهُ[5]، على أنها أفادتْ من علم النحو عامَّةً، ومن كتب سيبويه خاصَّةً؛ يقول برجستراسر: "كان علم الأصوات في بدايته جزءًا من النحو، ثمَّ استعاره أهلُ الأداء والمقرئون"، وزادوا فيه تفصيلاتٍ كثيرةٍ مأخوذة من القرآن الكريم[6].


والحقُّ أن القراءات والتجويد يمثلان الجانب التطبيقي الوظيفي للدراسات الصوتية، وقد ظهرت في مرحلةٍ مبكِّرةٍ من تاريخ حضارتنا العلمي صَدْعًا بالأمر الإلهي: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، وصولًا إلى الوجه الأمثل لهذه التلاوة، ووصْفًا لأوجه الأداء المختلفة التي تبدَّت في القراءات القرآنية، وانطوى عليها الرسم العثماني للمصحف، لكنها اقتصرتْ بادئ الأمر على المشافَهة والتلقين دون الكتابة والتدوين، ثمَّ ظَهَرَتْ مصنَّفات القراءات القرآنية التي عنيتْ ببيان وجوهِ الأداء المختلفة معزوَّةً إلى ناقليها، ووجوه الأداء هذه تشتمل على الكثير من الظواهر الصوتية، كإدغام المتماثلين والمتقاربين وإظهارهما، ونبْر الهمْز وتسهيله وإبداله وحذفه، وإمالة الألف والفتحة وفتحهما...، إلى غير ذلك مما يدخل تحت ما يُدعى اليوم بعلم وظائف الأصوات[7].


ويُعتبر كتابُ أبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ) الذي جعل القرَّاء خمسةً وعشرين قارئًا - أولَ كتابٍ في القراءات[8]، أمَّا أولُ كتابٍ وصلنا في هذه الفنِّ فهو: كتاب السبعة لابن مُجاهد (324هـ) شيخ الصَّنْعة، وأول من سبَّع السبعة، وجاءت بعده كتب القراءة تقفو أثَرَه، وتنهَل من مَنْهَلِه على اختلاف عدد القُرَّاء في كلٍّ منها[9].


أما فنُّ التجويد فأولُ مَن صنَّف فيه - على ما يبدو - موسى بن عبيدالله ابن خاقان (325هـ) صاحب القصيدة الخاقانية في التجويد[10]، وهي تضمُّ واحدًا وخمسين بيتًا في حُسْن أداء القرآن الكريم[11]، وقد شرحها الإمام الداني (444هـ) صاحب التصانيف العديدة في القراءات والتجويد، ولعلَّ من أهمها في هذا الباب رسالته: "التحديد في الإتقان والتجويد"[12]، التي ضمَّنها بابًا في ذِكْر مخارج الحروف وآخَرَ في أصنافها وصفاتها، ثم أتى على ذكر أحوال النون الساكنة والتنوين عند جميع حروف المعجم، وأفرد بابًا لذكْر الحروف التي يلزم استعمال تجويدها وتعمد بيانها وتخليصها؛ لتنفصل بذلك من مشبهها على مخارجها[13].


ومِن أقدم ما وصَلَنا بعد القصيدة الخاقانية رسالة: "النبيه على اللَّحْن الجلي واللَّحْن الخفي"؛ لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المقرئ (461هـ)، وهي ذات موضوع طريف يتعلَّق بنُطْق الأصوات العربية، ويكشف عن الانحرافات النطقية الخفية التي يُمكن أن يقعَ فيها المتكلِّمُ، لاسيَّما قارئ القرآن الكريم؛ حيث يتطلَّب الأمرُ عنايةً خاصَّةً بأداء الأصوات[14].


ومما ينحو نحوَها كتابُ بيان العيوب التي يجب أن يتجنَّبها القُرَّاء، وإيضاح الأدوات التي بُني عليها الإقراء لابن البناء (471هـ)، وهو لا يقتصر على بيان الانحرافات النُّطْقية في الأصوات والعَجْز عن أدائها وبيان كيفية علاجها، إنما يتجاوز ذلك إلى معالجة موضوعاتٍ أخرى تتعلَّقُ بكيفيات الأداء، وبيان العادات الذميمة المتعلِّقة بالهيئات والجوارح، مع توضيح معايب النُّطْق الخاصة ببعض الأصوات، ممَّا يدخل في بابي أمراض الكلام، والأصول الواجب مراعاتها عند القراءة[15].


على أن أوسعَ ما وصَلَنا في علم التجويد كتاب: "الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق التلاوة"[16]؛ للإمام المقرئ أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (437هـ) صاحب التصانيف الجليلة في علوم القرآن والعربية، وقد جمع فيه صاحبُه فأوعى، ثم زاد فأربى على كلِّ مَنْ تقدَّمَه، وفي ذلك يقول: وما علمت أنَّ أحدًا من المتقدِّمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب، ولا إلى جَمْع مثل ما جمعتُ فيه من صفات الحروف وألقابها ومعانيها، ولا إلى ما أتبعتُ فيه كلَّ حرفٍ منها من ألفاظ كتاب الله تعالى، والتنبيه على تجويد لفظه والتحفظ به عند تلاوته[17].


وتتابعت بعد ذلك رسائل التجويد تقفو أثرَ ما تقدَّم، ولعلَّ أبرزها ما وضعه الإمام ابن الجزري (833هـ) المقرئ المشهور، وله في هذا الباب أكثرُ من أَثَرٍ، من ذلك كتابه: "التمهيد في علم التجويد"[18]، وقد تناول فيه كلَّ مسائل التجويد، وضمَّ إليها بابًا في الوقْف والابتداء، وآخرَ في معرفة الظاء وتمييزها من الضاد[19]، ومن ذلك أيضًا قصيدته المعروفة بالمقدِّمة الجزرية، وهي أرجوزةٌ في ثمانية ومائة بيت في التجويد والرسم والوقف والابتداء ...، وقد تداولها مَن خلفه بشروح عديدة[20]، أذكر منها: "الحواشي المفهمة في شرح المقدمة"؛ لأحمد بن الجزري (827هـ) ابن الناظم، و"الدقائق المحكمة في شرح المقدمة الجزرية"؛ لزكريا بن محمد الأنصاري (926هـ)[21].


ولم يستأثر علماء التجويد والقراءة بالتأليف والاهتمام بالدرس الصوتي، بل كان للُّغويين السَّبْقُ إليه، ولعلَّ أولَ فكرٍ صوتيٍّ وصَلَ إلينا من جيلِ الرُّواد المتقدِّمين ما يتمثلُ في تلك الإرهاصات اللِّسانية الأولى التي يُعَدُّ أبو الأسود الدُّؤلي رائدًا من رُوادِها، وعَلمًا من أعلامها، فقد حاول هذا العالم أن يَضَعَ رموزًا لجانب مُهِمٍّ من جوانب الدرس الصوتي، ونعني به: الحركات، ذلك أن العرب - ومعَهُم السَاميون - لم يُعيروا هذا الجُزءَ مِن الأصوات اهتمامًا ذا بالٍ، ممَّا أدَّى إلى وقوع الخطأ في تِلاوةِ القرآن الكريم، فعزم أبو الأسود على وضْع الحركات منْعًا لهذا الخطأ.


وقد جَرَتْ بعْدَ هذه المحاولة التي نهض بها هذا العالم - محاولاتٌ أُخَرُ لا تقِلُّ عنها أهميةً وشأنًا، منها على سبيل المثال: محاولة يحيى بن يَعْمُر، ونَصْر بن عاصم، التي هدفتْ إلى إصلاح نظام الكتابة العربية عن طريق وضْعِ نظامِ الإعجام والنَّقْط؛ وذلك من أجل التمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم؛ كالحاء، والجيم، والخاء، وغيرها ...، ممَّا يُؤدي إلى تَيْسير عملية القراءة، ودَفْع اللَّبْس في نُطْق الحروف التي يجمعها رَسْمٌ واحدٌ متشابه[22].


أما الخليل بن أحمد فيُعدُّ "إمام علماء الأصوات العرب؛ فقد قدَّم للفكر الصَّوتي العربي أهمَّ أُسسِه ومبادئه …، وكان الخليل مِن أوائل العرب والمسلمين الذين قدَّموا دراسةً دقيقةً للجهاز الصوتي، وهو الحَلْق والفم إلى الشفتين، وتقسيمه إياه إلى مناطق ومخارج، ويختصُّ كلٌّ منها بحرفٍ أو مجموعة حروف …"، وقدَّم الخليل أولَ تصنيفٍ للأصوات العربية حسب مخارجها، فابتدأَ بحروف الحَلْق، وتدرَّجَ في الصُّعُود حتَّى انتهى بحروف الشفتين، وجاء تلميذُه سيبويه، وأضاف إلى مخارج الأصوات طريقةَ نُطْقِها مِن حيث الشدَّةُ والرَّخاوةُ، وما بينهما، ووضع الأوتار الصوتية، وما ينتج عنها من جهْرٍ أو هَمْسٍ.


وقدَّم ابن جنِّي لمحاتٍ بارعةً في مجال الدَّرس الصوتي، وكان أحد العلماء العرب القدامى الذين التفتوا إلى القيمة التعبيرية للصَّوْت، فقال: "اللُّغة أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم"[23]، وقد بيَّن ابن جني مفهوم الصِّلة بين اللفظ والمعنى في أربعة أبواب من كتابه: "الخصائص"[24]، فهو في باب الاشتقاق الأكبر يُشير إلى أن أصوات المادة الواحدة - مهما كان ترتيبُها - ترتدُّ إلى معنًى واحدٍ، وأخذ يُعزِّز هذه النظرية بكثيرٍ من الشواهد[25]، ولكنه يستدرك بأن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها لا تطَّرد في كلِّ الألفاظ، وتحتاج إلى إحاطة تامَّةٍ، وتلمُّسٍ ذكيٍّ[26]، وتحدَّثَ في موقعٍ آخرَ في "الخصائص" بأن تقارب الأصوات ناتجٌ عن تقارب المعاني، فكلُّ كلمةٍ اشتركتْ مع أخرى بحرفين، وتقارَبَ مخرجُ الحرف الثالث فيهما - أدَّى ذلك التَّشابه الصوتي إلى تشابُه المعنى، فقال: "من ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ﴾ [مريم: 83]؛ أي: تُزعِجُهم وتُقلِقُهم، فهذا في معنى تهزُّهم هزًّا، والهمزة أُخت الهاء، فتقارَبَ اللفظان لتقارُب المعنيين، وكأنهم خصُّوا هذا المعنى بالهمزة؛ لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظمُ في النفوس من الهزِّ[27].


وقد أفاد ابنُ جني في آرائه الصوتية من كتاب سيبويه وكتب القراءات، فقد صرَّح في أول كتابه "المحتسب" أنه أفاد مِن كتاب أبي حاتم السجستاني في القراءات، وكتاب أبي علي محمد بن المستنير قُطرب[28]، كما أفاد من معاني القرآن للفرَّاء، واعتمد على ما كتب مجاهد في الشواذ، واحتجَّ بالقراءات على آرائه وتفسيراته الصوتية[29].


مِن خلال هذا المحور حاولنا بيان ارتباط علم الأصوات العربي بقراءة المتْن القرآني؛ لأن تلاوته هي الدافع وراء اهتمام اللُّغويين والقرَّاء بوصف الأصوات والتقعيد لها، ولم يكن التقعيد الصوتي هو العلم الذي ظهَر بظهور القرآن، بل يُمكننا القول: إن القرآن دفعَ العرب إلى العناية بعلومٍ شتَّى تهمُّ كلَّ مستويات الدرس اللِّساني، ومن بينها النحو.
يتبع





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 141.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 140.27 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]