|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
النحت من الصخر
النحت من الصخر د. وليد قصاب كلَّما أمعن المرء في الاطِّلاع على الشعر العربي الحديث، ورَأَى ما آلتْ إليه حالُه؛ تساءَلَ عن مستقبله! وإلى أين يمضي؟ والحال أنه قد صارَ أندَرَ منَ النادر أن تقرأ اليوم أو تسمعَ قصيدة منَ الشعر تَهُزّكَ أو تؤثر فيكَ، وذلك أنَّ الشعر افتَقَدَ اليوم بَراءته وطفولته، افْتَقَدَ تلقائيته وعفويته، لم يعد إلاَّ في القليل القليل - يَتَدَفَّق بعذوبة كالنَّهر الجاري على ألسنة قائليه، كأنَّما أثَّر فيه ما يسمِّيه بعضهم غموضُ الحياة وتعقيداتُها ولامعقوليَّة كثير منَ الأحوال والشُّؤون فيها، أو كأنَّما تأثَّر بِوُعُورة التكنولوجيا وخشونة الآلة، وجفاف العلم، ومادية الحياة المُعَاصرة. إنَّ شعر اليوم - عند غالبيَّة مَنْ يَكتبونه أو يدَّعون كتابته - شعر غامض، معقد، كز، مصطنع اصطناعًا لا مهارة فيه، شعر لا روح فيه، يشبه وصف نقادنا العرب لبعض الشعراء بأنهم كمن "ينحت من صخر"، أو من "يقلع الضرس". أجل والله، إن أغلب مَن يكتبون الشعر اليوم أو يدَّعون كتابته؛ كأنهم ينحتون من صخر، وأندر منَ النادر أولئك الذين (يغترفون من بحر)، وهؤلاء المغترفون غير مَحْظِيِّينَ أو محتفى بهم عند مدعي الحداثة اليوم، وعند من استأكلوا عقولهم ببعض المفاهيم النقدية المستوردة أو الزَّائفة عن الشِّعر والإبداع الأدبي ومقاييس الحسن والقبح في النصوص. تقرأ أو تسمع ما يُعْرَض عليك اليوم على أنَّه شعر، فإذا أنت أمام نصوص مغلقة دون متلقّيها، لا تَستطيعُ - مهْما اجتهدت أن تَستَقْبِلها بنفسٍ راضية، وذِهْنٍ خالٍ، ومقاومة لأي معرفة مُسبقة لك بالشعر العربي المعهود والموروث المفهوم - لا تستطيع أن تجد لها تلك الهزة من الطرب، والنَّشوة التي تَجِدُها لرائق الشعر ومُمْتِعه، نصوص متطاولة ممتدة، تتراكب ألفاظها وعباراتها من غير انتظام ولا معيار، يبهرك منها للوهلة الأولى عنوان براق، أو جملة مذوقة منمقة، أو صورة مبهرة مدهشة؛ ولكن ذلك كله ما يلبث أن يَتَفَتَّتَ في ضبابة من فكرة غير واضحة، أو لغة سقيمة عرجاء، أو تراكيب مبعثرة لا يكاد يلمها أي نظام أو ترابط منطقي سببي، ناهيك عن أخطاء في النحو، وكسور في الوزن - عند من يعرفه - صارت من علامات الشعر العربي الحداثي والسمات الواضحة فيه. يَتَغَرَّب الشعر العربي اليوم تغربًا تمارسه فئات متعددة: - فئة عامدة متعمدة من شعراء الحداثة ونقادها المُتَبَنِّين موقفًا فكريًّا معينًا. - طائفة مقلدة لهم من غير وعي ولا بصيرة. - طائفة مِمَّن لا مواهب لهم ولا شاعريَّة، وهم مُصِرّون - مع ذلك - على أن يكونوا شعراء بالمجَّان، وأن يكون الشعر مكونًا "وجاهيًّا" من مكونات شخصيتهم. وفي غيبة النَّقد الجاد، أو القدرة على الصدع بكلمة الحق خوفًا من عواقبها الوخيمة، وفي ظل سيادة الجهل والجهلة، وطفوّ الملق والمتملقين، يسود هذا الشعر ويستشري كالوباء لا يستطاع رده. ثم تجد بعد ذلك من يتباكى ويتشاكى؛ لأنَّ الجمهور العربي لا يقبل على هذا الشعر، ولأن قاعات أمسياته تخلو إلا من شعرائه وبضعة نفر من الصحافيين فرضت عليهم مهنتهم الحضور، وقلة من أصدقاء الشعراء والموجودين هنالك بالمصادفة. إنَّ الكلام يطول - من غير شك - في الحديث عن أزمة الشعر، وغبش شمسه، ولكن أحد أهم الأسباب - في رأيي - الشعراء أنفسهم. لقد أضاع هؤلاء - بتعبير نزار - عنوان الجمهور، وخيبوا أمله في الشعر، حتى استقر في وهمه - أو كاد - أنَّ الشعر العربي الحديث، أو شعر هذا العصر، هو هذا الكلام الغامض المعقد الذي قلَّ أن تَلمح فيه فكرةً معبّرة، أو معنى دالاًّ باهرًا، أو لغة أنيقة مهذبة، أو موسيقى مؤثرة، فانصرف عنه مؤْثرًا أن يُدِير له الظهر على أن يدخل في مواجهة عن الشعر وطبيعته، وعن الحداثة والتطوير وما شاكل ذلك من قضايا نقدية لا تهمه. ولا يفهمنَّ أحد أن شمس الشعر العربي قد غربت. إنها لم تغرب ولن تغرب، محجوبة هي الآن خلف ضباب كثيف من الزيف والدَّجَل والجهل واللاشعر، ولكن ما إن يطل على الناس شاعر أصيل يُخاطِبُهم ببساطة وعفوية، وبلغة شفَّافة مفهومة، وفي القضايا التي تهمهم حتى تتكشف عنها الحجب فترسل أشعتها الباهرة الوهَّاجة.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |