|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#121
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (121) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(77 الى الأية(82) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية ![]() ![]() يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم. وكغلوهم في بعض المشايخ، اتباعا لـ ( أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ ) أي: تقدم ضلالهم. ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ) من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه. ( وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) أي: قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة. ثم قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله ( عَلَى لِسَـانِ دَاوُدَ وَعِيسَـى ابْنِ مَرْيَــمَ ) أي: بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم، وعاندوها. ( ذَلِكَ ) الكفر واللعن ( بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) أي: بعصيانهم لله، وظلمهم لعباد الله، صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله، فإن للذنوب والظلم عقوبات. ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات، وأوقعت بهم العقوبات أنهم: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ) أي: كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك. وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر -مع القدرة- موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة: منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية. ومنها: ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها. ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا. ومنها: أن - في ترك ![]() ومنها: أن السكوت ![]() فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم. ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالمحبة والموالاة والنصرة. ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) هذه البضاعةَ الكاسدة، والصفقةَ الخاسرة، وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء، والخلود الدائم في العذاب العظيم، فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير الكريم، وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم. ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ) فإن الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه، يوجب على العبد موالاة ربه، وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به وعاداه، وأوضع في معاصيه، فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به، أن لا يتخذ أعداء الله أولياء، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط، فدل على انتفاء المشروط. ( وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) أي: خارجون عن طاعة الله والإيمان به وبالنبي. ومن فسقهم موالاةُ أعداء الله. ثم قال تعالى: ![]() ![]() يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين، وإلى ولايتهم ومحبتهم، وأبعدهم من ذلك: ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا. ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) وذكر تعالى لذلك عدة أسباب: منها: أن ( مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ) أي: علماء متزهدين، وعُبَّادًا في < 1-242 > الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين. ومنها: ( أنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي: ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.
__________________
|
#122
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (122) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(83 الى الأية(89) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية ![]() ![]() ومنها: أنهم ( إذا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ ) محمد صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا: ( رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب. وهم عدول، شهادتهم مقبولة، كما قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) . فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه، فقالوا: ( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) أي: وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، والحال أنه قد جاءنا الحق من ربنا، الذي لا يقبل الشك والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا الله الجنة مع القوم الصالحين، فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدم التخلف عنه. قال الله تعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا ) أي: بما تفوهوا به من الإيمان ونطقوا به من التصديق بالحق ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم. وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام. ولما ذكر ثواب المحسنين، ذكر عقاب المسيئين قال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) لأنهم ![]() ![]() ![]() يقول تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا، فإن هذا من الاعتداء. والله قد نهى عن الاعتداء فقال: ( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك. ثم أمر بضد ما عليه المشركون، الذين يحرمون ما أحل الله فقال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) أي: كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسره من الأسباب، إذا كان حلالا لا سرقة ولا غصبا ولا غير ذلك من أنواع الأموال التي تؤخذ بغير حق، وكان أيضا طيبا، وهو الذي لا خبث فيه، فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث. ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ( الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه، فإنه لا يتم إلا بذلك. ودلت الآية الكريمة على أنه إذا حرم حلالا عليه من طعام وشراب، وسرية وأمة، ونحو ذلك، فإنه لا يكون حراما بتحريمه، لكن لو فعله فعليه كفارة يمين، كما قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) الآية. إلا أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار، ويدخل في هذه الآية أنه لا ينبغي للإنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه، بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه. ![]() ![]() أي: في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه، فبان بخلاف ذلك. ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ) أي: بما عزمتم عليه، وعقدت عليه قلوبكم. كما قال في الآية الأخرى: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) ( فَكَفَّارَتُهُ ) أي: كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم ( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) . وذلك الإطعام ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ) عن الحلف بالله كاذبا، وعن كثرة الأيمان، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيهـا، إلا إذا كان الحنث خيرا، فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير. (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ) المبينة للحلال من الحرام، الموضحة للأحكام. ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) اللهَ حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فعلى العباد شكر الله تعالى على ما منَّ به < 1-243 > عليهم، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها.
__________________
|
#123
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (123) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(90 الى الأية(95) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية ![]() ![]() يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس. ( فَاجْتَنِبُوهُ ) أي: اتركوه ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله، خصوصا هذه الفواحش المذكورة، وهي الخمر وهي: كل ما خامر العقل أي: غطاه بسكره، والميسر، وهو: جميع المغالبات التي فيها عوض من الجانبين، كالمراهنة ونحوها، والأنصاب التي هي: الأصنام والأنداد ونحوها، مما يُنصب ويُعبد من دون الله، والأزلام التي يستقسمون بها، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها. فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنى، وإن لم تكن نجسة حسا. والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها. ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان. ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر مصايده وأعماله، خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منهـا، والخوف من الوقوع فيها. ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومعوقة له. ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، خصوصا الخمر والميسر، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء. فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل. وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء. ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو. فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟ !! فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟ !! ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ. ![]() ![]() طاعة الله وطاعة رسوله واحدة، فمن أطاع الله، فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله. وذلك شامل للقيام بما أمر الله به ورسوله من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، المتعلقة بحقوق الله وحقوق خلقه والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه كذلك. وهذا الأمر أعم الأوامر، فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي، ظاهر وباطن، وقوله: ( وَاحْذَرُوا ) أي: من معصية الله ومعصية رسوله، فإن في ذلك الشر والخسران المبين. ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) عما أمرتم به ونهيتم عنه. ( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) وقد أدى ذلك. فإن اهتديتم فلأنفسكم، وإن أسأتم فعليها، والله هو الذي يحاسبكم، والرسول قد أدى ما عليه وما حمل به. ![]() ![]() لما نزل تحريم الخمر والنهي الأكيد والتشديد فيه، تمنى أناس من المؤمنين أن يعلموا حال إخوانهم الذين ماتوا على الإسلام قبل تحريم الخمر وهم يشربونها. فأنزل الله هذه الآية، وأخبر تعالى أنه ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) أي: حرج وإثم ( فِيمَا طَعِمُوا ) من الخمر والميسر قبل تحريمهما. ولما كان نفي الجناح يشمل المذكورات وغيرها، قيد ذلك بقوله: ( إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي: بشرط أنهم تاركون للمعاصي، مؤمنون بالله إيمانا صحيحا، موجبا لهم عمل الصالحات، ثم استمروا على ذلك. وإلا فقد يتصف العبد بذلك في وقت دون آخر. فلا يكفي حتى يكون كذلك حتى يأتيه أجله، ويدوم على إحسانه، فإن الله يحب المحسنين في عبادة الخالق، المحسنين في نفع العبيد، ويدخل في هذه الآية الكريمة، من طعم المحرم، أو فعل غيره بعد التحريم، ثم اعترف بذنبه وتاب إلى الله، واتقى وآمن وعمل صالحا، فإن الله يغفر له، ويرتفع عنه الإثم في ذلك. < 1-244 > ![]() ![]() هذا من منن الله على عباده، أن أخبرهم بما سيفعل قضاء وقدرا، ليطيعوه ويقدموا على بصيرة، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، فقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) لا بد أن يختبر الله إيمانكم. ( لَيَبْلُوَنَّكُ مُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ) أي: بشيء غير كثير، فتكون محنة يسيرة، تخفيفا منه تعالى ولطفا، وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ) أي: تتمكنون من صيده، ليتم بذلك الابتلاء، لا غير مقدور عليه بيد ولا رمح، فلا يبقى للابتلاء فائدة. ثم ذكر الحكمة في ذلك الابتلاء، فقال: ( لِيَعْلَمَ اللَّهُ ) علما ظاهرا للخلق يترتب عليه الثواب والعقاب ( مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ) فيكف عما نهى الله عنه مع قدرته عليه وتمكنه، فيثيبه الثواب الجزيل، ممن لا يخافه بالغيب، فلا يرتدع عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه ( فَمَنِ اعْتَدَى ) منكم ( بَعْدَ ذَلِكَ ) البيان، الذي قطع الحجج، وأوضح السبيل. ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: مؤلم موجع، لا يقدر على وصفه إلا الله، لأنه لا عذر لذلك المعتدي، والاعتبار بمن يخافه بالغيب، وعدم حضور الناس عنده. وأما إظهار مخافة الله عند الناس، فقد يكون ذلك لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك. ثم صرح بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) أي: محرمون في الحج والعمرة، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل، وعن المشاركة في القتل، والدلالة عليه، والإعانة على قتله، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام. وقوله: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ) أي: قتل صيدا عمدا ( فـ ) عليه ( جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) أي: الإبل، أو البقر، أو الغنم، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك، فيجب عليه مثله، يذبحه ويتصدق به. والاعتبار بالمماثلة أن ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي: عدلان يعرفان الحكم، ووجه الشبه، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، حيث قضوا بالحمامة شاة، وفي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم، ففيه مثله، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته، كما هو القاعدة في المتلفات، وذلك الهدي لا بد أن يكون ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) أي: يذبح في الحرم. ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) أي: كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين، أي: يجعل مقابلة المثل من النعم، طعام يطعم المساكين. قال كثير من العلماء: يقوم الجزاء، فيشترى بقيمته طعام، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره. ( أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ ) الطعام ( صِيَامًا ) أي: يصوم عن إطعام كل مسكين يوما. ( لِيَذُوقَ ) بإيجاب الجزاء المذكور عليه ( وَبَالَ أَمْرِهِ ) ( وَمَنْ عَادَ ) بعد ذلك ( فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطئ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة، فإنه يضمنها على أي حال كان، إذا كان إتلافه بغير حق، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام، وهذا للمتعمد. وأما المخطئ فليس عليه عقوبة، إنما عليه الجزاء، [هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله. وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية. والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم] .
__________________
|
#124
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (124) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(96 الى الأية(103) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية ![]() ![]() ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري، استثنى تعالى الصيد البحري فقال: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) أي: أحل لكم -في حال إحرامكم- صيد البحر، وهو الحي من حيواناته، وطعامه، وهو الميت منها، فدل ذلك على حل ميتة البحر. ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ ) أي: الفائدة في إباحته < 1-245 > لكم أنه لأجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم. ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) ويؤخذ من لفظ "الصيد" أنه لا بد أن يكون وحشيا، لأن الإنسي ليس بصيد. ومأكولا فإن غير المأكول لا يصاد ولا يطلق عليه اسم الصيد. ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي: اتقوه بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون. فيجازيكم، هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل، أم لم تقوموا بها فيعاقبكم؟. ![]() ![]() ![]() ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية. قال تعالى: ![]() ![]() وقوله: ( وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ) أي: وكذلك جعل الهدي والقلائد -التي هي أشرف أنواع الهدي- ( قياما للناس) ينتفعون بهما ويثابون عليهما. ( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فمن علمه أن جعل لكم هذا البيت الحرام، لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية. ( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: ليكن هذان العلمان موجودين في قلوبكم على وجه الجزم واليقين، تعلمون أنه شديد العقاب العاجل والآجل على من عصاه، وأنه غفور رحيم لمن تاب إليه وأطاعه.فيثمر لكم هذا العلمُ الخوفَ من عقابه، والرجاءَ لمغفرته وثوابه، وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء. ثم قال تعالى: ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ ) وقد بلَّغ كما أُمِر، وقام بوظيفته، وما سـوى ذلك فليـس لـه مـن الأمـر شـيء. ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) فيجازيكم بما يعلمه تعالى منكم. ![]() ![]() أي: ( قُلْ ) للناس محذرا عن الشر ومرغبا في الخير: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) من كل شيء، فلا يستوي الإيمان والكفر، ولا الطاعة والمعصية، ولا أهل الجنة وأهل النار، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة، ولا المال الحرام بالمال الحلال. ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) فإنه لا ينفع صاحبه شيئا، بل يضره في دينه ودنياه. ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فأمر أُولي الألباب، أي: أهل العقول الوافية، والآراء الكاملة، فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب. وهم الذين يؤبه لهم، ويرجى أن يكون فيهم خير. ثم أخبر أن الفلاح متوقف على التقوى التي هي موافقة الله في أمره ونهيه، فمن اتقاه أفلح كل الفلاح، ومن ترك تقواه حصل له الخسران وفاتته الأرباح. ![]() ![]() ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة أو النار، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة. وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة، وكالسؤال عما لا يعني، فهذه الأسئلة، وما أشبهها هي المنهي عنها، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء < 1-246 > من ذلك فهذا ![]() ![]() ![]() ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي: وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن، فتسألون عن آية أشكلت، أو حكم خفي وجهه عليكم، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء، تبد لكم، أي: تبين لكم وتظهر، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه. ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي: سكت معافيا لعباده منها، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه. ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) أي: لم يزل بالمغفرة موصوفا، وبالحلم والإحسان معروفا، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه، واطلبوه من رحمته ورضوانه. وهذه المسائل التي نهيتم عنها ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي: جنسها وشبهها، سؤال تعنت لا استرشاد. فلما بينت لهم وجاءتهم ( أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم". ![]() ![]() هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة. ( وَلا سَائِبَةٍ ) وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة. ( وَلا حَامٍ ) أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم. فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم، ولهذا قال: ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فلا نقل فيها ولا عقل، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.
__________________
|
#125
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (125) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(104 الى الأية(108) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية ![]() ![]() فإذا دعوا ( إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ) أعرضوا فلم يقبلوا، و ( قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) من الدين، ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله. ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا، أي: ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح، ولا عقل رجيح، وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى, وإيقانا. ![]() ![]() يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) أي: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه. ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره. وقوله: ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي: مآلكم يوم القيامة، واجتماعكم بين يدي الله تعالى. ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) من خير وشر. ![]() ![]() يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه. فينبغي له أن < 1-247 > يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما. ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي: من غير أهل دينكم، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين. ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي: سافرتم فيها ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) أي: فأشهدوهما، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول، ويؤكد عليهما، بأن يحبسا ( مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) التي يعظمونها. ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ ) أنهما صدقا، وما غيرا ولا بدلا هذا ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) في شهادتهما، فإن صدقتموهما، فلا حاجة إلى القسم بذلك. ويقولان: ( لا نَشْتَرِي بِهِ ) أي: بأيماننا ( ثَمَنًا ) بأن نكذب فيها، لأجل عرض من الدنيا. ( وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) فلا نراعيه لأجل قربه منا ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ) بل نؤديها على ما سمعناها ( إِنَّا إِذًا ) أي: إن كتمناها ( لَمِنَ الآثِمِينَ ) . ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا ) أي: الشاهدين ( اسْتَحَقَّا إِثْمًا ) بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا ( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) . أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه. ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ) أي: أنهما كذبا، وغيرا وخانا. ( وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: إن ظلمنا واعتدينا، وشهدنا بغير الحق. قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها، وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة: ( ذَلِكَ أَدْنَى ) أي: أقرب ( أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات. ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي: أن لا تقبل أيمانهم، ثم ترد على أولياء الميت. ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) أي: الذين وصْفُهم الفسق، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم. وحاصل هذا، أن الميت - إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين. فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما ![]() فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله: لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منهما ما يدعون. وهذه الآيات الكريمة نزلت في قصة "تميم الداري" و "عدي بن بداء" المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم. ويستدل بالآيات الكريمات على عدة أحكام: منها: أن الوصية مشروعة، وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي. ومنها: أنها معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتا. ومنها: أن شهادة الوصية لا بد فيها من اثنين عدلين. ومنها: أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة، وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم كثير من أهل العلم: أن هذا الحكم منسوخ، وهذه دعوى لا دليل عليها. ومنها: أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار -عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. ومنها: جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور. ومنها: جواز السفر للتجارة. ومنها: أن الشاهدين -إذا ارتيب منهما، ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما، وأراد الأولياء- أن يؤكدوا عليهم اليمين، ويحبسوهما من بعد الصلاة، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى. ومنها: أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما، وتأكيد اليمين عليهما. ومنها: تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط. ومنها: أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما، وتفريقهما لينظر عن شهادتهما. ومنها: أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة - قام اثنان من أولياء الميت فأقسما بالله: أن أيماننا أصدق من أيمانهما، ولقد خانا وكذبا. ثم يدفع إليهما ما ادعياه، فتكون < 1-248 > القرينة -مع أيمانهما- قائمة مقام البينة.
__________________
|
#126
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (126) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(109 الى الأية(120) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية ![]() ![]() يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الأهوال العظام، وأن الله يجمع به جميع الرسل فيسألهم: ( مَاذَا أُجِبْتُمْ ) أي: ماذا أجابتكم به أممكم. فـ ( قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا ) وإنما العلم لك يا ربنا، فأنت أعلم منا. ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) أي: تعلم الأمور الغائبة والحاضرة. ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ ) أي: اذكرها بقلبك ولسانك، وقم بواجبها شكرا لربك، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك. ( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) أي: إذ قويتك بالروح والوحي، الذي طهرك وزكاك، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله. وقيل: إن المراد "بروح القدس" جبريل عليه السلام، وأن الله أعانه به وبملازمته له، وتثبيته في المواطن المشقة. ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ) المراد بالتكليم هنا، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب، وهو الدعوة إلى الله. ولعيسى عليه السلام من ذلك، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين، من التكليم في حال الكهولة، بالرسالة والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد، فقال: ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) الآيات ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فالكتاب يشمل الكتب السابقة وخصوصا التوراة فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه والحكمة هي معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه وحسن الدعوة والتعليم ومراعاة ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) أي طيرا مصورا لا روح فيه فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله (وتبرئ الأكمه) الذي لا بصر له ولا عين ( وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ) فهذه آيات بيِّنَات ومعجزات باهرات يعجز عنها الأطباء وغيرهم أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) وهموا بعيسى أن يقتلوه وسعوا في ذلك فكفَّ الله أيديهم عنه وحفظه منهم وعصمه فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ودعاه إلى شكرها والقيام بها فقام بها عليه السلام أتم القيام وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم. ![]() ![]() أي: واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا. فأوحيت إلى الحواريين أي: ألهمتهم، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي، أو أوحيت إليهم على لسانك، أي: أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله، فأجابوا لذلك وانقادوا، وقالوا: (آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون) ، فجمعوا بين الإسلام الظاهر، والانقياد بالأعمال الصالحة، والإيمان الباطن المخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف الإيمان. والحواريون هم: الأنصار، كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ) . (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) أي: مائدة فيها طعام، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله، واستطاعته على ذلك. وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم. ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك، وعظهم عيسى عليه السلام فقال: < 1-249 > ![]() ![]() فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى، وإنما لهم مقاصد صالحة، ولأجل الحاجة إلى ذلك فـ ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
__________________
|
#127
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (127) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(109 الى الأية(120) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة المائدة وهي مدنية فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك، وعلم مقصودهم، أجابهم إلى طلبهم في ذلك، فقال: ![]() ![]() كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة، وفضله وإحسانه عليهم. ![]() ![]() (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر عنادا وظلما، فاستحق العذاب الأليم والعقاب الشديد. واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها، وتوعدهم -إن كفروا- بهذا الوعيد، ولم يذكر أنه أنزلها، فيحتمل أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك، ويدل على ذلك، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى، ولا له وجود. ويحتمل أنها نزلت كما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم من الحظ الذي ذكروا به فنسوه. أو أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا وإنما ذلك كان متوارثا بينهم، ينقله الخلف عن السلف، فاكتفى الله بذلك عن ذكره في الإنجيل، ويدل على هذا المعنى قوله: ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) والله أعلم بحقيقة الحال. (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) ، فيقول الله هذا الكلام لعيسى. فيتبرأ عيسى ويقول: ( سُبْحَانَكَ ) عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك. (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنه ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون، وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون ( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) فأنت أعلم بما صدر مني و ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة. ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل، فقال: ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك، ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي. (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به. ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم. ( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر. < 1-250 > ![]() ![]() ![]() ![]() الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة. ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() تم تفسير سورة المائدة بفضل من الله وإحسان، والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
#128
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (128) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(1 الى الأية(8) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة الأنعام وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ![]() ![]() هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض، الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته،وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعله الظلمات والنور، وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر. والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة، وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) أي يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه. ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام. ( ثُمَّ قَضَى أَجَلا ) أي: ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا تتمتعون به وتمتحنون، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله. ![]() ![]() ( ثُمَّ ) مع هذا البيان التام وقطع الحجة ( أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) أي: تشكون في وعد اللهو ووعيده، ووقوع الجزاء يوم القيامة. وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها. ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها، وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به، كما قال تعالى: ![]() ![]() ![]() ![]() وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه، وتدنيكم من رحمته، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته. ![]() ![]() ( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) والحق حقه أن يتبع، ويشكر الله على تيسيره لهم، وإتيانهم به، فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. ( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي: فسوف يرون ما استهزؤوا به، أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم، وكانوا يستهزؤون بالبعث والجنة والنار، فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين: ![]() ![]() < 1-251 > وقال تعالى: ![]() ![]() فهذه سنة الله ودأبه في الأمم السابقين واللاحقين فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم. ![]() ![]() فأي بينة أعظم من هذه البينة، وهذا قولهم الشنيع فيها، حيث كابروا المحسوس الذي لا يمكن مَن له أدنى مسكة مِن عقل دفعه؟ ( وَقَالُوا ) أيضا تعنتا مبنيا على الجهل، وعدم العلم بالمعقول. ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) أي: هلا أنزل مع محمد ملك، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر، وأن رسالة الله، لا تكون إلا على أيدي الملائكة. قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به، عن علم وبصيرة، وغيب. ( وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا ) برسالتنا، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق، ولكان إيمانا بالشهادة، الذي لا ينفع شيئا وحده، هذا إن آمنوا، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة، فإذا لم يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم وعدم إنظارهم، لأن هذه سنة الله، فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها، فإرسال الرسول البشري إليهم بالآيات البينات، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد، وأرفق بهم، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع، فطلبُهم لإنزال الملك شر لهم لو كانوا يعلمون، ومع ذلك، فالملك لو أنزل عليهم، وأرسل، لم يطيقوا التلقي عنه، ولا احتملوا ذلك، ولا أطاقته قواهم الفانية.
__________________
|
#129
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (129) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(9 الى الأية(18) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة الأنعام وهي مكية ![]() ![]() ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا ) لأن الحكمة لا تقتضي سوى ذلك. ( وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) أي: ولكان الأمر، مختلطا عليهم، وملبوسا وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم، فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة التي فيها اللبس، وبها عدم بيان الحق. فلما جاءهم الحق، بطرقه الصحيحة، وقواعده التي هي قواعده، لم يكن ذلك هداية لهم، إذا اهتدى بذلك غيرهم، والذنب ذنبهم، حيث أغلقوا على أنفسهم باب الهدى، وفتحوا أبواب الضلال. ![]() ![]() فإن شككتم في ذلك، أو ارتبتم، فسيروا في الأرض، ثم انظروا، كيف كان عاقبة المكذبين، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين، وأمما في المثلات تالفين، قد أوحشت منهم المنازل، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل، أبادهم الملك الجبار، وكان بناؤهم عبرة لأولي الأبصار. وهذا السير المأمور به، سير القلوب والأبدان، الذي يتولد منه الاعتبار. وأما مجرد النظر من غير اعتبار، فإن ذلك لا يفيد شيئا. ![]() ![]() ( قُلْ ) لهم: ( لِلَّهِ ) وهم مقرون بذلك لا ينكرونه، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟. وقوله ( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) أي: العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه، وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه، وأن العطاء أحب إليه من المنع، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم، وقوله ( لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) وهذا قسم منه، < 1-252 > وهو أصدق المخبرين، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق، فأوضعوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا دنياهم وأخراهم، ولهذا قال: ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . ![]() ![]() فهذه الآيات، ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى، وينقمع به الشرك. فذكر أن ( لَهُ ) تعالى ( مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) وذلك هو المخلوقات كلها، من آدميها،وجِنِّها ، وملائكتها، وحيواناتها وجماداتها، فالكل خلق مدبرون، وعبيد مسخرون لربهم العظيم، القاهر المالك، فهل يصح في عقل ونقل، أن يعبد مِن هؤلاء المماليك، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟ ويترك الإخلاص للخالق، المدبر المالك، الضار النافع؟! أم العقول السليمة، والفطر المستقيمة، تدعو إلى إخلاص العبادة، والحب، والخوف، والرجاء لله رب العالمين؟!. ( السَّمِيعُ ) لجميع الأصوات، على اختلاف اللغات، بتفنن الحاجات. ( الْعَلِيمُ ) بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، المطلع على الظواهر والبواطن؟!. ( قُلْ ) لهؤلاء المشركين بالله: ( أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ) من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني، وينصرني؟!. فلا أتخذ من دونه تعالى وليا، لأنه فاطر السماوات والأرض، أي: خالقهما ومدبرهما. ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) أي: وهو الرزاق لجميع الخلق، من غير حاجة منه تعالى إليهم، فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق، الغني الحميد؟ ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة، لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي. ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي: ونهيت أيضا، عن أن أكون من المشركين، لا في اعتقادهم، ولا في مجالستهم، ولا في الاجتماع بهم، فهذا أفرض الفروض عليَّ، وأوجب الواجبات. ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار، وسخطَ الجبار.وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه، ويُحذر عقابه؛ لأنه مَن صُرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم، ومن نجا فيه فهو الفائز حقا، كما أن من لم ينجمنه فهو الهالك الشقي. ومن أدلة توحيده، أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء، وجلب الخير والسراء. ولهذا قال: ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غم، أوهم أو نحوه. ( فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإذا كان وحده النافع الضار، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية. ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته، وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه، بل هم مدبرون مقهورون، فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا، كان هو المستحق للعبادة. ( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) فيما أمر به ونهى، وأثاب، وعاقب، وفيما خلق وقدر. ( الْخَبِيرُ ) المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور، وهذا كله من أدلة التوحيد.
__________________
|
#130
|
||||
|
||||
![]() الحلقة (130) تفسير السعدى ![]() ![]() من الأية(19 الى الأية(27) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تفسير سورة الأنعام وهي مكية ![]() ![]() ( قُلْ ) لهم -لما بينا لهم الهدى، وأوضحنا لهم المسالك-: ( أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ) على هذا الأصل العظيم. ( قُلِ اللَّهُ ) أكبر شهادة، فهو ( شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) فلا أعظم منه شهادة، ولا أكبر، وهو يشهد لي بإقراره وفعله، فيقرني على ما قلت لكم، كما قال تعالى ![]() ![]() وقوله ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم لأنذركم به من العقاب الأليم والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب والترهيب وببيان الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة التي مَن قام بها فقد قبل النذارة فهذا القرآن فيه النذارة لكم أيها المخاطبون وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية. لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده قال قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله والمكذبين لرسله ( أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ ) أي إن شهدوا فلا تشهد معهم. فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده لا شريك له وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم وفسدت آراؤهم وأخلاقهم وأضحكوا على أنفسهم العقلاء. بل خالفوا بشهادة فطرهم وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى مع أنه لا يقوم على ما قالوه ![]() ( وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) به من الأوثان والأنداد وكل ما أشرك به مع الله فهذا حقيقة التوحيد إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه. لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ( يَعْرِفُونَهُ ) أي يعرفون صحة التوحيد ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) أي لا شك عندهم فيه بوجه كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم. ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها لما عندهم من البشارات به ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره والمعنيان متلازمان. قوله ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي فوتوها ما خلقت له من الإيمان والتوحيد وحرموها الفضل من الملك المجيد ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) فإذا لم يوجد الإيمان منهم فلا تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم. ![]() ![]() أي: لا أعظم ظلما وعنادا، ممن كان فيه أحد الوصفين، فكيف لو اجتمعا، افتراء الكذب على الله، أو التكذيب بآياته، التي جاءت بها المرسلون، فإن هذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبدا. ويدخل في هذا، كل من كذب على الله، بادعاء ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) وهذا غاية الظلم والعناد، أن الآيات البينات الدالة على الحق، لا ينقادون لها، ولا يصدقون بها، بل يجادلون بالباطل الحقَّ ليدحضوه. ولهذا قال: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) أي: مأخوذ من صحف الأولين المسطورة، التي ليست عن الله، ولاعن رسله. وهذا من كفرهم، وإلا فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون، والحق،والقسط، والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟. ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |