عمل المجتهد - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فقه الْحَج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 3 )           »          ما يقول الحاج والمعتمر إذا استوى على راحلته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          من قام الليل هو وزوجته أصابته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          مفهوم الأثر عند المحدثين وبعض معاني الأثر في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الصحيحان: موازنة ومقاربة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تخريج حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الكفاءة والخيار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          حديث: العرب بعضهم أكفاء بعض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          علة حديث: (نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          تخريج حديث: أنه توضأ للناس كما رأى النبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 04-11-2020, 09:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,446
الدولة : Egypt
افتراضي عمل المجتهد

عمل المجتهد
الشيخ وليد بن فهد الودعان






لا شك أن العالم المجتهد لعِظَم منزلته قد أناط الشرعُ به أعمالًا كثيرة، وبما أن البحث مرتبط بالشَّاطبي فإننا سنعرض لأهم الأعمال التي ذكرها الشَّاطبي، والتي لها تعلق بموضوع البحث، وأول هذه الأعمال وأهمها: الاجتهاد في المسائل والأحكام الشرعية، وهذا هو موضوع المطلب الآتي:

المطلب الأول: الاجتهاد، بيانه، وحكمه لغير المجتهد:

رأي الشَّاطبي:

سبق بيان معنى الاجتهاد، وأنه استفراغ الوسع في تحصيل العلم، أو الظن بالحكم.

وعليه، فبذل الوسع لتحصيل الحكم الشرعي هو الغاية من تحصيل شروط الاجتهاد، وهو أهم أعمال المجتهد، بل هو منبعُ أعماله؛ إذ هو الأصل الأصيل، والركن الركين.

ولا شك أن عملية الاجتهاد مقصورة على المجتهد المستوفي لشروط الاجتهاد؛ ولذا كان الاجتهاد معتبرًا في حالة واحدة، وذلك إذا صدر عن أهله، كما قال الشَّاطبي: "الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد"[1].



أما حكم الاجتهاد لغير المجتهد: فالشَّاطبي يرى أنه اجتهاد صادر عن غير أهله؛ فهو اجتهاد مَنهيٌّ عنه، وهو رأي وهوًى، وضلال وغوًى، وصاحبه آثم لا محالة[2].

قال الشَّاطبي عن أنواع الاجتهاد: "الثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عَماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه، فلا مِرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]، وقال تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]"[3].

وقال أيضًا: "ولما كان العامي حرامًا عليه النظر في الأدلة والاستنباط، كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهالات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به، فإذا أقدم على محرم عليه كان آثمًا بإطلاق"[4].



وقد جعَل الشَّاطبي هذا التقحم المنهي عنه سبيلًا إلى الغَواية، وطريقًا إلى البدعة، لا سيما إذا وقع في كليات الشريعة؛ إذ حقيقة اجتهاد صاحبه إعمال الجزئي في هدم الكلي.

قال الشَّاطبي: "فتراه آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ولا مسلِّم لِما روي عنهم في فهمها، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها؛ كما قال: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]"[5].

وما سبب ذلك إلا الضعف في فهم مقاصد الشرع، والاتباع للأهواء، فيتخذ من متشابه الشريعة مطية له، معرضًا عن محكمها.



قال الشَّاطبي: "ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح، واطراح النصفة، والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب؛ فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك، مع العلم بأنه مخاطر"[6].

ومِن خلال النظر في كلام الأصوليين يتبين أنهم متفقون مع الشَّاطبي في هذه المسألة[7].



وعلى هذا، فالموضع موضع اتفاق؛ ولذلك اشترط الأصوليون هذه الشروط لنيل رتبة الاجتهاد، وألزموا العامي بسؤال أهل العلم، ولم يعتبروا الاجتهاد من ناقص الأهلية[8]، أو ممن لم يستفرغ وسعه[9]، ومَن كان غير كامل الأهلية لا يمكنه أن يستفرغ تمام الوسع.

قال الشافعي: "فأما مَن تم عقله ولم يكن عالمًا بما وصفنا، فلا يحل له أن يقول بقياس؛ وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه... وكذلك لو كان حافظًا مقصر العقل، أو مقصرًا عن علم لسان العرب لم يكن له أن يقيس من قبل نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس، ولا نقول: يسع هذا - والله أعلم - أن يقول أبدًا، إلا اتباعًا لا قياسًا"[10].

قال الجويني: "أجمعوا أنه لا يحل لكل من شدا شيئًا من العلم أن يفتي، وإنما يحل له الفتوى، ويحل للغير قبول قوله في الفتوى إذا استجمع أوصافًا... ثم ذكر شروط الاجتهاد"[11].



المطلب الثاني: الفتوى:

الفتوى في اللغة أصلها فتى، وهو أصل يدل على معنيين:

الأول: يدل على طراوة وجدة.

والثاني: يدل على تبيين حكم.

ومن الأول: يقال: هذا فتى بيِّن الفتاء؛ أي: طري السن، والفتيُّ من الإبل: الطري.

ومن الثاني: الفتيا، يقال: أفتى العالم إذا بين الحكم، وجمعها فتاوي بكسر الواو، وقيل: يجوز الفتح للتخفيف[12]، ومن هذا اشتق المعنى الاصطلاحي للفتوى.



وتعريف الفتوى في الاصطلاح لم يتطرق له الشَّاطبي؛ ولذا فسأقتصر على تعريفها عند غيره من الأصوليين، ولعل من الغريب أن تعريف الفتوى لم يحظَ بكبير عناية من قِبل المتقدمين من علماء الأصول، ولعل ذلك نتيجة وضوحها نوعًا ما، وقد عرفها القرافي بأنها: إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة[13]، وفي موضع آخر ذكر أنها: إخبار عن حكم الله الذي فهمه - يعني المفتي - عن الله عز وجل في أدلة الشريعة[14].

ومن التعريفات الممكنة للفتوى أنها: إخبار عن الله بحكمه، أو إخبار عن الله بحكمه مع معرفة دليله[15]، أو هي تبيين الحق عند السؤال[16].

وعرفها بعض المحْدَثين بأنها: إخبار عن الله تعالى عن دليل شرعي لمن سأل عنه في أمر نازل[17].

وعرفها بعضهم بأنها: بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول[18].



وهذه التعريفات متقاربة المعاني، غير أنه يمكن أن يلاحظ ما يأتي:

أولًا: من التعريفات ما قيدت باشتراط أن يكون المفتي عارفًا بالدليل، ومنها ما أهملت هذا القيد، وفي نظري أنه من ماهية المفتي؛ إذ لا بد أن يكون عالمًا بدليل فتواه، ومن ليس كذلك فهو متقول بلا دليل، أو ناقل عن غيره، وليس أحدُ هذين بمُفْتٍ شرعي.

ثانيًا: أن منهم من قيد الحكم الذي يخبر به المفتي بأنه حكم فهمه عن الله، ومنهم من أهمل هذا القيد وجعله مخبرًا بحكم الله، وفيه نظر، والأول أصوب؛ لأنه مجتهد في فتواه، وقد يكون على خطأ فيها، وحينئذ لا يكون مخبرًا عن حكم الله حقيقة، وإنما عن حكم الله ظنًّا منه، وكذلك القول في لفظة الحق، فإن أراد الحق مطلقًا فهذا خطأ؛ لأنه قد يفتي بما هو حق عنده، خطأ عند غيره، وقد يكون مخطئًا في حقيقة الأمر، وإن أراد بالحق المعمم حقًّا خاصًّا، والمراد الحق عند المفتي فهذا صحيح.

ثالثًا: أن منهم من قيد الفتوى بالسؤال، أو بالسؤال في أمر نازل، ولا يظهر لي أن تقييد الفتوى بالسؤال فحسب وجيه؛ إذ قد يفتي العالم في حكم نازلة تطلب الأمر بيان حكمها دون أن يسأل عن ذلك، وأما تقييدها بالسؤال في أمر نازل فهو يخرج جواب العالم على سؤال التعلم عن كونه من الفتوى، ومن تأمل الكتب المؤلفة في جمع فتاوى العلماء رأى أنهم يدرجون الأجوبة التي سببها أسئلة خارجة مخرج التعلم ضمن الفتاوى؛ ولهذا أرى أن التعريف المختار للفتوى هو أنها: إخبار عن حكم الله قطعًا أو ظنًّا بدليل شرعي لسؤال أو نازلة.



وقولي: قطعًا أو ظنًّا، مفيد بأن الفتوى قد تكون في القطعي أو الظني؛ وذلك أن العالم إذا سئل عن مسألة قطعية كحكم الربا عمومًا أو الزنا أو حكم الصلاة أو الزكاة فأجاب، فإن جوابه يعتبر فتوى منه بما هو حُكم الله يقينًا، وإن كان في مسألة اجتهادية فهو لا يجزم فيها بأن ما أفتى به هو حكم الله، وإنما يغلِب على ظنه ذلك.

وقولي: بدليل شرعي، يفيد أنه لا بد أن يكون في فتواه مستندًا إلى دليل شرعي، وحينئذ يكون مفتيًا عن دليل وبينة بما أفتى به، وليس ناقلًا للفتوى عن غيره.

وقولي: لسؤال، يشمل سؤال التعلم وغيره مما صدر بسبب نازلة.

وقولي: أو نازلة، يندرج فيه بيان العالم لحكم مسألة نازلة تطلب الأمر بيان حكمها، ولو لم يسأل عن ذلك.

وقولي: لسؤال أو نازلة: يخرج بيان العالم لحكم مسألة لغير هذين الأمرين، كأن يبين الحكم في درس علمي أو نحو ذلك.



المسألة الأولى: خصائص المجتهد المفتي:

لا شك أن الفتوى منزلة عظيمة في الدين، ومكانة رفيعة في الشرع، ويكفي لبيان ذلك أن المفتي موقِّع عن الله، ويكفي لمنصب الإفتاء فخرًا أنه منصب تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾ [النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى شرفًا وجلالة[19]، وإذا كان المفتي ينوب عن الله، وينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ولا ريب يحتل مكانة لا مثيل لها، وإذا كان كذلك، فلا غرابة أن يختص بخصائص تميزه عن غيره ممن لم يحتل تلك المكانة، وقد ذكر الشَّاطبي جملة مما يتميز به المفتي، وتطرق لها تطرقًا متميزًا، وبيان ذلك فيما يلي:

رأي الشَّاطبي:

ذكر الشَّاطبي أن من خصائص المجتهد المفتي أنه قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة[20]، ووارث عنه مهمة البيان؛ ولذا واجب عليه أن يقوم بالبيان بأقواله وأفعاله، وهذا هو معنى الوراثة[21]، وهو نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين[22]، "فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي؛ ولذلك سُمُّوا أولي الأمر، وقُرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59][23]"[24].

ولذا فهو أهل للاقتداء؛ لأنه عامل بعلمه؛ فقوله مطابق لفعله، ولو لم يكن كذلك لم يكن أهلًا للاقتداء[25].



بل إن المجتهد لما أن كان قائمًا بأداء مصالح كفائية للأمة، كان في حقيقته - كما قال الشَّاطبي - خليفة الله[26] في عباده بحسب قدرته، وما هيئ له من ذلك[27].

وبمثل ما قال الشَّاطبي نقل عن سهل بن عبدالله التستري حيث قال: "من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء - عليهم السلام - فلينظر إلى مجالس العلماء... وهذا مقام الأنبياء فاعرفوا لهم ذلك"، ونقله عنه ابن الصلاح[28]، والنووي[29]، وابن جماعة[30]، وابن القيم[31]، وأقروه على ذلك.

ولا يخفى ما للمفتي من منزلة ومكانة في الدين، وقد تتابعت أقوال العلماء في الإشادة بمنزلة العلم وحامل العلم[32]، حتى سماه بعض العلماء: موقِّعًا عن الله، وخلفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم[33].



أدلة الشَّاطبي ومن وافقه:

استدل الشَّاطبي على أن المجتهد المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بأدلة:

الدليل الأول: أنه قد جاء من النقل ما يفيد ذلك، أو يفيد أن المجتهد قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه أن الله سبحانه تعالى قد سمى النبي نذيرًا، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ ﴾ [النازعات: 45]، وسمى أهل العلم بذلك فقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 122]، وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم))[34]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل العالم وريثَ النبي؛ فهو إذًا قائم مقامه، كما أن الوارث يقوم مقام الموروث[35].

وأيضًا ما جاء في الحديث: ((بينا أنا نائم أُتيتُ بقدح من لبن، فشربت حتى إني لأرى الريَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمرَ بن الخطاب))، قالوا: فما أولتَه يا رسول الله؟، قال: ((العلم))[36]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل عمر كالقائم مقامه؛ لمنزلته في العلم؛ فهو بمعنى الوارث.

ونحو ذلك من الآيات والأحاديث التي أشارت إلى أن العالم في منزلة النبي صلى الله عليه وسلم[37].



الدليل الثاني: أن المفتي نائب مناب النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب))[38] وقوله: ((بلِّغوا عني ولو آية))[39]، وقوله: ((تَسمعون، ويُسمَع منكم، ويُسمَع ممن يَسمَع منكم))[40].

وإذا ثبت هذا، كان قائمًا مقام النبي صلى الله عليه وسلم[41].



الدليل الثالث: أن المجتهد المفتي شارع من وجه دون وجه، وبيان ذلك أن ما يبلغه من الشريعة على وجهين:

إما أن يكون منقولًا عن الوحي وهو فيه مبلغ؛ فهو قائم مقام النبي في الإخبار بالأحكام، وإما أن يكون مستنبطًا من الوحي، فهو فيه قائم مقام النبي في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد أن ينشئ الأحكام عن طريق اجتهاده فهو شارع أيضًا، وإذا ثبت كونه شارعًا لزم اتباعه وقبول ما قاله، وهذا من الخلافة للنبي - صلى الله عليه وسلم.

وأيضًا إذا كان ناقلًا فإنه لا بد في النقل من النظر في المنقول من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام، وهذا راجع إلى نظره واجتهاده؛ فكان في كلا الحالين قائمًا مقام الشارع.

ويؤيده ما ورد: ((أن مَن قرأ القرآن، فقد أُدرجت النبوةُ بين جنبيه))[42].

وبهذا ثبت أنه قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم[43].



مناقشته: نوقش هذا الدليل: بأننا لا نسلم بأن المفتي يعتبر شارعًا للأحكام، وأنه واجب الاتباع لما يلزم من اتباع جميع المجتهدين، وهذا تناقض محض[44].

جوابه: يمكن أن يجاب بأن هذا الوجه لا يقدح في أصل المسألة، وإنما هو تعقب لرأي الشَّاطبي في إطلاقه لفظة الشارع على العالم، وكأن الشَّاطبي تبع في ذلك أهل اللغة؛ فإنهم يطلقون الشارع في اللغة على العالم الرباني العامل المعلم[45]، ولم يرد هؤلاء بذلك أنهم مصدرو الأحكام، فلا مشرع إلا الله، وإنما أرادوا أن العالم مظهِر للشرع، وهذا لا مرية فيه، غير أن الأَولى ترك هذه الكلمة[46].

وأما قول الشَّاطبي: إنه واجبُ الاتباع، ففيه تفصيل لا بد منه؛ وذلك أنه إن كان إنما أمر بمقتضى العلم فتجب طاعته، وإلا فلا[47]، ولا يلزم من ذلك التناقض؛ لأن العامي - كما يرى الشَّاطبي - عليه الاجتهاد في أعيان من يقلد من العلماء إذا اختلفت عليه فتاويهم[48].



المسألة الثانية: حُكم انتصاب المجتهد للفتوى:

الانتصاب: من نصب، وهو أصل يدل على إقامة شيء، يقال: نصبت الرمح: إذا أقمته، ويقال: تنصب الغراب؛ أي: ارتفع، يعني قام في مكان مرتفع[49].

وانتصاب المجتهد للفتوى؛ أي: قيامه بها، وأداؤه لها، وفي هذه المسألة نبين رأي الشَّاطبي في حكم قيام المجتهد بالفتوى.



رأي الشَّاطبي:

يرى الشَّاطبي أن من أعمال المجتهد الواجبة الانتصاب للفتوى؛ حيث يقول: "فنحن نقول: واجب على العالم المجتهد الانتصابُ والفتوى على الإطلاق، طابَق قوله فعله أم لا"[50].

وهذا الحكم عند الشَّاطبي مقيد بقوله في بيان حكم الجواب على العالم إذا سأله المتعلم: "فليس الجواب عنه بمستحق بإطلاق، بل فيه تفصيل، فيلزم الجواب إذا كان عالمًا بما سئل عنه، متعينًا عليه في نازلة واقعة"[51].



وعلى هذا فالانتصاب للفتوى في الجملة واجب على المجتهد إذا لم يكن ثم غيره ممن يقوم مقامه، أما إن كان ثم من يقوم مقامه، فلا يجب عليه الانتصاب؛ لأن الفتوى من الواجبات الكفائية التي يتعلق بها مصلحة الأمة جميعًا[52]؛ ولذا كان لازمًا على المجتهد القادر القيام بها، بل إن الشَّاطبي يرى أن على المجتهد القيام بالمصلحة العامة من فتيا ونحو ذلك إن لم يكن ثَم من يقوم بها، وإن كان يخشى مِن وقوعه في مفسدة، فالمصلحة العامة مقدمة حينئذ؛ لأنه لا سبيل إلى تعطيل المصالح العامة، وإقامة الدِّين والدنيا لا تتم إلا بذلك[53].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 123.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 122.33 كيلو بايت... تم توفير 1.57 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]