مقاصد سورة التوبة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 521 - عددالزوار : 23003 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5121 - عددالزوار : 2405852 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4709 - عددالزوار : 1713942 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 73055 )           »          حكم الإيثار بالقربات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          إفراد شهر رجب بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          حب المال وجمعه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          الزكاة والمجتمع المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 94 )           »          حسر الإنسان عن رأسه ليصيبه المطر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          قضاء أيام رمضان في الشتاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 03-01-2021, 10:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,594
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد سورة التوبة

مقاصد سورة التوبة
أحمد الجوهري عبد الجواد





نور البيان في مقاصد سور القرآن

"سلسلة منبريَّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".



(9) سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، نحمدك ربنا ونستعينك ونستهديك ونتوب إليك ونستغفرك، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وكان من آخر ما بلّغ عليه الصلاة والسلام ما أنزل الله تعالى في سورة التوبة، وخاصةً التنبيه الذي أرسل به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العام التاسع من الهجرة وأبو بكرٍ على وفد الحج، لينادي هناك في مكة في الناس والعالمين: ألا لا يحُجَنَّ البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفنَّ بالبيت بعد هذا العام عريان[1]، حيث كانوا يطوفون في الجاهلية عرايا[2]، نشهد أن نبينا بلغ الرسالة وأدى الأمانة حتى تركنا على مَحَجةً بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وما كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أمره الله بإبلاغه، صل يا ربنا وسلم وبارك على هذا النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وصلي علينا معهم بفضلك يا أكرم الأكرمين.

أما بعد:
أيها الإخوة الأحبة الكرام، فمع حديثنا الشيِّق حول مقاصد سور القرآن، حديثٌ عذب أخذ عذوبته من أنه حول كلام الرحمن، وبحثٌ عن مقاصد الله في سور قرآنه، فذلك مقصدٌ جليل، ومقصدٌ عظيم، والكلام فيه ذو شجونٍ وذو حلاوة وطلاوة، فنحمد الله على هذه الهداية ونسأله سبحانه وتعالى الفضل والمزيد.

وقد انتهينا بفضل الله تعالى من النظر في سورة الأنفال، ومعنا اليوم سورة التوبة، والتي عُرفت أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ألسنة أصحابه باسمين اثنين، براءة وهذا أكثرها شيوعاً، والتوبة وهذا أيضاً اسمٌ وارد[3]، والبراءة هي التبرؤ من الشيء[4]، وذلك لأن أول السورة فيه تبرؤٌ من الله ورسوله إلى المشركين الذي نقضوا عهودهم، يتبرأ الله منهم ويتبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، والمؤمنون يطيعون الله ويطيعون الرسول، ويقال لها سورة التوبة كذلك لما أنها اشتملت على دعوة المشركين والمنافقين إلى التوبة رغم ما فعلوا من إجرامٍ وظلمٍ وإيذاءٍ واعتداء على الإسلام والمسلمين ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وكان هذا في العام التاسع من الهجرة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنةٍ واحدة[5]، فقد كثر إجرامهم وطال إيذائهم وعظمت خطاياهم، ومع ذلك لو تابوا لتاب الله عليهم، ولأن السورة كذلك اشتملت على توبة الله على المؤمنين وخاصةً على الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فسميت سورة التوبة[6].

وأما ما ورد فيها من أسماء أخرى فإنها على سبيل الاجتهاد، كان المفسرون من لدن الصحابة يطلقون عليها أسماء من باب وصفها، من باب الإشارة إلى ما فيها من موضوعات عظيمة ليست في غيرها، فسموها بالمبعثرة، والمقشقشة، والحافرة، والمُنقِّرة، والفاضحة، كل هذه الأسماء تدور حول أمرٍ معين وموضوع خاص وهو أن هذه السورة حفَّرت ونقَّرت حول معرفة وإظهار جرائم المنافقين وأسرارهم وفضائحهم، التي طالما ستروها على الناس وخادعوا فيها من حولهم، هذه السورة جمعت لهم كل ذلك، كمن يحفِّر وراء فلان وينقِّر وينقب وراءه ليتعرف على مثالبه وسيئاته، ثم بعثرها ونشرها على الناس ليعرفها الجميع، فكانت الفضيحة الكبرى للمنافقين بهذه السورة، لما تفضحهم سورةٌ في القرآن كما فضحتهم سورة التوبة، وهذا لا ينافي سماحة الإسلام فقد صبر عليهم تسع سنوات لعلهم يرجعون، لعلهم يتوبون، لعلهم يَصْدُقُون، فما صَدَقُوا، وبعلم الله ما بقيت إلا سنةٌ واحدة وينتهي الوحي وينقطع، فلأن يفضحهم الله تعالى في العام التاسع من الهجرة وقبل انقضاء الوحي بسنة إن هذا لصبرٌ جميل، إن لحلم عظيم من الله عنهم، وليس في ذلك إساءةٌ لهم وإنما هم الذين يستحقون ذلك، فلو أنهم تابوا من بعد سنة من النفاق أو سنتين أو ثلاثة إلى ثمان سنوات إلى تسع سنوات، ولو تابوا بعد ذلك قبل موتهم لتاب الله عليهم وقبلهم، فسميت هذه السورة على سبيل الاجتهاد بهذه الأسماء للإشارة إلى الأمة أن هذه السورة تعرِّف بالمنافقين تعريفاً عظيماً، من أراد أن يعرفهم معرفةً شاملةً كاملة فليقرأ سورة التوبة، فضحتهم أكثر من سورة المنافقين نفسها[7].

ثم إنها في الأصل وفي الشرع تسمى سورة براءة وسورة التوبة، وهذا من تسمية الله تبارك وتعالى، هذه السورة ليس لها فضلٌ خاص يخصها لنقول مثلاً من قرأ سورة التوبة فله من الثواب كذا، وإن كان هذا ثابتاً في بعض السور كسورة البقرة، وآل عمران، وقل هو الله أحد، والكهف، والمعوذتين، وهكذا، إلا أنه لم يثبت شيء من ذلك لسورة التوبة، ولا ينقص ذلك من قدرها فهي كسورة مستقلة معجزة من معجزات الله يتحدى بها العالمين ليأتوا بمثلها وما هم بفاعلين ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ [البقرة: 24]، فهي معجزة، من قرأ سورة التوبة فله بكل حرف منها حسنة والحسنة بعشر أمثالها كما لو قرأ أية سورة من القرآن، فثوابها لا ينقص عن ثواب قراءة سورة البقرة أو الأنعام أو المائدة أو الإسراء أو ما إلى ذلك، كل القرآن من قرأه فله بكل حرفٍ منه حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أقول ألف لام ميم حرف))[8] يعني لا أقصد بالحرف الكلمة ولكن أقصد بالحرف الحرف يعني ألفٌ حرف ولام حرف وميمٌ حرف.

سورة التوبة وسورة براءة، الاسمان لها، هي سورةٌ مدنيةٌ باتفاق العلماء[9]، يعني نزلت بعد الهجرة، ويرجح العلماء أنها نزلت كلها في العام التاسع من الهجرة، ولكن نزلت على مراحل في حدود ثلاثة أشهر أو أكثر من ذلك بقليل، أقصى ما قيل: نزلت في نصف سنة، في النصف الثاني من العام التاسع من الهجرة، كل آياتها نزلت هكذا، فهذا زمان نزولها، فكانت من أواخر السور نزولاً حتى قال عنها بعض العلماء: إنها آخر سورة أنزلت[10]، وخاصةً أنها كما قال البعض نزلت كاملةً جملةً واحدة، ولكن الراجح والأحسن والأثبت أنها نزلت على مراحل ولكنها مراحل متقاربة، في مدة نصف سنة فقط نزلت كلها، فهي سورةٌ مدنية لذلك تجدها تتحدث عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وتتحدث عن نقض المشركين لعهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي عليك يا محمد يا نبي الله أن تنقض عهودهم بنظامٍ معين، وفيها كذلك حديثٌ مطوَّلٌ كما عرفنا عن المنافقين والنفاق لم يكن إلا بعد الهجرة في مجتمع المدينة، وفيها حديثٌ عن غزوة تبوك وهي آخر غزوةٍ في الإسلام، كل هذا يدل على أنها سورةٌ مدنية كما قال العلماء رحمة الله تعالى عليهم.

تناولت هذه السورة من الموضوعات، أولاً تحديد الدستور الأخير في معاملة الكافرين ومعاملة المنافقين، يحدد الله فيها آخر نظامٍ يتعامل به المؤمنون مع الكافرين والمنافقين، لأن الله تعالى شرع ذلك كغيره من الأحكام على مراحل، كان يعذر المنافقين في البداية ويؤخر تعذيبهم ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليهم والإعراض عنهم وعدم المواجهة بالقتال، ليترك لهم فرصة ليتوبوا ويرجعوا ويفهموا ويعقلوا، فلما لم يفقهوا ذلك كانت آخر كلمة الأمر بالجهاد، ولكن لا يُقاتَل كل كافر، إنما يُقاتَل من يستحق القتال، وملخص ذلك أن الكافر المسالم له حق الحياة ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، عيشوا بدينكم ونعيش بديننا والحساب يوم القيامة، أما الكافر الذي يطغى بالصد عن سبيل الله، لمواجهة الإسلام بمعنى كلمة الحق أن تدخل البلاد ويسمعها العباد إن قبلوها أو رفضوها فهذا لابد أن يقاوَم، لأنه يمنع الإنسانية من وراءه حقاً عظيماً وهو حق اختيار العقيدة، يعمل على الناس تعتيماً إعلامياً سيئاً قبيحاً حيث يخبئ عنهم أعظم دينٌ وهو دين الحق، فيحرمهم من سماع كلمة الحق، فهذا يُقاوَم وعليه الحرب، وعلى المسلمين أن ينظموا قتالهم في مواجهته، بإمرة أميرهم كما نظم الله تعالى هذا الأمر.

تحدثت السورة عن أصناف الناس الموجودين في مجتمع المدينة فمنهم مؤمنون مخلصون، ومنهم منافقون يندسُّون في وسط المؤمنين، منهم أعرابٌ يسكنون الصحراء فيهم غلظةٌ وفظاظةٌ، منهم من آمن وكان إيمانه قويًّا، ومنهم من نافق وكفر فكانوا أشد كفراً ونفاقًا، لما فيهم من القسوة الفطرية بحكم طبيعة حياتهم، ومنهم قومٌ لا تعرف لهم هويّة يتقلبون كالحرباء لا يعرف لهم لون ولا هويّة ولا شخصيّة، فهم مرجون لأمر الله، منهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئًا تراه يفعل هذا ويفعل هذا، أصناف وأشكال مجتمع يموج بأصناف الناس، فحدد الله تعالى معاملة كل صنف ليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده إلى يوم القيامة، كل له معاملة، وهكذا يعطي الإسلام لكل ذي حقٍ حقّه، ويعامل كل إنسانٍ بقدره، ليست فيه عشوائية ولا همجيّة.

كما أنّ سورة التوبة ذكر ربنا سبحانه وتعالى فيها ذكراً طويلاً كما عرفنا يفضح به المنافقين فيقول: ومنهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم، في هذه السورة أوقع الله تعالى اللوم على المؤمنين الذين يتخاذلون عن الجهاد في سبيل الله، وعلمهم أن هذا الأمر وهذا السلوك إنما هو سلوك المنافقين الجبناء، كما علمهم أن النصر من عند الله فلا حاجة له سبحانه وتعالى فيكم ولا في خروجكم، ولو أراد الله نصر دينه بدونكم لنصره، ولكن يريد أن يتخذ منكم شهداء فيفتح لكم باب الشهادة، ويريد أن يعز منكم من يعز فينصره على رؤوس الأشهاد وعلى رايات الناس، وهكذا لله حكمة في تشريع الجهاد.

كما ذكرت أواخر السورة توبة الله تعالى على النبي والذين آمنوا، والتوبة على التائب زيادة الرضا عليه، وزيادة الرحمة له، وتاب الله على المؤمنين لأن بعضهم كان قد تخاذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصةً توبة الله تعالى على الثلاثة الذين تخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة لما رأوا من شدة الحرّ ولجأوا إلى بيوتهم فرأوا الظلّ والماء البارد والطعام والنساء فأغراهم هذا الجوّ عن الخروج إلى تلك الغزوة مع يقينهم أن الله ناصرٌ رسوله صلى الله عليه وسلم[11]، فكان خاطرهم يقول لهم: ماذا تفعلون أنتم للنبي صلى الله عليه وسلم لو خرجتم، وماذا تخسرونه لو قعدتم، يعني لا فائدة فينا، عابوا أنفسهم، أننا كلٌّ يفكّر في نفسه، أنا واحد لو لم أخرج ما خسّرت المؤمنين شيئاً ولو خرجت ما زدتهم شيئاً، ولكن ينبغي أن يعلم كل فرد بمفرده أنه لو فكر كل إنسانٍ بهذا التفكير لقعد الجيش كله، وما خرج أحدٌ للقاء العدو، لذلك أعزم على الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة دين الله تبارك وتعالى وأحتمل في نفسي أن غيري قعد، فلانٌ غالباً يحتمل أن يكون قد قعد وتخلف وأتخلف أنا أيضاً، لا، لا نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، وكلٌّ يفكر بهذا التفكير فيخرج لاحتمال أنّ غيره قعد في بيته ولم يخرج، ولهذا قال الله تعالى ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [التوبة: 120]، ما كان لهم أن يتخلّفوا ولا أن يؤثروا أنفسهم بالراحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في شغلٍ وفي عملٍ شاق في جهاد في سبيل الله، ونحن ننعم بالنساء والظلّ والرّاحة والطعام والشراب، لا يجوز لنا هذا، عتب الله عليهم في ذلك.

ختمت السورة بمنَّة الله تعالى على العالمين ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: 128] أي بشرٌ مثلكم منكم يعرفكم وتعرفونه ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] صلى الله عليه وسلم، جزى الله نبينا على ما قدم لنا كل خير وضاعف له الجزاء والمثوبة، اللهم آمين.

أحبتي الكرام هذا استعراضٌ سريعٌ لموضوعات السورة، تعتبر الموضوعات الرئيسة في هذه السورة والتي تحدثت عنها سورة براءة، أما هدفها من وراء كلّ ذلك كما تعوّدنا نلتقط هذا الهدف من اسمها ومن أولها وآخرها، فاسمها براءة واسمها التوبة، وأولها: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1]، يعني أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يتبرءان من الذين عاهدتم من المشركين فنقضوا عهودكم، الله يتبرأ منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلن هذه البراءة ويشارك فيها أيضًا، آخر السورة أو من أواخرها يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 123]، إذًا كأن هذه السورة جاءت ترسل رسالةً إلى الأمة وترسخ أساساً وقاعدة، يا مؤمنون تبرءوا من المشركين ومَن ماثلهم، وقاتلوا من يقاتلكم ولا تتوانوا عنه، وتوبوا واقبلوا التوبة ممن تاب، من عاد إلى دينكم أو دخل في دينكم فاقبلوه مهما كان قد فعل بعد ذلك، المهم أن يتوب توبةً صادقة وأن يعود عوداً حميداً إلى ساحة الإسلام، مرحباً به أخاً لنا وواحداً منا، هو ولينا ونحن أولياؤه ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71].

هذا الهدف المختصر نخرج به من هذه السورة لنعيش به في حياتنا، وننطلق به بين طوائف الناس، فنتبرأ من كل كافر، كل من كفر بالله ينبغي أن نتبرأ منه، والبراءة هذه يفهمها بعض الناس خَطأً، ويظن بها في الإسلام سوءاً، يظن أن الإسلام يدعو إلى الإرهاب، لا، البراءة بالقلب، لا أحبه من قلبي، لا أصحبه ولا أصْدُقه، فإنه عدو وهو يكنُّ لي العداء، ونقسم على ذلك لأنه لا قول بعد قول ربنا: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122] وهو قد قال سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، إذا كان هؤلاء هم أهل الكتاب، هم الذين عايشوا دين الله قبلنا ونزل فيهم الوحي من قبلنا، فما بالنا بمن كفر بكل الأديان، من كفر بكل الشرائع، من كفر بالله، من كفر بالوحي، من كفر بوجود الملائكة، من كفر بالرسل كلهم؟ الكافرون، المشركون، هؤلاء العلمانيون الذين يقولون: لا إله والحياة مادة، أولاد الشيوعيين، هؤلاء لا شك أنهم أشد عداءً لنا من اليهود والنصارى، وهذا أيضاً قاله الله، لا أقول من عند نفسي، قال الله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المائدة: 82] العداوة عندهم بنسب مختلفة، العداوة عندهم تتجه إلينا بنسب مختلفة، فأشدهم عداوة ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82] هذان الاثنان معاً في درجة واحدة، ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82] يا ترى هل يقولون إنا نصارى أو لا يقولون، فهكذا يبين القرآن لنا منهجاً نعيش به بقلوبنا، هو إنسانٌ له عليَّ حق، أعطيه حقه، أحفظ حياته، أحفظ ماله، أعدل معه في القضية والخصومة مهما كان بيني وبينه فله حق العدل، ولو كان الحق عليَّ فأعطيه حقه، ويحكم الحاكم المسلم على الرجل المسلم لصالح الرجل الكافر، طالما الحق هكذا والعدل هكذا ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، ولا أعتدي على حق من حقوقه بغير وجه حق، قال تعالى ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، إذاً له حقوقه يأخذها ولكن قلبي ليس له، إنما قلبي لإخواني المسلمين، اقتربوا مني أو بعدوا، في بلدي وخارج بلدي، اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10] ندعو لهم في أيامنا، وهكذا الأخوة الإيمانية هي أولى بقلوب المؤمنين ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71] هذه الولاية ينبغي أن تتحقق بين المؤمنين ولا حق للكافر فيها، لماذا تكرهونهم وتبغضونهم، ليس لأنهم يبعضوننا ويعادوننا، لا، ليس هذا هو السبب، إنما السبب الأساس أن الله يبغضهم، أن الله يتبرأ منهم، فنحن نؤمن بالله ونتبرأ ممن تبرأ الله منه، ثم بعد ذلك لأنهم يبادلوننا الشعور نفسه، شعور العداء والخوف والتخوف والتوجس والتربص ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الممتحنة: 2] وهكذا، لكن هذا كله كما قلنا لا يسمح لي أن أعتدي على جزء من حقوقه، لا يجوز لي ذلك، إنما براءتي في قلبي؛ لا أحب الكفر ولا أحب الكافرين، أما ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123] حين يستدعي الأمر قتالهم، فلا نأخذ آية واحدة ونرفعها، إنما نأخذها مع غيرها، من أراد أن يفهم طبيعة الجهاد في الإسلام فعليه أن يجمع كل آيات الجهاد والقتال في الإسلام ويضعها أمام عينيه وينظر إليها نظرةً شاملة ليأخذ منها الحكم الكامل، فمن سالم فله السلم ومن عاهد فله عهده يُتم إلى مدته، ومن نقض عهدًا نُقض عهده، ومن حارب حُورب، وهكذا كما كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا هو هدف السورة، ومع ذلك ومع ما فعلوا بنا لو سمعنا يوماً أن أكفر كافريهم أعلن إسلامه، نطق بالشهادة على ملأ من الناس وتوثق الخبر فمرحباً به، نفتح له قلوبنا، كما نفتح له أذرعنا لنضمه إلى صدونا أخاً حبيباً في الله، وننسى له كل ما كان، فقد عفا الله عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام يَجُبُّ ما قبله))[12]، يعني يمسح ويمحو ما قبله من مآثم ومظالم وخطايا، فإذا كان الله الغني القوي يغفر له بإسلامه وجب علينا أيضاً أن نغفر لمن غفر الله له، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((التوبة تجُبُّ ما قبلها))[13]، ومقررٌ في الدين ومعروف أن من تاب تاب الله عليه بشرط أن يتوب توبةً صالحة، وأن يتوب قبل أن يأتيه الموت، فمن تاب كذلك تبنا عليه ورجعنا إليه وضممناه إلينا أخاً في الله حبيباً محبوباً مرغوباً فيه، ونرجو من الله تعالى أن يهدي قلوبهم للإيمان وأن يدخلوا جميعاً في الإسلام، ولن نأخذ من ورائهم شيئاً، ولن نخسر لهم شيئاً، إنما نرجو الخير للبشرية كلها، والخير فيما شرع الله، قال الله تعالى ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فهذا الدين الذي رضيه الله واختاره هو أعظم دينٌ على الإطلاق.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 121.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 120.27 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]