فقه التيسير في رمضان

[ابوالوليد المسلم]

فقه التيسير في رمضان

د. سعد بن مقبل الحريري العنزي

التربية كما تكون على العزائم وأخذ الدين بالقوة، كذلك تكون التربية على الأخذ بالرُّخَص الثابتة إذا انعقد سببها الشرعي.

بعض الأُسَر وبعض المربِّين في رمضان إذا سافروا يمنعون أبناءهم الفطر؛ بل لا يحدثونهم عن مشروعية الفطر إلا في سياق التعريف النظري بهذه الأحكام، أما ممارسة ذلك في الواقع فهذا يتردد فيه البعض ويتحرَّج منه البعض الآخر، ويتعلل البعض بأن المشقة والتعب منتفية؛ فلا مبرر لشغل الذمة بالقضاء بعد ذلك. مع أن مناط الترخص هنا ليس هو وصف المشقة؛ وإنما هو وصف السفر؛ لأنه الوصف الظاهر المنضبط بخلاف المشقة فهي لا تنضبط.

كم يجد المسلم للترخُّص الشرعي الذي انعقد سببه من جماليات ومحاسن في نفسه، بل كم يرى في هذه الرخص والتخفيفات من معاني الرحمة واليُسْر، يراها وهو يُقصِر الصلاة أو يجمعها، أو يفطر في صومه، أو يمسح على خُفَّيْه أيامًا وليالي، إنها عبودية انشراح الصدر وانتفاء الحرج في التطبيق والممارسة للرخص الشرعية الداخلة في عموم قوله سبحانه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

لك أن تتأمل هذا المشهد الذي يُربِّي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيه على فقه التيسير والرُّخَص والأخذ بها؛ فقد جاء في الصحيح: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة". وفي رواية: "إن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر".

بل قد يكون الصوم أحيانًا في حق بعض الناس ليس برًّا ولا طاعة إذا كان يلحق فيه الصائم ضررٌ حقيقيٌّ كما جاء في الصحيحين أنه كان صلى الله عليه وسلم في سفره، فرأى رجلًا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلَّل عليه، فقال: "ما له؟" قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البِرِّ أن تصوموا في السفر".

فالحديث له سبب ورود، وهو حرص هذا المتضرر على الصوم مع مشقته عليه حتى ناله من ذلك ما ناله.

ونحن كما نحتاج إلى تعظيم الشعائر في نفوس الأبناء والبنات والجيل عمومًا في ظل النقد الحداثي للمحكمات ونزع القداسة عن الشعائر والحرمات، وهذا التعظيم مقصد شرعي، وذلك من خلال تحديثهم بنصوص الوعيد الواردة على ترك الأمر أو فعل النهي، وعلى سبيل المثال عظم الفطر قبل موعد الفطر، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنا أنا نائمٌ إذ أتاني رجُلانِ فأخَذا بضَبْعَيَّ فأتَيا بي جَبلًا وَعْرًا فقالا لي: اصعَدْ حتَّى إذا كُنْتُ في سواءِ الجبلِ فإذا أنا بصوتٍ شديدٍ فقُلْتُ: ما هذه الأصواتُ؟ قال: هذا عُوَاءُ أهلِ النَّارِ، ثمَّ انطلَق بي فإذا أنا بقومٍ مُعلَّقينَ بعراقيبِهم مُشقَّقةٍ أشداقُهم تسيلُ أشداقُهم دَمًا فقُلْتُ: مَن هؤلاءِ؟ فقيل: هؤلاءِ الَّذينَ يُفطِرونَ قبْلَ تحِلَّةِ صومِهم".

لكننا نحتاج مع هذا إلى تحبيب هذه الشعائر إلى قلوب الشباب، وتقريبها إلى نفوسهم.

لماذا لا يترك لهم خيار الفطر في السفر وهي مسألة اختيارية في الأساس، ففي حديث حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: "إن شئت فصُمْ، وإن شئت فأفْطِر".

لماذا لا نربيهم على معنى الترخُّص الحقيقي، ونعرفهم بحدوده، ونشعرهم بأن فعل ذلك أمر شرعي لا حرج فيه ولا شبهة. أقول هذا وهم في عصرنا يعرض عليهم الترخُّص المتسيِّب في الإعلام الجديد، فقد تتشربه قلوبهم، ويقبلون بهذا التيسير الزائف الذي يدفع إلى التفلُّت من الواجبات، ويقلل من خطر المقارفة للسيئات، إنهم يسمعون ويشاهدون ويقرءون من يفتي بكذا وبكذا، لنترك لهم فرصة التطبيق للرُّخَص الشرعية، ونتباحث معهم في فقه تطبيقها، فما شرع الله الرُّخَص إلا لحِكَم ومصالح وأسرار، ومنها حفظ الدين الذي نظنُّ نحن بقصور فهمنا أننا نُضيِّعه بتطبيق تلك الرُّخَص، والله أعلم وأحكم.