
29-08-2022, 05:26 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,542
الدولة :
|
|
رد: سر الكآبة عند المبدعين
سر الكآبة عند المبدعين
د. ريمه الخاني
خصوصية المشاعر الإبداعية:
من ناحية أخرى هل تؤدي حالات الإبداع للانزواء أو الانفتاح على الواقع بتطرف؟
عن دراسة هذه الحالة علميًّا تقول الروائية والاختصاصية النفسية الأمريكية جودي بالارد، في مقر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في المسرح الوطني بأبوظبي، في 2008، وقدمها الدكتور معن الطائي:
وأشارت إلى أن كلمة "مبدع" تحيل إلى حالة نفسية ومزاجية؛ لأن الإبداع هو عملية خلق تتطلب الكثير من التأمل والحساسية الجمالية العالية، وهذه الحالة التأملية تدعو المُبدِع إلى العزلة والانزواء والتركيز، ومهما كانت الحالة الإبداعية للمبدع، شاعرًا، أو أديبًا، أو رسامًا، فالحالة النفسية تكاد تكون متشابهة، وهي تؤدي في الأغلب إلى حالة من الهوس التي تُعتبر ممهدة للاكتئاب.
ورأت أن حالة الهوس التي تُصيب المبدع هي حالة من التوهج العقلي الذي ينجم عنه التدفق المعلوماتي، من صور، وأفكار، يتم إفراغها على الورق، وهي حالة غالبًا ما تنتهي بالخمود والظلام، كما أنها غالبًا ما تفضي إلى حالة من الإجهاد بسبب استخدام طاقة العقل بشكل متناهٍ.
وأوضحت أن الأشخاص الذين يُعانون من هذه الحالة يظهرون في نوع من السرعة في العطاء والجاهزية، والتوهج، ولكنهم غالبًا ما ينتهون بالإصابة بالاكتئاب في حالة الاختلاء والانزواء بالنفس؛ لأنهم يحرقون أنفسهم بشدة التركيز والمبالَغة في العمل.
♦♦ ♦♦
وهناك ملاحظة سلوكية تخصُّ المُبدِع ربما لا يكشفها إلا المقربون غالبًا:
في حالة التوهج الإبداعي ينتشي ويغرق في عمله، وعند تراجعه يطغو الفراغ ويصاب باكتئاب الخوف من توقف الموهبة، وهنا نقول:
إن المبدع حالة إنسانية خاصة جدًّا، تَحتمل حالتين؛ إما أن تحمل حالة إبداع خاصة تحمل كآبتها آنية بسبب الإبداع، أو أنها حالة مستديمة من القلق النفسي، التي لا تستقر لا في حالة الإبداع ولا في حالة الركود الإبداعي.
لذا، فإن المُبدِع قَلِق في حالة الوحدة والانزواء، وفي حالة الانخراط في المجتمع، وهي ما يقال عنها: "فلسفة الوحدة"؛ حيث تبقى الموهبة يقِظةً في النوم واليقَظة في كل مكان يستفز الإبداع.
فهل لهذا علاج أم هو حالة خاصة لا علاج لها؟!
تجيب بالارد عن جانب من هذا السؤال فتقول: إن العلاج الكيميائي قد يسبب فقدان المبدِع للحالة الإبداعية، وعدم القدرة على الوصول إلى الأفكار العليا التي يستلهم منها إبداعه؛ إذ تؤدي العقاقير إلى إخماد العقل وجرِّه إلى المنطقة الوسطى، التي تقع بين حالة الاكتئاب من جهة، وحالة الفرح المبالَغ فيه من ناحية أخرى، وفقدان التوهُّج الذي يقود إلى الإبداع، مشيرة إلى أن لجوء البعض لتناول الكحول أو المخدرات للخروج من حالات الاكتئاب، يزيد من تأثيرها، نظرًا إلى أن الكحول والمخدِّرات من المواد المثبِّطة التي تضاعف تأثير الإصابة.
وأكملت قائلة:
ودعت إلى الحذر في استخدام وصف الاكتئاب؛ "إذ أصبح كلمة شائعة الاستخدام لدى كثيرين لوصف حالات يَمرُّون بها يوميًّا، وهو وصف غير دقيق؛ فالاكتئاب حالة مزاجية دائمة وليست عابرة، ولها أعراض ونتائج علمية دقيقة، وتختلف القابلية للإصابة بالاكتئاب من شخص لآخر وفق حالته النفسية والذاتية، ودرجة حساسيته للمؤثرات المحيطة به، وقد تكون زيادة حساسية المبدع للمؤثرات الخارجية مقارنة بغيره، سببًا في زيادة قابليته للإصابة بالاكتئاب، إلى جانب وجود أعراض أخرى لا يُمكن تجاهلها أو تفادي تأثيرها، مثل: الوراثة والجنس، فمعدلات الإصابة بالاكتئاب بين السيدات تُوازي ضِعف المعدَّلات بين الرجال".
وبيَّنت بالارد أن هناك طرقًا لتفادي الإصابة بحالات الاكتئاب، من أهمها: اتباع نظام حياة صحي، والتغذية الصحية، والنوم بعدد ساعات كافٍ خلال اليوم، وممارسة الرياضة، بالإضافة إلى الاستعانة بمجموعات الدعم، وهي مجموعات تشترك في اهتمامات معينة، مثل: الكتابة، أو الرسم، أو غيرهما من الأنشطة، مع الاستمرار في عملية الإبداع.
♦♦ ♦♦
وإن دل هذا التحليل على شيء، فهو يدل على أن المُبدِع إنسان سابق لزمنه، متطلِّع لما فوق الواقع، مُسرِع في خطاه للأفضل، توَّاق للتميز، يقدم جديدًا لم يقدمه إنسان قبله، فهل هذا مرَض فعلاً؟ وهل كتب علينا أن نقبَله لكي نتقدم للأمام؟
وقد كان لقاء للدكتور "جهاد العبدلله" في محطة dw ليلة السبت 20/12 - 2014 عن مرض الهوس الاكتئابي، وقد أصيب به موزارت وغوته وفان كوخ، فهم كانوا يعانون من تسارع الأفكار وتوالدها، مما يحفِّز الجملة العصبية، ويُسرع عمل الناقلات العصبية بشكل يفوق القدرة على التحمل، فيُرهقها بقوة، ويحتاج المريض هنا لمُستحضر يحد من هذه العملية، وقد تحدث عن دواء قديم "غوتان" يحد من عمل الناقلات العصبية، يأخذه المريض لمدة 3 أسابيع، مما يجعله متفائلاً منبسطًا، لكن الدراسات ما زالت قاصرة عن حسم الأمر تمامًا.
لذا نحضُّ على التغذية الطبيعية، والرياضة، والحياة الاجتماعية، وعدم العزلة.
بعدما نشر هذا الموضوع في موقعنا كان رد الأستاذ حامد حجازي:
أعتقد أنه لا يوجد أحد غير مصاب بنوع من أنواع الهوَس التي تفضَّلت بذكرها، إلا من عافاه الله ومنَّ عليه بمُخالفةِ هواه واتِّباعِ هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرى أن من أسباب الاكتئاب عمومًا: (الهوس التكنولوجي) اللاواعي.
3 - أسباب إضافية للكآبة عند المبدعين:
مختصر القول: إن مشكلة الكآبة مشكلة متفرِّعة الأبواب.
• منها ما يكون بسبب عزلة المُبدِع وقلَّة حيلته في بث شجونه وإيجاد من يقوِّم عمله ويقيِّمه وينقده مثلاً ليغدو أفضل، أو هو أخفق في تسويق إبداعه، أو عدم وجود من يأخذ بيده، وهي مشكلة خاصة بالإبداع عمومًا.
• ومنها مشكلة خاصة بالبيئة المحبطة عمومًا وغير المشجِّعة، مؤسسات وجمهورًا؛ فالمؤسسات لا تبحث عن جديد بقدر ما تساعد من خلال العلاقات العامة والمحسوبية، رغم محاولتها الدائمة، إلا أن جمهورنا ولاد، ومِن واجبنا الوطني أن نأخذ بيده.
وهنا نلفت النظر لقصة في اليوتيوب، اسمها: "سباق السلاحف"، فيها عبرة عظيمة؛ أن سلاحف اشتركت في سباق تسلُّق للجبال، والجمهور خيَّب آمالهم بقوله: لن تصِلوا، فتدهور السباق، وسقطت السلاحف تباعًا، إلا واحدة، ولما سُئلت كانت لا تسمع...
لذا، فعندما تريد الوصول لا تسمع للمغرضين والمخيِّبين، والذين لا يملكون الموهبة الحقيقية، وإنما ينافسونك غيرةً وحسدًا، وموهبتهم في مكان آخر تمامًا.
• لكن هناك نماذج استثنائية تجاوزت البيئة المُحبطة والظروف القهرية، التي تزيد المعاناة خنقًا وقيودًا، وقدمت ما أرادت تقديمه رغم كل الظروف، وتعد هذه زمرة مِن المبدعين غير عادية أبدًا.
ثقافة مجتمعنا ثقافة صعبة، ولو طالعنا مقالنا: "ثقافة الصمت" لفهمنا أن المبدع يجب ألا يصمت لخطأ مجتمعي مُحبط، إما يواجهه أو يتجاهله تمامًا.
وبالمقابل كان المأمون يعطي كل كاتب وزن ما كتب ذهبًا، إذًا فنهضة الأمة من نهضة وتشجيع مواهبها ومثقفيها، والموضوع له شجون كبيرة.
كنا كتبنا عن هذا الموضوع في سلسة صباح الخير عن معاناة المفكِّرين جزء واحد واثنين.
مثال: أم ولدت بعد 8 سنوات، وكان ولدها معه حالة توحُّد، أرضعته صديقتها من لبنها، وصارت تتبناه عاطفيًّا، لكنها بحثت وبحثت عن حالته، فتبيَّن أن أصلها فطور في الأمعاء، وباتت نكتة الموسم، لكنها مضت في طريق محاولاتها فشُفي وتجاوز أقرانه في حالته وتحسَّن، فماذا يعني هذا؟
إحداهن تخرجت من الجامعة ولم تجد فرصة عمل متاحة؛ فالمحسوبية في عالمنا واضحة ومؤذية، فأقنعت والدها باستئجار محل تجاري لبَيع الأفكار، وتؤجر كل رف فيه لبضاعة الزبائن، وتبيع لهم الأفكار لتصريف إبداعهم (قد تكون الفكرة مستوردة مثلاً، لكنها هامة وضرورية في مجتمع يبحث عن فرصة).
• المبدع في بثه وعطائه نوعان؛ نوع يقدم صورة عن معاناته بمحاولة واقعية مع روح الإبداع، ومنه من يشطح بإبداعه كوميديًّا، أو خيالاً شاطحًا يقدم ما يريد قوله رموزًا وألغازًا على المتابع فكُّها، وهذه قمة الإبداع.
• إن التجديد صفة ملازمة للمبدع، وإن لم يجد مادة جديدة يدورحولها ليَصوغها قلادة جميلة يقدمها للمتابعين فقد يصاب بالكآبة حتمًا، وهناك من الأدباء من توقف عن الكتابة لمدة 10 سنوات، كما حصل لبوشكين عندما بدأ العد التنازلي الإبداعي، لكنه بعدها بدأ مشوارَه التصاعدي...
يمكننا القول أخيرًا:
أن الكآبة عند المبدعين عندما تُترجم بعد ذلك إبداعًا سويًّا، يتبيَّن أنها عرض لا مرض، إلا في حالات قليلة، تقع تحت مؤثرات داخلية وخارجية غير طبيعية استثنائية في الأصل، وتدعمها الحساسية العالية لديه، وكلما وجهت باتجاه الإبداع خرجت عملاً جديدًا، وخاصة عندما تفرغ شحنة إبداعية تراكمية، بحضور القرب من الله، ومحاولة تحقيق السكينة العبادية للتخفيف من غلوائها.
4 - الكآبة عند المسلمين:
لماذا لم يعانِ مبدعو المسلمين من هذه الكآبة؟
تقول الأستاذة: سارة الحكيم:
إن المؤمن لا يعاني من مرض الكآبة؛ لأنه يلجأ إلى الله، ولا يحتقن لسانه ومطلبه في صدره، فهناك من يسمعه ويستجيب لدعائه بيقين ضِمْني قويٍّ.
لماذا لم يعانِ الأنبياء من هذا المرض؟ أو لنقُلْ هذا العرض؟
ربما انتابهم الحزن، لكن كآبة مزمنة بالطبع لا... ويبقون بشرًا على أي حال.
وقد بين الأستاذ أحمد الشقيري مفعول الصلاة في منح راحة للتفكير لمُعاودة النشاط الذهني من جديد، من خلال فحص مُختبَري دقيق.
وقد بين الدكتور بشير بلح طبيًّا مفعول السجود في تروية أجهزة قد تتراجع ترويتها مع التقدم في السن.
لذا نقول: إن للصلة بالخالق مفعولاً سحريًّا لا يذوقه بقوة ويتلقى مفعوله إلا المبدعون المؤمنون حقًّا، وإن الإيمان ليس مثبطًا لحالات الإبداع، بل دافع لها في دعم كيفية إخراج الإبداع والاهتداء لطرق نجاحه.
♦♦ ♦♦
إذًا ما سبب الكآبة عمومًا لنعرف ما يعانيه جيلنا اليوم؟
جيلنا اليوم في حالة من البطر كبيرة، قتلت فيه توق التجديد في تناول كل ما يريد وإعطائه ما يحب دون عمل ولا سعي، وإن السعي مدعاة للتفنُّن في طرق الوصول، والمثَل: "الحاجة أمُّ الاختراع" مثل قوي جدًّا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|