|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() ![]() أثر القرآن في الحياة العربية (1-2) الكاتب : مصطفى السباعي (11) من المُسلَّم به أن لكلّ أمة فضائلها وعيوبها، ولا نعرف أمّة كلها عيوب، أو أمة كلها فضائل، وكذلك كان شأن العرب قبل الإسلام، فماذا كان موقف القرآن والإسلام من هذه الفضائل والرذائل التي كانت عندهم، وكيف كان أثره عليهم؟ هذا ما نتعرف عليه في هذا المقال. أثر القرآن في الحياة العربية[1] {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 3-4][2]. مما يذكره العلماء من حكمة فرض الصيام في شهر رمضان؛ أنه هو الشهر الذي ابتدأ فيه نزول القرآن على رسوله الكريم -صلى الله عليه وسـلم-، فبدأت فيه الرسالة التي غيرت تاريخ العرب وأوضاعهم حتى لكأنما خلقوا خلقًا جديدًا، وحولت مجرى الحضارات الإنسانية حتى لكأنما ولد الإنسان من بعدها ولادة جديدة، فكان من تمام شكر الله على هذه النعمة أن يكون شهرها دائمًا وأبدًا شهر طُهر وبِرٍّ وعبادة؛ مما يجدد في نفس المسلم كلّ عام أهداف هذه الرسالة العظيمة، ![]() ويذكّره بفضل القرآن العظيم عليه، وعلى قومه وعلى الناس أجمعين. ولقد كان الرعيل الأول ممن شرفه الله بصحبة رسوله، وتبليغ رسالته، وحمل مشاعل النور لشعوب العالم المتردّية في الغفلة والجهالة والضلالة، يعرف من فضل الإسلام عليه وأثر القرآن في نقلته من الظلام إلى النور ما يجعله يستقبل رمضان في كلّ عام كما يستقبل أعز الذكريات لديه وأحبها إليه، فلما بعد العهد وانتقل ذلك الجيل إلى جوار ربه أصبح أبناؤه وأحفاده الناشئون في أحضان الإسلام في أشدّ الحاجة إلى من يذكّرهم بجلال نعمة القرآن، وجميل صنع الله بالإنسان، في بعثة رسوله وإنزال كتابه، وهذا هو ما عناه عمر -رضي الله عنه- بقوله: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة؛ إذا نبت فيه من لا يعرف من أمر الجاهلية شيئًا»، ولم تصدق نبوءة الفاروق هذه في عصر كصدقها في عصرنا هذا. ومنذ انتشرت الجيوش الإسلامية في أنحاء الأرض فأزالت دولًا وأقامت دولًا، وحطمت عروشًا باغية وزعامات طاغية، وأقامت حكومات تعنى بأمر الشعب وتهتم بمصالحه؛ أخذ الحاقدون الموتورون يعتمدون تشويه تاريخنا بمختلف الأساليب، بالجهر تارة وبالسر أُخرى، حتى بات انحرافهم عن الحقّ واتباعهم للهوى أمرًا معروفًا يكادون يعترفون به هم أنفسهم، ومن ذلك حقيقة الوضع الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، فقد صوّروهم في أبشع صورة وأحطّ صورة وأحطّ درك، وجردوهم من كلّ فضيلة وخلق نبيل، وكانت لذلك ردّة فعل تجلّت بشكلٍ معتدل في الماضي؛ إذ ردّت كلّ الأكاذيب وأثبتت ما كان يتحلى به العرب من فضائل، وتجلّت ردّة الفعل في الحاضر بأشكال مختلفة لا نزال نذكر من بينها أمر تلك الجماعة التي قامت في مصر وادّعت من الفضائل للعرب قبل الإسلام ما لا يثبته التاريخ ولا يؤيّده الإسلام نفسه، حتى زعمت تلك الجماعة أنّ رذائل العرب في الجاهلية خير من فضائل غيرهم في الإسلام! والحق بعيد عن هؤلاء وأولئك كلّ البعد، واتباع حقائق العلم والتاريخ أجدر بالذين يحملون القلم ويقرؤون الكتاب. من المسلَّم به أنّ لكلِّ أمة فضائلها وعيوبها، ولا نعرف أمة كلّها عيوب، أو أمة كلّها فضائل، وكذلك كان شأن العرب قبل الإسلام؛ فقد كانت لهم فضائل من ![]() النجدة والشهامة والكرم والشجاعة والذكاء وتحمّل المشقات بصبر وجلد، إلى غير ذلك مما لا يستطيع إنكاره كلّ من قرأ الشعر العربي القديم -وهو ديوان العرب وسجل أعمالهم وخصالهم-، كما كانت لهم عيوب من الغزو والتفاخر فيما بينهم وعبادة الأوثان وشرب الخمور، وغير ذلك مما كانت لكلّ الأمم في عصورهم، فماذا كان موقف القرآن والإسلام من هذه الفضائل والرذائل؟ نريد أن نقول قبل كلِّ شيء: إنّ كلّ رسالة إنسانية لا بد لها من أمة جديرة بحمل أعباء الدعوة إليها، وبما يتفق مع طبيعة الأمة وأهداف الرسالة وظروف البيئة، ولقد كان العرب يومئذٍ أجدر الأمم المعاصرة لهم بشرف دعوة الإسلام وإبلاغ رسالته الإنسانية إلى الناس كافة، فأذهانهم صافية صفاء السماء التي يستظلونها، بعيدة عن التخبط الفكري الذي كانت تعيش فيه أبناء فارس والروم، وأخلاقهم لم تنحلل كانحلال أبناء الحضارات في كلّ من فارس والروم، لقد جاءت رسالة الإسلام منطقية معقولة تخاطب العقل، وتنفذ إلى أعماق النفس بكلّ يسر وسهولة، فليس كالعقل العربي يومئذ عقل يتجاوب مع منطق الإسلام، وليس كالفطرة العربية حينئذ فطرة نقية بيضاء تقبل سهولة الإسلام ويسره وسموّه، وتتجاوب مع واقعيته ومثاليته، وليس كالعربي حينئذ في جَلَدِهِ وصبره وبأسه، أمة تبذل من ![]() التضحيات في الأنفس والأموال ما تقتضيه الدعوة الجديدة ومكافحة أعداء أهدافها من رؤساء ومتسلطين، وبهذا كان العرب أجدر الأمم في عصر محمد -صلى الله عليه وسـلم- بحمل رسالة الإسلام، لا لأنهم قوم لا عيب فيهم، بل لأنّ خصائصهم الذهنية وأخلاقهم الاجتماعية تجعلهم جديرين بشرف التضحيات في سبيل الدعوة الجديدة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وليست جدارتهم بحمل أعباء الرسالة من الناحية التي أشرنا إليها تقتضي أن يكونوا أشرف الأمم قاطبة من الوجهة العرقية الجنسية، فقد يكون الإنسان أصلح من غيره لعملٍ معين، دون أن يكون أصلح من غيره في كلّ الوجوه، كما كان قواد الرسول -صلى الله عليه وسـلم- وولاته أجدر من غيرهم من الصحابة لكفاءتهم الشخصية وعبقريتهم العسكرية، وقد كان تحت إمرتهم من هو أزهد منهم أو أعبد أو أعلم، واعتبر في ذلك بأبي ذر-رضي الله عنه-، فقد شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- بأنه: «ما أظلت السماء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر»، ومع هذا فقد رفض -عليه الصلاة والسلام- أن يوليه الإمارة قائلًا له: إنك ضعيف، وإنك لا تصلح لها. بعد هذه المقدمة التي لا بد منها نريد أن نبحث عن أثر القرآن في العرب وموقعه من فضائلهم وعيوبهم. لقد ندد القرآن بكلّ ما لا يليق أن يتخلق به الإنسان العاقل الكريم الرحيم ذو الخلق المستقيم؛ فندّد بعبادة الأوثان، ووأد البنات، والعدوان على الأموال والأعراض والحرمات، وشرب المسكرات، وإتيان الفواحش، والتعصب بالباطل للقرابة والقبيلة، وأكل الخبائث، وقطع الأرحام، وغير ذلك مما كانت ولا تزال تغصّ به المجتمعات الجاهلية المتفككة. وأما الفضائل فقد ثبتها الإسلام وأكّد عليها، ولكنه حوّلها من أهدافها الجاهلية إلى أهداف إنسانية اجتماعية نبيلة، فالكرم فضيلة لكنه كان يقصد منه التفاخر والسمعة والثناء، وكان الرجل منهم يفعله بدافع فردي من غير أن تلاحظ فيه مصلحة الجماعة عامة، فحوّله الإسلام إلى أن يفعل لوجه الله ورضوانه، وثناء الله وإحسانه، فعلى الكريم أن يبتعد كلّ البعد عن التفاخر بكرمه والتغني به والمنّ به على قومه، فإذا كان لشيء من هذا فَقَدَ أجره وثوابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا ![]() تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 264]. وقل مثل ذلك في الشجاعة، فهي من أنبل ما يتحلى به الإنسان من خلق كريم، ولكنها لا يصح أن تكون للمباهاة والمفاخرة، ولا يصح أن يتغنى بها الشجاع، ويتيه بها على المنهزمين من أبناء عمومته، أو أن تكون وسيلة للعدوان على الضعفاء، بل يجب أن تكون دفاعًا عن الحقّ، وذودًا عن الحرمات، وحماية للمستضعفين، وتأديبًا للطغاة والظالمين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]، وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- عن الرجل يقاتل حميّة، ويقاتل شجاعة، ويقاتل مباهاة؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فأجاب: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». وكلمة الله أي شريعته؛ من إحقاق الحقّ، ومحاربة الباطل، ونصرة الضعيف، وهداية الضالّ، وإغاثة المحتاج، فكلّ ذلك من شريعة الله وكلمته، فمن قاتل للمبادئ الإنسانية النبيلة فهو المجاهد في سبيل الله حقًّا. ولقد كان من أثر القرآن أن تحقق في المجتمع العربي بعد أن لم يكن:
![]() طرفة بن العبد في معلقته: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وَجَدِّكِ لم أَحْفل متى قام عُوَّدي[3] فَمِنهُنَّ سبقي العَاذِلاتِ بِشَربةٍ كُمَيتٍ متى ما تُعلَ بالماء تُزْبِدِ[4] وكرّي إذا نَادى المضــــــــاف مُحنبًا كَسيد الغَضَا -نبهته- المتوردِ[5] وتقصيرُ يومِ الدجنِ والدَّجنُ معجِبٌ ببهكنــةٍ تحتَ الخبــاءِ المعمــدِ[6] فهو هنا يعلن بأنّ هدفه من الحياة ثلاثة: الخمرة، والمرأة، وإغاثته للملهوف، ولولاها لما بالى متى مات، والهدفان الأوّلان من مفاسد الحياة الاجتماعية، والهدف الثالث وهو إغاثته للملهوف من فضائل الأخلاق، ولكنه يفعل ذلك ليتحدث عنه أبناء قبيلته بهذه المكْرمة كما هو المعروف في أجواد العرب وشجعانهم وشعرائهم في الجاهلية. فانظر كيف حول القرآن المثل الأعلى للعربي في الحياة: يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فعبادة الله هي هدف الإنسان المؤمن، وليست العبادة مجرد الصلاة والصوم كما يظنه كثير من الناس، بل هو في الخضوع لله وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه في كلّ شئون الحياة، مما علم الله أن الحياة الكريمة للإنسان لا تستقيم بدونها، وقد ذكر القرآن أمثلة للعبادة التي أراد الله من الناس أن يتصفوا بها فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) ![]() يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63-76]. هنا في هذه الآيات يتجلى التبدّل العظيم الذي طرأ على المثل العليا التي يحيا لأجلها الإنسان العربي قبل الإسلام وبعده، ومن ههنا نعرف السرّ العظيم في تطورالتاريخ العربي بعد الإسلام تطورًا معجزًا لا يعرف تاريخ التطور للأمم والشعوب له مثيلًا. ========================== ![]() [1]مجلة حضارة الإسلام، م:8، 1383هـ -1964م، العدد التاسع، ص: 947-953. [2]تمَّ تخريج الآيات القرآنية داخل المقال من جانبنا (موقع تفسير). [3] يقول: لولا ثلاث خلال -وهي التي ذكرها في البيتين التاليين- لم أبالِ متى متّ. [4] يريد: أغدو على شرب الخمر قبل لوم العاذلات، والكميت الحمراء، ومعنى تعل بالماء تزبد: متى أضيف الماء إليها أصبح لها زبد. [5]يقصد: ركوبه فرسًا شديد العدو لإسعاف من يناديني من المثقلين بالهموم، والمحنب: فرس أقنى الذراع، والسيد: الذئب، قالوا: وذئب الغضا أخبث الذئاب؛ لأنه يستخفي، ونبهته: هيجته، والمتورد: الذي يطلب ورود الماء، يشبه فرسه في شدة عدوها بذئب الفضاحين تهيجه وهو يرد الماء. [6] يريد: وتقصير يوم الغيم باللهو مع امرأة تامّة الخلق تحت الخباء المرفوع بالعمد. ![]()
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() ![]() أثر القرآن في الحياة العربية (2-2) الكاتب : مصطفى السباعي (12) كان للقرآن أثرٌ عظيمٌ في الحياة العربية، وفي هذه المقالة يستعرض الكاتب بعض أوجه التغيير التي أحدثها القرآن في حياة العرب ومجتمعهم، وكيف تعامل القرآن مع ما كان عندهم من فضائل ورذائل؟ لتُتمِّمَ ما تناوله من آثار في مقالته السابقة. أثر القرآن في الحياة العربية[1] لقد كان أثر القرآن عظيمًا في تطوير المجتمع العربي من مجتمع قبلي، كلّ قبيلة فيه لها كيانها الخاصّ ورئاستها الخاصة وشعورها الخاصّ، إلى مجتمع مدني يشعر جميع أفراده بشعور الرعوية في دولة واحدة ذات نظامٍ واحدٍ، يتساوى فيه أبناؤه في الواجبات والمسئوليات، دون تفريق بين شريفٍ ووضيعٍ أو بين قبيلةٍ ممتازة وقبيلةٍ دنيئة.لقد كانت القبائل العربية قبل الإسلام تتفاوت في الشرف والمنزلة الاجتماعية، فأشرفها قريش، وأخسّها باهلة، وفي خسة باهلة تضرب الأمثال حتى قال قائلهم: ولو قيل للكلب يا باهلي عوى الكلب من لؤم هذا النسب! وقيل لأحدهم في فجر الإسلام: أيسرّك أن أباك باهلي وأنك في الجنة؟ فأجاب: لا أحب اللؤم بشيء! وقيل لآخر: أيسرّك أنك في الجنة وأنت من باهلة؟ فأجاب: بشرط أن لا يعلم أهل الجنة! وأسَّس القرآنُ الدولةَ عند العرب على مبدأين ثابتين: ![]()
وكان توحيد العرب داخل جزيرتهم وإزالة الحروب والغزوات التي كانت قائمة بين قبائلهم؛ مقدمة لخروجهم من جزيرتهم برسالة تحريرية ليس لشعوب العالم يومئذٍ عهدٌ بها، وجعل منهم أمة تحمل لواء الريادة الفكرية والتهذيبية والحضارية لأمم الحضارة المعاصرة لهم، فغدوا قادة بعد أن كانوا تابعين، وأساتذة بعد أن كانوا مقلدين، ومعلِّمين بعد أن كانوا أميّين. لقد عرفت جزيرة العرب قبل الإسلام موجات من هجرة أبنائها إلى خارج حدودها انتجاعًا للرزق والعيش، ولم تكن فيها موجة تحمل رسالة وفكرة وهدفًا تحريريًّا لمن ينتقلون إليهم، ولكن الموجة العربية بعد الإسلام كانت من طرازٍ فريدٍ أدهش العالم يومئذٍ، ولا يزال يدهش كُتّاب العالم اليوم، موجة أقامت حضارة، وأنشأت دولًا، وأزالت دولًا، ونشرت علمًا، وأسست معاهد وجامعات، وأدخلت نور العلم والثقافة إلى أوروبا في ![]() القرون الوسطى؛ فبددت ظلامهم، وفتحت عقولهم، وجعلتهم تلاميذ يدرسون كتبهم في معاهدهم وجامعاتهم أكثر من ستة قرون. وكان خروج العرب في هذه الموجة مقرونًا بالاستعلاء الخلقي والفكري على من حاربوهم من الفرس والروم؛ مما كان له عظيم الأثر في انتصاراتهم وفتوحاتهم. وكان من أثر هذه الموجة أيضًا أن امتدت رقعة العالم العربي، فلم يعد العرب هم سكان الجزيرة العربية وحدها، بل ضمت لجزيرتهم إلى الأبد حدود العالم العربي اليوم من بلاد الشام إلى مصر والعراق وأفريقيا وغيرها، وانتشرت لغتهم كلغة علم وحضارة إلى جميع بلاد العالم المتمدن يومئذٍ، ودخلت كثير من كلماتها وتراكيبها إلى لغاتهم. هذا بعض آثار القرآن على الحياة العربية واللغة العربية، ولولا القرآن لما بقيت اللغة العربية واحدة يتكلم بها جميع أبناء البلاد العربية، وهذا هو سرّ خلود اللغة العربية، لا كما يذيع الشعوبيون من أعداء الإسلام من أن القرآن جمَّد اللغة العربية وحال دون تطورها! ![]() نماذج رائعة من أثر القرآن: ونكتفي أن نورد هنا بعض النماذج الرائعة التي أوجدها القرآن في العرب، وقد كانت قبله بعكس ما خلدت فيه في التاريخ: فهذا عمر بن الخطاب كان في الجاهلية فتى لاهيًا كفتيان قريش، فإذا هو بعد الإسلام محرِّرُ العالم من أكبر دولتين باغيتين، ويصبح مديرًا لممالكهما بأحسن وأفضل مما كانت تدار به في عهودهما. وهذا خالد بن الوليد لم يكن في الجاهلية إلا فتى شجاعًا يحسن الحرب في غزو قبيلته على قبيلة عربية أخرى، فإذا هو بعد الإسلام قائد جيوش الموجة العربية الجديدة، يتغلب على قوّاد الدولتين الكبيرتين ويلحق بها أكبر الهزائم؛ مما جعله في التاريخ حقًّا مع الخالدين. ونتابع هذه النماذج العجيبة المذهلة إلى أن نصل إلى امرأة كانت في صدر شبابها في الجاهلية قد فقدت أخويها، فجزعت وأنشدت القصائد الطوال في رثائها وبكائهما، ومما يحفظه كلُّ تلميذ في مدارسنا اليوم قولها في رثاء أخيها صخر: يذكّرني طلوع الشمس صخرًا وأذكره لكلّ غروب شمس ![]() ولولا كثرةُ الباكين حولي على إِخوانهم لقتلتُ نفسي فلا واللهِ لا أنساك حتى أفارقُ مهجتي ويشقّ رَمْسِي فقد ودعتُ يوم فراقِ صخر أبي حسان لذاتي وأُنْسِي فيا لهفي عليه ولهف أمي أيصبح في الضريح وفيه يمسي؟ فانظر إليها كيف انقلبت من امرأة جزعة هلوعة تلبس الخيش وتزهد في الحياة، وهذا كان شأنها في الجاهلية بعد مصرع أخويها، انظر إليها كيف انقلبت في الإسلام، وهي عجوز نيّفت على الثمانين تعطي أروع الأمثلة ![]() لبسالة المرأة العربية المسلمة وفدائها وتضحياتها. لقد ذهبت مع الجيش في فتوح العراق ومعها أولادها الأربعة، فلما كانت ليلة القادسية فقالت لهم: يا بني؛ أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم، ولا فضحتُ خالكم، ولا هجنتُ حسبكم، ولا غيرتُ نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيّهَا الذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت على سياقها (وحللت نارًا على أرواقها)، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها (عند احتدام خميسها)؛ تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد والمقامة. فلما بلغها قتلهم قالت: (الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته). قالت هذا وهي في سنّ الثمانين وليس لها غير أولادها الذين فقدتهم، ومستحيل أن يبلغ حزن المرأة على ![]() أخويها كحزنها على أولادها الأربعة، ولكن القرآن خلق منها امرأة أخرى تسجل في تاريخ المرأة العربية أمثلة يندر أن تسجل امرأة أخرى مثلها في أيّ أمة من أمم العالم. *** [1] مجلة حضارة الإسلام، م:8، 1383هـ -1964م، العدد العاشر، ص: 1062-1065. [2]في الأصل: "يجوز من"، وهي مشكلة، وقد أثبتنا ما رأيناه أقرب للمعنى بحسب السياق. ![]()
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد وهدايات من محاضرة ( الوصايا العشر المحكمات )* الشيخ خالد السبت (13) مقدمة 1- نزلت سورة الأنعام جملة واحدة في مكة . 2- موضوعات السور المكية : تقرير قضية التوحيد والإيمان بالله تعالى ، وانفراد الله بالتشريع، وتقرير الإيمان باليوم الآخر ، وهي القضايا التي يشغب حولها المشركون . 3- جاءت هذه الوصايا العشر في ثنايا هذه السورة ، حينما رد الله عليهم ، وبيّن جهالات هؤلاء في التحريم والتحليل . 4- هذه الوصايا العشر جاءت في ثلاث آيات 5- قيل لها المحكمات ؛ باعتبار أنها أصول يرجع لها غيرها، وهي ام تُنسخ ، ولا يتطرق لها النسخ ، لأن النسخ لا يتطرق للأصول الكبار 6- ذكر أهل العلم أن هذه الوصايا العشر المحكمات هي في شرائع جميع الأنبياء ، ومما اتفق عليه الرسل في شرائعهم 7- جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه " من سره أن يقرأ وصية محمد (رسول الله ﷺ ) التي عليها خاتمه ، فليقرأ هذه الآيات ( قل تعالوا أتلُ ما حرّم عليكم ربكم ) إلى قوله ( لعلكم تتقون )" الآية الأولى : ﴿قُل تَعالَوا أَتلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلّا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بِالحَقِّ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلونَ﴾ [الأنعام: ١٥١] 8- اشتملت أول آية على خمس وصايا ![]() 9- {قل تعالوا } :السورة مكية ، فالخطاب لجميع الناس، ويدخل فيهم المشركون 10- {قل تعالوا } هذا الأمر موجه للنبي ﷺ باعتبار أنه المبلغ عن ربه ، وهذا دليل على أن الرسول ﷺ عبد لله ، يمتثل أمره ، وينقاد له كل الانقياد ، وليس مشرعا من عند نفسه ، بل يوحى إليه 11- في قوله {تعالوا } عدة معان ٍ: فهو يدعى به من كان بعيدا ، فلما كان هؤلاء في حال من البعد لأنهم على الإشراك ، كأنهم في ناحية بعيدة عن الهدى 12- يؤخذ منها أن الهداية إنما تأتي لمن أقبل عليها ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ، أي كان له قلب وقاد ، وألقى السمع ، فهو يقصد الاستماع مع حضور القلب، أما الذين يعرضون وينأون بأنفسهم فقد أصم الله أسماعهم ، وأعمى أبصارهم ، وجعل على قلوبهم أكنة وأقفالا ، فلا يصل إليها من الهدى شيء 13- أيضا تدل على الارتفاع والعلو ، فمن يأتي للهدى يصعد ويرتفع ، فإذا كان الإنسان متبعا لهوى نفسه والشيطان ، فإنه ينسفل ، لذلك قال الله تعالى ( قد أفلح من زكاها ) فالزكاء فيه معنى النماء ، ( وقد خاب من دساها ) فالدّسّ والتدسية يدل على هبوط وانخفاض وضعة ، وهكذا تفعل الذنوب والآثام والجرائم والشرك تدسّ صاحبها ، فمن أراد أن يرتقي ويعلو ويسمو ، فإن عليه أن يقبل على هذا الهدى الكامل . 14- {أتلُ } التلاوة هنا بمعنى القراءة ، لأن القارئ يتبع الألفاظ ، وهي في مواضع أخرى تكون بمعنى التلاوة والاتباع { واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك } 15- لاحظ في هذه الآية ( أتل ما حرم ربكم عليكم ) وفي دعاء إبراهيم عليه السلام ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) فذكر التلاوة أولا ، لأنها أول درجة ومرحلة وممارسة ، التلاوة التي يحصل بها البلاغ . ![]() 16- الوصية تقال لما يكون من الأمر والنهي المؤكد . 17- (أتل ما حرم ربكم ) ينبغي على الإنسان أن يقبل على كتاب الله فيتلوه ، ويكون له ورد في يومه وليلته لا يفرط فيه 18- ينبغي على الدعاة أن يتلوا على الناس كتاب الله تعالى ويبينوا لهم ما حرم عليهم وما شرع 19- تأمل التعبير بقوله ( ربكم ) ذكر اسم الرب في غاية المناسبة ، لأن من معانيه الذي يتصرف بخلقه ، فيأمر وينهى ويشرع ، ويحلل ويحرم . وهم يقرون بالربوبية ، فكان إلزاما لهم بما وراء ذلك من الانقياد لكونه هو المشرع وحده ،المعبود وحده دون سواه 20- التعبير بقوله ( حرم ربكم عليكم ) قال بعض أهل العلم : لما قُصد به الذين يعبثون بالتحريم والتحليل ، ويشركون به غيره ، جاء في هذا السياق ( حرم ربكم ) ، وفي سورة الإسراء كان المقصود أهل الإيمان فجاء التعبير بقوله ( وقضى ربك ) أي حكم ووصى . هذه الوصايا العشر في سورة الأنعام كلها من قبيل المنهيات ، إلا الوصية الثانية ( وبالوالدين إحسانا ) والأخيرة ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) الوصية الاولى : ![]() 21- تأمل بداية الوصايا ( ألا تشركوا به شيئا ) : بدأ بقضية التوحيد لأنها أصل الأصول ، وعليها مدار الفلاح ، وكل ما يذكر بعدها فهو متفرع عنها 22- جاء الحديث عن التوحيد بالنهي عن الشرك ، وهذا يستلزم الأمر بضده وهو توحيد الله تعالى ، بينما جاء الأمر بالتوحيد في وصايا سورة الإسراء صريحا ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) 23- {ألا تشركوا به شيئا } شيئا : نكرة في سياق النهي ، تدل على العموم ، أي لا تشركوا به شركا قليلا أو كثيرا ، ويدخل فيه كل أنواع الشرك : الأكبر والأصغر والخفي ، وشرك الربوبية والألوهية والأسماء والصفات 24- إذا كان التوحيد من أهم المهمات وأول المطالب وأول دعوة الرسل ، فينبغي أن يكون هو الأول فيما يوجه للناس ، وما يُدعون إليه الوصية الثانية : 25- {وبالوالدين إحسانا } لم يقل لا تعقوا الوالدين ، كما في الوصايا ، فجاء بصيغة الأمر لا النهي ، وهذا له دلالة والله أعلم لأنه وضع في موضع الأمر للمبالغة ، وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما لا يكفي ، بل لابد من كف الأذى بأنواعه وإن قلّ، مع البر والحفظ وامتثال الأمر {إحسانا } عبر بالمصدر وأطلقه ، فلم يقل إحسانا بالقول أو الفعل أو المال ، ليشمل كل أنواع الإحسان . فيدل على كمال الإحسان وأنه إحسان عظيم . 26- الأمر بالإحسان للوالدين يستلزم ترك الإساءة لهما ، فصار ذلك بدلالة اللزوم ![]() جاء الأمر بالإحسان للوالدين بعد التوحيد ، وهذا يتكرر في القرآن ، فالله هو الذي أوجدنا من عدم ، والوالدان هما سبب الوجود في هذه الحياة ، وهذا الحق متقرر ثابت وإن كان الأبوان غاية التقصير 27- {وبالوالدين إحسانا } عداه بحرف الباء ، وقد يعدّى بإلى ، والتعدية بالباء أبلغ ، وكأن ذلك الإحسان قد تغلغل في نفسه ، وكان أعمق وألصق ، فلم يكتف أن يوصل الإحسان إليهما . الوصية الثالثة : {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } 28- لما ذكر ﷻ حق الله ثم حق الوالدين ، ذكر حق الأقرب إلى الإنسان وهم أولاده 29- هذا النهي يفيد التحريم ، وجاء بعده فعل مضارع ، فهذا التركيب يفيد العموم ، أي لا يحل قتلهم بحال من الأحوال 30- الأولاد لفظ يشمل الذكور والإناث ، والمعروف أن العرب كانوا يقتلون الإناث 31- ذكر علة القتل { من إملاق } ، وهو الفقر ، يقال :أملق أي افتقر ، كأنه لم يبقَ معه إلا الملقات وهي الصخور والحجارة الملساء التي ليس فيها شيء 32- الله تعالى ذكر العلة وهي الفقر ، والمعروف أن العرب كانوا يقتلون بناتهم خشية العار ، فهل هناك منافاة ؟ الجواب لا ، لأنهم كانوا يقتلون بناتهم خشية أن تفتقر فتضطر بسبب الفقر أن تبيع عرضها ، وتواقع الفاحشة، وهي غيرة جاهلية مذمومة ![]() 33- لما كان سبب القتل { من إملاق } أي فقر واقع ، قدم الله ﷻ رزق الآباء { نحن نرزقكم وإياهم } وفي سورة الإسراء لما كان الفقر متوقعا { خشية إملاق } إذا كثر الأولاد ، قدم رزق الأولاد { نحن نرزقهم وإياكم } وقد أخذ منه بعض أهل العلم أن الأبناء يكونون سببا للرزق 34- لما كان الخطاب في الآية للجميع ، ويدخل فيه الكفار ، دل ذلك على أن رزق الله لا يخلو منه أحد ، فالكفار تنالهم أرزاق الله عز وجل {وما بكم من نعمة فمن الله } 35- ذكر قتل الأولاد على وجه الخصوص لانه من أشنع الذنوب 36- في {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ، بمفهوم المخالفة : هل يقال إذا كان قتلهم من غير إملاق فإن ذلك سائغ ؟ الجواب : لا فهذا من المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة ، فإن الآيات إذا نزلت على وفاق واقع معين ، فإن مفهوم المخالفة لا يكون حجة مثل ذلك { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } فلا يجوز إكراههن إن كن يردن البغاء الوصية الرابعة {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } 37- الفواحش جمع فاحشة وهي الذنب العظيم ، وما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي 38- قيل الفواحش : الزنا ![]() ما ظهر منها : الإعلان به ، وما بطن : الإسرار وقيل ما ظهر : الخمر ونكاح المحرمات ، وما بطن : الزنا وقيل ما ظهر : الخمر وما بطن : الزنا وقيل عام في الفواحش المعلنة وما كان سرا وقيل : ما ظهر من أفعال الجوارح ، وما بطن : من أفعال القلوب وقيل : ما ظهر : البغاء ، وما بطن : اتخاذ الخلان 39- {ولا تقربوا } النهي للتحريم ، وهذا التركيب مع لا الناهية يفيد العموم ، والعموم يتوجه لأربعة أمور : عموم الأفراد، وعموم الأحوال ، وعموم الأمكنة ، وعموم الأزمنة 40- {ولا تقربوا } لم يقل : لا تأتوا أو تمارسوا ، فالنهي عن القربان يدل على المباعدة ، فهو نهي عن كل ذريعة توصل إليه فما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام وتركه واجب 41- قوله { ما ظهر منها } قد يحترز الإنسان من مقارفة الفواحش الظاهرة ، إما خوفا من الناس أو حياء منهم ، أو من أجل سمعة الأسرة والعائلة، أو خوفا على منصب ، ونحو ذلك ، لكنه يفعله سرا ، فهنا تربية إيمانية عميقة 42- {وما بطن } فيه دعوة لتطهير الباطن من كل الآفات ، كالرياء والسمعة ، وحب الظهور والشهرة ، والتوكل على غير الله ، وسوء الظن بالله كل الأشياء المذكورة في الآية هي من الموبقات الوصية الخامسة : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } 43- هذا أيضا نهي يدل على التحريم ، والتركيب يدل على العموم ، فلا يحل قتل نفس أي نفس ، على أي حال ، في أي زمان ، وأي مكان ، إلا ما استثناه الله ﷻ قتل النفس داخل في عموم الفواحش ، فهو من الذنوب العظام ، وإنما خص لشناعته وشدته 44- {إلا بالحق } فلا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ![]() 45- ملاحظة : المنهيات التي تميل لها النفس وتدخل فيها الأهواء والشهوات ، يأتي النهي عنها بتعبير { ولا تقربوا } أما غيرها فالنهي فيه مباشرة { ولا تقتلوا } 46- {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } أي يكون سببا للعقل ، فمن خالف ذلك فهو سفيه 47- قاعدة : الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه ، فدل ذلك على أن من راعى حدود الله عز وجل ، فهذا أتم وأكمل في عقله ، وبحسب عقل العبد يكون قيامه بأمر الله عز وجل ومراعاة حدوده 48- كلمة (لعل) في القرآن هي للتعليل ، إلا في موضع واحد { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أي كأنكم تخلدون الآية الثانية ﴿وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها وَإِذا قُلتُم فَاعدِلوا وَلَو كانَ ذا قُربى وَبِعَهدِ اللَّهِ أَوفوا ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢] الوصية السادسة {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } 49- هذا نهي للتحريم ،، ولا الناهية مع الفعل المضارع تتوجه للعموم : عموم الأفراد والأحوال والأمكنة والأزمنة 50- {ولا تقربوا } جاء النهي بعدم القربان ، لأن ما فيه طمع جاء النهي عن قربانه ، فإذا كان النهي عن مجرد القربان فهو أبلغ ، وهذا يدل على رعاية وعناية الشارع بالضعفاء ، وسعة رحمته ، فلا يكون اليتامى عرضة لذوي النفوس الدنيئة 51- {إلا بالتي هي أحسن } مقال " إلا بالحسن " ليشمل ذلك الناحيتين الدنيوية والشرعية ، فما كان فيه تثمير للمال مع محرم أو شبهة فإنه يترك ويلجأ للحلال 52- في الآية دلالة على عناية الشارع باليتيم ، ومن ثمّ فإنه لا يلي مال اليتيم من كان ضعيفا سواء كان الضعف في العقل والتفكير ، أو كان الضعف في القدرات باعتلاله ومرضه ، أو ضعف في الوازع الديني الوصية السابعة {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} 53- الوفاء بمعنى التكميل ، وقد يدل على معنى الزيادة ، وهذا يدل على النهي عن ضده ، وهو النقص 54- المكاييل والموازين هي التي يكون بها قوام حياة الناس ومعايشهم ، فإذا حدث التطفيف فإن ذلك ترتفع معه الثقة في التعاملات ، ويكون سببا لتعريض مصالح الناس للضياع والبخس ، ويؤثر في مروءات الناس ![]() 55- {لا نكلف نفسا إلا وسعها} هذه الشريعة ليس فيها تكليف بما لا يطاق ، فالله دفع عن هذه الأمة الآصار والأغلال ، وهذا يدل على سعة الشريعة ورحمة الله بالخلق ، وأنه كلفهم بما يطيقون ، فينبغي للعبد أن يبادر بالقيام بشرائع الدين ، وألا يستثقل ذلك ، فقد كلفه الله أمورا تدخل في وسعه ، وما كان خارجا عن وسعه فهو معفوّ عنه الوصية الثامنة {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } 56- هذا الأمر للوجوب ، وليس من التفضل والإحسان للناس 57- إذا ذكر الله العدل في الأقوال ، كان العدل في الأفعال والمزاولات من باب أولى 58- {ولو كان ذا قربى } لو يقال عنها وصليّة ، تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظن السامع عدم شمول الحكم إياها ، لاختصاصها من بين الأحوال الوصية التاسعة {وبعهد الله أوفوا } 59- أي بوصية الله التي أوصاكم بها ، وهي أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن يعملوا بكتابه ،، وسنة رسوله 60- هذا الوفاء بالعهد يشمل جميع ما عهده الله لعباده ، ويدخل فيه ما يقع بين الناس من عهود فهم مأمورون بحفظها ،وكذلك ما أوجبه الإنسان على نفسه من النذور الآية الثالثة ﴿وَأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] الوصية العاشرة 61- صفة المستقيم للصراط هي صفة كاشفة وليست مقيدة ، لأن الصراط في اللغة لا يقال إلا لما كان مستقيما 62- أضاف الله ﷻ الصراط إلى نفسه ( صراطي ) لأنه هو الذي رسمها وشرّعها المستقيم : هو القويم الذي لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام واتباع الكتاب والسنة 63- { وأن هذا صراطي } فهو صراط واحد ، فالطريق الموصل لله واحد ، وهي التي شرعها ، فلا يجوز للإنسان أن يبتدع لنفسه طريقا يعبد الله بها ، أما السبل فجاءت مجموعة 64- {فاتبعوه} هذا الأمر للوجوب ، فلا نجاة لهم بغيره ![]() 65- {ولا تتبعوا السبل } هذا النهي للتحريم ، فيدخل فيه الأديان والملل غير الإسلام 66- {فتفرق بكم } التعبير بالفاء يدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وعلى التعقيب المباشر ، وعلى التعليل ، فمن شأن اتباع هذه السبل أن تؤدي بمتبعها إلى التفرق عن سبيل الله ، والنأي عنه والانحراف والضلال 67- {لعلكم تتقون } أي من أجل أن تتقوا ، وإذا فسرت بالترجي فيكون ذلك بمعنى " من فعل ذلك وبذل جهدا لعله يكون من المتقين " ، فكيف لمن لم يرفع به رأسا أن يرجو أن يكون متقيا ما سبب ختم الوصايا العشر المحكمات في سورة الأنعام بقوله { لعلكم تعقلون } ( لعلكم تذكرون ) { لعلكم تتقون } ؟ 68- {لعلكم تتقون } علل بعض أهل العلم هذا الختم لأن الحديث عن الصراط المستقيم ، فيشمل الشريعة كاملة ( الأوامر والنواهي ) ، فإذا اتبعها السالك صار متقيا 69- وقيل : الآية الأولى اشتملت على أمور عظيمة ، والوصية فيها أبلغ من غيرها ، فختم بأشرف ما في الإنسان وهو عقله { لعلكم تعقلون } ، والآية الثانية اشتملت على أربع وصايا يقبح ارتكابها ، والوصية بها تجري مجرى الوعظ والزجر ، فختمها بـ {لعلكم تذكرون } ، والآية الثالثة عن الصراط المستقيم واتباعه وترك ما يخالفه ، فختمت بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد 70- وقيل : الآية الأولى اشتملت على خمس أمور ظاهرة يدركها العقل ، ويدرك قبحها ، ويدل عليها النقل ، فختمت بقوله ( لعلكم تعقلون ) ، أما القضايا الأربعة في الآية الثانية فهي قضايا غامضة ، لا بد لها من الاجتهاد والفكر ، حتى يقف المرء على موضع الاعتدال فيها ، فهي تؤثر في الأهواء والشهوات والغرائز ، وهذه تعمي وتصمّ ، فاتبعت بترجي التذكر ، لأن من تذكر أبصر ، فعقل وامتنع ولما كانت هذه الوصايا العشر مما اتفقت عليه الشرائع ، ولم تنسخ في ملة من الملل ، وأن من أخذ بها كان سالكا للصراط المستقيم ، عقّب ذلك بقوله ( لعلكم تتقون ) 71- وأسهل من ذلك وأوضح أن يكون ذلك على سبيل التدرج ، فالإنسان يعقل أولا عن الله ، ثم يحصل له التذكر ، فإذا حصل له التذكر اتقى الله في نفسه ، فجاءت متدرجة حسب الوقوع 72- كل الآيات ختمت بتكرار {ذلكم وصاكم به } تأكيدا للوصية ، وتجديدا للعهد ====================== *منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
![]() ![]() من مظاهر الرحمة في تشريع الصيام الكاتب : محمد الخولي (14) إنّ المتأمل في كتاب الله وما فيه من الأحكام يرى كثيرًا من مظاهر الرحمة في تشريعها، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على عبادة الصيام ومظاهر الرحمة في تشريعها من خلال آيات الصيام في سورة البقرة. تمهيد: إنّ المتأمل في كتاب الله -عز وجل- وما فيه من الأحكام والعبادات يشهد صورًا من الرحمة في تشريع هذه الأحكام والعبادات؛ فتارة بالتدريج في فرضيتها، وتارة في التيسير في كيفيتها، وتارة برفع الحرج عن أصحاب الأعذار إلى غير ذلك من الصور؛ بحيث تكون متوافقة مع الفطرة البشرية وفي وُسع المكلَّف وطاقته، والآيات الدالّة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[المؤمنون: 62]. يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «أخبر تعالى أنه لا يكلِّف {نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: بقدر ما تسَعُه، ويفضل من قوّتها عنه، ليس مما يستوعب قوّتها، رحمةً منه وحكمة، لتيسير طريق الوصول إليه، ولتعمر جادّة السالكين في كلِّ وقت إليه»[1]. وتُعدُّ عبادة الصيام من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى وأعظمها أجرًا عنده، وقد امتدح سبحانه الصائمين في غير آية من كتابه العزيز ووعدهم بالمغفرة والأجر العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا ![]() وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 35]. وورَد في السُّنة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلُّ عملِ ابنِ آدم له إلّا الصومَ، فإنه لي وأنا أَجزِي به، ولَـخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك»[2]. يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «اللهُ اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال، وذلك لشرفه عنده، ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه؛ لأنه سرٌّ بين العبد وربه لا يطّلع عليه إلّا الله...، وأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أمّا الصوم فإنّ الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد، وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، والعطية بقدر معطيها؛ فيكون أجر الصائم عظيمًا كثيرًا بلا حساب»[3]. والصيام من العبادات البدنية التي تبدو في ظاهرها شاقّة وثقيلة على النفس؛ لأنها تدعو إلى التغلّب على شهواتها والتحكم في رغائبها وإخضاعها للأمر والنهي، ولكن المتأمّل في حقيقة هذه العبادة والناظر إليها بعين الاعتبار يلمح مظاهر الرحمة التي تغمرها من كلِّ جوانبها. ويحسن بنا أيها القارئ الكريم ونحن نستظلّ بظلال شهر رمضان المبارك، وتغمرنا سحائب طاعاته، ومَعين قرباته، وفيض رحماته أن نتوقّف مع بعض هذه المظاهر من خلال آيات الصيام التي وردت في سورة البقرة. ![]() إن أول مظاهر الرحمة في تشريع الصيام: إخبار الله سبحانه بأنه كتَب الصيام على هذه الأمة كما كتَبه على الذين من قبلها، وهذا من باب التهوين والتسرية على هذه الأمة، لا سيما وقد جاء هذا الإخبار مسبوقًا بنداء الإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة: 183]؛ وذلك لجذب القلوب إليه سبحانه، ولإشعار هذه الأمة أن عبادة الصيام ليست من العبادات الشاقة التي اختصَّت بها. يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يخبر تعالى بما مَنَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تُنَافِسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصَّيتم بها»[4]. ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ تشريع الصيام قد مرَّ بمراحل متدرّجة، بداية بالأمر بصيام عاشوراء وثلاثة أيام من كلّ شهر، ثم الأمر بصيام رمضان لمن شاء من العشاء إلى المغرب من اليوم التالي، ثم فُرض صيام رمضان في ![]() المرحلة الثالثة على الكيفية التي نعرفها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإن كان هذا التدرّج لا نشعر بأثره في الوقت الحالي لارتباطه بزمان التشريع إلّا أنه يعكس لنا صورة من صور رحمته سبحانه بعباده، حيث اهتمَّ بتهيئة النفوس لاستقبال هذه العبادة حتى إذا ذاقت حلاوتها واطمأنَّت بها أكمل سبحانه جوانب تشريعها. ومن مظاهر الرحمة كذلك في تشريع الصيام: أن الله سبحانه ذكر لعباده الحكمة أو الغاية من فرضيته، حيث بيَّن سبحانه ما يعود على المكلَّف من النفع من وراء هذه العبادة، ألَا وهو تحقيق التقوى التي هي مفتاح كلِّ خير ومطلب كلّ مؤمن وسبب الرفعة والنجاة في الدنيا والآخرة؛ وذلك ليكون العبد أكثر إقبالًا على هذه العبادة وأكثر حرصًا على تحقيق مقاصدها، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183]. يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فإنّ الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فممّا اشتمل عليه من التقوى: أنّ الصائم يترك ما حرّم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيِّق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقلّ منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، ![]() والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغنيّ إذا ذاق أَلَم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى»[5]. ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام كذلك: أن الله سبحانه أمَر عباده بصيام أيام معدودات ولم يأمرهم بصيام الدهر كلّه أو يأمرهم بصيام نصف الدهر، فقال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}[البقرة: 184]، وذلك لعلمه سبحانه بضعفهم عن تحمّل صيام الدهر أو نصف الدهر، فرفع عنهم المشقة وكلَّفهم بما يطيقون برحمته وفضله. يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «ثم بيَّن مقدار الصوم، وأنه ليس في كلّ يوم، لئلّا يشقّ على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه»[6]. ومن رحمته سبحانه أنه لم يحجر على أصحاب الهمم العالية في منعهم عن الصيام بعد رمضان إنما فتح لهم باب التطوّع طوال العام لمن يريد الزيادة ويعلم من نفسه القدرة والاستطاعة. ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام أيضًا: أن الله سبحانه رفع الحرج عن المريض والمسافر بأن أباح لهما ترك الصيام خلال مدة المرض أو السفر رفعًا للمشقة عنهما، وأمَرهما بقضاء هذه الأيام في أيام أُخر لتتم عدّة ![]() الصيام ويحصِّل العبد مقاصده، فقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184]، وقال في الآية التي تليها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 185]. ويبيّن سبحانه الحكمة من ذلك فيقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185]، فهو سبحانه يريد بعباده اليُسر ولا يريد بهم العُسر؛ لذلك كان من الواجب على عباده أن يكبِّروه ويعظِّموه ويشكروه على هذه الرحمة والتيسير. وأمّا كبار السنّ وأصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الصيام، فقد جعل الله لهم فدية عن صيامهم أن يطعموا عن كلّ يوم مسكينًا، فقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]، وذلك جبرًا لخواطرهم ورفعًا للحرج والمشقّة عنهم برحمته وفضله سبحانه. ومن مظاهر الرحمة في تشريع الصيام أيضًا: أنه سبحانه أحلّ لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم وقت الصيام من الطعام والشراب والجماع، وذلك من غروب الشمس إلى طلوع الفجر بخلاف ما كان عليه الأمر في أول تشريع الصيام، فقال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ![]() وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة: 187]. يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله-: «هذه رخصةٌ من الله تعالى للمسلمين، ورفعٌ لِما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحلّ له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة»[7]. فوجد الصحابة -رضوان الله عليهم- بعض المشقة في ذلك فشَكَوا الأمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فرفع الله عنهم وعن الأمة مِن بعدهم هذه المشقة، وأحلّ لعباده ليلة الصيام ما كان محرّمًا عليهم، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر برحمته وفضله سبحانه. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال في قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال: «كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلَّوا العشاء الآخرة حرم ![]() عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يعني بالرفث: مجامعة النساء، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يعني: تجامعون النساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يعني: جامعوهنّ، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: الولد، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فكان ذلك عفوًا من الله ورحمة»[8]. خاتمة: وبعدُ أيها القارئ الكريم، فمن خلال ما مرّ معنا وما توقفنا معه من بعض مظاهر الرحمة في تشريع الصيام، ورأينا كيف أن الله سبحانه لا يكلِّف العبد إلّا بما فيه الرحمة واليسر ويرفع عنهم كلّ ما فيه مشقة وعسر، ينبغي أن يظهر أثر هذه الوقفات على نفس المؤمن؛ وذلك بأن يشعر بمنّة الله سبحانه وفضله، ويجتهد في شكره على تشريع هذه العبادة، وكذلك الإقبال عليها والقيام بها على الوجه الأمثل وعدم استثقالها، وكذلك ![]() ينبغي أن تنعكس آثار هذه الرحمة على نفس الصائم فتظهر في سلوكه وأخلاقه من خلال إطعامه للفقراء ومواساته للمساكين، كما كان هدي النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الطيبين الطاهرين، وصلِّ اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] تيسير الكريم الرحمن، (ص554). [2] رواه البخاري. [3] مجالس شهر رمضان، (ص15، 16). [4] تيسير الكريم الرحمن، (ص86). [5] تيسير الكريم الرحمن، (ص86). [6] تفسير ابن كثير، (1/ 497). [7] تفسير ابن كثير، (1/ 510). [8] تفسير ابن كثير، (1/ 511). ![]()
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
![]() ![]() تأملات في سورة الشرح - تغريدات د. محمد الربيعة (15) ما مقصد السورة؟ هذه السورة فيها عظيم الامتنان من الله على النبيﷺ تسلية له وتخفيفا من العسر الذي يلاقيه في طريق دعوته ما مناسبتها لسورة الضحى؟ والفرق بينهما – الشرح تكميل للضحى - الضحى في النعم الحسية والشرح في النعم المعنوية ما سبب نزولها؟ جاء في لباب النقول قال: نزلت لما عَيّر المشركون المسلمين بالفقر... ماذا يفيد الافتتاح بالاستفهام ( ألم) ؟ الاستفام للتقرير وهو يفيد مزيد تنبيه وتقرير بالنعم. هداية: ( استحضر نعم الله عليك) ![]() دلالة: سر التعبير بـ { نشرح } دون أشرح تعظيماً للنعمة وتفخيما لها. هداية : منة الله عليك عظيمة فاستحضر عظمتها دلالة: بماذا انشرح صدر النبيﷺ؟ -بنور الرسالة وهو أظهر -بشق صدره وغسله هداية : أعظم مايشرح الصدر نور الوحي (أفمن شرح الله صدره) دلالة : ما الوزر الذي وضعه الله عن نبيه؟ ![]() ثقل الوحي والشدائد التي يواجهها هداية : عظيم عناية الله بما يحمل رسالته دلالة: التعبير بالوزر دون الحرج يفيد خوفه من التقصير في رسالة ربه فيتحمل وزراً. هداية: إذا بذلت نصحك وجهدك لا تؤخذ بالقصور دلالة : المراد بقوله {الذي أنقض ظهرك ![]() } أي كناية عن عظم حمله في نفسه وحرصه. هداية : ما مقدار هم الدين في نفسك ؟ ما صور شرح صدره ﷺ؟ منها ما هو ظاهر كما في القرآن والسنة ومنها ما هو سر بينه بين ربه. هداية: استحضر ما خصك به ربك ينشرح صدرك ما صور رفع ذكره ؟
يفيد أنه أرفع الخلق ذكرا، ولذلك قرن الله اسمه باسمه. هداية : ما أعظم مقام نبيناﷺعند الله { فإن مع العسر يسرا} سنة ربانية ثابتة يؤكدها ويفسرها قوله { سيجعل الله بعد عسر يسرا} دلالة: سر تعريف العسر في الموضعين دون اليسر للتأكيد كما قال النبيﷺ( أبشروا فلن بغلب عسر يسرين). ![]() هداية : أبشر باليسر من ربك دلالة: سر تنكير {يسرا} للتعظيم : أي مع العسر العارض يسر عظيم. هداية: انتظر من ربك بصبرك مع العسر يسرا عظيما وفتحا مبينا دلالة: فائدة الفاء قي قوله {فإن مع العسر} أي إذا علمت ذلك فاعلم أن مع العسر يسرا. هداية : حين يأتيك عسر فأيقن باليسر يأتيك. أعظم أسباب انشراح الصدر الإخلاص وتوجه القلب إلى الله وحده .ولذلك ختم سورة الشرح بقوله { وإلى ربك فارغب} ![]()
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
![]() ![]() مقاصد التشريع في آيات الصيام بين جمال المبنى وجمال المعنى الكاتب : عبد الحميد هنداوي (16) تعدّدت مقاصد التشريع التي اشتملت عليها الآيات الكريمة التي قرّرت صيام رمضان، وهذا المقال يحاول الكشف عن بعض هذه المقاصد، كما يسلِّط الضوء على بيان ارتباط المقاصد بأحكام الصوم، وما فيها من جمال في الألفاظ وسموّ في المعاني. الصيام هو البيئة المناسبة لحياة الأرواح المؤمنة؛ حيث تصفو النفوس، وتخلص من علائق البدن ونوازعه ونوازغه؛ لا سيما في شهر رمضان، حيث تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وتصفَّد الشياطين. ويمثّل الصوم عبادة رئيسة للمسلمين يشتركون فيها جميعًا في شهر رمضان؛ ولمّا كان لهذه العبادة أهميتها إذ تمثل ركنًا في الإسلام، فقد اهتم القرآن بتشريعها وقرّر فرضيّتها في جملة آيات كريمات. وإنّ الناظر في القرآن يلحظ تعدُّدَ أوجه الجمال اللفظي والمعنوي في آيات التشريع ليقترن جمال المبنى بجمال المعنى؛ فمع حلاوة اللفظ وعذوبته، ودقّة اختياره، وجمال التصوير فيه، ولطفه ورقّـته، مع روعة النظم، وفخامة التركيب وجزالته، وسلاسة الأساليب، ووجازة اللفظ مع كثرة المعنى؛ مع ذلك كلّه تجد -في هذه الآيات- روعة المعاني، وتنوع الحِكَم والمقاصد؛ ما بين مقصد التخفيف والتيسير، ومقصد الترفيه والتنعيم، ومقصد العفو والتكريم، إلى مقصد البيان والتبيين؛ ومدارها جميعًا على رحمة العباد والتخفيف عنهم والتوبة عليهم والعفو عنهم. مقاصدُ عديدة، ومعانٍ لطيفة؛ يزداد بها جمال اللفظ مع جمال المعنى؛ فالقرآن واعظ حسن السمت، جميل الهيئة، خفيف الروح، عذب الحديث، قوله الجدُّ، وكلامه الفصل، ليس بالهذر ولا بالهزل، ولا برذيل ولا فاحش من القول. وفي ضوء تلبّسنا بالصيام في هذه الإيام فإننا سنحاول في هذا المقال بيان بعض مقاصد التشريع التي اشتملت عليها الآيات الكريمة التي قرّرت صيام رمضان، ونبيّن ارتباطها بأحكام الصوم وما فيها من جمال في الألفاظ وسموّ في المعاني والمقاصد في التيسير على العباد وفرط رحمة الله بهم، وهو ما يُعِين على حسن أدائنا لعبادة الصيام واستشعارنا لفضل الله فيها. المقصد الأول: تقوى الله واجتناب محارمه: ![]() لعلّ هذا هو المقصد الأعظم الذي يبدو واضحًا من مطلع هذه الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183]. فتقوى الله تعالى -وهي العمل بطاعته واجتناب معصيته- هي حكمة الصوم ومقصده الأعظم؛ فمَن صلى وصام ولم يلتزم بشرع الله تعالى في حلاله وحرامه دلّ ذلك على أنه لم يفقه حكمة الله تعالى من فرض الصلاة والصوم؛ فالصوم تدريب عملي للنفس على تقوى الله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، كما أن حكمة الصلاة كذلك تأديب النفس بزجرها عن الفحشاء والمنكر؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت: 45]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أنْ يدَعَ طعامَه وشرابَه»[1]. فعلى المسلم أن يتقي الله في صومه، وأن يخلِّصه من شوائب اللغو والرفث والغِيبة والنميمة والكذب والنظر إلى الحرام وأكل الرشوة والحرام بكلّ صوره؛ حتى يقبل الله منه صيامه ويجزيه عنه أحسن الجزاء، فالصوم من جنس الصبر، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]. المقصد الثاني: مقصد التخفيف والتيسير: لا تنفكّ أحكام تلك الشريعة السمحة الغرّاء عن رحمة وتيسير وتخفيف ولطف بالمؤمنين فيما شرع الله لهم؛ حتى فيما يتصوّر أن مبناه على الشدّة وتربية النفوس بالتكاليف الشاقّة. وتلك الرحمة وذلك التخفيف مطّرد في عموم أحكام الشريعة من أشقّها إلى أخفّها؛ فالجهاد رفع الحرج فيه عن ذوي الأعذار؛ قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[الفتح: 17]. والحجّ جاء التخفيف والتيسير فيه في مواضع عديدة، لسنا بسبيل حصرها، ولكن نذكر منها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ![]() الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}[البقرة: 196]. والزكاة مبناها على التراحم والتخفيف عن الفقراء؛ إذ «تؤخَذ من أغنيائهم وتُـرَدُّ على فقرائهم»[2]، والصلاة باب التيسير فيها واسع ومنه في كتاب الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 238، 239]. وفي الحديث: «صَلِّ قائمًا، فإِنْ لم تستطع فقاعدًا، فإِنْ لم تستطع فعلَى جنبٍ»[3]. وأما الصوم موضوع المقالة فالتخفيف والتيسير فيه ظاهر كذلك في مواضع عديدة؛ منه إباحة الفطر مع القضاء للمريض والمسافر، وإباحته مع الفدية بغير قضاء لأصحاب الأمراض المزمنة والعَجَزة الذين لا يطيقونه ونحوهم؛ قال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]. وتظهر جماليات الرحمة في خطابه في كلّ ألفاظه ومعانيه؛ حتى إنه سبحانه ليخفّف الأمر على نفوسهم، ويهوِّنه عليهم؛ بالتعبير بجمع القلّة في قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، وكأنه يقول لهم: إنها أيام قليلة سرعان ما تنقضي، وتمر سريعًا، فلا تضيعوا أجوركم فيها. ![]() ومن رحمة الله تعالى بعباده أَنْ كرّر ما أنزل في إباحة الفطر مع القضاء تأكيدًا للحُكم، ورفعًا للحرَج عن عباده، ثم ذيّل ذلك التأكيد ببيان ذلك المقصد المطرد في أحكامه سبحانه وهو التيسير على العباد؛ قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185]. وكان يكفي في بيان مقصد التيسير أن ينصّ سبحانه على إرادة اليُسْر وحده، ولكنه أتى بهذه المقابلة ليؤكد أنه لا يريد بهم أدنى مشقة؛ لأنه لو اقتصر على إرادة اليُسْر وحده فقد يتوهَّم متوهِّم أنه يريد بنا اليُسْر وقد يريد بنا العُسْر كذلك؛ فنفى سبحانه ذلك التوهُّم؛ لأنه لا يريد بهم العُسْر وإن كان واقعًا بمشيئته لحِكَم عظيمة؛ فهو سبحانه لا يريده ولا يحبّه لعباده. ويتّصل مقصد التخفيف والتيسير كذلك في رحمته بهم واستجابته لدعائهم ببيان قُربه منهم، وإجابته دعاءهم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]. ونرى هنا بلاغة الحذف في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}؛ فإن هذا هو السؤال القرآني الوحيد الذي لم يُتْبِعه الله تعالى بلفظ (قُل) كما في جميع الأسئلة القرآنية؛ مثل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}[البقرة: 222]. وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة: 189]. وغيرها كثير، والنكتة في الحذف هنا؛ حيث لم يقُل: (فقل إني قريب) أنه سبحانه أراد ألّا يجعل واسطة بينه وبين عباده في دعائه؛ فبلَّغهم بنفسه قربه منهم؛ وحذف ذكر الواسطة -على شرفه ومكانته عنده سبحانه- ليبين للعباد أَنْ لا واسطة بينه وبين عباده، وأنه قريب سميع مجيب. فعلى العبد أن يعلم أن الله قريب منه، سميع لدعائه، فيخلص الدعاء له، ويسأله حاجته كلها، ولا يلجأ إلى أحد سواه. المقصد الثالث: مقصد إرادته سبحانه التوبة على عباده والعفو عنهم: من المقاصد والمعاني السامية في الآيات مقصد إرادته سبحانه التوبة على عباده والعفو عنهم، وهو مقصدٌ سارٍ في جميع فروع التشريع، ومتفرّع على مقصد التخفيف والتيسير؛ قال تعالى: {يُرِيدُ ![]() اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 26-28]. فربَط الله سبحانه وتعالى بين إرادته التوبة على عباده وإرادته التخفيف عنهم. وفي أحكام الصيام كذلك نرى التوبة على العباد والعفو عنهم بإحلال المعاشرة بين الأزواج في ليل الصيام -بعد أن كانت محرّمة عليهم في بادئ الأمر- تأتي من رحم التخفيف والتيسير توبةً على العباد وعفوًا عنهم ورحمةً بهم؛ قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}[البقرة: 187]. قال البغوي: «علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم، أي: تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء، قال البراء: لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء في رمضان كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}: تجاوَز عنكم، {وَعَفَا عَنْكُمْ}: محَا ذنوبَكم، {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}: جامعوهنَّ حلالًا»[4]. وقد ذكر الطبري نحوًا من ذلك وأتبعه بذكر الآثار التي تبيّن كيف أن الأمر كان قد شقّ على بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان منهم من تخونه نفسه فيقع في أمر الجماع بالليل، وهو محرّم عليهم آنذاك. وهذا يبين لنا مدى رحمته سبحانه وتخفيفه على العباد بمقصد إرادته التوبة عليهم وإعانتهم على حسن الامتثال والتطبيق. ![]() فعلينا أن نقابل ذلك بشكره سبحانه على نعمته، وذلك بطاعته واجتناب معصيته، فالشكر إنما يكون بالقلب وباللسان. المقصد الرابع: مقصد الستر والعفاف: يظهر ذلك المقصد في مواضع لا تُحصى في القرآن الكريم، ولكنه يظهر بالأخصّ في مواضع الحديث عن إتيان النساء، وهو أمر يُستحيا من الخوض فيه بطبيعة الحال؛ لكن القرآن الكريم يعلمنا أدب الحديث حينما يحتاج المرء إلى التعبير عن ذلك الأمر الذي قد تدعو الحاجة إلى الحديث عنه؛ فلا تجد ثمة إسفافًا ولا خدشًا للمشاعر، ولا إثارة للغرائز على نحو ما ترى عند أصحاب الأدب المكشوف بدافع الواقعية -زعموا- وليس ثمة واقعية ولا صدق كواقعية القرآن في تلك الأمور وغيرها مع العفة التامة وكمال الأدب، والدليل على ذلك أن الكبير والصغير والمرأة الكبيرة والفتاة الصغيرة: الكلّ يقرأ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف: 24]. فلا يجد في نفسه امتعاضًا ولا يشعر بالحرج ولا الخجل أن يقرأها على الملأ بلا حياء أو انكسار؛ بل لا يشعر معها إلّا بالخشوع والوقار، مع تمام التعبير عن الحدث بتمامه بلا نقصان. وفي تلك الآيات يجتمع الجمال اللفظي مع الجمال المعنوي بعدد من الوجوه البلاغية؛ يلوح لنا منها وجهان لا يمكن تجاهلهما: 1. بلاغة التضمين في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[البقرة: 187]. 2. بلاغة الاستعارة في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة: 187]. - أمّا بلاغة التضمين في الآية فلا تسل عمّا فيها من السموّ والرقي بالإنسان عن عالم البهيمية والحيوانية؛ حيث ضمَّن الحقّ سبحانه وتعالى لفظ الرفث -بما له من معانٍ حيوانية وبهيمية صِرفة- معنى الإفضاء إلى الأزواج بالمشاعر وحلو الكلام والسَّمَر والتودد والتحابّ الذي يكون بين الأزواج بين يدي تلك الحاجة. ![]() وذلك أن أصل الكلام أن يقال: (أحل لكم الرفث بنسائكم)؛ فإذا تعدّى الرفث بالباء لم يحتمل غير المعنى الحيواني المعروف للرفث؛ لكنه حيث عدّاه الله تعالى بـ(إلى) ضمَّنه معنى كلمة أخرى تتعدى بهذا الحرف إلى مثل: (الإفضاء إلى نسائكم)، وبنحوها جاءت الكناية اللطيفة السامية في التعبير عن هذا الأمر برقـيِّه الإنساني الذي كرّم الله به الإنسان في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}[النساء: 21]. ولذا قال الراغب: «الكناية أبلغ وأقرب إلى التصريح من قولهم: خلا بها. قال تعالى: {وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ}»[5]. قال ابن جرير في تأويلها: «وقد أفضى بعضكم إلى بعض بالجماع»[6]. فالكناية هنا وكذلك في آية البقرة قد دلّت على المعنى الصريح بلفظ لطيف لا يخدش المشاعر؛ بل إنّ لفظ (أفضى) قد زاد في الدلالة على أصل معناه (خلا). وبتضمين الرفث معنى الإفضاء ضُمِّن مع معناه الأصلي معنى آخر يرتقي به إلى الكمال الإنساني الذي جاء به الدستور السماوي الذي أراد للإنسان أن يرتقي في أفعاله، ويسمو بمشاعره التي تميَّـز بها عن الحيوان؛ لأنه وإن اشترك معه في صورة الفعل؛ فإنه يختلف عنه في معانيه ومقاصده. - وأما بلاغة الاستعارة في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة: 187]، «قال العز بن عبد السلام: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} بمنزلة اللباس لإفضاء كلّ واحد منهما ببشرته إلى صاحبه، أو لاستتار أحدهما بالآخر، أو سكن. {اللَّيْلَ لِبَاسًا}[النبأ: 10] سكنًا»[7]. وقال الراغب: «جعل اللباس كناية عن الزوج، لكونه سترًا لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أنّ اللباس يمنع أن تبدو السوءة، وعلى ذلك جعلت المرأة إزارًا، وسمي النكاح حصنًا، لكونه حصينًا لذويه عن تعاطي القبيح»[8]. ![]() ولذلك قال الطبري: «لذلك وجهان من المعاني: أحدهما: أن يكون كلّ واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا، لتجرُّدهما عند النوم، واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كلّ واحد منهما لصاحبه، بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه، فقيل لكلّ واحد منهما: هو {لِبَاس] لصاحبه.. والوجه الآخر: أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه {لِبَاسًا}؛ لأنه سَكنٌ له، كما قال -جل ثناؤه-: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا}[الفرقان: 47]، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}[الأعراف: 189]؛ فجائز أن يكونَ قيل: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، بمعنى: أنّ كلّ واحد منكم ستر لصاحبه -فيما يكون بينكم من الجماع- عن أبصار سائر الناس»[9]. قلتُ: وإذا كان المعنى في تلك الاستعارة الجميلة ما ذكر المفسرون؛ فإن الآية تَرقى بعد ذلك سموًّا لا يُدرك ولا يرقى إليه مفسِّر؛ إذ إنها قد أوحت بتلك المعاني جميعها، وفي الوقت نفسه لا يُشْتَمُّ منها رائحة عري ولا تجرد، ولا إغراء أو إثارة وتهييج للغرائز؛ لأنه يسمو بالنفوس فوق تلك المعاني كلّها إلى معاني الستر والعفاف والتلاحم والحميمية. فيا ليتنا نتعلم أدب القرآن في مسالك التعبير عن تلك الحوائج بلا إسفاف ولا تَدَنٍّ أو إثارة، ونروض أنفسنا على ذلك. ورفعًا للحرج عن النفوس يؤكّد الله تعالى هذا الحكم -وهو إباحة المعاشرة للأزواج في ليل الصيام- بكنايتين أخريين في قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}[البقرة: 187]، ففيها كنايتان عن الوقاع: ![]() الأولى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}. وهذه -على رقّتها ولطفها- لا تَقِلّ في بيان المعنى عن الاستعارة السابقة: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}،فالمباشرة مماسّة البشرة البشرة فهي واضحة الدلالة على المراد مع عفة اللفظ وسمو المعنى، وما يوحي به من مقدمات الوقاع من الملامسة والتقبيل ونحو ذلك. قال الطبري: «فأما (المباشرة) في كلام العرب، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة، و(بشرة) الرجل: جلدته الظاهرة. وإنما كنّى الله بقوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} عن الجماع. يقول: فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم، فجامعوهنّ في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر»[10]. والثانية: قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، فقد ذكر المفسرون على أن المراد بابتغاء ما كتب الله تعالى هو طلب الولد، وليس له طريق إلّا الجماع، فدلَّ عليه بطريق الكناية واللزوم. وهو أحد الأقوال الحسنة لأهل العلم في تفسيرها؛ قال ابن الجوزي: «قال بعض أهل العلم: لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد، فقال: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يريد: الولد»[11]. فانظر كيف عبّر عن المعنى الواحد بأربع صور مختلفة تنوّع فيها التعبير بين التضمين والاستعارة والكناية رفعًا للحرج عن نفوسهم؛ لأنهم سيقدمون بعد نزول الآيات على ما كان محرمًا عليهم من قبل؛ فربما تحرَّج بعضهم مِن فعله، فرفع الله عنهم ذلك التحرّج بتكرير المعنى ذلك التكرير الذي أراد به توكيد المعنى وتقريره. المقصد الخامس: مقصد الامتنان على العباد بتنعيمهم وترفيههم بالطيبات لعلهم يشكرون: ![]() وهذا المقصد كذلك متفرّع على مقصد التيسير والتخفيف؛ لكنه قد زاد في إكرامه سبحانه لعباده إلى حدّ التنعيم والترفيه، وأدلة ذلك لا تنحصر؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: 70]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة: 29]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم: 21]، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[النحل: 72]. والآيات في ذلك كثيرة، والمقصد منها جميعًا الامتنان على العباد بكثرة النعم لعلهم يشكرون. وفي الآيات التي نحن بصددها يمتنُّ الله على عباده ويُنَعِّمهم بما أحَلَّ لهم من نعمة الإفضاء إلى أزواجهم والسكن إليهم واستمتاع كلّ من الزوجين بالآخر -في ليل الصيام- وائتناسه به؛ فضلًا عن إباحة الاستمتاع بالطيبات من الطعام والشراب، وبيّن أن ذلك كلّه منبثق من مقصد العفو والصفح والتيسير؛ قال تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: 187]. فالأوامر هنا: {بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}؛ أساليب إنشائية المقصد منها الإباحة والامتنان على العباد. ونلاحظ أن الله تعالى قد امتنَّ على هذه الأمة بوجوه من الطيبات أحلَّها لهم؛ حتى صارت المحرمات محصورة معدودة، وصار الأصل هو الحِلّ، وهذه الطيبات حرمها الله على الأمم السابقة؛ ففي باب الأطعمة أحلَّ لنا ما حرّم على الذين هادوا من قبل؛ قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا ![]() أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الأنعام: 145، 146]. وفي باب النكاح والمعاشرة؛ أحلّ الله لنا كلّ وجوه الاستمتاع بالنساء إلّا في الموضع المحرَّم والزمان المحرَّم (الدُّبُر والحيضة)؛ قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة: 223]. عن الربيع قوله: «{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يقول: مِن أين شئتم.. ذُكِر لنا -والله أعلم- أن اليهود قالوا: إنّ العرب يأتون النساء من قِبَل أعجازهن، فإذا فعلوا ذلك، جاء الولد أحْوَل، فأكْذَبَ الله أُحدوثتهم فقال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}»[12]. وكلّ هذا يقتضي الشكر لله تعالى بالقلب وباللسان وبالصيام والقيام وكثرة الذِّكر ووجوه العبادة المختلفة، ومراعاة ذلك في شهر الصيام خاصّة بعدم إظهار الضجر من التكليف وأهمية استحضار مقام العبودية لله تعالى، وأنّ ما خفّفه علينا فقد خفّفه مِنّة منه، وفضلٌ يستحقّ الشكر. وتأتي الكناية الرائعة: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: 187]متناسقة مع مقصد التيسير والتخفيف والامتنان؛ فهي تبيح لهم الطعام والشراب من غروب الشمس إلى ظهور الفجر الصادق وتبيُّنهم إيّاه؛ فلا عِبرة في ذلك بالشكّ؛ بل العبرة باليقين؛ ولذا ورَد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في ذلك قوله: «كُلْ ما شَكَكْتَ حتى لا تَشُكّ»[13]. وقد فهم بعض الصحابة أنّ الآية على حقيقتها؛ لأنها في سياق الامتنان بالأكل والشرب إلى تلك الغاية المذكورة، وهي تبيُّن الخيط الأبيض من الأسود؛ غير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّن لهم أنها ليست على حقيقتها؛ بل يراد بها الكناية عن سواد الليل وبياض النهار؛ فعن عَدِيّ بن حاتم قال: «قلتُ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أَهُما خَيطان: أبيض وأسود؟ فقال: «إِنّك لَعَرِيض القَفَا إِنْ أبصَرْتَ الخَيْطَين»، ثم قال: «لا، ولكنه سواد الليل وبياض النهار»[14]. ![]() ومن بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى وكأنَّ عَدِيًّا قد استغرب حمل الآية على الكناية؛ فأجابه بكناية يوقظه بها بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنك لَعَرِيض القَفَا»، فهي كناية كذلك عن سوء الفهم. المقصد السادس: البيان والتبيين لأحكام الدين: من رحمة الله تعالى وإرادته التخفيف والتيسير على عباده أن بيَّن لهم أحكام الدين، ولم يدَعْ أحكامه التي يتوقف عليها نجاتهم ملتبسة عليهم؛ قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة: 187]. وهذا مقصد مستقلّ، وهو بيانه سبحانه لأحكام دينه فلا يكون ملتبسًا على عباده؛ بل يكون ميسرًا لهم العملُ به، وإن كان هذا تابعًا في الحقيقة لمقصد إرادة الله التوبة على عباده؛ حيث حضّ الناس هنا على عدم مجرد الاقتراب من حدود الله وتحذيرهم من ذلك، حتى يعينهم على حسن الابتعاد عن المنهيات. ومع جمال هذا المعنى ووضوح هذا المقصد يأتي جمال المبنى، ودقّة اللفظ، وروعة الأسلوب ليزداد الكلام جمالًا على جماله؛ قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}، نرى بلاغة اللفظ القرآني ودقّـته هنا؛ حيث جاء التعبير بلفظ: {فَلَا تَقْرَبُوهَا}؛ حيث كانت حدود الله هنا من المناهي التي حرّمها الله تعالى؛ خلافًا لِما جاء في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}[البقرة: 229]؛ وذلك حيث كانت حدود الله هنا وقوفًا عند ما أحَلَّ سبحانه لعباده. الخاتمة: نتبيَّن من خلال تأمُّل آيات الصيام أنّ ديننا دين رحمة ويُسْر، وأن مِن أعظم مقاصد الشارع الحكيم التيسير على عباده، والتخفيف عليهم، وإرادة التوبة عليهم والعفو عنهم؛ ولذا بيَّن لهم أحكام دينهم، وذكَّرهم بطاعته ونهاهم عن مخالفته ومعصيته. فيجدر بنا في هذا الشهر الكريم أن نعمل على تحقيق مقاصد الشرع الكريم من الصيام، وجماعها وأعظمها على الإطلاق تقوى الله تعالى؛ فهي الحكمة من الصوم والمقصد الأعظم منه. فعلى المسلم أن يعمل في هذا الشهر الكريم على تخليص صيامه من كلّ شائبة؛ بأن يحقّق مقصده الأعظم بتقوى الله في كلّ أعماله؛ فيكون رقيبًا على قلبه ولسانه وجوارحه فلا يعمل -عمومًا، ولا في هذا الشهر خاصّة- إلّا بما يُرضِي الله تعالى. ولعلّ هذا يكون من أعظم الصور التي يحقّق بها شكر الله تعالى على نعمة تيسير الصوم، وتخفيف العبادة وتيسيرها، وإباحة الطيبات في هذا الشهر الكريم. ![]() [1] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب مَن لم يدع قول الزُّور، والعمل به في الصوم، (3/ 26)، ح/ 1903. [2] جزء من حديث في صحيح البخاري، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة، (2/ 104)، ح/ 1395. [3] صحيح البخاري، كتاب الصلاة: باب إذا لم يُطِق قاعدًا صلَّى على جنب، (2/ 48)، ح/ 1117. [4] تفسير البغوي، طبعة: إحياء التراث، (1/ 229). [5] المفردات في غريب القرآن، (ص639). [6] تفسير الطبري، جامع البيان، تحقيق: محمود شاكر، (8/ 126). [7] تفسير العز بن عبد السلام، تحقيق: د/ عبد الله الوهبي، ط: دار ابن حزم، (1/ 192). [8] تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 398). [9] تفسير الطبري، جامع البيان، (3/ 492). [10] تفسير الطبري، جامع البيان، (3/ 504). [11] زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، ط: دار الكتاب العربي- بيروت، (1/ 149). [12] تفسير الطبري، جامع البيان، (4/ 402). [13] جاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر، ط: دار المعرفة- بيروت، (4/ 135): «وقد روَى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: أحلَّ اللهُ لك الأكل والشرب ما شككْتَ. ولابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر نحوه، ورَوى ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى قال: سأل رجلٌ ابنَ عباس عن السحور، فقال له رجل من جلسائه: كُلْ حتى لا تشُكّ، فقال ابن عباس: إنّ هذا لا يقول شيئًا، كُلْ ما شككْتَ حتى لا تشُكّ. قال ابن المنذر: وإلى هذا القول صار أكثر العلماء». [14] تفسير الطبري، جامع البيان، (3/ 513). ![]()
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
![]() ![]() تأملات في سورة العصر * - تغريدات د.محمد الربيعة (17) [١] صدق قول الشافعي فيها ( لو لم ينزل الله على عباده إلا هذه السورة لكفتهم ) [٢] {والعصر} هو عصر الإنسان ودهره الذي يعيشه ، عظمه الله فأقسم به، فهل نعظمه ونستثمره بما ينفعنا فياحسرة على أعمار تذهب سدى [٣] { والعصر} أول مرحلة لاستثمار حياتك معرفة قيمة الوقت الذي تعيشه وأنه زمن لن يعود ، وسيكون لك أو عليك [٤] سورة تعداد آياتها ثلاث آيات لكنها والله منهج للحياة ![]() [٥] { والعصر} ما السر في القسم بالعصر دون الدهر ؟ لأن العصر دال على قيمة الزمن وأهميته [٦] {والعصر} العصر الحقيقي هو عصر الإسلام والإيمان لا عصر الحضارة المادية والثورة التقنية والإعلامية [٧] {والعصر}على معنى أن العصر وقت العصر الذي هو آخر النهار فيه دلالة على سرعة انقضاء الزمن وذهابه ، بعثا للنفوس على استغلاله [٨] المقصد العام للسورة هو بيان حقيقة الخسارة والربح للإنسان وأسبابها [٩] {إن الإنسان لفي خسر } ![]() ابتدأ الله بذكر خسارة الإنسان قبل ذكر صفات المؤمنين لينبه على عظم الأمر وليحذر كل ذي لب من الخسارة [١٠] { إن الإنسان لفي خسر} مهما كان عليه الإنسان من تطور مادي وتقدم حضاري فهو خاسر إلا من آمن وعمل صالحا [١١] { إن الإنسان لفي خسر} تأمل قوله {لفي خسر} دون لخاسر للدلالة على أنه في حال متجددة في الخسران كلما بعد عن أمر الله ![]() [١٢] { إن الإنسان لفي خسر} تأمل قوله {لفي خسر} مبالغة في انغماسه في الخسارة لأن في للظرفية المفيدة التمكن من الشيء [١٤] { إن الإنسان لفي خسر} تنكير {خسر} يفيد العموم والمبالغة في حيازته للخسارة [١٥] {إن الإنسان لفي خسر} تضمنت الآية مؤكدات عدة: إن اللام ![]() في تنكير خسر مجيء الآية جوابا للقسم مبالغة وتعظيما للأمر [١٦] { وتواصوا بالصبر } ختم الأعمال بالصبر لكونه جامعا لما قبله ، وجميع ماسبق محتاج إليه ، ولذلك كان ( الصبر شطر الإيمان) ![]() [١٧] { وتواصوا بالصبر} يشمل التواصي بالصبر على - فعل الطاعات - ترك المحرمات - الدعوة إلى ذلك - الأذى في ذلك [١٨] { وتواصوا بالصبر } ختم الأعمال بالصبر لكونه جامعا لما قبله ، وجميع ماسبق محتاج إليه ، ولذلك كان ( الصبر شطر الإيمان) [١٩] وتواصوا بالصبر} ![]() كرر فعل التواصي تأكيدا ، وبيانا لعظم أمر الصبر وحاجته لذلك [٢٠] {وتواصوا بالحق] يشمل - تعليم التوحيد والشريعة - الدعوة إلى الله - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ما أعظمها من كلمة ![]() [٢١] { وتواصوا [بالحق] } ولم يقل بالإيمان والعمل لأن الحق ما جاء عن الله ورسوله فقط . كما يفيد أيضا الثبات على الحق . [٢٢] { وتواصوا بالحق } التواصي على الشيء يدل على مشقته ولذلك (حفت الجنة بالمكاره) والمؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه [٢٣] تأمل صيغة الجمع { آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا} بعد قوله {إن الإنسان}دون الناس مما يؤكد فضيلة الاجتماع وأثره على المسلم ![]() [٢٤] اشتملت الآية الثالثة على صفات الإمامة في الدين كما قال ابن القيم . - الإيمان والعلم - العمل - الدعوة - الصبر [٢٥] { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ![]() تلازم الإيمان والعمل [٢٦] تأمل مناسبة مجيء السورة بين سورتي التكاثر والهمزة تجد مناسبة بديعة خلاصتها أن الانشغال المال هو سبب الخسارة الحقيقية [٢٧] {إن الإنسان لفي خسر} { قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا . الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [٢٨] {إن الإنسان لفي خسر} الإنشغال بالدنيا عن الآخرة...خسارة [٢٩] {إن الإنسان لفي خسر} ![]() الخسارة ليست بالكفر فقط بل بالغفلة عن طاعة الله والتفريط فيها {...ياحسرتا على مافرطت في جنب الله} [٣٠] {إن الإنسان لفي خسر} الخسارة الحقيقية خسارة الدين فيالخسارة أصحاب الأموال الذين صرفتهم أموالهم عن طاعة الله [٣١] تعتبر السورة مقياسا لكمال الدين ونقصانه فانظر إلى حالك في -الإيمان -العمل -الدعوة -الصبر وبقدر نقصانك فيها فإنك في خسر ============================== * منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
![]() ![]() التأثّر بالقرآن الكريم؛ وسائله وثمراته الكاتب : محمد الخولي (18) أخبر الله -عز وجل- عن أثر القرآن الكريم في نفوس عباده المؤمنين، وتأتي هذه المقالة لتسلِّط ضوءًا على أهم الوسائل التي يحقِّق بها المؤمن التأثّر بآيات الله البينات، كما تعرِّف بالعوائق التي تحول دون هذا التأثّر، وتكشف طرفًا من الثمرات التي يحصّلها مَنْ تأثّر بالقرآن الكريم. إنّ إعجاز القرآن الكريم لم يتوقف عند روعة الألفاظ وجمال المعاني، بل هناك وجه آخر من أوجه الإعجاز ربما يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ألَا وهو الإعجاز التأثيري للقرآن، والمقصود به ذلك الأثر الظاهر أو الباطن الذي يتركه القرآن على قارئه أو سامعه؛ فتارة تذرف العيون، وتارة توجل القلوب، وتارة تقشعر الأبدان، وغير ذلك من الآثار العملية التي لا يُحدثها في النفس إلّا القرآن، فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23]. يقول الإمام الخطابي -رحمه الله- وهو مِن أبرز مَن كتَب في إعجاز القرآن: «في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلّا الشاذّ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن -منظومًا ولا منثورًا- إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذّة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذَت حظّها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلَق، وتغشّاها الخوف والفرَق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها»[1]. ![]() ولقد لفَت اللهُ -سبحانه- الأنظارَ إلى هذه القوة التأثيرية للقرآن، فقال سبحانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]. يقول ابن كثير -رحمه الله-: «يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبيّنًا علوّ قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي: فإنْ كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدّع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألّا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟!»[2]. ولقد عاب الله على مَن لا يتأثر بالذِّكر وأعظم الذِّكر القرآن، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الزمر: 22]، وذكر سبحانه أن ذلك من أوصاف المشركين والمنافقين، فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}[التوبة: 124]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد: 16]. صور من التأثّر بالقرآن: ولقد ضرب لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في التأثّر بالقرآن، فكان إذا سمعه رَقّ قلبه وذرفت عينه؛ لعلمِه بعظمة القرآن، فعن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: (قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اقْرَأْ علَيَّ القُرآنَ»، قلتُ: يا رسول الله، أقرأُ عليك، وعليك أُنزِل؟! قال: «إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فقرأتُ عليه سورة النساء، حتى جئتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}[النساء: 40]، قال: «حَسْبُكَ الآن»، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان)[3]. ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أيضًا يتأثرون عند سماع القرآن تأثرًا عظيمًا، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى المرض وملازمة الفراش عندما استمع إلى بعض الآيات التي تتحدّث عن يوم القيامة، فعن جعفر بن زيد أنّ عمر بن الخطاب خرج يعسّ بالمدينة ليلةً ومعه غلام له وعبد الرحمن بن عوف، فمرّ بدار رجل من المسلمين فوافقه وهو قائم يصلي، فوقف يسمع لقراءته، فقرأ: {وَالطُّورِ} حتى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1- 8]، فقال عمر: قسَم ورب الكعبة حقّ، فاستسند إلى حائط فمكث مليًّا، فقال له عبد الرحمن: امضِ لحاجتك، فقال: ما أنا بفاعل الليلة إذ سمعتُ ما سمعتُ، قال: فرجع إلى منزله فمرض شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه[4]. لماذا لا نتأثّر بالقرآن؟ بعد هذا العرض السابق، يدور هذا السؤال في خلد كثيرٍ منّا، لماذا لا نتأثر بالقرآن؟ وما العوائق التي تحجبنا عن التأثر بالقرآن كما تأثّر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟ ويمكن أن نُجمِل بعض الأسباب التي تحُول بيننا وبين التأثر بالقرآن، فيما يأتي: أولًا: طول الهجر للقرآن: فإن طول الهجر للقرآن يولّد فجوة كبيرة تحُول بين القلب والتأثر به، ويعدُّ من أعظم الذنوب التي يرتكبها المسلم؛ لذلك يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة ويشتكي لربه هذا الهجران، ![]() فقد قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان: 30]. ثانيًا: مرض القلب وقسوته: فالقلب هو المخاطَب الأول بالقرآن، ولن ينتفع بآيات القرآن ومواعظه وعِبَرِه إلّا القلب السليم، أمّا القلوب التي أمرضتها الذنوب واستولت عليها الشهوات المحرّمة فلن تتأثر بالقرآن، فقد قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: 37]. ثالثًا: الغفلة والانشغال بالمُلهيات: فالإنسان الذي استولت عليه الدنيا وزخارفها لم ولن يشعر بأثر القرآن، ولن يتذوق حلاوته، بل سيتقلّب حاله بين الغفلة والإعراض: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2، 3]. رابعًا: عدم الاهتمام بمعرفة التفسير: فعدم الاهتمام بمعرفة معاني القرآن وتفسيره يحجب القلب عن الـتأثّر به، فكيف يتأثّر القلب بما لا يفهمه؛ لذلك فقد قال الإمام الطبري صاحب التفسير: «إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذُّ بقراءته؟!»[5]. كيف نتأثر بالقرآن؟ وبعدُ أيها القارئ الكريم، بعدما تعرَّفنا على بعض الأسباب التي تحُول بيننا وبين التأثر بالقرآن، أسوق بين يديك بعض الوسائل التي تُعِين على التأثر بالقرآن: أولًا: تجديد العهد بالقرآن: إنّ تجديد العهد بالقرآن والعودة إليه والمداومة على قراءته هي أولى الوسائل وأعظمها أثرًا؛ لذلك على العبد أن يجاهد نفسه على ذلك وأن يصبر على مشقة ذلك؛ لأن هذه المشقة -إنْ وُجدت- هي نتيجة بُعد العهد بكتاب الله، لذلك عليه أن يستمر ولا ييأس، وليكن على يقين أنّ مَن داوَم على قرع الباب يوشك أن يُفتَح له، وأنَّ دوامَ نزول قطر الماء على الحجر يُحدِث فيه أثرًا لا محالة، فما بالك بأثر كلام الله على القلوب إذا داوم العبد عليه؟ ثانيًا: حضور القلب عند التعامل مع القرآن: ينبغي للمسلم أن يجتهد في استحضار قلبه عند التعامل مع القرآن وإفراغه من الصوارف التي تحجبه عن التأثر بالقرآن، فقد قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: 37]، ومما يساعد على ذلك استشعار أن الله -سبحانه- هو المتحدِّث بهذا القرآن، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «إذا أردتَ الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعَكَ، واحضر حضور مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به -سبحانه- منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله»[6]. ثالثًا: الجهر بتلاوة القرآن: فالجهر بتلاوة القرآن يساعد على يقظة القلب ومِن ثمَّ التأثر بالقرآن، بخلاف ما لو قرأ المسلم سرًّا، فإنه يكون أقرب لشرود الذهن وانصراف القلب؛ ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يجهر بالقرآن، فعندما سُئل ابن عباس -رضى الله عنهما- عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل قال: «كان يقرأ في حجرته، فيَسمع قراءتَه مَن كان خارجًا»[7]. رابعًا: استشعار المسلم بأنه مخاطَب بكلّ آية: فمِن أعظم أسباب التأثر بالقرآن أن يستشعر المسلم بأنه هو المقصود بهذا الخطاب، وأن كلّ أمرٍ أو نهي هو مأمور به، فلقد فطن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر جيدًا، ومن ذلك ما ورَدَ عن أنس بن مالك، أنه قال: «لمَّا نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ ![]() لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2]، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سعدَ بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكَى؟»، قال سعد: إنه لَجاري، وما علمتُ له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني مِن أرفعكم صوتًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعدٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بل هو من أهل الجنة»[8]. خامسًا: الحرص على تدبر آياته ومعرفة معانيه: فتدبُّر آيات القرآن ومعرفة ما غمض من معانيه بالرجوع إلى كتب التفسير؛ من أعظم أسباب التأثر به والشعور بحلاوته في القلوب؛ لأن ذلك هو الأصل الذي أنزل الله القرآن لأجله، فقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]. ولقد كانت هذه طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم-، يقول ابن مسعود: «كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن»[9]. سادسًا: استخراج المواعظ والعِبر من قصص القرآن وأمثاله: فالقرآن يحوي الكثير من القصص والأمثال، والعاقل مَن تدبَّرها وتأمَّلها واستخرج ما فيها من العبر وتأثَّر بما فيها من المواعظ؛ لأن هذا هو الهدف الذي من أجله ذَكَر اللهُ هذه القصص والأمثال، فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف: 111]، كما قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم: 25]، وقال أيضًا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]. يقول ابن قدامة -رحمه الله-: «ينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه مقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأنّ القصص لم يُرَد بها السَّمَر، بل العِبَر، فليُتنبه لذلك»[10]. سابعًا: عدم المبالغة في الانشغال بالإقامة للحروف: فبعض المسلمين يُسرِف في الاهتمام بإقامة حروف القرآن ومع ذلك لا يترك مساحة ولو صغيرة للتدبّر والفهم؛ وذلك لأنه غفل عن كون القرآن يتكوّن مِن مَبانٍ ومَعانٍ، والمباني وسيلة للهدف الأعظم وهو فهم المعاني؛ لذلك لا ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل إقامة المباني على حساب تدبّر المعاني، فلقد عدَّ ابن قدامة -رحمه الله- ذلك أحد مداخل الشيطان التي تحجب عن فهم القرآن، فقال -رحمه الله-: «ولْيتخلَّ التالي من موانع الفهم، مثل أن يخيّل الشيطان إليه أنه ما حقّق تلاوة الحرف ولا أخرجه من مخرجه، فيكرره التالي، فيصرف همته عن فهم المعنى»[11]. ثامنًا: الحرص على قيام الليل بالقرآن: فإنّ قيام الليل من أعظم العبادات وأحبها إلى الله، وأكثرها حضورًا للقلب؛ لذلك إن أراد المسلم التأثر بالقرآن فعليه أن يقوم الليل به، وهذه وصية الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}[المزمل: 1-6]. ![]() يقول الإمام ابن كثير: «والمقصود أنّ قيام الليل هو أشد مواطأةً بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة، ولهذا قال تعالى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}، أي: أجمعُ للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها مِن قيام النهار»[12]. ثمرات التأثّر بالقرآن: وبعد أن وقفنا على أهم الوسائل التي يتحقق بها التأثّر بالقرآن الكريم، فلنعلم أن القارئ للقرآن يجني الكثير من الثمرات بتدبُّره وتأثره بالقرآن، ومن ذلك: الثمرة الأولى: زيادة الإيمان: فالعبد المؤمن الذي يحسن التعامل مع القرآن، يزداد إيمانًا وإقبالًا على الله ويمتلئ قلبه توكُّلًا وبِشرًا وسرورًا، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة: 124]. الثمرة الثانية: صلاح القلوب: فالقرآن الكريم أعظم أدوية القلوب أثرًا في إزالة أمراض الشهوات والشبهات، ولِمَ لا وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57]. يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهَوات الصادّة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبُهات القادحة في العلم اليقيني، فإنّ ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة»[13]. الثمرة الثالثة: الإقبال على طاعة الله: فالإقبال على الطاعات وشحن الهمم للقيام بها من أعظم الآثار العملية التي يحدِثها القرآن، فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ![]() ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر: 23]. يقول القرطبي -رحمه الله-: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، قيل: «أي: تلين إلى العمل بكتاب الله والتصديق به»[14]. الثمرة الرابعة: زيادة خشية الله سبحانه: فإنّ التأثّر بالقرآن وتدبّر ما فيه من الحديث عن عظمة الله -سبحانه- وقدرته من أعظم أسباب زيادة خشيته -سبحانه-، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[الحشر: 21]، يقول الإمام ابن عاشور في تفسير هذه الآية: «لو كان المخاطَب بالقرآن جبلًا، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثَّر بخطاب القرآن تأثُّرًا ناشِئًا من خشيةٍ لله، خشيةٍ تُؤَثِّرها فيه معاني القرآن»[15]. الثمرة الخامسة: تهذيب السلوك والأخلاق: إنّ انعكاس القرآن على سلوك المسلم من أعظم الثمرات المرجوّة، فبعد فهم القرآن وتدبره يأتي التخلُّق بأخلاقه والاهتداء بهديه كما كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالسيدة عائشة -رضي الله عنها-: عندما سُئلت عن خُلقه -صلى الله عليه وسلم-، قالت للسائل: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: «خُلق نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- كان القرآن»[16]. ويقول الحسن البصري -رحمه الله-: «والله ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنّ أحدهم ليقول قرأتُ القرآن كلَّه، ما يُرى له القرآنُ في خُلق ولا عمل»[17]. وختامًا: فقد تبيَّن مما سبق عظيمُ أثر القرآن في النفوس، وأهم الوسائل المعينة على التأثر به، وكذلك ما يجنيه التالي للقرآن ممن تدبره وتأثر به من ثمرات، وأسأل الله -سبحانه- أن يردَّنا إلى كتابه مرَدًّا جميلًا، وأن يعلِّمَنا منه ما جهلنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ![]() [1] بيان إعجاز القرآن: (ص70). [2] تفسير ابن كثير: (8/ 78). [3] متفق عليه. [4] تاريخ دمشق لابن عساكر: (44/ 308). [5] تفسير الطبري: (1/ 10). [6] الفوائد: (ص3). [7] شعب الإيمان: (3/ 453). [8] رواه مسلم (119). [9] تفسير الطبري: (1/ 80). [10] مختصر منهاج القاصدين: (ص54). [11] مختصر منهاج القاصدين: (ص53). [12] تفسير ابن كثير: (8/ 263). [13] تفسير السعدي: (367). [14] تفسير القرطبي: (15/ 249). [15] التحرير والتنوير: (28/ 116). [16] رواه مسلم (746). [17] تفسير ابن كثير: (7/ 64). ![]()
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد من كتاب ( مجالس القرآن ) الجزء الأول* للدكتور فريد الأنصاري (19) 1- يا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم ،لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! اُرْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم؛ لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة؛ لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي.. 2 - (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.)(النور:35) الآية مَثَلٌ ضربه الله جل جلاله للقرآن في قلب العبد المؤمن عندما يتوهج إيمانه، ويَتَّقِدُ وجدانه؛ بما يتدفق عليه من زيت القرآن وهو آياته البينات! فذلك: نورٌ على نور! فالمشكاة: هي صدر المؤمن. والمصباح هو: القرآن. والزجاجة هي: قلب المؤمن. فكلما اشتغل العبد بِوَارِدِ القرآن تَوَهَّجَ الإيمان بقلبه واشتعل؛ فتدفق منه النور! فهو لذلك كالكوكب الدُّرِّيّ النابضِ بالحسن والجمال في علياء السماء! فإلى نحو هذا المعنى ذهب الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسير الآية؛ نقلا عن عدد من سلف الصحابة والتابعين، منهم أُبَيّ بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهما. 3- تَتَبَّعْ - لبناء النفس وتربيتها - منهج القرآن كما عرضه القرآن! وهو – على الإجمال - ثلاث خطوات قابلة للتفصيل، وهي: التلاوة بمنهج التلقي، ![]() والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، ثم التزكية بمنهج التَّدَبُّر. فذلك ما ذكره الله - سبحانه وتعالى – بإجمال، عند تحديد وظائف النبوة الثلاث. وهي المذكورة في قوله جل ثناؤه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(آلعمران:164) وقوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنقَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)(الجمعة:2). وتلك هي استجابة دعوة إبراهيم عليه السلام لهذه الأمة، بما ورد في قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاًمِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَالعَزِيزُ الحَكِيمُ)(البقرة:129). 4- التلاوة، والتعليم، والتزكية هي الأصول الكلية لمهمة الرسالة، وهي المراحل الأساسية لبناء النفس المؤمنة، وتكوين النسيج الاجتماعي الإسلامي. إلا أنها مراحل متداخلة في عملية الاشتغال بالقرآن الكريم لهذا الغرض، إذ يصعب القول بأنها منقطعة مبتورة المفاصل، بل هي متواصلة، يكمل آخرُها أولَها، ويرفد أولُها آخرَها؛ إذ تجد بدايات اللاحقة منها منذ الشروع في السابقة، وتجد آثار السابقة مستمرة في اللاحقة! وإنما تتميز عن بعضها بالغلبة ليس إلا. وبيانها كما يلي: الخطوة الأولى: تلاوة القرآن بمنهج التلقي تلقي القرآن: بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنـزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه! ![]() كثيرون هم أولئك الناس الذين يتلون القرآن اليوم، أو يستمعون له على الإجمال، على أشكال وأغراض مختلفة. ولكن قليل منهم من (يَتَلَقَّى) القرآن! وإنما يؤتي القرآنُ ثمارَ الذكر حقيقةً لمن تَلَقَّاهُ! وإنما كان رسول اللهe يَتَلَقَّى القرآن من ربه. قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)( النمل:6). ولا يزال القرآن معروضا لمن يتلقاه، وليس لمن يتلوه فقط! والتلقي في اللغة: هو الاستقبال عموما. كما في قول الله تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)(الأنبياء:103). وأما تلقي القرآن: فهو استقبال القلب للوحي. إما على سبيلا لنبوءة، كما هو الشأن بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم. على نحو ما في قول الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)( النمل:6). إذ ألقى الله عليه القرآن بهذا المعنى! كما فسره الراغب الأصفهاني من قوله تعالى: (إنا سَنُلْقِي عليك قولا ثقيلا)(المزمل:5) قال رحمه الله: (إشارة إلى ما حُمِّلَ من النبوة والوحي!). وإما أن يكون (تلقي القرآن) بمعنى: استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ. ![]() وهو عام في كل مؤمن أخذ القرآن بمنهج التلقي على ما سنبينه بعدُ بحول الله. فذلك المنهج هو الذي به تنبعث حياة القلوب. لأنها تتلقى آنئذ القرآن (روحا) من لدن الرحمن. قال تعالى: : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا. مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(الشورى:52-53). أن تتلقى القرآن: معناه إذن؛ أن تصغي إلى الله يخاطبك! فتبصر حقائق الآيات وهي تتنـزل على قلبك روحا. وبهذا تقع اليقظة والتذكر، ثم يقع التَّخَلُّقُ بالقرآن، على نحو ما هو مذكور في وصف رسول اللهe،من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خُلُقِهe؛فقالت: (كان خُلُقُهُ القرآنَ!). وأنْ تتلقى القرآن: معناه أيضا أن تتنـزل الآيات على موطن الحاجة من قلبك ووجدانك! كما يتنـزل الدواء على موطن الداء! فآدم عليه السلام لما أكل هو وزوجه من الشجرة المحرمة؛ ظهرت عليهما أمارة الغواية؛ بسقوط لباس الجنة عن جسديهما! فظل آدم عليه السلام كئيبا حزينا. قال تعالى: (فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا! وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ. وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(طه:121). ولم يزل كذلك حتى (تلقَّى) كلمات التوبة من ربه فتاب عليه؛ فكانت له بذلك شفاءً! وذلك قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم)(البقرة:37). فهو عليه السلام كان في حاجة شديدة إلى شيء يفعله أو يقوله؛ ليتوب إلى الله، لكنه لا يدري كيف؟ فأنزل الله عليه - برحمته تعالى - كلمات التوبة؛ ليتوب بها هو وزوجه إلى الله تعالى. وهي – كما يقول المفسرون - قوله تعالى: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(الأعراف:23) ![]() فبمجرد ما أن تنـزلت الآيات على موطن الحاجة من قلبه؛ حتى نطقت بها الجوارح والأشواق؛ فكانت له التوبة خُلُقاً إلى يوم القيامة! وكان آدم عليه السلام بهذا أول التوابين! وذلك أخذه كلمات التوبة على سبيل (التلقي): (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ)! فعندما تقرأ القرآن إذن؛ استمع وأنصت! فإن الله جل جلاله يخاطبك أنت! وادخل بوجدانك مشاهد القرآن، فإنك في ضيافة الرحمن! هناك حيث ترى من المشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر! الخطوة الثانية: التعلم والتعليم بمنهج التدارس وتحصيل العلم بالكتاب للنفس أو تلقينه للغير، إنما يكون بمنهج الدراسة والتدارس لآياته وسوره مبنى ومعنى؛ لقول الله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آلعمران:79). فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُونَ) و(تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها في الفهم والعمل أولى: التَّعَلُّم والتَّعْلِيم. وأقل ذلك أن تكون أحَدَهما: معلما أو متعلما. بيد أن العلم ههنا إنما هو ما أفاد العمل. على قاعدة علماء مقاصد الشريعة: أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل). وعلى هذا يحمل قولهe: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما أو متعلما!) وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا لله لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً؛ ولكن بعثني مُعَلِّماً مُيَسِّراً). ![]() أي: معلما أعمال الخير والصلاح للعالمين، بمنهج حكيم. فالمقصود بقوله تعالى: (تَدْرُسُون) - من آية آل عمران المذكورة - يعني تدرسون الكتابَ نفسه، على اعتبار أن الدراسة والتدارس أو المدارسة هي منهج التعلم، كما ذهب إليه الإمام الطبري رحمه الله(). والتدارس للقرآن الكريم هو المنهج التعليمي الكفيل بالوصول بالدارس إلى الحكمة، التي بمقتضاها يصير (ربانيا). وقد روى ابن جرير الطبري رحمه الله – عن ابن عباس وعدد من التابعين - تفسير(ربانيين) في الآية؛ بأنهم: (الحكماء الفقهاء). فالدراسة والتدارس إذن: هو تتبع صيغ العبارات، ووجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، وتعلُّم ذلك كله ترتيلا وتفسيرا، بما فيه ضبط ألفاظه وآياته وسوره؛ للتعرف على أسرار هو حِكَمِه. وذلك جماع ما كان يفعله جبريل عليه السلام مع رسول الله في ليالي رمضان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسولا الله أجود الناس! وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فَيُدَارِسُهُ القرآنَ، فَلَرسُول الله أجودُ بالخير من الريح المرسلة!)() وهو ما ذكرنا من قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آلعمران:79). وذلك تفسير قوله تعالى - من آيات وظائف النبوة - (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). وفُسِّرت الحكمةُ بأنها: (شيء يجعله الله في القلب ينور له به!)(). ويجمع المرحلتين المذكورتين قبل، أعني: (التلاوة، ثم التعلم والتعليم بمنهج التدارس) ما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى النّبِيّe فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ. فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللّيْلِ يَتَعَلّمُونَ). الخطوة الثالثة: التزكية بمنهج التَدَبُّر ![]() وانظر - رحمك الله - كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين من آل عمران والجمعة، مع أنه لا تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه قال: (باب العلم قبل القول والعمل). وقد قُدِّمَ ذِكْرُ التعليم على التزكية - بناء على الأصل - في قوله تعالى من دعوة إبراهيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)(البقرة:129). صحيح أن العطف بالواو - في الآيات كما هو في العربية - لايفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية وعلوها؛ وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من الخاسرين. تقول: تَدَبَّرَ الشيء في - اللغة – يَتَدبَّرُه بمعنى: تَتَبَّعَ دَوَابِرَه، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره؛ وعَرَفَ الأَمْرَ تَدَبُّراً أَي بأَخَرَةٍ (...) والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أَن تنظر إِلى ما تَؤُول إِليه عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكرفيه). أما التَّدَبُّر في الاصطلاح القرآني فهو: أنك إذْ تقرأ الآيات،وتتعلم وتدرس؛ تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتبصر حقائقها الإيمانية إبصارا؛ فتكتسب بذلك من الصفات الوجدانية، ما يعمر قلبك بالإيمان، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ويضعك على صراط السير إلى التخلق بأخلاق القرآن. وبيان ذلك هو كما يلي: فتدبر القرآن وآيات القرآن إذن: هو – كما ذكرنا - النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع. وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر - إن كانت متعلقة بالنفس - إلى موقعها من ![]() نفسك، وآثارهاعلى قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياسا لوزن نفسك وتقويمها. وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفاتها. وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع؛ فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها؟ عند المخالفة وعند الموافقة.. ثم تنظر ما علاقة ذلك كلهبالكون والحياة والمصير؟ ثم ما موقع النفس – نفسك أنت! - من هذا كله؟ - التدارس: هو عملية تعليمية ذهنية، تشتغل من داخل النص القرآني لاَ خارجه، وينتجها العقلُ في علاقته بنص الخطاب القرآني مباشرةً، وفي ارتباطه بلغته وأساليبه، على قَدْرِ ما تتيحه تلك اللغةُ من مَعانٍ وحِكَمٍ ودلالات. بينما التَّدَبُّر: عمليةٌ قلبية ذوقية محضة. فهي - وإن صاحبت التدارس - واقعةٌ في النفس لا في النص! إنها حركة وجدانية تجري خارج النص القرآني، إنها تتلقى المعاني والحِكَمَ من التدارس، ثم تَدْخُلُ بها إلى أعماق النفس، أو تخرج بها إلى مطالعة أحوالالمجتمع؛ لتراقب النفس والمجتمع معاً على موازينها. تُشَخِّصُ الأمراضَ والأسقام الواقعة بهما، ثم تنظر إلى وصفات العلاج التي قدمها لها القرآن: كيف تتعامل معها؟ وكيف تستشفي بها؟ وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له على سعة الكون وامتداده الفسيح، ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن؛ يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة الكون. فيكون كل متدبر للقرآن متفكرا في الكون. فتقرأ - بقراءة القرآن - كلَّ آيات الله المنظورة والمقروءة سواء. وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو: الإبصار. إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء، أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماما كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة - في اليوم الصحو - على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة. فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، والتفكر يكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون. وكانت لهم فيها بصائر ومشاهَدات لا تكون لغيرهم. ولذلك قال عز وجل: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَاوَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104). وقال سبحانه: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِيالْأَبْصَارِ)(الحشر:2). هكذا وجب أن تقرأ القرآن آية آيةً؛ اقرأ وتدبر ثم أبصر!.. عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل؛ فتكون له متدبرا حقا ! يتبع ============================= * منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
#20
|
||||
|
||||
![]() ![]() فوائد من كتاب ( مجالس القرآن ) الجزء الأول. للدكتور فريد الأنصاري (20) جلساء الملائكة: الحديث المشهور، الذي رواه أبو هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فيه: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه!) ضوابط المجالس القرآنية: الضابط الأول: لابد من تجريد القصد لله! واعلم أن القرآن الكريم لا يفتح بصائره إلا للمقبلين عليه بإخلاص! الضابط الثاني: تَحَيُّنُ أوقاتِ الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومَظَانِّ اليقظة الإيمانية. وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج من أحسن أوقات الذكر، وهي أوقات الغُدُوِّ والآصَال. فالغَدُوُّ أو الغَدَاةُ: هي ساعات أول النهار، من الفجر إلى أوائل وقت الضحى. وأما الآصال فمفرده: أصيل، وهو وقت ما بين العصر إلى الغروب.فهو سويعات آخر النهار، حيث يبرد حر الشمس، وتهدأ أشعتها، وتلين أضواؤها، وتطول الظلال وتمتد. و عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده.فإذا لم يكن سبيل إلى عقد مجلس القرآن بأحد هذين الوقتين؛ فليكن بعد المغرب، أي بين العشاءين، وهو وقت داخل أيضا في مسمى (العَشِيِّ)؛ لأن العَشِيَّ في الأصل من العَشْوَةِ وهي: بداية الظلمة، عند إقبال الليل وإدبار النهار الضابط الثالث: وهو مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيأة الجلوس بما يحفظ للعلم وقارَه، وللقرآن جلالَه ![]() الضابط الرابع: عدم عقد أكثر من لقاء واحد، أو لقاءين اثنين على الأكثر في الأسبوع الواحد، من لقاءات مجالس القرآن؛ بناء على منهج التَّخَوُّلِ في الموعظة، أي جعل تزود القلب من الإيمان على فترات منتظمة وغير متتابعة،؛ حتى لا يَكَلَّ ولا يَمَلَّ. - الضابط الخامس: احترام قواعد تدارس القرآن العظيم: مما سبق بيانه مفصلا من الترتيل بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر. وبهذا نفتح باب الضوابط الخاصة لإدارة المجلس وهي: - الضابط السادس: مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحِلْم؛ لتسيير المجلس. فلا بد لمجلس الخير من شخص ينظم سيره، ويرتب أولوياته؛ تجنبا للفوضى والارتجال، أو الانزلاق إلى غير أهداف مجالس القرآن العظيم! وقد يكون هذا المسيِّر من أهل العلم، أو من أهل الصلاح والورع عموما. وقد صَحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: (المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!).الضابط السابع: أن يعمد إلى إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر. فحضوره في الغالب إنما هو منهجي إداري. فلا ينبغي له أن يتفرد بالكلام إلا إذا آلت الأسئلة إليه وكان من أهل العلم. إذْ يجب التفريق والتمييز بين مجلس الوعظ، أو الدرس، أو المحاضرة، أو نحو ذلك؛ وبين مجلس التدارس. فالتدارس مشاركة كما تدل عليه صيغة (التفاعل) من عبارته. ![]() ومن القواعد التربوية المساعدة على إشراك الجميع: الْحِرْصُ على عدم استفحال عدد الجلساء؛ حتى لا يكون جمهوراً غفيراً! إذْ هنالك وجب أن يُولَدَ مجلسٌ قرآني جديد! فرع عن الأول؛ لأن الجمهور الكثير إنما تؤطره المحاضرةُ، أو الخطبةُ، أو الدَّرْسُ؛ لا (التَّدارُسُ)! الضابط الثامن: تجنيب الجلساء الدخولَ في الجَدَلِ العقيم! فما أهلكَ كثيرا من الناس إلا الجدلُ! وفي الأثر عن بعض السلف الصالح: (إذا أراد الله بقوم سوءا سلَّط عليهم الجدل، ومنعهم العمل!) الضابط العاشر: تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر. وهو تحصيل التزكية للقلب بكتاب الله تعالى، والتخلق بأخلاق القرآن العظيم، من خلال مسالك التَّدَبُّر والتفكر وهي الحذَرُ من استغراق الوقت كله في التفسير، وتتبع أقوال المفسرين من دقائق اللغات والبلاغة والإعراب، وتفاصيل الخلافات الكلامية، وتفاريع الأحكام الفقهية فلا ينبغي أن ننسى أن غاية (مجالس القرآن) إنما هو التربية والتزكية، أي تحصيل (الربَّانِيَّة) لا تحصيل (العالِمِيَّة). ويكفيك من العلم لتحصيل الربانية ما يعرفك بالله رب العالمين! (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟!(القمر:17) فمن أراد القرآنَ للذِّكْرِ والذكرى والتربية والتزكية؛ فإنما سبيله اليُسْرُ والبساطة، الضابط الحادي عشر: ومن هنا فالاقتراح الأوفق للمقصود إنما هو أن يُعْتَمَدَ تفسيرٌ مختَصَرٌ من ذلك كله، مما تلقته الأمة بالقبول وأجمع على صحته السَّلَفُ والخَلَفُ. وليس كتفسير الإمام أبي جعفر الطبري(ت:310هـ) رحمه الله أوفى بالمقصود. ![]() ويُعْتَمَدُ مختصَرُه فقط دون الأصل؛ لما امتاز به المختصر الذي جمع خلاصة ما ذهب إليه الإمام الطبري، مما أجمع عليه أهل التأويل للآية، أو ما عليه جمهورهم، أو ما رجحه هو رحمه الله من القول والبيان عند الاختلاف(). فإن لم يكن فيلتجأ إلى غيره من المختصرات الجيدة، كمختصر تفسير ابن كثير. الضابط الثاني عشر: وهكذا فلْيُقْرَأ القرآنُ أولا! مما هو مقصود بالتدارس لذلك المجلس. ويمكن أن تُتَداولَ التلاوةُ بين جميع الحضور أو بين أغلبهم، كما يمكن أن يُكْتَفَى بتلاوة أحدهم فقط، حسب ظروف المجتمعين. كما أن تكرار الآيات نفسها التي هي مقرر المدارسة لتلك الحصة أعْوَنُ للقلب على التفقه. والتلاوة – بضوابطها المذكورة من قبل- عبادة رفيعة جدا؛ إذْ تهيء القلب للتلقي عن الله! فلا ينبغي الاستهانة بها وتجاوزها في مجالس القرآن! الضابط الثالث عشر: فإذا تمت حصة التلاوة والاستماع والإنصات إلى كتاب الله، كما يليق بكلام الله؛ فليشرع في قراءة خلاصة التفسير قراءةً مسموعة هادئة مفصَّلَةً؛ الضابط الرابع عشر: تَنَاوُلُ قَدْرٍ قليل من الآيات يُشَكِّلُ معنى يحسن السكوت عليه، والوقوف عنده. سواء كان آية واحدة، أو ثلاث آيات، أو خَمْساً، أو سبعا. بشرط ألا يتعدى المقدار المدروس من ذلك كله نِصْفَ ثُمُن الحزب، بالتحزيب المتداول للقرآن الكريم، المطبوع في المصاحف بعلاماته المعروفة(). فَيُقْرَأُ ما ورد فيها من التفسير. ![]() الضابط الخامس عشر: يُتَحَقَّقُ من الفهم العام للمعاني التي وردت بها، وأن أهل المجلس على إدراك حسن للمقصود. ويمكن أن تثار الأسئلة حول ما أشكل منها؛ للوصول إلى بيانٍ أشمل وأوضح. - الضابط السادس عشر: فإذا اتضح المعنى؛ وجب - بعد ذلك مباشرة - الدخول في محاولة التعرف على الهُدَى المنهاجي للآية أو الآيات،وهو عَيْنُ الحِكَم المطلوب تعلُّمُها، مما ورد في آيات وظائف النبوة: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ). وذلك بمحاولة استنباط الحقائق الإيمانية التي تتضمنها، والأحوال الخُلُقِيَّة التي تُرْشِدُ إليها، ومحاولة عدها باللسان، وإحصائها بالوجدان، وتداول ذلك بين سائر الْجُلَسَاءِ؛ حتى ترسخ بالقلب وتتضح صورتها بما يساعد على تَدَبُّرِها. - الضابط السابع عشر: وبمعرفة ما تيسر من الحِكَم والمقاصد نفتح باب التدبر للآيات،والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات. وذلك لغاية التخلق بأخلاق القرآن الكريم، والاتصاف السلوكي بِحِكَمِه العظيمة! والتفكر والتدبر – إذا خلص كلاهما لله- يورثان التخلق بأخلاق القرآن بصورة تلقائية، وبلا كلفة، كما بيناه من قبل بشواهده. ثم إن التدبر والتفكر أيضا – بما ينطويان عليه من إبصار للآيات()- يساعدان على معرفة السبل الكفيلة بتذليل النفس وترويضها؛ لقبول هذا الخُلُقِ الرباني أو ذاك، والتحلي بتلك الخصلة النبوية أو تلك. - الضابط الثامن عشر: فإذا تمت مدارسة السورة بأكملها، بهذا المنهج المُجَزِّئِ للوحدات أو الفقرات من كل سورة، في مجلس واحد، إن كانت من السور القصيرة جدا، أو عبر عدة مجالس إن كانت من السور المتوسطة أو من الطوال؛ فلا بد - بعد ذلك - من محاولة قطف الثمرات التالية من ثمار المدارسة، وهي: ![]() أ- التعرف على القضايا الأساسية التي تعالجها السورة على الإجمال، وهي حقائقها الإيمانية الكبرى، التي تدور بفلك المحور الرئيس في السورة. ثم من خلال معرفة تلك القضايا والحقائق يمكن: ب- التعرف على المحور الرئيس للسورة على الإجمال. فلكل سورة من سور القرآن العظيم شخصيتها المستقلة، التي بها تتميز عن غيرها في نظمها السالكِ لها بِعَقْدِ الكتاب الحكيم؛ لأن هذا وذاك هو مما يساعد - بإذن الله - على التَّمْسِيكِ بالكتاب؛ لأنه يُمَكِّنُكَ - في كل وقت وحين، بالليل أو بالنهار - من المراجعة والتقويم لِخُلُقِكَ وسلوكك، ولمستواك التربوي عموما، في ضوء ما تَحَصَّلَ لديك من الحِكَم والحقائق الإيمانية، من هذه السورة أو تلك. فضبط المحور الرئيس للسورة، مع ما يدور حوله من قضاياها الأساسية؛ يساعد على طول التدبر للآيات، والتذكر لحقائقها الإيمانية باستمرار؛ حتى بعد انفضاض المجلس، حيث تنطبع المعاني الربانية بالقلب الصافي المتجردِ لله تجردَ افتقارٍ وإخلاص. فإذا اكتمل لديك تدارس القرآن العظيم بهذا المنهج وتكرر؛ صارت خريطته الكلية مرسومة على قلبك بإذن الله؛ لِمَا تلقيت من حقائقه الإيمانية عن الله جل ثناؤه، في مجالس الملائكة! مع جلسائك من (أهل القرآن: أهل الله وخاصته)؛ فلا تتصرف في سلوكك وخلقك بعدها إن شاء الله إلا بخير! وهذا من أهم مقاصد التدارس لكتاب الله تعالى. - الضابط التاسع عشر، وهو: ![]() - الضابط الجامع: والضابط الكلي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة! إذ بذلك يعرف الجليس الصادق من غيره. وإنما برهانُ صِدْقِ الجليس، وحقيقةُ انتسابه إلى أهل الله من (جلساء الملائكة)، ومصداقية ذلك كله متوقفة على مدى التزامه بميثاق القرآن العظيم. وهو عَهْدَان: عَهْدُ فِعْلٍ وعَهْدُ تَرْكٍ. فأما عهد الفعل فهو يتلخص في ثلاثة التزامات: - الالتزام الأول: الحفاظ على أوقات الصلوات المفروضة بالمسجد، من الفجر إلى العشاء؛ إلا لضرورة شرعية. مع تأكيد النفس وتوطينها على صلاة الفجر وصلاة العشاء، والاجتهاد في ذلك كله لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، على قدر الإمكان.() فالصلاة هي خير أعمال المسلم على الإطلاق كما تواتر معناه بطرق شتى! وهي العبادة الوحيدة الحاكمة على ما سواها من الأعمال والعبادات بإطلاق! إذا استقامت للمؤمن حقيقتُها وانكشف له سِرُّها؛ استقام له كل شيء من دينه ودنياه! كما فصلناه بأدلته بمحله، فتأمل!() ويكفيك من ذلك قولهe: (استقيموا ولن تحصوا! واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة! ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن!). - الالتزام الثاني: الحفاظ على تلاوة جزء من القرآن الكريم لكل يوم، على الدوام، في الحَضَرِ والسَّفَر سواء! حتى يكون ختم القرآن لكل فرد من أفراد المجلس عند نهاية كل شهر. وبهذا يضمن العبد السالك إلى الله زادا إيمانيا يوميا، ومنهجا لتذكر حقائق الإيمان التي استفادها من مجالس التدارس القرآني. فالتلاوة المستمرة تذكيرٌ وأيُّ تذكير! لمن ذاق حقيقتَها وشاهد فضيلتَها. - والالتزام الثالث: الاجتهاد لضم جليس جديد، أو جلساء جُدُد؛ إلى مجالس القرآن، متى سنحت الفرصة، أو إنشاء مجلس جديد على التمام. وتلك نعمة إيمانية – إن أكرمك الله بها - ولا كأي نعمة! ![]() فالحرص على نشر الخير والدعوة إليه؛ سِمَةٌ أساسيةٌ للمؤمن الصادق، مهما لقي في سبيل ذلك ما لقي من الحرج والعنت. والآية التي هي الشِّعَارُ الجامِعُ لذلك كله من كتاب الله جل ثناؤه، هي ما سبقت الإشارة إليه من قوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170). تَمْسِيكٌ بالكتاب أولا: وهو الأخذ بحقائقه الإيمانية بقوة، وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها، ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير. (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). - القرآن لا يفتح أبواب أسراره إلا لمن أقبل عليه بشروطه. وإنما شروطه أمران: إخلاص القصد لله تعالى، ثم أخذ الكتاب بقوة! فأما بيان الشرط الأول: فبإخلاص القصد عند بدء السير إلى منازل القرآن، وبتحقيق الصدق في طلب مجالسه؛ يفتح الله لك أبواب الخير، ويمهد لك الطريق إلى الجنة، وأما بيان الشرط الثاني: فإن القرآن لا يستقيم سَيْرُ العَبْدِ بين مَسَالِكِهِ إلا إذا أخذه بقوة! ذلك منهج الأنبياء والصِّدِّيقِين. فـ (الأخذ بقوة) هو: الأخذ بعزم وبحزم، والصبر على حمل الأمانة وثقل الرسالة! والصبر على طول الطريق! والثبات على الحق! فالشيطان لك بالمرصاد، يثبطك، ويبطئك عن المضي في طريق الله؛ فالصَّبْرَ الصَّبْرَ على دوام ذكر الله في صحبة الصالحين، ومَعِيَّةِ الربانيين، بمنهج القرآن، وبرنامج القرآن. ============================= *منقول من موقع مثانى القرآن ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |