نظرة في بعض عوامل ظهورالإرجاء والتكفير المعاصِرَين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 994 - عددالزوار : 122381 )           »          إلى المرتابين في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          رذيلة الصواب الدائم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          استثمار الذنوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          حارب الليلة من محرابك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          حديث: ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          ذكر الله تعالى قوة وسعادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          السهر وإضعاف العبودية لله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          مميزات منصات التعلم الإلكترونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 06-01-2021, 01:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,513
الدولة : Egypt
افتراضي نظرة في بعض عوامل ظهورالإرجاء والتكفير المعاصِرَين

نظرة في بعض عوامل ظهورالإرجاء والتكفير المعاصِرَين

. د. هاني بن عبد الله بن محمد الجبير


كما أن التكفير موجود، فالإرجاء أمره أظهر وأبْيَن؛ فإنه انتشر في الأمة في العصور المتأخرة انتشاراً قوياً، وحسبك أن تعلم أن الأشاعرة والماتريدية يتبنون هذا الفكر؛ لتعلم بعد ذلك كم من المعاهد الإسلامية الكبرى قد تبنَّت هذا الاتجاه.

لا شك (أن معرفة أصول الأشياء ومبادئها) واستطلاع العوامل المؤدية إلى نشأتها وظهورها (وأصل ما تولَّد فيها من أعظم العلوم نفعاً؛ إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء يبقى في قلبه حسكة)[1].
وذلك أن استطلاع هذه العوامل أساس علاجها؛ ولذا كان (النظر في سبب المرض ينبغي أن يقع أولاً، ثم في المرض ثانياً، ثم في الدواء ثالثاً)[2].
كما أن معرفتها طريق قَطْع مادتها لمنع تكرُّرها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين»[3].
وإن الناظر في هذين الفكرين المتضادين: (فكر الإرجاء وفكر التكفير المعاصِرَين) والباحث في عوامل نشأتها وظهورها لا بد أن يعيدها جميعاً إلى سببين أصليين ذكرهما الشاطبي، فقال: (الاختلاف الحاصل بين الأمة له سببان: أحدهما: لا كسب للعباد فيه، وهو الراجع إلى سابق القدر، والآخر: هو الكسبيُّ، وهو المقصود بالكلام)[4].
فأما القدر؛ فإن الله - تعالى - أراد لحكمة عظيمة أن لا يكون الناس كلهم أمة واحدة، بل منهم الشقي والسعيد؛ كما قال - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: ٨١١ - ٩٩١]؛ فأتباع الرسول الأمين: هم المرحومون وهم الفرقة الناجية، ومَنْ سواهم فهو من أهل الوعيد على اختلاف درجاتهم[5].
أما الأسباب الكسبيَّة، فهي التي ستكون موضع تناولنا في هذه الأكتوبة الموجزة بعد إيضاح مقدمتين:
المقدمة الأولى: الأفكار لا تموت.
إن أية فكرة تطرأ على المجتمع، فإنها تبقى مهما شاخت وأصابها الهرم. وهذا مما لا يُنكَر؛ فإن الناظر في التاريخ الإسلامي ومذاهبه يجد أن التيارات الفكرية، تقوى حيناً وتســـتفحل، وتخبــو حينـاً آخر وتضعف، ولكــن لا تموت، بل تبقى ضعيفة حتى تجد من يثيرها، وهكذا؛ فإن أي مذهب وُجِد في تاريخ الأمة، فإنه لا يُستغرَب أن يظهر إذا وُجِد من يتبناه؛ سواء كان ظهوراً تاماً أو ناقصاً، وسواء ظهر بصورته الأولى أو بصورةٍ مختلفة.
إن اتجاه التكفير والإخراج من الإيمان بفعل الكبائر، اتجاه له وجود في التاريخ الإسلامي في مذهبَي الخوارج والمعتزلة، وهو اتجاه بقي وإن كان على ضعف إلى هذا العَصْر[6].
كما أن مذهب الشيعة يعتمد على التكفير الغالي مُمَثلاً في تكفير الصحابة، رضي الله عنهم[7]. وهذا الفكر موجود في الأمة بقوة في أماكن مختلفة تمثله طوائف متعددة.
وكما أن التكفير موجود، فالإرجاء أمره أَظْهر وأبْيَن؛ فإنه انتشر في الأمة في العصور المتأخرة انتشاراً قوياً، وحسبك أن تعلم أن الأشاعرة والماتريدية يتبنَّون هذا الفكر[8]؛ لتعلم بعد ذلك كم من المعاهد الإسلامية الكبرى قد تبنَّت هذا الاتجاه.
المقدمة الثانية: تغيير الظاهر لا يغيِّر الباطن.
من المعوَّل عليه أن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها وليس بصورها ومبانيها؛ ولذا كان مما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيشرب ناسٌ من أمته الخمر يسمونها بغير اسمها[9].
وهذا العصر شهد ظهوراً للتكفير والإرجاء وقد أُلبس ثياب منهج السلف؛ فنسب إليه واستدل بأقوالهم على إثباته وادَّعى أنه هو اعتقاد الفرقة الناجية؛ وربما ترك من الاتجاه أفكاراً معينة لتبرأ ساحة معتقده؛ إذ لا يوافقهم في هاتيك الأفكار.
مع أنه لا يلزم عند نسبة طائفة إلى اتجاه عقدي أن تتلاقى جميع الأفكار بينهما، بل العبرة في الاتفاق في أساس الاتجاه؛ ولذا لَـمَّا عدَّد العلماء الفرق المبتدعة ردُّوها إلى فرقٍ أُمَّات لها مع التفاوت بينها في الآراء.
ولَـمَّا ذكر أبو الحسن الأشعري المرجئة ذكر اختلافهم في الإيمان على اثنتي عشرة فرقة[10]. وكذلك لَـمَّا شرع في مقالات الخوارج ذكر جِمَاع رأيهم ثم اختلافهم بعد ذلك وتكفير بعضهم لبعض[11].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (... لأن هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف، بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقَّوه عن المتكلمين من الجهمية ونحوهم من أهل البدع؛ فيبقى الظاهر قول السلف والباطن قول الجهمية الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان)[12].
ولذا نجد السلف الصالح يستدلُّون على كون الرجل من الخوارج بما يقوم به من عمل ولو أظهر مذهب السلف. جاء صبيغ بن عسل إلى المدينة زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يُظهِر طَلَب العلم، وصار يسأل عن المتشابه، فعاقبه عمر، رضي الله عنه. قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: (قال عمر بن الخطاب لصبيغ بن عسل وقد سأله عن مسائل، فأمر بكشف رأسه، وقال: لو رأيتك محلوقاً لأخذت الذي فيه عيناك حتى أن تكون من الخوارج )[13]. وذكر ابن حجر في الإصابة أنه كان يسأل عن متشابه القرآن، فضربه عمر حتى دمي رأسه، فقال: حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي[14].
وكذلك عكرمة مولى ابن عباس، رضي الله عنهما، مع مكانته ونَشْره للحديث، اتهم ببدعة الخوارج، ولكن وثَّقه أئمة الحديث. قال ابن حجر: (ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا ثبتت عنه بدعة)[15].
عوامل النشأة والظهور:
أولاً: عدم التلقي عن أهل العلم الأثبات:
بسبب انتشار التعليم وفُشُوِّ الكتابة في هذا الزمن كثر التلقي والأخذ من كتب العلم مباشرة دون مشافهة العلماء وترتب على ذلك خطأ كثير: كعدم فهم المصطلحات الشرعية على الوجه المطلوب، وعدم تحرير مسائل النـزاع، وعدم التنبه لما في بعض الآراء من غلط.
وهذه المفاسد وغيرها جعلت السلف يمنعون من تلقِّي العلم ممن كانت وسيلته التي استفاد بها العلم هي التلقي من الكتب، كما قال أبو زرعة: (لا يفتي الناسَ صَحَفي)[16] ولعلِّي أشير إلى مسألتين أجعلهما مثالاً لِـمَا يترتب على الأخذ عن الكتب وحدها من سوء الفهم:
المسألة الأولى: عدم فَهْم الفَرْق بين الحكم الظاهر والباطن: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (هَذَا أَصْلٌ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ؛ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ كَثِيراً مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي «مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ»؛ لِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. لَمْ يَلْحَظُوا هَذَا الْبَابَ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَة ِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ، بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيراً مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ: قَدْ يَكُونُ مُؤْمِناً مُخْطِئاً جَاهِلاً ضَالاً عَنْ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ يَكُونُ مُنَافِقاً زِنْدِيقاً يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ)[17].
فلمَّا غفل من قرأ كــلام أهــل العلم عــن التفــريق بين ما يكون كفراً و ما لا يكون كذلك وقع الغلط في هذا الباب.
المسألة الثانية: عدم معرفة المراد بأهل السُّنة والجماعة: فإن هذا المصطلح يطلَق بإزاء اعتقاد سلف هذه الأمة، كما يطلقه الأشاعرة والماتريدية على عقيدتهم، كما أنهم يطلقون على مذهبهم مذهب السلف؛ فمثلاً في شرح القاري على منظومة بدء الأمالي (وهي في اعتقاد الأشاعرة) قال: (ليست العبادات المفروضة محسوبة من الإيمان ولا داخلة في أجزائه... وهذا ما عليه أكابر العلماء: كأبي حنيفة وأصحابه وجمهور الأشاعرة ومذهب مالك والشافعي والأوزاعي، وهو المنقول عن السلف وكثير من المتكلمين ونقله في شرح المقاصد عن جميع المحدِّثين. ولا ينتفي الإيمان بانتفائها)[18].
قال ابن حجر في تعريفه للإيمان: (فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان وأرادوا بذلك أن الأعمال شرطٌ في كماله، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله)[19].
وفي كل ما سبق عدم تحرير لمسائل الاعتقاد على نهج السلف، بل هو على طريقة المرجئة في تأخير العمل عن الإيمان، ومع ذلك فقد نُسِب للسلف.
وهو: إما عدم فَهْم لمرادهم، أو استعمال لهذا المصطلح في معنى آخر. وهو على كُلٍّ مثال لِـمَا في الأخذ من الكتب من إشكالية سببت الخلط في باب الإيمان.
قال الشاطبي: (وإذا ثبت أنه لا بد من أَخْذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان:
أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ للخاصية التي جعلها الله - تعالى - بين المعلم والمتعلم، يشهدها كلُّ مَن زاول العلم، والعلماءَ؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب، ويحفظها ويردها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلِّم فهمها بغتة.
الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنِّفين وهو أيضاً نافع بشرطين:
الأول: أن يحصل له من فَهْم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله، ما يتم له به النظر في الكتب. وذلك يحصل بالطريق الأول ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال. والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئاً دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
والشرط الآخر: أن يتحرى كُتُب المتقدمين من أهل العلم؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين)[20].
ثانياً: المواقف المضادة:
فإن لردود الأفعال دوراً واضحاً في ظهور الفكر الغالي والتكفير والإرجاء في هذا العصر:
فأما فكر التكفير، فإنه (يكاد معظم الذين حللوا ظاهرة الغلو لدى هذه الجماعات، يتفقون على أن من أهم الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى اتخاذ هذا الموقف المتطرف، هي الحرب التي تعرَّض لها أتباع هذه الجماعات وما نتج عنها من ردود فِعْل تجاه المجتمع حكَّاماً ومحكومين؛ فإن من شباب الجماعات الإسلامية، الذين كانوا يمثلون خيرة الشباب في المجتمع المصري بدلاً من أن يجدوا العون لتحقيق آمالهم في حياة إسلامية كريمة لُفِّقت ضدهم التهم زوراً وبهتاناً. ووجدوا أنفسهم في غياهب المعتقلات وأصبحوا نهباً لسياط الجلادين وآلات التعذيب، في الوقت الذي أُطلِقت فيه أيادي أعداء الإسلام يعملون بكل حرية لهدم قيم الإسلام وتعاليمه)[21].
بل ربما أُخذَت النساء رهائن ووضعن في السجون وعُذِّبْن حتى يعود الرجال الهاربون[22].
ونتيجة لما سبق؛ فقد شعر هؤلاء بأن من قام بهذا العمل البشع، زيادة على تقصيره في تطبيق الشريعة، وغيرها من أنواع المخالفات؛ لا يمكن أن يكون مسلماً وبذلك برز فكر التكفير قوياً لدى بعض الفئات.
ولَـمَّا وُجِد هذا الفكر تصدى له أهــل العلــم بالبيـــان؛ إلا أن المواقف الانفعالية والمناقشات العقلية والمعارك الكلامية ولدت ردَّة فعل مقابلة نتج عنها التوسع في استخدام شرط الاستحلال للتكفير؛ حتى اشترطوا في أعمال الكفر الصريحة: كإهانة المصحف وسب الرسول وإلغاء شريعة الله؛ فقالوا: لا يكفر فاعلها؛ إلا إذا كان مستحِلاً بقلبه، وكل هذا بغرض التثبُّت في إطلاق الكفر[23].
وحصروا الكفر بناءً على ذلك في الجحود والاستحلال[24].
وقد صرَّح من يعتقد ذلك بأنه فعله: (رداً على الوالغين في تكفير المسلمين، من الذين جعلوا مسألة تكفير الحكام من أصول مسائلهم الكبرى وفتنتهم العظمى)، و (أن الحركيين الإسلاميين بالغوا في تكفير العصاة والمخالفين وبخاصة حكام المسلمين)[25].
وهكذا كان لردود الأفعال دور في ظهور الغلو في كلا الجانبين المتقابلين.
ثالثاً: عدم القدرة على التعامل مع الوضع الراهن:
إن في هذا العصر من المشكلات ما لم يمرَّ على الأمة مثله: من هَجْر التحاكم لكتاب الله، والإيغال في إيذاء الناصحين، وتكالب الأمم، والتصريح بعداوة الدين من بعض من ينتمي إليه، وبأنه غير صالح للتطبيق، كل ذلك على نحو غالب؛ ولهذا يفارق ما مضى على الأمة؛ فإنها وإن وُجِد فيها النقص والخطأ؛ إلا أنها لم تشهده بشكل غالب إلا في العصر المتأخر.
وقد ترتب على ذلك احتياج الأمة إلى فقيه النفس القادر على التعامل مع هذه المشكلات وإبداء الحل الشرعي لها، والذي لا يحاول تسويغ الواقع على حساب الدين، ولا يغيِّب نفسه عن تأمُّل ودراسة واقع الأمة والمجتمع.
وبدلاً من أن يخرج الفقيه المتمكِّن من الاجتهاد في نوازل العصر، فقد شهد القرنان الماضيان وما قبلهما سداً لباب الاجتهاد، ومنعاً منه؛ بل صار القول بالاجتهاد من الكبـائر، بل ربما وصل حدَّ الكفر. ولقد كان من التهم الموجهة من خصوم الدعوة السلفية إلى علمائها، هي دعوى الاجتهاد[26].
وفي محاولة التعامل مع الواقع في ظل غياب الفقهاء المتمكِّنين، برز اتجاهان:
- اتجاه لم يستطع التعامل مع الأخطاء فدعا إلى عزلة الناس ومفاصلة المجتمع الجاهلي بمؤسساته ونُظُمه، وحَكَم على المجتمعات بالكفر لرضاهم بالكفر وعدم قيامهم (بالحد الأدنى من الإسلام)[27].
- واتجاه آخر سوَّغ الواقع بكل أشكاله وقرَّر أن من تكلَّم بالشهادتين فهو من أهل الإسلام، ولو فعل ما فعل من ضروب الكفر والشرك حتى نعلم أنه في قلبه جاحد أو مستحل.
والحقيقة أن من أيقن بالإسلام وصدَّق به عالمٌ لا محالة أنه بقواعده العامة وكُليَّاته حالٌّ لكل وَضْع، شافٍ لكل عَيِي، ومن أتقن أصوله وفَهِم مقاصده لن يعجزه أن يجد لكل نازلة من النوازل في الشرع حُكْماً وحلاً؛ إذا صدق النية ورُزق التوفيق.
رابعاً: المقاصد السقيمة لأدعياء العلم:
ومن أبرز هذه المقاصد التي دفعت إلى ظهور هذين الاتجاهين: التعصب للمشايخ ومحاولة تسويغ الواقع، وعدم الرجوع للحق بعد تبيُّنه. والجامع لكل ذلك أنه اتِّباعٌ للهوى.
واتباع الهوى اعتقادٌ يتبعه استدلال ويتلوه تحريف لكل دليــل مخــالف، بعكـس أهـل الحـق الـذين يتَّبعـون الأدلـة ثم ينقادون لها فيعتقدون بعدما يستدلون.
قال ابن تيمية: (إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار أهل التفريق والاختلاف شيعاً. وصار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، ثم ما ظنـوا أنه يوافقهـا من القـرآن واحتجـوا به، وما خالفها تأوَّلوه؛ والمقصود أن كثيراً من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف؛ فلهذا كان السلف أكمل عِلماً وإيماناً وخطؤهم أخفُّ وصوابهم أكثر كما قَدَّمناه)[28].
وقد يزيد من قوة تأثير هذا السبب أن يُعرض العلماء (الربانيون) عن إيضاح الحق وبيان الموقف الصحيح لأي عذر.
خامساً: عدم رد المتشابه للمحكم:
فقد أخبر الله - تعالى - أن آياته منها المتشابه ومنها المحكم. وبيَّن سبيل مرضى القلوب مِن اتِّباع المتشابه وعدم ردِّه للمحكم، وفي المقابل يكون سبيل الراسخين في العلم ردَّ المتشابه إلى المحكم.
والمتشابه هو غير واضح الدلالة مما له تصريف وتأويل فيمكن حَمْله على المعنى الفاسد من حيث لفظُه وتركيبُه[29]. قال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} [آل عمران: ٧].
والواقع في من يتبنى مناهج مخالفة لهدي السلف أنَّه يعمد إلى نص فيجعله عمدته؛ وكأنه لا معارض له؛ كيف وقد عَارَضَهُ ما هو أرجح منه؟ أو يجعل ما ورد في مسألة مخصوصة هو القاعدة العامَّة دون العكس.
وبعد: فما سبق إنما هي وقفات يسيرة في هذا الموضوع الذي يستحق أن يُتوَسع فيه أكثر، والله الموفق لا إله إلا هو.



(*) قاضٍ شرعي في المحكمة الشرعية بجدة
[1] ما بين القوسين تضمين من مجموع الفتاوى: ( 10/368 ). الحسكة: الشوكة.
[2] تضمين من زاد المعاد: (4/8).

[3] صحيح البخاري: (6133)، وصحيح مسلم: (2998)، عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

[4] الاعتصام: (2/164).

[5] انظر: تفصيل هذا المعنى في تفسير ابن كثير: (2/466)، ومجموع الفتاوى: (4/236). والاعتصام: (2/170).

[6] انظر بحثاً مستفيضاً عن حركة الإباضية وأماكن انتشارها في العالم الإسلامي وشيئاً من أبرز آرائها في كتاب: (دراسة عن الفرق وتاريخ المسلمين)، د. أحمد محمد جلي: (ص 90) وما بعدها.

[7] نقل إحسان إلهي ظهير في كتابه: (السُّنة والشيعة) ص 49 عن الكشي في كتابه: (رجال الشيعة): ص 12، 13 أن كل الصحابة ارتدُّوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة: المقداد ابن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.

[8] عند جمهور الأشاعرة أن الإيمان هو التصديق فقط، وقيل: معه إقرار اللسان، وعليه الماتريدية، ولهم تفصيل. انظر: شرح الطحاوية لعبد الغني الميداني: (ص 98)، و (نظم الفرائد في المسائل الخلافية بين الماتريدية والأشاعرة) لشيخ زاده: (ص 225).

[9] سنن ابن ماجة: (3385)، ومسند أحمد: (5/318) عن عبادة بن الصامت، وسنن ابن ماجة: (3384) عن أبي أمامة، صحيح ابن حبان: (15/160)، وسنن أبي داود: (3688)، ومسند أحمد: (5/432) عن أبي مالك الأشعري، وله طرق.

[10] مقالات الإسلاميين: (1/213).

[11] المصدر السابق: (1/167).

[12] مجموع الفتاوى: (7/143).

[13] أحكام أهل الذمة: (2 /750).

[14] الإصابة: (2 / 198- 199).

[15] انظر تهذيب التهذيب: (7 /263 - 273).

[16] الفقيه والمتفقه: 2/97. والصحفي: هو الذي أخذ علمه عن الصُحُف (وهي الكتب).

[17] مجموع الفتاوى: (2/147).

[18] ص: (54). دار إحياء الكتب العربية عام 1345هـ.

[19] فتح الباري: (1/61).

[20] الموافقات: (1/145).

[21] تضمين من كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين: ص (108)، بتصرف .

[22] انظر: التكفير جذوره أسبابه مبرراته، د. نعمان السامرائي: ص (44).

[23] انظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي: ص (391).

[24] صيحة نذير: ص (39).

[25] الملحق (ب) لكتاب حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها: ص 161. وهو المتضمن لنص توبة أحد المقصودين بفتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم: 20212 في: 7/2/1419هـ.

[26] انظر مزيداً من البحث في هذه المسألة في كتاب: (الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر)، لعلي بن بخيت الزهراني: (2/89 وما بعدها).

[27] البينة، جمال سلطان: ص (50). و (الحد الأدنى) مبدأ لدى (جماعة المسلمين) المعروفة بالتكفير والهجرة بيَّن المراد به في المرجع السابق. وانظر: ضوابط التكفير، د. عبد الله القرني: ص (105 وما بعدها).

[28] مجموع الفتاوى: (13/58).

[29] تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (3/7، 9) دار عالم الكتب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 84.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 83.27 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.02%)]