دير العاقول .. حيث صرع المتنبي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 455 - عددالزوار : 20702 )           »          جهاد الأم في ميادين الصبر والتربية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          السجائر الإلكترونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          أكثر ما نحرص عليه أكثر ما نتركه خلفنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          إذا ثَقُلَ صدرُك راجِع وِرْدَك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          الثمرات اليانعات من روائع الفقرات .. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 7983 )           »          فضل الصدقة سرًا وعلانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          تداول النكت والطرائف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          إهمال الجانب الروحي في الحضارة المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          الشتاء والبرد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 10-08-2022, 06:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,407
الدولة : Egypt
افتراضي دير العاقول .. حيث صرع المتنبي

دير العاقول .. حيث صرع المتنبي


أ. د. عماد عبدالسلام رؤوف





دير العاقول

حيث صرع المتنبي

دراسة تاريخية طبوغرافية






تاريخه قبل الإسلام:
ليس في النصوص التاريخية ما يدل على تاريخ إنشاء (دير العاقول) واسم مؤسسه، خلافًا للعديد من الديارات المعاصرة له[1]، ويبدو أنه اكتسب اسمه من شكل مجرى نهر دجلة القريب منه، فالعاقول، كلمة آرامية - عربية تعني منعطف النهر والوادي[2]. أما اسمه الحقيقي، فليس ببعيد أن يكون مشتقًّا من اسم مؤسسه، أو منسوبًا - كما جرى به العرف - إلى أحد القديسين أو الشهداء، بيد أن معلوماتنا غير كافية لتوضيح هذا الأمر.

يرتقي تاريخ دير العاقول إلى عهود ما قبل الإسلام، فقد وردت الإشارة إليه في أخبار السنين الأولى للحكم الإسلامي في العراق. قال الدينوري المتوفى سنة 282هـ/895م عند حديثه عن فتنة الخوارج سنة 39هـ/659م "فاخذوا على الانبار، وتبطنوا شط الفرات حتى عبروا من قبل دير العاقول"[3]. على أن من الغريب حقًّا، أن ليس للدير أي ذكر، باسمه هذا، في مدونات المؤرخين النصارى طيلة القرون الأولى لانتشار النصرانية في العراق، مما يبعث على التساؤل فيما اذا كان للدير اسم آخر عرف به قبل الإسلام.

وفي الواقع فإنه يفهم مما أوردته المصادر التاريخية النصرانية أن منطقة دير العاقول هذه كانت حافلة بعدد من الديارات المهمة، وقد ذكر منها ايشوعدناح مطران البصرة في القرن الثالث (التاسع للميلاد) دَيرَين يبدو أنهما كانا قريبين من موضع دير العاقول إلى حد كبير. قال في ترجمته للقديس مار دوسا "أسس دير بيت آرامايي (بلاد الآراميين ويريد السواد) بجوار مدينة بيت اشكفيل، ويدعى دير بحزايي حتى اليوم" ثم ذكر أنه أسسه هو، وأخ له في الرهبنة، اسمه يوحنا "عند قرية اشكفيل التي بجوار دورا قوني"[4]. وعلى الرغم من عدم ورود أية إشارة إلى (بيت اشكفيل) هذه في بلدانية العراق القديمة، كما أن أحدا لم ينوه بدير بحزايي المذكور، فان دورا قوني بقيت معروفة تمامًا طيلة العهود الإسلامية، بسبب اشتهارها بالدير المعروف قُني (أو قوني) نسبة إليها. وبما أن الأخير لم يكن يبعد عن دير العاقول - كما سنلاحظ في بحثنا - سوى بضعة كيلو مترات فقط، يكون دير بحزايي هذا اقرب المواضع إلى موقع دير العاقول، بل قد يحتمل القول بأنه ليس إلا دير العاقول نفسه، بيد أن الأمر يبقى مجرد ظن طالما لم تظهر نصوص جديدة تؤكده، لا سيما وان كاتب الترجمة لم يذكر لنا أي شيء يمكن الاستدلال به على عصر مار دوسا المذكور.

أما الدير الآخر الموصوف بقربه من دير قني، فهو الذي أسسه مار كبرييل (جبرائيل) الكشكري. وقد ذكر ايشو عدناح أنه أسس ثلاثة أديرة في أماكن مختلفة من العراق، واحد منها (بقرب دورا قوني)، وأشار في ترجمته له أنه أقبل إلى "دورا قوني حيث شيد ديرًا بجوار قرية كرسا، ودعي دير كرسا حتى اليوم، واجتمع فيه إلى مائتين (كذا) أخ (راهب)"[5]. والظاهر أن هذا الدير هو الذي عرفه ايليا برشنايا (توفي 438 هـ/1046م) باسم (عمر [6] مار جبريال د كرسا) [7]. وليس لكرسا هذه أو ديرها أي ذكر لدى البلدانيين العرب، على أن وفاة كبرييل المتأخرة (سنة 121 أو 122/ 738-739) تؤكد أن تأسيس الدير كان بعد دير العاقول بفترة طويلة.

دير العاقول في العهود الإسلامية:
كثرت الإشارات إلى دير العاقول في كتب المؤرخين والبلدان وأهل الأدب، على حد سواء، منذ القرن الثالث للهجرة (التاسع للميلاد). ويفهم من تلك الإشارات أن بلدة كبيرة كانت تقوم بجواره. وإذ كنا نجهل تأريخ تأسيس الدير نفسه، فأنه يصبح من المتعذر تحديد زمن نشوء هذه البلدة. وفي رواية متأخرة نقلها ابن طولون الصالحي الدمشقي (المتوفى سنة 953هـ/ 1546م) إن قرية في نواحي الصلح الأعلى فوق الجانب الشرقي من واسط كانت تدعى في النصف الأول من القرن الأول للهجرة (السابع للميلاد) باسم (العاقول) [8]ض وأغلب الظن أنها نشأت بعد تأسيس الدير، لأنها انتسبت إليه، فعرفت باسم (قرية أو بلدة أو مدينة دير العاقول)، ولو كان وجودها سابق عليه، لانتسب الدير إليها بطبيعة الحال.

ويبدو أن لوقوع الدير في منطقة خصبة غناء، تحدها دجلة من الغرب، وتغذيها فروع النهروان من الشرق، أثره في ازدهار تلك المدينة وازدياد أهميتها، حتى أصبحت المركز الرئيس لطسوج النهروان الأوسط[9]. وعدت من أكبر مدن منطقة النهروان بأسرها. وقد وصفها اليعقوبي بقوله أنها "مدينة النهروان الأوسط، وبها قوم دهاقين أشراف"[10]. ولاحظ المقدسي أن "ليس على دجلة من نحو واسط مدينة اجل من دير العاقول، كبيرة عامرة آهلة"[11]. وذكر ابن رستة أن "بدير العاقول مسجد جامع وأسواق ومآصرة، وبها أصحاب السيّارة (ضرب من السفن)، ومآصر على دجلة[12]". ووصف هذه المآصر فقال "تشد سفينتان من احد جانبي دجلة، وسفينتان من الجانب الآخر، أو تشد السفن على الشطين، ثم تؤخذ قلوس (حبال) على عرض دجلة، وتشد رؤوسها إلى السفن لئلا تجوز السفن بالليل". وكان اتخاذ هذه المآصر وسيلة للتحكم في سير السفن، وجباية الضرائب منها واخذ العشور[13]. وهذا كله يؤكد أهمية مدينة دير العاقول وخطورة شأنها في ذلك العهد.

وبسبب هذه الاهمية المتزايدة، فقد تكرر اسم الدير ومدينته في مصادر تلك الفترة. ففي سنة 201هـ/816م نزل به أحد أعوان الحسن بن سهل، وهو محمد بن خالد المروزي، ثلاثة أيام، وذلك في أثناء الاحداث التي رافقت ولاية المنصور بن المهدي ببغداد[14]. وفي عام 262هـ/ 875م هبط دير العاقول يعقوب ابن الليث الصفار قاصدًا حرب الخليفة المعتمد العباسي. وطارت شهرة الدير عندما دارت معركة كبيرة في قرية اعلاه تعرف باسم (اضطربد) "انكسر فيها جند يعقوب شر كسرة"[15]. وتكرر ورود اسم دير العاقول في أثناء تحركات الجيوش العباسية للقضاء على ثورة الزنج بوصفها محطة مهمة على الطريق[16]، كما ورد اسمه أيضًا في أثناء احداث سنة 319هـ/931م[17] و326هـ/ 937م[18].

تفيدنا الاخبار بأن (مدينة دير العاقول) هذه كانت محاطة بعدد كبير من القرى الغناء والبساتين النزهة، وردت اسماء بعضها في كتب البلدانيين العرب، مثل دير قني، والجديدة، والصيادة، واضطربد، وسيب بني قوما، وبنارق وغير ذلك. وقد وصف البحتري[19] تلك النواحي الزاهرة وما تحفل به من مزارع النخيل والزيتون وصفًا شائقًا، في قصيدة له يمدح فيها ابن الفياض، وكان كاتبًا أديبًا من أهل دير العاقول:

نزلوا ربوة العراق ارتيادا
أي أرض أشف ذكرا وأسنى[20]

بين دير العاقول مرتبع يشرف
محتله إلى دير قنى[21]

حيث بات الزيتون من فوقه النخل
عليه ورق الحملم تغنى

ما الساعي الا المكارم ترتاد،
والا مصانع المجد تبنى[22]




وليس أدل على ازدهار هذه الناحية وحسن منظرها، من قول أحدهم[23] يصف ما بين الديرين: العاقول، وقنى:
بين الدَيرَين جنة دنيا
وصفُها زائدٌ على كل وصفِ


وبرز من دير العاقول جملة من أهلها محدثين وعلماء، وردت تراجمهم في كتب التاريخ والتراجم منذ القرن الثالث للهجرة (التاسع للميلاد) وحتى نهاية القرن السابع للهجرة (الثالث عشر للميلاد)[24].

على الرغم من كثرة أخبار مدينة العاقول، وتعدد إشارات الرحالين والبلدانيين إليها، فان دير العاقول نفسه، بقي كما كان، بعيدًا عن جلبة الحياة في هذه المدينة النامية، منعزلًا عنهما بحياته الخاصة. ومثلما لف الغموض تأسيس هذا الدير، فقد صاحب تاريخه طيلة القرون التالية، وحتى اندثاره. فلم يعرف شيء عن رهبانه، ونظمه، ولا عن أهميته في الحياة النسكية لنصارى العراق، ولم يرد اسم أحد من رؤسائه أو خبر عن قاطنيه.

بقي دير العاقول قائمًا عامرًا طيلة العصر العباسي، أما مدينته فقد أخذت بالتدهور والانكماش نتيجة الخراب المتصل الذي أخذ يزحف على مجموعة أنهار النهروان وقنواته، وهو ما أدت اليه الفوضى العسكرية التي عانت منها البلاد في أواخر العصر العباسي[25]، فخلت بعض القرى القريبة من الدير من سكانها تمامًا[26]، وعندما وصف ياقوت الحموي دير العاقول في الثلث الاول من القرن السابع الهجري (الثالث عشر للميلاد) أشار إلى أنه "كان عنده بلد عامر وأسواق أيام كون النهروان عامرًا، فأما الآن فهو بمفرده في وسط البرية"[27]. وفي اوائل القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر للميلاد) وصف المستوفي القزويني هذه البلدة بما يدل على أن الحياة ما تزال تدب فيها، ملاحظًا أن هواءها عطن بسبب ما يحيط بها من نخيل[28]، ولعل سبب تلك الظاهرة يعود إلى اهمال طرق الري وعدم تصريف مياه السقي كما كان الحال سابقًا.

وأشار إلى الدير في الثلث الاول من القرن الثامن (الرابع عشر الميلادي) الجغرافي ابن فضل الله العمري، فذكر أن إلى جانبه قرية كبيرة، وأنه يبعد عن المدائن بمسافة 12 فرسخًا، الا ان كلامه على هذا الدير اختلط بما ذكره عن دير قنى المجاور، فذكر انه راكب على دجلة، مع أن ياقوت صرح ببعده عنها، ويفهم مما ساقه من أشعار أن هذا الوصف متعلق بدير قنى دون غيره[29]. وليس في إشارة ابن عبد الحق (ت749هـ/1348م) إلى الدير في كتابه (مراصد الاطلاع) أي جديد، فأنه نقلها عن ياقوت. والظاهر أنه لم يزره بنفسه لشكه في الجهة التي يقع فيها. قال "وأظنه من شرقي دجلة". مع أنه كذلك فعلًا[30].

وبعد هذا التاريخ لم نعد نسمع أي خبر من دير العاقول ومدينته. وأغلب الظن أن المدينة سارت في طريقها إلى الزوال، كغيرها من المدن والقرى المجاورة. أما الدير نفسه فكان من المعتقد انه زال بزوال مدينته، فلم يبق منه سوى اسمه في كتب التاريخ وغيرها من المظان.

موقعه:
اهتم البلدانيون العرب بتحديد موقع دير العاقول بالنسبة إلى ما يحيط به من مواقع، كالمدن والقرى والديارات، وذلك نظرًا إلى أن دير العاقول كان يمثل محطة عن طريق المسافرين إلى واسط والبصرة. فذكر ياقوت أنه "بين مدائن كسرى والنعمانية، بينه وبين بغداد خمسة عشر فرسخًا"[31] والفرسخ يساوي ثلاثة أميال، أي نحو ستة كيلو مترات، فيكون بعده عن بغداد بمسافة 90 كيلو مترًا تقريبًا[32].

واتفقت معظم الخرائط العربية القديمة على أن اقرب مدينة اليه من ناحية الشمال، على دجلة، هي المدائن، حيث كان الدير يمثل المرحلة الاولى من طريق المدائن- واسط، تليه بعدها (جرجرايا) فالنعمانية[33]، وانفرد البلخي (ت322هـ/934م) بأن وضع بين دير العاقول والمدائن، في خريطته، بلدة سماها (السن) تتوسط المسافة بينهما[34]. ونحن نرى أن الاسم جاء مصحفًا عن (السيب)، وهي بلدة صغيرة سميت بـ(سيب بني قوما، أو كوما) تمييزًا لها عن غيرها، ووصفت بانها تبعد عن دير العاقول بثلاثة فراسخ[35]. أما من ناحية الجنوب، على دجلة، فقد وضعت الخرائط القديمة مدينة (جرجرايا) كأقرب مدينة إلى دير العاقول[36]. ووصف ياقوت هذه المدينة بأنها "بلد من أعمال النهروان الاسفل بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي"[37]. ويوضح ابن حوقل هذا الامر حين يجعل جراجرايا واقعة على كتف النهروان لا دجلة[38].

وأما مايتعلق بموقع دير العاقول من دجلة، فقد ذكر ياقوت أنه "على شاطئ دجلة مقدار ميل"[39][40]. ولم يحدد ياقوت العهد الذي كانت فيه دجلة قريبة من الدير، والظاهر أن بعدها عنه قديم، فقد ورد موضعه في (صورة العراق) لابن حوقل (القرن الرابع للهجرة/العاشر للميلاد) بعيدًا عن دجلة بمسافة ملحوظة. والذي نرجحه أن يكون الدير في الطرف الاقصى من مدينته، التي كانت تقع على شاطئ النهر مباشرة (وهو ما أدى إلى اتخاذها مركزًا لجباية الرسوم على السفن) والظاهر أن خراب المدينة أو تدهورها في عهد ياقوت (القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي) جعل الدير يبدو منعزلًا نسبيًا في نظر سالكي النهر.

ومما ذكره البلدانيون العرب في تعيين موقع هذا الدير، قولهم أنه كان قريبًا منه دير آخر شهير هو (دير قنى) (ويعرف بدير ماري السليح) [41]. وصفه الشابشتي، وعنه نقل ياقوت، بأنه "على ستة عشر فرسخًا من بغداد منحدرًا بين النعمانية، وهو في الجانب الشرقي معدود من أعمال النهروان، بينه وبين دجلة ميل ونصف (وعند ياقوت: ميل فقط) [42]. واذ ذكر ياقوت أن بعد دير العاقول عن بغداد هو خمسة عشر فرسخًا، يكون دير قنى مما يلي دير العاقول، من الأسفل بفرسخ واحد (6 كيلو مترات) باتجاه واسط[43].

يؤكد هذا ما ذكره ياقوت عن دير قنى انه معدود من أعمال النهروان بدجلة. وقد مر بنا أن هذا المصب كان في جنوب دير العاقول بدلالة وقوع جراجرايا عليه فضلًا عن آثاره الباقية إلى يومنا هذا. وذكر ياقوت أيضًا أن على دجلة مقابله أي مقابل دير قنى مدينة صغيرة يقال لها الصافية، واذا ما قرأنا ما كتبه عن هذه المدينة، نجده يقول "بليدة كانت قرب دير قنى في أواخر النهروان قرب النعمانية"[44]. فهي اذن في أسفل دير قنى، في الطريق إلى جرجرايا (على النهروان) والنعمانية، وسنذكر فيما يأتي أن اسم هذه المدينة لم يندثر باندثارها مما يساعد على تحديد موقع قنى، فدير العاقول في أعلاه.

آراء ومناقشات:
ان اعمالا تنقيبية، أو كشوفًا أثرية، لم تجرَ لحد الآن للبحث عن هذه المواضع التي وصفها لنا البلدانيون القدامى، فليس أمامنا الا أن نستدل بالمعلومات الخططية المتوفرة لدينا، على تعيين موضع دير العاقول ومدينته، وتكمن صعوبة هذا العمل في أن معظم اسماء تلك المواقع القديمة، قد زال بزوال مسمياتها نفسها، فلم يبق منها سوى مجموعات متناثرة من التلال تحمل- في الاغلب- أسماء أخرى لا صلة لها بما كانت عليه في ماضيها الزاهر.

ولقد أثار البحث عن موقع دير العاقول ومدينته مناقشات وآراء شتى، حيث لوحظ وجود تلول أثرية كبيرة متجاورة تعرف باسم (تلول الدير) قريبة من دجلة، في أعلى العزيزية، تبعد عن بغداد بنحو 80 أو 90 كم، بحسب الطريق المسلوكة اليه. فدفع هذا الكوماندر فيلكس جونز إلى القول في ابحاث له اجراها في المنطقة في منتصف القرن التاسع عشر، بأنها ان هي الا آثار دير العاقول نفسه. وافترض، بناء على هذا القول، أن يكون موقع دير قنى في التل المعروف بتل (القماز)، الواقع عن بعد نحو أربعين كيلو متر من جنوب شرقي موضع تلول الدير[45]. مع أن المسافة بين الديرين لم تكن تزيد في تقدير ياقوت عن فرسخ واحد (6كم).

وعلى الرغم من ان جونز لم يقدم لدعم افتراضاته أي دليل، فقد ايده فيما يتعلق منها بدير العاقول المستشرق غي ليسترانج (المتوفى سنة 1933م) وذكر ان الخارطة الحديثة مازالت تشير إلى آثاره، وهو يعني بذلك تلول الدير المشار اليها[46].

وحينما اثير النقاش حول موضع مصرع الشاعر المتنبي قرب دير العاقول، في اواخر الثلاثينيات، أيد آخرون، هم الدكتور عبد الوهاب عزام[47]، ويعقوب سركيس[48] راي جونز وليسترانج المتقدم. فقال سركيس "بما ان موضع دير العاقول هو في الاراضي المسماة بالدير اليوم لاتفاق كلام ياقوت على بعده من بغداد بخمسة عشر فرسخًا مع المسافة التي نجدها اليوم بينه وبين بغداد وقد قدرها الدكتور (عبدالوهاب عزام) بنحو ثمانين كيلو مترًا، فقد عين موضع دير العاقول، ومن ثم دير قنى، والصافية، بصورة تقريبية لا يشوب ذلك شك". وهذا الرأي، على الرغم من جزم صاحبه به، فقد كان مثار شك آخرين، بسبب عدم استناده إلى ادلة خططية سوى مسألة بعد الدير عن بغداد بالمسافة المذكورة، أما دير قنى والصافية فقد بقيا دونما أي تحديد.

وخالف الدكتور احمد سوسة هذا الرأي، ورأي فيه "تساهلًا كبيرًا لعم انطباقه على الاوصاف التي دونها لنا المؤرخون، وهي الاوصاف التي تؤيد وقوع دير العاقول في شمال دير قنى"[49].




خارطة توضح موقع دير العاقول وما كان يجاوره من المعالم في العصر العباسي.

معيدًا النظر فيما رآه جونز وليسترنج وغيرهما بشأن تلول الدير، هذا مع أن احدًا من أولئك الباحثين لم يختلف في وصف الاقدمين لموقع دير العاقول من دير قنى، وان تركوا الاخير دون تحديد، باستثناء جونز فانه اختار لموقعه (تل قماز) وهو في الجنوب فعلًا من تلول الدير، ولكن المسافة بينهما بعيدة جدًّا على ما أشرنا اليه من قبل. وفي الواقع، فان ثمة افتراضين اساسيين لمعرفة موقعي هذين الديرين، أولهما أن يكون دير قنى هو تلول الدير الحالية، فيقتضي البحث- عند ذاك- عن موقع دير العاقول شماله، وثانيهما أن يكون الأخير هو تلول الدير، فيوجب أن يكون دير قنى في جنوبه، وذلك استنادا للأوصاف التي ذكرها المؤرخون من كون دير العاقول في شمال دير قنى ببضعة كيلو مترات. وبما ان الدكتور سوسة قد اختار الفرض الاول، فقد ثبت موقع دير العاقول في الموضوع الاثري المعروف بتل أبي صخر (او أبي صخير) إلى الشمال من تلول الدير بنحو خمسة كيلو مترات. وقال "ان موضع دير العاقول يمكن تعيينه في التل المعروف اليوم باسم تل أبي صخير، وهو التل الواقع شمال تلول الدير بحوالي خمسة كيلو مترات، ويبعد موقع هذا التل عن ضفة نهر دجلة الحالي كيلو مترين (و الأصح: ثلاثة كيلو مترات) وتوجد في جنوب غربي تل أبي صخير آثار ابنية قديمة يرجح انها من بقايا مدينة دير العاقول[50]. ان هذه النتيجة سليمة اذا ما كان الفرض الذي تستند إليه سليمًا، ولكن الدكتور لم يبين سبب اختياره لهذه الفرض دون الآخر، فان الاستناد إلى الأوصاف التي تؤيد وقوع دير العاقول في شمال دير قنى لا يكفي لترجيح هذا الفرض وحده، بل من الممكن ان تتحقق هذه الاوصاف بالفرض الثاني ايضًا، خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار أن تل أبي صخير هذا محدود المساحة إلى درجة لا ينطبق عليها ما ذكر المؤرخون عن دير العاقول من أن عنده مدينة زاهرة فيها مسجد جامع وأسواق ومرافئ وغير ذلك. كما أن أولئك المؤرخين ذكروا بان مدينة دير العاقول كانت تقع على شاطئ دجلة مباشرة، وهو ما ينطبق على تلول الدير، في حين يبعد تل أبي صخير عن دجلة بنحو ثلاثة كيلو مترات - على ما تقدم - خالية من أي اثر لبناء سابق، والأرض بين أبي صخير ودجلة مرتفعة ارتفاعا طبيعيا يحول دون رؤية المنطقة من نهر دجلة، في الوقت الذي كان فيه الدير مرئيًّا للسالكين طريق النهر في عهد ياقوت على ما لاحظنا. ومن ناحية أخرى فأن ما ورد عن دير قنى، من انه يبعد عن دجلة بمسافة ميل أو ميل ونصف (كيلو مترين أو ثلاثة) يجعل من المستبعد أن تكون آثاره اليوم هي تلول الدير، فان هذه الآثار لا تبعد عن دجلة بأكثر من خمسمائة متر على أكثر تقدير.

ومما يؤكد هذا الرأي ما ذكره ياقوت عن دير قنى من أنه "على دجلة مقابله مدينة صغيرة يقال لها الصافية، وبالقرب منه (أي دير قنى) دير العاقول" وقد نقلنا من أقوال البلدانيين القدامى ما يفهم منها أنها كانت أقرب إلى مصب النهروان، أي في جنوب دير قنى. ومن حسن الحظ أن اسم هذه المدينة لم يندثر، فما زال يحمله نهر صغير، يعرف بالصافي، يبعد عن مدينة العزيزية الحالية جنوبًا نحو خمسة كيلو مترات، وفي أسفله مباشرة آثار قرية أو مدينة داثرة تقع على مجرى دجلة القديم المسمى اليوم بشط الاعمى، وهي على ما يدل الاسم والموقع[51] آثار مدينة الصافية القديمة المذكورة. وتعيين موضع هذه المدينة يقتضي أن يكون دير قنى في أعلاها، وعلى مقربة منها، لما نص عليه الاقدمون، أي ان يكون في منطقة العزيزية، جنوبها أو غربها، بمسافة محدودة. وبعيد جدا أن يكون في منطقة تلول الدير، لأن بعد هذه التلول من الصافية يقدر بسبعة عشر كيلو مترا تقريبًا، في اتجاه منحرف بانعطاف نهر دجلة في تلك النواحي.

وليس من اليسير تحديد موقع دير قنى بأكثر مما ذكرنا، فانه فقد معالمه كدير منذ انتهاء أخباره في القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر للميلاد) إذ نوه ابن عبد الحق (ت739هـ/1338م) بأن الخراب كان مستوليًا عليه في زمانه[52]، ولم نعد نسمع أي ذكر له، بعد ذلك، على الإطلاق.

في حين بقي دير العاقول معروفًا باسمه هذا حتى وقت متأخر، وعلى التحديد في منتصف القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر للميلاد)، وربما بعد هذا التاريخ أيضًا، على ما سنفصله بعد قليل. وبما انه ليس ثمة أي موقع أثري في المنطقة يعرف بالدير سوى (تلول الدير) المذكورة، فأنه يصبح منطقيًّا القول بأن هذه التلول إن هي الا بقايا دير العاقول ومدينته.

تحديد موضع مصرع المتنبي:
يتضح للقارئ الآن ان الصافية كانت اقرب إلى دير قنى منها إلى دير العاقول، وان المسافة بين الديرين تصل إلى ستة كيلو مترات أو تزيد، فليس صوابًا اذن ما نقله ابن خلكان (ت681هـ/1282م) في نصه المضطرب عن موضع مصرع المتنبي سنة 354هـ/964م من أنه "قتل في موضع يقال له الصافية، وقيل جبال (الصواب: حيال) الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين" وموضع الخطأ- فيما نعتقد- تحديد المسافة بميلين، وهي أطول من ذلك على ما قدمنا. وفال ابن الجوزي (ت597هـ/1200م) "فقتل بالطريق بالقرب من النعمانية.. وكان قتله بشط دجلة في موضع يعرف بالصافية"[53].

وبما ان موقع الصافية قد تحدد تمامًا، فيمكن القول بان مصرع المتنبي كان فيها او عندها، والظاهر أنه كان في قرية من قراها تدعى (بيزع) استنادا إلى ما ذكره ياقوت عن هذه القرية من أنها "بين دير العاقول وجبل (مدينة في أعلى الكوت الحالية بقليل) بها قتل ابو الطيب المتنبي"[54]، فبيزع اذن كانت اعلى الصافية، على طريق الصاعد إلى دير العاقول (وهذان الموضعان قد عينا بدقة في هذا البحث) واذ كانت ثمة دلائل عديدة تشير إلى ان المقتل كان في (ضيعة) على الطريق، يكون المتنبي قد قتل وهو خارج عنها، في طريقه إلى دير العاقول لكونه مدينة مشهورة ومحطة مهمة على طريق واسط- بغداد[55] أما الرواية القائلة بـأنه قتل في الجانب الغربي، حيال الصافية فلا اهمية لها، اذ انها ضعيفة نوه بضعفها ياقوت نفسه[56] (معجم البلدان 1/257) كما ان طريق واسط- بغداد الذي سلكه المتنبي كان على الجانب الشرقي، ويعد دير العاقول، كما ذكرنا، أهم محطاته. على أن من الغريب المؤسف ان يتجاهل بعض الكتاب المعاصرين كل هذه الحقائق ومنها مواقع ما زالت أسماءها الاصلية، فيتوجه نظرهم إلى قبر مجهول يبعد عن مدينة النعمانية الحالية بنحو كيلو متر واحد شمالًا وعن النعمانية الحالية بنحو كيلو متر واحد شمالًا (وعن النعمانية القديمة وهي تل النعمان اليوم بخمسة كيلو مترات) في الجانب الغربي من دجلة، يعرف بقبر (ابو سوره)، ويتنادون بتكريم المتنبي بإقامة نصب شامخ له هناك (مع ان موضع مقتله امسى معروفًا قرب الصافية على ما ثبتناه، وهو موضع يبعد عن قبر أبي سوره المزعوم بأكثر من 65كم على الاقل). وليس ثمة أي دليل او اثر يمكن الاستدلال به على العلاقة بين هذا القبر ومصرع المتنبي، فلا هو حيال الصافية (ان هم أخذوا بالرواية الضعيفة التي نقلها ابن خلكان) ولا هو في طريق المتجه من واسط إلى بغداد، أما ابو سورة فلا يعرف عنه شيء يستدل به على هويته، لكن يلفت النظر ان موقعه قريب من مأخذ نهر سورا القديم المتصل بالفرات، فلعله اكتسب اسمه من قربه من هذا النهر الشهير[57].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 129.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 127.31 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]