أسباب نشوء البدع - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 799 - عددالزوار : 118124 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 39997 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366464 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 11-12-2021, 09:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,175
الدولة : Egypt
افتراضي أسباب نشوء البدع

أسباب نشوء البدع
د. محمود بن أحمد الدوسري



إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
فتختلف أسباب نشوء البدع باختلاف الزمان والمكان، وباختلاف أصناف الناس وأحوالهم؛ فما هو شائعٌ في مكانٍ ما؛ قد يكون نادرًا في مكانٍ آخر، وما هو حادِث في زمنٍ ما؛ قد يتلاشى في زمنٍ آخر، وأمَّا عن أصناف الناس وأحوالهم، فالأسباب الخاصة بهم تختلف وتتنوَّع باختلافهم وتوُّعهم؛ فهناك مِنَ الناس مَنْ هو رأسُ بدعةٍ ومُنشِئُها، ومنهم المُقلِّد المُتَّبع بوعيٍ وعلم، ومنهم العاميُّ المُقلِّد دون علمٍ ودون وعيٍ، وفيما يلي أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء البدع:
السبب الأول: الجهل.
السبب الثاني: اتِّباع الهوى.
السبب الثالث: تقديم آراء الشُّيوخ والأكابر على النُّصوص.
السبب الرابع: تقديم العقل على النَّقل.
السبب الخامس: التعلُّق بالشُّبهات.
السبب السادس: مجالسة أهل البدع والأهواء.
السبب السابع: الاستمساك بالنُّصوص الموضوعة والضعيفة.
السبب الثامن: الغلو في الدِّين.

فهذه الأسباب أدَّت إلى نشوء البدع، وترجع خطورة انتشار البدعة إلى أنه كُلَّما تظهر بدعةٌ تؤدِّي إلى اختفاء سُنَّة، وعند ذلك يتعاهد الناسُ البدعة ويهجرون السُّنَّة، ومع مرور الزمان وتتابع الأجيال على ذلك تحيا البدعُ وتموتُ السُّنن؛ كما قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (مَا أَتَى عَلَى النَّاسِ عَامٌ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً؛ حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ)[1]، وهذه الأسباب التي أدَّت إلى ظهور البدع، وهجر السُّنن، قد أشار إليها القرآن العظيم وحذَّر منها النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم وكذا مَنْ تبعه من العلماء الربانيين، وبيان ذلك ما يلي[2]:
السبب الأول: الجهل:
من أعظم أسباب نشوء البدع وانتشارها الجهل بالدِّين؛ بل هو القاسم المشترك في الوقوع في المُحرَّمات جميعها من كفرٍ وبدعٍ ومعاصٍ، وهذا الجهل له صور مختلفة؛ فمن ذلك: الجهل بالنصوص بعدم الاطلاع عليها، والجهل بمنزلتها في الدِّين، والجهل بدلالات الألفاظ، والجهل بمقاصد الشريعة، والجهل بقواعد العلوم وأصولها؛ كالمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، المجمل والمبيَّن[3]. ونصوص الكتاب والسنة حافلة من التحذير من الجهل وبيان خطورته، والترغيب في العلم وبيان فضله، ومن ذلك:
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]. وجه الدلالة: تحريم القول على الله تعالى بِلا عِلم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه؛ لِمَا فيه من الظلم والمفاسد الخاصَّة والعامَّة، وتغيير دينِه وشرعِه[4]. قال ابن القيم رحمه الله: (وأمَّا القول على الله بلا علم؛ فهو أشدُّ هذه المحرَّمات تحريمًا وأعظمها إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أُسِّسَت البدعُ والضَّلالات، فكلُّ بدعةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّين أساسُها القولُ على الله بلا علم)[5].

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]. أي: ولا تَتَّبع ما لا عِلْمَ لك به من قولٍ أو فعلٍ، وما لم تعلمْه عِلْمَ اليقين، وما لم تتثبَّتْ من صِحَّتِه؛ من قول يقال، ورواية تُروى، ومن ظاهرة تُفَسَّر أو واقعة تُعَلَّل، ومن حُكْمٍ شرعي أو قضية اعتقادية[6].

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُؤُوسًا جُهَّالًا يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ)[7]. وجه الدلالة: وصَفَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجهل؛ فلذلك جَعَلَهم ضالِّين مُضِلِّين، وهذا خلاف الذين قال فيهم: ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]، ولذلك أمر بالرجوع إلى قولهم[8]. قال النووي رحمه الله: (المراد بقبض العلم ليس هو مَحْوُه من صدور حُفَّاظِه؛ ولكن معناه: أنه يموت حَمَلَتُه، ويتَّخِذ النَّاسُ جُهَّالًا يحكمون بجهالاتهم فَيَضلون ويُضِلون، وفيه التحذير من اتِّخاذ الجُهَّال رؤساء)[9].

السبب الثاني: اتِّباع الهوى:
اتِّباع الهوى من أعظم الأسباب التي أدَّت إلى نشوء البدع وكثرتها، وصدِّ الناس عن اتِّباع السُّنة والهدى، وقد توافرت النصوص؛ كتابًا وسُنَّةً في ذمِّ الهوى والتَّحذير منه، ومن ذلك:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]. وجه الدلالة: نهى الله تعالى عن طاعة مَنْ أغفلَ اللهُ قلبَه عن ذكرِه واتَّبَع هواه، وكان أمره فرطًا[10].ولهذا قال: ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ أي: صار تَبَعًا لهواه، يفعل ما تشتهيه نفسُه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتَّخذ إلهه هواه[11].

وقال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]. وجه الدلالة: أنَّ كلَّ مَنْ لم يتَّبع الشرع فقد اتَّبع هواه؛ لأنَّ الله تعالى قسَّم الأمور قسمين، لا ثالثَ لهما: اتِّباعٌ لِمَا دعا إليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم، واتِّباع للهوى[12]. قال السعدي رحمه الله: (فاعلم أنَّ تركهم اتباعك، ليسوا ذاهبين إلى حقٍّ يعرفونه، ولا إلى هدًى، وإنما ذلك مُجرَّد اتِّباعٍ لأهوائهم، ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ فهذا من أضَلِّ الناس، حيث عُرِضَ عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فلمْ يلتفتْ إليه ولم يُقبِل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطُّرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء؛ فاتَّبَعَه وتركَ الهدى، فهل أحدٌ أضلُّ مِمَّنْ هذا وَصْفُه؟)[13].

وقال سبحانه: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23]. قال ابن كثير رحمه الله: (إنما يأتمر بهواه؛ فمهما رآه حسنًا فَعَلَه، ومهما رآه قبيحًا تركه، وهذا قد يُستدل به على المعتزلة في قولهم بالتَّحسين والتَّقبيح العقليين)[14].

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ؛ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ لِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ، وَلَا مَفْصِلٌ؛ إِلَّا دَخَلَهُ)[15]. وجه الدلالة: أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج أقوام من هذه الأُمَّة تتجارى فيهم الأهواء، وهي البدع التي يُتَّبع فيها الهوى، ولا تُتَّبع فيها السُّنة فينحرفوا عن جادة الصواب من الكتاب والسنة، إلى الضلالات.

قال الشاطبي رحمه الله: (أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بما سيكون في أُمَّتِه من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفِرق، وأنه يكون فيهم أقوام تُداخل تلك الأهواء قلوبَهم حتى لا يمكن في العادة انفصالُها عنها وتوبتهم منها، على حدِّ ما يُداخل داء الكَلَبِ جِسمَ صاحبِه فلا يبقى من ذلك الجِسْمِ جزءٌ من أجزائه، ولا مِفصل ولا غيرهما إلَّا دخله ذلك الدَّاء، وهو جريان لا يَقبل العلاجَ، ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبَه، وأُشْرِبَ حُبَّه، لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بَمَنْ خالَفَه)[16].

والخلاصة: أنَّ الأهواء تدخل وتجري وتسري في مفاصلهم، والمراد بها - هنا - البدعة، فوَضَعَها مَوْضِعَها وَضْعًا للسَّبب مَوْضِعَ المُسَبِّب؛ لأنَّ هوى الرجل هو الذي يحمله على إبداع الرأي الفاسد، أو العمل به، وذَكَرَ الأهواءَ بصيغة الجمع؛ تنبيهًا على اختلاف أنواع الهوى، وأصناف البدع[17].

السبب الثالث: تقديم آراء الشُّيوخ والأكابر على النُّصوص:
من أعظم أسباب نشوء البدع والاستمرار عليها تقديم آراء الشيوخ والأكابر على النصوص الشرعية؛ لذا نرى في زماننا مَنْ قدَّموا رأيَ شيوخهم أو جماعاتهم أو أحزابهم أو قبائلهم أو آبائهم أو أعرافهم أو أنظمتهم أو قوانينهم على النصوص الثابتة في الكتاب والسُّنة، وقد حذَّر القرآن الكريم من هذا السُّلوك المشين، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، (أي: إذا دُعُوا إلى دينِ الله وشرعِه، وما أوجبَه، وتَرْكِ ما حَرَّمَه؛ قالوا: يكفينا ما وَجَدْنَا عليه الآباءَ والأجدادَ من الطرائق والمسالك، قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ أي: لا يفهمون حقًا، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتَّبعونهم والحالةُ هذه؟ لا يتَّبِعُهم إلَّا مَنْ هو أجهلُ منهم، وأضلُّ سبيلًا)[18]. (فذَمَّهم بتقليدهم آباءهم وتركِهم اتَّباعَ الرسل؛ كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءَهم، وتركِهم اتِّباعَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في دينه)[19].

فهذا هو حال أهل البدع والضَّلالات (إذا أُمروا باتَّباع ما جاء في الكتاب والسُّنة رغبوا عن ذلك، وقالوا: ﴿ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ وقالوا: ﴿ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [البقرة: 170] فاكتفَوا بتقليد الآباء، وزَهِدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهلُ الناس، وأشدُّهم ضلالًا، وهذه شبهةٌ - لِرَدِّ الحقِّ - واهيةٌ، فهذا دليلٌ على إعراضِهم عن الحق، ورغبتِهم عنه، وعدمِ إنصافهم)[20]. (ولو كان في آبائهم كفايةٌ ومعرفةٌ ودِرايةٌ؛ لهان الأمر. ولكن آباءُهم لا يعقلون شيئًا، أي: ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من العلم والهُدى شيء. فتَبًّا لِمَنْ قَلَّدَ مَنْ لا عِلمَ عنده صحيحٌ، ولا عقلَ رجيحٌ، وتَرَكَ اتِّباعَ ما أنزل الله، واتِّباعَ رُسُلِه الذي يملأ القلوبَ عِلمًا وإيمانًا، وهدًى، وإيقانًا)[21].

ومن الآثار المُحذِّرة من تقديم آراء الشُّيوخ والأكابر على النُّصوص: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (لا رَأْيَ لأحدٍ مع سُنَّةٍ سَنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)[22]. وقال ابن خزيمة رحمه الله: (ليس لأحدٍ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قولٌ إذا صَحَّ الخَبَرُ عنه)[23]. وقال ابن تيمية رحمه الله: (دِينُ الْمُسْلِمِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ، فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ هِيَ أُصُولٌ مَعْصُومَةٌ، وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الأُمَّةُ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يُنَصِّبَ لِلأُمَّةِ شَخْصًا يَدْعُو إلَى طَرِيقَتِهِ، وَيُوَالِي وَيُعَادِي عَلَيْهَا، غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلا يُنَصِّبَ لَهُمْ كَلامًا يُوَالِي عَلَيْهِ وَيُعَادِي غَيْرَ كَلامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ؛ بَلْ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ لَهُمْ شَخْصًا أَوْ كَلامًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الأُمَّةِ يُوَالُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلامِ أَوْ تِلْكَ النِّسْبَةِ وَيُعَادُونَ)[24].

السبب الرابع: تقديم العقل على النَّقل:
كرَّم الله الإنسان وفضَّله بالعقل، ولكنَّ كثيرًا من الناس لم يُبقوا العقلَ في المكانةِ التي وضعه اللهُ فيها، بل زلُّوا على صنفين: الصنف الأول: عطَّله ولم يُقِم له وزنًا. الصنف الثاني: بالغ فيه وجعله مصدرًا للتشريع، وقدَّمه على النقل.

والله تبارك وتعالى أمرنا بالتسليم لِحُكمِه وحُكمِ رسولِه صلى الله عليه وسلم تسليمًا مطلقًا، وليس بجعل العقل مصدرًا للتشريع أو تقديمه على النصوص أو بجعله حاكمًا على النصوص أو بمحاكمة النصوص إلى العقول قبل التسليم بها؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

وهؤلاء العقلانيون بالغوا في تقديس العقول وقدَّموها على النُّقول، وبَنوا لأنفسهم ضلالات يسمُّونها تارةً بالحقائق واليقينيات، وتارةً بالمصالح والغايات، وفي الوقت ذاته يُسمُّون النصوص بالظَّنيات، فيعرضونها على تلك الضَّلالات، فما وافقها قَبِلوه وما عارضها ردَّوه؛ اعتمادًا منهم على قاعدة: اليقين لا يزول بالشك!

ولم يعلم هؤلاء العقلانيون أنَّ الله تعالى حافظٌ دينَه وعاصمٌ نبيَّه صلى الله عليه وسلم من الزَّلل والانحراف في تبليغ الدين، فما جاء به من حقٍّ لا مريةَ فيه، كما أنَّ ما يُسمُّونه حقائق ويقينيات هي عين الباطل، ولم يعلموا أيضًا أنَّ للعقول حدودًا تنتهي في الإدراك إليها، وأنَّ الله تعالى لم يجعل لها سبيلًا إلى إدراك كلِّ شيء[25].

قال ابن أبي العِزِّ الحنفي - شارحًا قولَ الطَّحاوي: "وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الإسْلامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاسْتِسْلامِ"أَيْ: لا يَثْبُتُ إِسْلامُ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِنُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ، وَيَنْقَادُ إِلَيْهَا، وَلا يَعْتَرِضُ عَلَيْهَا، وَلا يُعَارِضُهَا بِرَأْيِهِ وَمَعْقُولِهِ وَقِيَاسِهِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الإمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: "مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَمِنَ الرَّسُولِ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ" )[26].

السبب الخامس: التعلُّق بالشُّبهات والضَّلالات:
من أعظم أسباب نشوء البدع التعلُّق بالشُّبهات والضلالات، وترك المحكمات، وهذا هو منهج المُبتدِعة في كلِّ مكانٍ وزمان، أما أهل السنة والجماعة يعملون بالمُحْكَم من نصوص الكتاب والسُّنة، ويؤمنون بالمُتشابه، ويَكِلُون ما أشكَلَ عليهم إلى عالِمِه، بخلاف أهل البدع والضلال الذين يتَّبعون المتشابه، ويتركون المُحْكَم؛ لذا حذَّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل السَّيِّئ:
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: تَلَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآيَةَ: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]. قالت: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فإذا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكِ: الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ)[27].

فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يحذِّرنا من الذين يتَّبعون ما تشابه من القرآن، بمعنى أنهم يبحثون في الآيات المُتشابهة، ويتركون المُحْكَم منها؛ بقصد أنْ يفتنوا الناس عن دينهم ويُضلُّوهم، فهؤلاء هم الذين سمَّاهم اللهُ تعالى أهلَ الزَّيغ، فأمَرَ صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم والتَّوقِّي من شرِّهم وضلالهم، وذلك بعدم مُجالستهم ومُؤاكلتهم ومُكالمتهم؛ فإنهم أهل الزَّيغ والبدع والفساد، فحقُّهم أن يُهجروا في الله تعالى[28].

قال ابن رجب رحمه الله: (الراسخون في العلم: يؤمنون بذلك كلِّه، ويَرُدُّون المتشابه إلى المُحكم، ويَكِلون ما أشكل عليهم فَهمُه إلى عالِمِه، والذين في قلوبهم زيغٌ: يتَّبعون ما تشابه منه؛ ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله، فيضربون كتابَ الله بعضَه ببعض، ويَرُدُّون المُحكم، ويتمسَّكون بالمتشابه؛ ابتغاء الفتنة، ويُحرِّفون المُحكَم عن مواضعه، ويعتمدون على شُبهاتٍ وخيالاتٍ لا حقيقةَ لها، بل هي من وسواس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب)[29].

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ)[30]. جاء في "فيض القدير": (سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي) يزعمون أنهم علماء (يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) من الأحاديث الكاذبة، والأحكام المُبتَدَعة، والعقائد الزَّائفة (فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي: احذروهم وبَعِّدوا أنفسَكم عنهم، وبَعِّدُوهم عن أنفُسِكم، وهذا عَلَمٌ من أعلام نُبوَّتِه ومعجزةٌ من معجزاته فقد يقع في كلِّ عصرٍ من الكذَّابين كثير)[31].

ومن تحذير السلف الصالح من الشُّبُهات وأصحابِها: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (سَيَأْتِي نَاسٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ؛ فإنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ)[32]. وقَالَ أَبُو قِلابَةَ رحمه الله: (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الأهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ؛ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ)[33].
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 119.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 118.05 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]