|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة (1) بكر البعداني يقول الإمام الكبير والمحدث الأمين العلامة يحيى بن معين[1]: "إذا كتبت فقمِّش، وإذا حدثت ففتِّش"[2]. لا شك أن هذه الكلمة اليسيرة وإن كانت قليلة في حروفها، فإنها تعد - عند جملة كبيرة من المحققين من أهل العلم في الحديث وغيره - قاعدة مهمة، ومهمة جدًّا، كبيرة في معانيها، كثيرة ثمراتها؛ إذ هي تبين لنا ذلك المنهج السليم الذي ساروا عليه، والذي ينبغي أن يسير عليه المحقق - في أي فن كان - عند الجمع والطلب، أو حتى عند العمل أو الأداء والتبليغ. ولعل المراد منها كما يقول العراقي: "كأنه أراد: اكتب الفائدة ممن سمعتها، ولا تؤخر حتى تنظر فيمن حدثك، أهو أهل أن يؤخذ عنه أم لا؟ فربما فات ذلك بموت الشيخ أو سفره، أو سفرك، فإذا كان وقت الرواية عنه، أو وقت العمل بذلك، ففتش حينئذ. ويحتمل أن المراد: استيعاب الكتاب المسموع، وترك انتخابه، أو استيعاب ما عند الشيخ وقت التحمل، ويكون النظر فيه حالة الرواية"[3]. ويمكن أن يتجلى لنا بصورة أخرى شيء من معناها في قول عبدالفتاح أبو غدة: "إن المحدثين الحفاظ المتوسعين في جمع الحديث، جرت عادتهم على سماع ما يحدث به من الأحاديث وما لا يحدث به؛ لأنه ينفع في وجوه كثيرة من علوم الحديث؛ ولذلك قالوا وقرروا هذا القاعدة، التي عبر عنها الحافظ يحيى بن معين بقوله: "إذا كتبت فقمِّش، وإذا حدثت ففتِّش"[4]؛ أي: إنهم عند تحمل الحديث وتلقيه عن شيوخ الرواية، يجمعون منه ما استطاعوا عن كل شيخ، ولكنهم عند تحديثهم يفتشون فيما تحملوه من الأسانيد والمتون، فلا يحدثون إلا بالأسانيد المتصلة بالعدول الثقات الضابطين عن مثلهم، والمتون الخالية من الشذوذ أو العلة. وأما ما تبين لهم من كذب أو وهم أو بلايا للرواة في الأسانيد، أو الشذوذ، أو علة في المتون، فإنهم يمسكون عن التحديث بها، ولا يذكرونها إلا مع البيان لما في تلك الأسانيد أو المتون من ضعف وشذوذ، وربما يحرقون هذه الكتب ويقطعونها، وكل هذا تجده مذكورًا في تراجم طائفة كبيرة من الرواة المجروحين"[5]. إذًا فهذه القاعدة وإن كانت من صنع المحدثين فإنها تبين وتنبه على أن مسلك المحققين في شتى العلوم، ولا سيما المحدثين، الذين هم جميعًا أرغب الناس في طلب الفنون ورواياته، وأشدهم حرصًا عليها، كما أنهم أكثرهم كتبًا لها، وليس يعيبهم ألبتة أن يكتبوا كل ما تقع عليه أيديهم، أو تقف عليه أعينهم، أو تسمعه آذانهم، ولو كان من طريق الضعفاء، أو المطعون فيهم؛ ذلك أن الحفاظ ما زالوا يكتبون الروايات الضعيفة، والأحاديث المقلوبة، والأسانيد المركبة؛ لجملة من الأسباب، يأتي معنا ذكر شيء منها، ألا ترى أن بعضهم يقول: "كتبت بيدي مائة ألف حديث"[6]، وآخر يقول: "كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث"[7]، وثالثًا يقول: "كتبت بيدي ألف ألف حديث"[8]! وهل يظن أن هذا كان منهم عبثًا؟! معاذ الله عز وجل. ولذلك فإن هذا الجزء من هذه القاعدة العظيمة المتعلق (بالتقميش) وهو قوله رحمه الله: "إذا كتبت فقمش"، يعد - ولا شك - بابًا مهمًّا جدًّا من أبواب النقد؛ ذلك أن جمع مثل هذه الطرق - سواء للأحاديث أو الآثار أو الروايات، في الحديث أو التفسير أو التاريخ أو السير... أو حتى غيرها، ومن ثم المقارنة بينها - هو من أهم الأساليب والأسباب عند المحققين، ولا سيما المحدثين منهم؛ للتمييز بين الرواية الصحيحة من الضعيفة، والسليمة من السقيمة، وبالتالي المقبولة من المردودة. كما يعد الجزء الآخر من هذه القاعدة العظيمة المتعلق (بالتفتيش) والمشار إليه بقوله رحمه الله: "وإذا حدثت ففتش"، بابًا آخر مهمًّا جدًّا من أبواب الرواية أو التحديث أو التبليغ، ولا سيما بعد المرحلة الأولى (التقميش)؛ ذلك أن التحري وطلب الصحيح من الأحاديث أو الآثار أو الروايات، في الحديث أو التفسير أو التاريخ أو السير... أو غيرها، لنشرها وتبليغها على وجهها - يعد سببًا من أسباب توحيد الكلمة والوجهة، وبالتالي يقل الخلاف، وتزداد القوة. وهذا هو ما يعبر عنه ويدندن حوله جملة من علمائنا المعاصرين، ودعاتنا الصادقين[9] - تبعًا لسلفنا رحمهم الله - بكلمة: (التصفية). ومنهم - أي: العلماء - بل على رأسهم درة الشام العلامة الألباني رحمه الله؛ فطالما تحدث في ذلك كثيرًا جدًّا، ويعلم ذلك المتابع لشيء - ولو يسيرًا - من كلامه المسموع[10] أو حتى المقروء[11]، فكثيرًا ما كان رحمه الله ينادي بتصفية هذا التراث الإسلامي الكبير، من كل ما علق به من الشرك والغرائب، والضعيف والمنكر والإسرائيليات... وغيرها. التقميش: إذًا فهذه القاعدة العظيمة تنص على أنه ينبغي عند الجمع (التقميشُ)؛ أي: اجمع ما وجدت[12]، والمعنى: أن يسمع من الجميع، ويكتب عن الجميع، ويدون ما بلغه من الجميع، من كتاب، أو جزء، أو حتى غيره، على وجه التمام، ولا ينتخب حتى لا يندم، كما أشار إليه ابن معين رحمه الله في كلمة يسيرة أخرى له، وقاعدة عظيمة، وهي قوله[13]: "سيندم المنتخب[14] في الحديث حيث لا تنفعه الندامة[15]". ويعد هذا (التقميش) مهمًّا لأمور في الإسناد أو حتى المتن، ولعل من أهمها: أولاً: معرفة منشأ الخطأ ووجهه وعلته، وهذا هو ما أشار إليه الإمام علي ابن المديني رحمه الله بقوله: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"[16]، وبعضهم[17] بقوله: "لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه"[18]. ثانيًا: الخروج بالفقه الصحيح من النصوص، فربَّ حديث أو رواية أو غيرهما يكون عامًّا، لكنه قد خصِّص في أخرى، أو يكون مطلقًا قد قيِّد، أو يكون منسوخًا بآخر، وهكذا. ثالثًا: تكثير طرق الحديث، وجمع أطرافه؛ فتكثر لذلك شيوخهم، ولا بأس بهذا بضوابطه وقيوده المعروفة عندهم، وليس هذا محل بسطها. رابعًا: تلمسًا للفائدة، وبحثًا عنها، وقد كان ابن المبارك: "يكتب عمن هو دونه، فقيل له، فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع لي"[19]. خامسًا: التواضع واكتساب النبل، وهو ما أشار إليه البعض من المحققين بقولهم: "لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه، ومن هو مثله، ومن هو دونه"[20]. سادسًا: أن في هذا بيانًا لسعة علومهم، وقوة حفظهم من جهة، وتحقيقًا لمنهج المحققين من أهل الحديث، القائم على التثبت كما جاء به شرعنا الحنيف من جهة أخرى؛ ولذلك قال - أيضًا - الإمام المبارك عبدالله بن المبارك رحمه الله: "لا يكون الرجل من أهل الحديث حتى يكتب عمن هو مثله، وعمن هو فوقه، وعمن هو دونه"[21]، وقد جاء بنحوه عن سفيان بن عيينة قال رحمه الله: "لا يكون الرجل من أهل الحديث حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن هو دونه، وعمن هو مثله"[22]. سابعًا: بيان حال الراوي الذي وقع منه الخطأ أو الوهم، أو حتى غيرهما، والحكم عليه - وفقًا لذلك - بما يستحقه؛ ولذلك نرى الإمام مسلمًا رحمه الله يقول: "فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها، ويتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ"[23]. شبهة: وإذا ما تبيَّن هذا بوضوح وعلم بجلاء، زالت تلك الشبهة، وذهب ذلك الإشكال، الذي أشكل حقبة من الزمان على من لا علم لهم، واغتر بسببه - للأسف الشديد - جملة من أبناء هذا العلم الشريف، ولا زال عند البعض، ألا وهو: وجود جملة من الروايات الضعيفة بلهَ الباطلة، التي قد لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة، وكذا تلك القصص الشوهاء التي شوهت كثيرًا صورة هذا الدين وحملته، وجملة من النصوص والروايات والآثار التي تنضح بها جملة من كتب: الحديث والتفسير والتاريخ والسير... وهي ولا شك دخيلة على هذا الدين، لكن مجرد الوقوف عليها في بطون تلك الكتب - ولو كانت بإسناد أو حتى مجردة عنه - لا يعني أبدًا صحتها أو حسنها، فضلاً عن قبولها، فضلاً عن الأخذ بها، فضلاً عن العمل بها، فضلاً عن بثها ونشرها بين الناس وكأنها من المسلَّمات بله المتواترات! بل هي تحتاج إلى أن ينظر فيها المتخصصون ويسألواعنها؛ لتبيين صحيحها من ضعيفها، وسليمها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وهذه هي الخطوة المتعلقة بالجزء الأخير من هذه القاعدة العظيمة، التي يعبر عنها - كما مر وسيأتي - (بالتفتيش)، ويشار إليها اليوم بالتصفية. فأرجو من الله عز وجل أن يكون هذا الذي ذكرناه - كما قد بقي سواه - قد أزالها وأطاح بهذه الشبهة، وهذا الإشكال جملة وتفصيلاً. التفتيش: هذا ما يتعلق (بالتقميش)، وأما عند التبليغ - كما تقدم - فالأمر يختلف تمامًا؛ ذلك أن الواجب هنا هو العكس من ذلك تمامًا؛ فهذه القاعدة العظيمة تنص في جزئها الآخر على أنه ينبغي بعد هذا الجمع (التقميشُ)، وهو الواجب هنا، وهو ما اصطلح على تسميته (بالتفتيش)؛ أي: التثبت عند الرواية[24]؛ ولذلك قال من قال: إنه يغتفر في الطلب ما لا يغتفر في الأداء. وفي الختام: فإن هذه الكلمة اليسيرة والقاعدة العظيمة جمعت لنا جملة من الفوائد كما ترى، وشكلت لنا المنهجية السليمة في الدراسة والتلقي، والتبليغ والنشر، وكيف أن هذا المنهج السلفي الأصيل مكن سلفنا رحمهم الله من العناية المنقطعة النظير بهذا الدين في كل أبوابه، ولا سيما ما يتعلق بالحديث النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم؛ فالواجب الشرعي يحتم على الجميع علماء وخطباء ودعاة ومفكرين ومثقفين... - ولا سيما في هذه المرحلة التي نعيشها - إحياء هذا الدين الإسلامي الحنيف من خلال هذا المنهج العظيم؛ لتبلغ هذه الرسالة السامية ما كانت بلغت إليه، وأن يتناسوا - جميعًا - كل تلك الموشَّحات التي تدعو إلى الخلاف، وأن نتداعى إلى الأمر الأوَّل، الذي التقت عليه القرون الأولى، ولنتذكر قول الإمام الهمام مالك بن أنس: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"[25]، فلا دواء أنجع وأنفع لعلاج ما ألَمَّ بنا من مصائب وخطوب إلا به. فينبغي والأمر كذلك أن نحرص عليه - علمًا وعملاً وتبليغًا ودعوة - وأن نسير - في كل ذلك - على خطاهم، ونترسم منهجهم؛ ذلك أن هذا المنهج لم يتنبه لدوره الهامِّ الكثيرُ من القراء والكتاب من المنتسبين للعلم وطلبه، فجهلوا أو تجاهلوا، أو نسوا أو تناسوا - وأحلاهم مر - أن هذا المنهج من أهم الأسباب لتحقيق المجتمع الإسلامي، وإقامة حكم الله في الأرض، بل إنه أحد الأسس التي لا يقوم ذلك إلا به، فجزى الله خيرًا كل من حرص أو نبه أو دل عليه. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. [1] وقد جمعت جملة من كلماته الماتعة، وقواعده النافعة رحمه الله في سلسلة: من عيون الكلام (يحيى بن معين) 2. [2] الجامع لأخلاق الراوي (2/ 320)، وتاريخ بغداد (1/ 43) للخطيب، والسير (11/ 85) للذهبي، والتكميل في الجرح والتعديل (2/ 283) لابن كثير، وقد رويت - أيضًا - هذه الكلمة عن غيره. [3] شرح التبصرة والتذكرة (1/ 184 - بتصرف يسير) للحافظ العراقي، تدريب الراوي (2/ 148)، والشذا الفياح (1/ 408) لبرهان الدين الأبناسي. [4] وقد بوب لهذه الكلمة ولأخواتها الخطيب في جامعه بقوله: من قال: يكتب عن كل أحد. [5] لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث لعبدالفتاح أبو غدة (ص 174 - 176) بتصرف وزيادة يسيرين. [6] هو أبو أسامة، كما في العلل ومعرفة الرجال (3/ 313) لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، وتروى عن الإمام مالك رحمه الله، كما في الديباج المذهَّب لابن فرحون. [7] تروى عن ابن مَعين وغيره. [8] هو الإمام يحيى بن معين؛ انظر: سلسلة من عيون الكلام (يحيى بن معين) 1، ويروى عن أبي زرعة المالكي بنحوه. [9] انظر للفائدة: مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشَّرعية والانفعالات الحَمَاسية (ص 70) لعبدالمالك الرمضاني، والتصفية والتربية للحلبي. [10] كما في سلسلة الهدى والنور - مثلاً. [11] انظر: التصفية والتربية وحاجة المسلمين إليهما، ومقدمة سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 2)، والتصفية والتربية عند الألباني "منهج حياة"، في موسوعة العلامة الإمام مجدد العصر محمد ناصر الدين الألباني للأخ الفاضل: شادي بن محمد بن سالم آل نعمان. [12] فتح المغيث (2/ 81) للسخاوي. [13] انظر: سلسلة من عيون الكلام (يحيى بن معين) 1. [14] أي: الذي ينتقي الأحاديث، ولا يكتبها كلها. [15] السير (11/ 85). [16] الجامع لأخلاق الراوي (2/ 212) للخطيب، شرح علل الترمذي (1/ 38) لابن رجب، وقد كان شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله في بعض دروسه يقول: "إن جمع الطرق أمر مهم؛ فرب حديث يكون سنده كالشمس، ثم بعد ذلك - بجمع طرقه - تظهر به علة، أو يكون شاذًّا، فمع جمعك للطرق فإنك تعرف الشذوذ، وتعرف العلة"، أو كما قال رحمه الله، وانظر - مثلاً - المقترح وغيره، وانظر للتمثيل لما قاله شيخنا رحمه الله كتاب: ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر، أقول - بكر -: وهكذا حتى في سائر الفنون، نتبين خطأ رواياته أو غيرها بجمع طرقها. [17] هو ابن معين؛ انظر: سلسلة من عيون الكلام (يحيى بن معين) 1. [18] معجم ابن الأعرابي (3/ 1057- محقق)، وانظر: تذكرة الحفاظ (2/ 430)، والسير (11/ 84). [19] شرح التبصرة والتذكرة (ص 183) للحافظ العراقي، تدريب الراوي (2/ 148) للسيوطي. [20] تروى عن وكيع كما في الجامع رقم: (1654) للخطيب، نقلاً عن الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث (2/ 440 - ط: الألباني - تحقيق الحلبي)، والمقنع في علوم الحديث (ص 412 - تحقيق الجديع) لابن الملقن. [21] تاريخ بغداد (5/ 68) للخطيب البغدادي، وفيه: أحمد بن عثمان، وهو: أحمد بن محمد بن عثمان النهرواني، ينسب إلى جده؛ لم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. [22] الجامع لأخلاق الراوي (2/ 218) للخطيب. [23] كتاب التمييز (ص 162). [24] فتح المغيث (2/ 81) للسخاوي. [25] انظر: كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة 2.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة (2) بكر البعداني لقد كنا ذكرنا في مقال سبق هذا بعنوان: كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة (1) كلمة للإمام يحيى بن معين رحمه الله، وختمنا تلك الحلقة بكلمة للعَلَم الإمام، والعلَّامة الهُمام مالك رحمه الله. وهي قوله رحمه الله: "لن يُصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها"[1]. ولقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وما أحسنَ ما قال مالكٌ!"[2]، وكذا استحسن قولَه ابن القيم رحمه الله[3]، وقال محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في إحدى مقالاته: إنها "جملة إن لم تكن من كلام النبوة، فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، ووَمْضة من إشراقها"[4]، ولقد نسبها بعضُهم لعمر[5]، فوَهِم، ولقد أحببت في هذه الحلقة الثانية من: "كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة" أن يكون الحديثُ عنها. وهذه الكلمة وضعها - كما علمنا - إمامٌ من أئمة أهل السنة؛ وهو مالك بن أنسرحمه الله، وقد رُوِيت عنه بلفظ: "لن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلَح به أولها؛ فما لم يكن يومئذٍ دينًا، لا يكون اليوم دينًا"[6]. وهذه الكلمة في الحقيقة، على قلة ألفاظها، واختصار كلماتها، فإنها قاعدةٌ متينة وعظيمة، ونافعة جدًّا في مقامات كثيرة، وفي خزائنها من الكنوز ما يَعجِزُ العقلُ عن تصوُّره، والفهم عن إدراكه. ولذلك؛ فهي تُعدُّ - بحقٍّ - كلمةً جامعة من جوامع الكلم، وقاعدةً من أعظم قواعد الشرع؛ فإنه يَحصُل بها حمايةُ الشريعة من التحريف والتبديل؛ لأنها تنصُّ على أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا إذا سلكوا منهجَ الأوائل من الصحابة، وإذا كان من المعلوم أن أولَها إنما صلَح بالكتاب والسنة، فلن يصلح آخرها إلا بالكتاب والسنة، كما أنه من المنصوص فيها ضمنًا - بما أن الأمر كذلك - أن فعل السلف واتباعهم سنةٌ، ومخالفتهم بدعة، كما قال الشاطبي في الاعتصام (1 / 274)؛ وعليه فإن اتِّباعهم هو دين يُدان الله عز وجل به؛ ولذلك نرى حذيفة رضي الله عنه يقول - فيما نقل عنه -: "كلُّ عبادة لم يتعبَّد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تتعبَّدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا، فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم"[7]. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "كلُّ من تكلَّم بكلام في الدين، أو في شيء من هذه الأهواء، ليس له فيه إمام متقدم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه - فقد أحدث في الإسلام حدثًا". وقد دَنْدَنَ حولها جملة من العلماء، وجعلوها كأصل، يستدلون بها، وينزعون منها، ونكتفي هنا بذكر الإمام مالك رحمه الله؛ فقد نُقِل عنه أنه سئل عن القراءة في المسجد، فقال: "لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث"، وقال: "ولن يأتي آخرُ هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن"، وقال أيضًا: "أترى الناس اليوم أرغبَ في الخير ممن مضى؟"؛ ذكره الشاطبي في الموافقات (3 / 213). وهكذا ابن تيمية رحمه الله استدلَّ - في ضمن ما استدل - بها على عدم مشروعية قصده - صلى الله عليه وآله وسلم - دائمًا للصلاة والسلام، كما في اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 367) وقال[8]: "وأما قصده دائمًا للصلاة والسلام، فما علمت أحدًا رخَّص فيه"، إلى أن قال: "وما أحسن ما قال مالك: "لن يصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَح أولها"... ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره". وهكذا الشاطبي رحمه الله، فنراه في كتابه الاعتصام كثيرًا ما يستدلُّ بها في جملة من المسائل التي ناقشها، وتارة ينسبها إليه، وتارة يسوقها بمعناها، كما قال (1/ 205): "ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى ممن كان عليها أولها"، وقال (2 / 30): "ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها". وهكذا في الموافقات (3/ 401 - 402) لما ذكر قوله عز وجل: ï´؟ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ï´¾ [النساء: 36]، قال - يردُّ على بعضهم تفسيرَه لها: "وهو من المواضع المشكلة في كلامه، ولغيره مثل ذلك أيضًا، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء، وغير ذلك لا يعرفه العرب، لا من آمن منهم ولا من كفر، والدليلُ على ذلك: أنه لم يُنقَل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسيرٌ للقرآن يماثلُه، أو يقاربه، ولو كان عندهم معروفًا، لنُقل؛ لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم..." إلخ كلامه، وغيرهم كثير، ولكن نكتفي بهذا للتمثيل. إذ هي حقًّا تُمثِّل بحق قاعدةً عظيمة من قواعد الإسلام، وهي تنصُّ على وجوب الاتباع، وفيها منهج صريح في رد البدع، ووجه ما قاله أيضًا رحمه الله: "أترى الناس اليوم أرغبَ في الخير ممن مضى؟"[9]؛ وذلك أن الخير كل الخير في اتِّباع مَن سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف، ولقد أحسن مَن قال حين قال - وكان مالك كثيرًا ما ينشده - : وخيرُ أمورِ الدين ما كان سُنةً ♦♦♦ وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ فينبغي - والأمر كذلك - الحرصُ على ترسم خُطَى السلف، وأختم بكلمة من إمام كبير من علماء المسلمين الأولين، وهو حسن بن علي البربهاري - شيخ الحنابلة في وقته رحمه الله المتوفى سنة (329) - قال رحمه الله تعالى: "واحذر من صغار المُحدَثات؛ فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كلُّ بدعة أُحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيرًا يشبه الحق؛ فاغترَّ بذلك مَن دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظُمت وصارت دينًا يُدان به. فانظر رحمك الله كلَّ من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلنَّ ولا تدخل في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلَّم فيه أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من العلماء؟ فإن أصبت أثرًا عنهم، فتمسَّك به ولا تجاوزه لشيء، ولا تختَرْ عليه شيئًا؛ فتسقطَ في النار. واعلم رحمك الله أنه لا يتمُّ إسلام عبد حتى يكون متبعًا ومصدقًا مسلمًا، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كذَّبهم، وكفى بهذا فرقةً وطعنًا عليهم، فهو مبتدع ضالٌّ مُضلٌّ، مُحدث في الإسلام ما ليس فيه"[10]. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. [1] اقتضاء الصراط (ص: 367)؛ لابن تيمية، ومجموع الفتاوى (20/ 375)، (27/ 384 - 396). [2] اقتضاء الصراط (ص: 367)؛ لابن تيمية. [3] إغاثة اللهفان (1/ 200). [4] من لقاء له في "أثير" إذاعة بغداد، ونشر عام 1372هـ الموافق 1952م. [5] كما فعل الشريف حمزة الكتاني في "الاجتهاد والمجتهدون بالأندلس والمغرب" (ص: 36). [6] صحيح ثابت عن مالك، وقد نقلها عنه القاضي عياض في "الشفا" (2/ 87 - 88)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 353): "الثابت المنقول عنه - يعني: مالكًا - بأسانيد الثقات، في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي، وغيره" ثم ذكرها؛ وانظر - أيضًا: مجموع الفتاوى (27/ 118)، والفتاوى الكبرى (4/ 362)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 285)، ومنهاج السنة (2/ 444)، وذكرها الشاطبيُّ في الاعتصام (1/ 111) بلفظ: "لن يأتيَ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها". [7] الفتاوى؛ للشاطبي (ص: 198). [8] وانظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 200)؛ لابن القيم، وأحكام الجنائز (ص:222)؛ للألباني. [9] الموافقات (3/ 213)؛ للشاطبي. [10] نقلًا عن مناسك الحج والعمرة (ص: 46)؛ للألباني.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |