|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حدود العقل في الإلهيات والغيبيات ماهر عبدالحفيظ صفصوف الحمد لله الَّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، الحمد لله الذي لا تدْرِكه الشَّواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النَّواظر، ولا تحيط به السَّواتر، تتلقَّاه الأذْهان لا بمشاعره، وتشهد له المرائي لا بمحاصرة لم تبلغ كنهه الأفهام، ولم تُحِط به الأوْهام[1]، والصَّلاة والسَّلام على رسولِه الكريم المبلِّغ دعوة الله إلى خلْقه، بالإيمان به في غيبه، والنظر في آلائه وخلقه. بعد: فقد أنعم الله - تعالى - على الإنس والجنِّ بالعقل، وميَّزهم به دون سائر المخلوقات في الأرض، وتعلَّق الخطاب الرسالي والتَّكاليف الشَّرعيَّة بوجود هذا العقل، فالعقْل مناط التَّكليف، وقد ذكَّر الله - تعالى - البشر بهذه النعمة في كثيرٍ من المواضع في كتابِه الكريم، ممتنًّا عليْهِم أن جعل لهم العقول والأفئِدة الَّتي بها يتفكَّرون وبها يعقِلون. قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78] وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 78]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 9]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]. والعين والقاف واللام أصلٌ واحد منقاس مطَّرد، يدل عظمه على حبسة في الشَّيء أو ما يُقارب الحبْسة، من ذلك العقْل وهو الحابس عن ذميم القوْل والفعل[2]. والعقل: العقْلُ: الحِجْر والنُّهى، ضِدُّ الحُمْق، والجمع: عُقولٌ، وفي حديث عمرو بن العاص: تِلْك عُقولٌ كادَها بارِئُها؛ أي: أرادها بسُوءٍ. عَقَلَ يَعْقِل عَقْلاً ومَعْقُولاً، وهو مصدر. ورَجُل عاقِلٌ، وهو الجامع لأمره ورَأْيه، مأْخوذ من عَقَلْتُ البَعيرَ إذا جَمَعْتَ قوائمه، وقيل: العاقِلُ الذي يَحْبِس نفسه ويرُدُّها عن هَواها، أُخِذَ من قولِهم: قدِ اعْتُقِل لِسانُه إذا حُبِسَ ومُنِع الكلامَ، والمَعْقُول: ما تَعْقِله بقلبك، والمَعْقُول: العَقْلُ، يقال: ما لَهُ مَعْقُولٌ؛ أَي: عَقْلٌ، وهو أحد المصادر التي جاءت على مفعول كالمَيْسور والمَعْسُور، وعاقَلَهُ فعَقَلَه يَعْقُلُه بالضمّ: كان أعْقَلَ منه، والعَقْلُ التَّثَبُّت في الأُمور، والعَقْلُ القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنَّه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك؛ أَي: يَحْبِسه. وقيل: العَقْلُ هو التَّمييز الذي به يتميَّز الإِنسان من سائِر الحيوان، ويقال: لِفُلان قَلْبٌ عَقُول، ولِسانٌ سَؤُول، وقَلْبٌ عَقُولٌ: فَهِمٌ. وعَقَلَ الشيءَ يَعْقِلُه عَقْلاً: فَهِمه، ويقال: أَعْقَلْتُ فلانًا؛ أَي: أَلْفَيْته عاقِلاً، وعَقَّلْتُه؛ أَي: صَيَّرته عاقِلاً، وتَعَقَّل: تكَلَّف العَقْلَ، كما يقال: تَحَلَّم وتَكَيَّس، وتَعاقَل: أَظْهَر أَنه عاقِلٌ فَهِمٌ وليس بذاك[3]. فممَّا يتبيَّن أنَّ العقْل يحبس الإنسان عن مساوئ الأقوال والأعمال، ويرْشِد للهدى والحقّ، فهو يعقِل صاحبَه ويَمنعه من الضَّلال والرَّدى، ويسلك بالمرء إن أحسن استِخْدامه مسلك الخير؛ ولذا خاطب الله - تعالى - عباده بصيغة: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 80]، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ﴾ [النساء: 82]، ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 54]، وعاب الله - تعالى - على المشركين كفرَهم بآيات الله ورسُلِه مع كونِهم أصحاب عقول؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 26]. وعاب - تعالى - عليهم إشراكهم في عبادته مع إقرارهم، وعلمهم أنَّ الله هو الخالق لا خالق غيره؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 61 - 63]. أمَّا تعْريف العقْل اصطِلاحًا، فقد اختلف العُلماء في تعْريفه اختلافًا كثيرًا، ولعلَّ أصحَّ ما يقال كما هو قول جماعة من العُلماء - كالغزالي - أنَّه لا يمكن أن يحدَّ العقل بحدٍّ واحد يُحيط به؛ لأنَّه يطلق بالاشتِراك على خمسة معان: أحدها: إطلاقُه على الغريزة التي يتهيَّأ بها الإنسان لدرك العلوم النَّظريَّة، وتدبير الأمور الخفيَّة. الثاني: إطلاقه على بعض الأمور الضروريَّة، وهي التي تخرج إلى الوجود في ذات الطِّفْل المميّز، بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. الثَّالث: إطلاقه على العلوم المستفادة من التَّجربة، فإن مَن حنَّكته التجارب يقال عنْه: إنَّه عاقل، ومن لا يتَّصف بذلك يقال عنْه: غبي جاهل. الرَّابع: إطلاقه على ما يوصِّل إلى ثمرة معرفة عواقب الأُمور، بقمع الشَّهوات الداعية إلى اللذَّات العاجلة التي تعقُبها النَّدامة، فإذا حصلت هذه القوَّة، سمِّي صاحبها "عاقِلاً". الخامس: إطلاقه على الهدوء والوقار، وهي هيْئة محْمودة للإنسان في حركاته وكلامه، فيقال: فلان عاقل؛ أي: عنده هدوء ورزانة[4]. ومحلُّ العقْل في القلب[5] على الصَّحيح من أقوال العلماء - رحمهم الله تعالى - وهو قوْل الحنابِلة والشَّافعيَّة والأطبَّاء قديمًا؛ ودليلهم قولُه - تبارك وتعالى -: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ َكَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]. وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ محلَّه الدماغ، وهو قول الحنفيَّة والمشهور عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى[6]. وعلَّة تكريم الله - تعالى - للإنسان بنعْمة العقل إنَّما هي لإدْراك الآثار الربَّانيَّة والمطالب الإلهيَّة. يقول ابن القيم - رحِمه الله تعالى -: "فإنَّ الله - تعالى - ركَّب العقول في عبادِه ليعرفوا بها صدقه، وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا كماله، وصفاته وعظمته وجلاله، وربوبيَّته وتوحيده، وأنَّه الإله الحق وما سواه باطل، فهذا هو الَّذي أعطاهم العقْل لأجْلِه بالذَّات وبالقصْد الأوَّل، وهداهم به إلى مَصالح معاشهم، التي تكون عونًا لهم على ما خُلِقوا لأجله، وأعطوا العقول له. فأعْظم ثمرةٍ للعقْل: معرفته لخالقه وفاطِرِه، ومعرفة صفات كمالِه، ونعوت جلاله وأفعاله، وصدْق رسله، والخضوع والذّل والتعبّد له"[7]. وهذا العقْل العظيم هو حجَّة قائمة لوحده في إثبات وجود الله - تعالى - وعبادته، ونفْي الشَّريك عنْه حتَّى وإن لم يرِدْ بذلك شرع، فإنَّ الله تعالى قد ركَّز في الفِطَر والعقول حقيقة الإيمان بالله والكُفْر بما يعبد من دونه، وإنَّما جاءت الرسل للتَّذْكير بما هو مستقرٌّ في عقول وفِطَر الخلق قبل وقوع الانحِراف فيهما. قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36]: "أجمع العلماء على أنَّ هذه الآية من المحكم المتَّفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتُب، ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب"[8]. وقال ابن القيِّم - رحِمه الله تعالى - في قولِه - عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾: "فقُبح عبادة غير الله قد استقرَّ في الفِطَر والعقول وإن لم يرِدْ بالنَّهي عن شرع، بل العقْل يدلُّ على أنَّه أقبح القَبيح على الإطلاق، ومن المُحال أن يشْرعه الله قط، فصلاح العالم في أن يكون الله وحده المعبود، وفساده وهلاكه في أن يُعبد معه غيره، ومحالٌ أن يشرع لعباده ما فيه فساد العالم وهلاكه بل هو المنزه عن ذلك[9]. والعقْل حجَّة قائمة في التَّحسين والتَّقبيح للأفعال، قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عند قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 28، 29]: "والفاحشة أُريدَ بها كشف السوءات، فيستدلّ به على أنَّ في الأفعال السيِّئة من الصفات ما يمنع أمر الشَّرع بها، فإنَّه أخبر في سياق الإنكار عليْهِم أنَّه لا يأمر بالفحشاء، فدلَّ ذلك على أنَّه منزَّه عنه، فلو كان جائزًا لم يتنزَّه عنه، فعُلم أنَّه لا يجوز عليه الأمر بالفحْشاء وذلك لا يكون إلاَّ إذا كان الفعل في نفسه سيِّئًا، فعُلم أنَّ كلَّ ما كان في نفسه فاحشةً فإنَّ الله لا يجوز عليه الأمر به، وهذا قول مَن يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء، كما يقول أكثر العلماء كالتميميّين وأبي الخطَّاب، خلاف قول مَن يقول: إنَّ ذلك لا يثبُت قطُّ إلاَّ بخطاب، وذلك قوله: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، علَّل النَّهيَ عنه بما اشتمل عليه أنَّه فاحشة وأنَّه ساء سبيلاً؛ فلو كان إنَّما صار فاحشةً وساء سبيلاً بالنَّهي، لَمَا صحَّ ذلك؛ لأنَّ العلَّة تسبق المعلول، لا تتْبعه؛ ومثل ذلك كثير في القرآن"[10]. وقال ابن القيِّم - رحِمه الله تعالى -: "واعلم أنَّه إن لم يكن حسن التَّوحيد وقبح الشرك معلومًا بالعقْل، مستقرًّا في الفطر، فلا وثوق بشيء من قضايا العقْل، فإنَّ هذه القضيَّة من أجلِّ القضايا البديهيَّات وأوضح ما ركَّب الله في العقول والفِطَر؛ ولهذا يقول - سبحانه - عقيب تقْرير ذلك: أفلا تعقلون، أفلا تذكَّرون، وينفي العقْلَ عن أهل الشرك ويُخبر عنهم بأنَّهم يعترفون في النَّار أنَّهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون، وأنَّهم خرجوا عن مُوجب السَّمع والعقل، وأخبر عنهم أنَّهم صمٌّ بكْمٌ عمْي فهم لا يعقلون، وأخبر عنهم أنَّ سمْعَهم وأبصارَهم وأفئدتهم لم تُغْنِ عنْهم شيئًا[11]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |