تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 199 - عددالزوار : 16551 )           »          الْمَسْجِدُ الأَقْصَى أَوَّلُ قِبْلَة لِلْمُسْلِمِيْنَ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 175 )           »          اليهود وخطورة تحريفهم لمفهوم المسجد الأقصى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          هل وصل الضعف بالمسلمين إلى القول بأن للأقصى ربا يحميه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          الصحابة من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          توجيه عبارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          السعادة للفتاة أساسها القرب من الله عزباء أو متزوجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          التعامل بجدية في تربية أبنائنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          الأخوة المفقودة.. بين الواجب والواقع! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 91 )           »          التعليم والإعلام شريكان في تحصين شبابنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #2  
قديم 10-01-2022, 09:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,747
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفاتحة
المجلد الثانى
صـ 3 الى صـ 9

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ


فَاتِحَةُ الشَّيْءِ: أَوَّلُهُ وَابْتِدَاؤُهُ. وَلَمَّا افْتُتِحَ التَّنْزِيلُ الْكَرِيمُ بِهَا، إِمَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- كَمَا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ فِي تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ- سُمِّيَتْ بِذَلِكَ.

قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ لِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا «الْفَاتِحَةُ» وَحْدَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَمًا آخَرَ بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا، لِكَوْنِ اللَّامِ لَازِمَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا، وَاللَّامُ كَالْعِوَضِ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْكِتَابِ، مَعَ لَمْحِ الْوَصْفِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سُمِّيَتْ «فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» : لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِكِتَابَتِهَا الْمَصَاحِفُ، وَيُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ. فَهِيَ فَوَاتِحُ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ.

وَتُسَمَّى «أُمَّ الْقُرْآنِ» : لِتُقَدُّمِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا، وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا خَلْفَهَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ تُقَدَّمُ الْأُمُّ وَالْأَصْلُ؛ أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَالتَّعَبُّدُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبَيَانُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ؛ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ مَعَانِيهِ مِنَ الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَعَارِجِ السُّعَدَاءِ، وَمَنَازِلِ الْأَشْقِيَاءِ.

وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ أَمْرٍ جَامِعٍ أُمُورًا، وَكُلَّ مُقَدَّمٍ لَهُ تَوَابِعُ تَتْبَعُهُ «أُمًّا» - فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ «أُمَّ الرَّأْسِ» وَتُسَمِّي لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا «أُمًّا».

وَتُسَمَّى «السَّبْعَ الْمَثَانِيَ» - جَمْعُ مَثْنَى كَمُفْعَلٍ اسْمِ مَكَانٍ، أَوْ مُثَنَّى بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّثْنِيَةِ [ ص: 4 ] عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ- لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ أَيْ تُكَرَّرُ فِيهَا.

وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ.

وَأَصْلُ مَعْنَى «السُّورَةِ» لُغَةً: الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الِارْتِفَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ سُورُ الْمَدِينَةِ لِلْحَائِطِ الَّذِي يَحْوِيهَا، وَذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ عَلَى مَا يَحْوِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيَانَ:


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ


أَيْ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الشَّرَفِ الَّتِي قَصَرَتْ عَنْهَا مَنَازِلُ الْمُلُوكِ.

وَأَمَّا «الْآيَةُ» فَإِمَّا بِمَعْنَى: الْعَلَامَةُ- لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا تَمَامُ مَا قَبْلَهَا وَابْتِدَاؤُهَا، كَالْآيَةِ الَّتِي تَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الشَّيْءِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ- وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْقِصَّةِ- كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:


أَلَا أَبْلِغَا هَذَا الْمُعَرِّضَ آيَةً أَيَقْظَانَ قَالَ الْقَوْلَ، إِذْ قَالَ، أَمْ حَلَمْ


أَيْ رِسَالَةٌ مِنِّي، وَخَبَرًا عَنِّي- فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَاتِ «الْقَصَصَ» قِصَّةً تَتْلُو قِصَّةً.

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[1 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ تَقْدِيمَ ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي وَصْفِهِ بِهَا قَبْلَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ ، وَجَعَلَ -مَا أَدَّبَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ- مِنْهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ : سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلًا يَتْبَعُونَهُ عَلَيْهَا ، فَبِهِ افْتِتَاحُ أَوَائِلِ مَنْطِقِهِمْ ، وَصُدُورِ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ ، حَتَّى أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : بِسْمِ اللَّهِ ، عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مُرَادِهِ الَّذِي هُوَ مَحْذُوفٌ ، [ ص: 5 ] وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ مُقْتَضِيَةٌ فِعْلًا يَكُونُ لَهَا جَالِبًا ؛ فَإِذَا كَانَ مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ بِمَا جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ . وَالِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ -كَالْكَلَامِ بِمَعْنَى التَّكْلِيمِ ، وَالْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ- وَالْمَعْنَى : أَقْرَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ ، وَأَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى . وَ "اللَّهُ" عَلَمٌ عَلَى ذَاتِهِ ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ وَيَعْبُدُهُ وَأَصْلُهُ "إِلَاهُ" بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ أَيْ مَعْبُودٍ ؛ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ ؛ وَبَعْدَ الْإِدْغَامِ فُخِّمَتْ تَعْظِيمًا -هَذَا تَحْقِيقُ اللُّغَوِيِّينَ .

وَ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : هُمَا اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَنَظِيرُهُمَا فِي اللُّغَةِ "نَدِيمٌ وَنَدْمَانُ" وَهُمَا بِمَعْنًى . وَيَجُوزُ تَكْرِيرُ الِاسْمَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَ اشْتِقَاقَهُمَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ ، كَمَا يُقَالُ : جَادٌّ مُجِدٌّ إِلَّا أَنَّ "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ مُخَصَّصٌ بِاللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ فَعَادَلَ بِهِ الِاسْمَ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . اهـ.

وَقَدْ نَاقَشَ فِي كَوْنِ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ الْمِصْرِيُّ فِي بَعْضِ مَبَاحِثِهِ التَّفْسِيرِيَّةِ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ غَفْلَةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُسَامِحَ صَاحِبَهَا -ثُمَّ قَالَ:- وَأَنَا لَا أُجِيزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ ، فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ : إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً جَاءَتْ لِتَأْكِيدِ غَيْرِهَا وَلَا مَعْنًى لَهَا فِي نَفْسِهَا ، بَلْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَرْفٌ جَاءَ لِغَيْرِ مَعْنًى مَقْصُودٍ . وَالْجُمْهُورُ : عَلَى أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَنِ الْمُنْعِمُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ ، وَمَعْنَى الرَّحِيمِ الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِهَا . وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِنِعَمٍ عَامَّةٍ تَشْمَلُ الْكَافِرِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ ، وَالرَّحِيمَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَكُلُّ هَذَا تَحَكُّمٌ بِاللُّغَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ الزِّيَادَةَ تَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ مُطْلَقًا؛ فَصِيغَةُ "الرَّحْمَنِ" تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعْطِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ جَلِيلًا [ ص: 6 ] أَوْ دَقِيقًا. وَأَمَّا كَوْنُ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَكْثَرُ حُرُوفًا أَعْظَمَ مِنْ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَقَلُّ حُرُوفًا ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْنِيٍّ وَلَا مُرَادٍ ، وَقَدْ قَارَبَ مَنْ قَالَ : إِنَّ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ" الْمُحْسِنُ بِالْإِحْسَانِ الْعَامِّ . وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَخْصِيصِ مَدْلُولِ الرَّحِيمِ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ : إِنَّ الثَّانِيَ مُؤَكِّدٌ لِلْأَوَّلِ -عَلَى قَوْلِهِ هَذَا- هُوَ عَدَمُ الِاقْتِنَاعِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ ، مَعَ عَدَمِ التَّفَطُّنِ لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي أَقُولُ : إِنَّ لَفْظَ "رَحْمَنِ" وَصْفٌ فِعْلِيٌّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ - كَفَعَّالٍ - وَيَدُلُّ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ -كَعَطْشَانَ وَغَرْثَانَ وَغَضْبَانَ- وَأَمَّا لَفْظُ "رَحِيمٍ" فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ كَالْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا فِي النَّاسِ -كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَجَمِيلٍ- وَالْقُرْآنُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي تَعْلُو عَنْ مُمَاثَلَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ فَلَفْظُ "الرَّحْمَنِ" يَدُلُّ عَلَى مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ إِفَاضَةُ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ ؛ وَلَفْظُ "الرَّحِيمِ" يَدُلُّ عَلَى مَنْشَأِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُسْتَغْنَى بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ ، فَإِذَا سَمِعَ الْعَرَبِيُّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِـ "الرَّحْمَنِ" ، وَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ فِعْلًا ، لَا يَعْتَقِدُ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ دَائِمًا -لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَنْقَطِعُ إِذَا كَانَ عَارِضًا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ ثَابِتَةٍ -فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ لَفْظَ "الرَّحِيمِ" يَكْمُلُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَيُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ . انْتَهَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[2 ] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

" الْحَمْدُ لِلَّهِ" أَيِ الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ ، وَالْمَدْحُ بِالْكَمَالِ ثَابِتٌ لِلَّهِ دُونَ سَائِرِ مَا يَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونِ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ . وَاللَّامُ فِي "الْحَمْدُ" لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيِ اسْتِغْرَاقُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْحَمْدِ وَثُبُوتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَتَمْجِيدًا- كَمَا فِي الْحَدِيثِ : « اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ» .

[ ص: 7 ] قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "طَرِيقِ الْهِجْرَتَيْنِ": الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُتَلَازِمَانِ. فَكُلُّ مَا شَمِلَهُ مُلْكَهُ وَقُدْرَتُهُ شَمِلَهُ حَمْدُهُ ، فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي مُلْكِهِ ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ مَعَ حَمْدِهِ ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ ، يَسْتَحِيلُ خُرُوجُهَا عَنْ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَلِهَذَا يَحْمَدُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عِنْدَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِيُنَبِّهَ عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَنْ حَمْدِهِ . فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ ، حَمْدَ شُكْرٍ وَعُبُودِيَّةٍ ، وَحَمْدَ ثَنَاءٍ وَمَدْحٍ، وَيَجْمَعُهُمَا التَّبَارُكُ ، "فَتَبَارَكَ اللَّهُ" يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَالْحَمْدُ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّ الْمَدَائِحِ . وَالطُّرُقُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ ، وَالسَّبِيلُ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ وَجُزْئِيَّاتِهِ ، وَتَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاسِعَةٌ جِدًّا ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَمْدٌ ، وَصِفَاتُهُ حَمْدٌ ، وَأَفْعَالُهُ حَمْدٌ ، وَأَحْكَامُهُ حَمْدٌ ، وَعَدْلُهُ حَمْدٌ ، وَانْتِقَامُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ حَمْدٌ ، وَفَضْلُهُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ حَمْدٌ ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إِنَّمَا قَامَ بِحَمْدِهِ ، وَوُجِدَ بِحَمْدِهِ ، وَظَهَرَ بِحَمْدِهِ ، وَكَانَ الْغَايَةُ هِيَ حَمْدُهُ ، فَحَمْدُهُ سَبَبُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ وَمَظْهَرُهُ وَحَامِلُهُ ، فَحَمْدُهُ رُوحُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَقِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَمْدِهِ ، وَسَرَيَانُ حَمْدِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ ، وَظُهُورُ آثَارِهِ فِيهِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ -ثُمَّ قَالَ- : وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ صِفَةِ عَلْيَاءَ ، وَاسْمِ حُسْنٍ ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ ، وَكُلُّ حَمْدٍ وَمَدْحٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَنْزِيهٍ وَتَقْدِيسٍ وَجَلَالٍ وَإِكْرَامٍ فَهُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا وَأَدْوَمِهَا ؛ وَجَمِيعُ مَا يُوصَفُ بِهِ ، وَيُذْكَرُ بِهِ ، وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِهِ فَهُوَ مَحَامِدُ لَهُ وَثَنَاءٌ وَتَسْبِيحٌ وَتَقْدِيسٌ، فَسُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ . اهـ.

" رَبِّ الْعَالَمِينَ" الرَّبُّ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ الْمُطَاعِ وَعَلَى الْمُصْلِحِ وَعَلَى الْمَالِكِ -تَقُولُ : رَبَّهُ يَرُبُّهُ فَهُوَ رَبٌّ كَمَا تَقُولُ : نَمَّ عَلَيْهِ يَنِمُّ فَهُوَ نَمٌّ -فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [ ص: 8 ] مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ ، وَهِيَ : تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وُصِفَ بِهِ الْفَاعِلُ مُبَالَغَةً كَمَا وُصِفَ بِالْعَدْلِ ، وَالرَّبُّ - بِاللَّامِ - لَا يُقَالُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَهُوَ فِي غَيْرِهِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْإِضَافَةِ - كَرَبِّ الدَّارِ- وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ

وَ "الْعَالَمِينَ" جَمْعُ عَالَمٍ وَهُوَ : الْخَلْقُ كُلُّهُ وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهُ ، وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِبَيَانِ شُمُولِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ، وَالتَّعْرِيفُ لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ كُلٍّ مِنْهَا بِأَسْرِهَا .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[3 ] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِيرَادُهُمَا عَقْدُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ بَابِ قَرْنِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ الَّذِي هُوَ أُسْلُوبُ التَّنْزِيلِ الْحَكِيمِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[4 ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ "مَالِكِ" وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : وَرُجِّحَتْ قِرَاءَةُ "مَلِكِ" لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَقْرَأُوا الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ، وَقُرَّاؤُهُمُ الْأَعْلَوْنَ رِوَايَةً وَفَصَاحَةً ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [ ص: 9 ] فَقَدْ وَصَفَ ذَاتَهُ بِأَنَّهُ الْمَلِكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْقُرْآنُ يَتَعَاضَدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَتَتَنَاسَبُ مَعَانِيهِ فِي الْمَوَادِّ. وَثَمَّةُ مُرَجِّحَاتٍ أُخْرَى .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ قِرَاءَةَ "مَالِكِ" أَبْلَغُ ، لِأَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ أَعْمَالَ رَعِيَّتِهِ الْعَامَّةَ ، وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شُؤُونِهِمُ الْخَاصَّةِ . وَتَظْهَرُ التَّفْرِقَةُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فِي مَمْلَكَةٍ لَهَا سُلْطَانٌ ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَمِيعَ شُؤُونِهِ دُونَ سُلْطَانِهِ ، وَمِنْ وُجُوهِ تَفْضِيلِهَا : إِنَّهَا تَزِيدُ بِحَرْفٍ ، وَلِقَارِئِ الْقُرْآنِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ -كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ فِي السَّبْعِ .

وَ "الدِّينِ" الْحِسَابُ وَالْمُجَازَاةُ بِالْأَعْمَالِ . وَمِنْهُ : « كَمَا تَدِينُ تُدَانُ » أَيْ : مَالِكُ أُمُورِ الْعَالَمِينَ كُلِّهَا فِي يَوْمِ الدِّينِ ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِضَافَةِ إِمَّا لِتَعْظِيمِهِ وَتَهْوِيلِهِ، أَوْ لِبَيَانِ تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِإِجْرَاءِ الْأَمْرِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[5 ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

قَالَ الطَّبَرِيُّ : أَيْ : لَكَ ، اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ. إِقْرَارًا لَكَ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَا لِغَيْرِكَ -قَالَ- وَالْعُبُودِيَّةُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصْلُهَا الذِّلَّةُ ، وَأَنَّهَا تُسَمِّي الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ "مُعَبَّدًا" ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ "مُعَبَّدٌ" ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ "عَبْدًا" ; لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ انْتَهَى .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 814.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 812.91 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.21%)]