|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ابن المقفع والثالوث القديم د. أسعد بن أحمد السعود توطئة: جاءت الآيات الكريمات في مطلع سورة الروم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1- 5]. سورةُ الرومِ المباركةُ هذه نزَلَت على النبيِّ العربي في مكَّة قبل الهجرة، وزمَنَ نزولها كان مغمورًا بأحداثٍ عظيمة، آنَذاك تواترَت أنباؤها سِراعًا وتِباعًا، مُترافقة بشدٍّ عنيفٍ للأعصاب تارة، وبارتخائها وهدوئها تارة أخرى، تتخلَّلها فرحةٌ من هنا، وشماتة من هناك؛ على شاكلة الحدث ذاتِه وبقوَّته، سيَّما وأن طرَف النَّبأ الأهمِّ الذي افتَتَحَت به السورةُ المباركة خبَرَها: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ كانت هي أمَّة الروم المعروفة آنذاك من قِبَل كل العرب في الجزيرة عامة، وقريشٍ خاصة. لَم تذكر السُّورة حينَها مَن هو الطرف الآخر (صاحب الغَلبة)، وحين تستمرُّ السورة في تلاوة نبَأِها تُخبر بالسياق ذاته أن الغلبة سوف تكون للروم في جولة قادمة؛ ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾، كذلك لم تخبر السورة هنا من هو الطرف الآخر الذي سيُغلَب. ومن خلال معرفتنا بحياة أولئك الذين عاشوا أيام تلك الأحداث، وهم الذين نزلَت هذه الآيات عليهم وبين ظهرانَيهم (النبيُّ العربي والذين آمَنوا به وصدَّقوه) نجد أنَّهم أخبَرونا أن الطرف الآخر الغائبَ عن الذِّكر كانت الفُرْس، التي كانت تقتسم العربَ أغلبَ شؤونهم، وهي معروفة لديهم أشدَّ المعرفة. مما سبق ندوِّن المعلومات التالية: 1- كان هناك طرَفَا احترابٍ أو صراع؛ هما الروم والفرس. 2- كان هناك طرَفَا غلَبةٍ مُتبادَلة، مصدرها قوَّة إحداهما في كلِّ جولةِ احتراب. 3- هناك طرَف متنازَعٌ عليه أو به، ذكَرَته الآياتُ للإشارة إليه، ولتوثيق وُجوده مِن قِبَل المؤمنين، ولم يَعلم به أيٌّ من طرَفي الاحتراب آنَذاك؛ الروم، أو الفرس، وهو ما أعلمَتْنا به العبارة من الآية: ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾. 4- في غياب العلم بأنَّ الأمر مِن قبلُ ومن بعدُ لله، فإذًا على ماذا كان يعتمد طرَفَا الاحتراب في تدبير شؤون الاحتراب والإعداد له، وغيره من الشُّؤون الحياتية الأخرى، خلال أيام الحرب وأيام السلم؟ فالاستعداد يعمُّ الدولة بكل مؤلفاتها ومكونات تشكيلاتها العمودية والأفقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، سيَّما وأنهما كانتا تشكِّلان في ذلك الزمان إمبراطوريَّتَين توسُّعيتَين قاهرتَين لشعوب أخرى، مختلفةٍ معهما في العِرْق والاعتقاد والاجتماع. إنَّ مصادر الميثلوجيا لكلا الأمَّتين تقول: إنهما كانا يعتمدان على (العقل) في ذلك اعتمادا اعتقاديًّا مقدَّسًا، وإن كان هذا الاعتقاد يأتي في غالب العصور السَّابقة واللاحقة بأسماءٍ متعددةٍ لا تختلف في مدلولاتِها الجوهرية أبدًا. 5- إن أبسط الاصطلاحات التي نستخدمها في تفسير معنى ﴿ غُلِبَتْ ﴾ و﴿ سَيَغْلِبُونَ ﴾ هو المصطلَح الملائم والمتوافق للاحتراب والصِّراع في استخدام القوَّة أولاً، و(الخدعة) أو (الحيلة) أو (الدهاء) أو (التدبير) ثانيًا، وهذه جلُّها من منظومة نشاطات العقل بكل مستوياتها. 6- كلمة ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ و﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ التي ذكرَتها الآيةُ تدلُّ على الزمن الغيبي؛ أي: في مفهوم الاعتقاد تتحوَّل مع تَنامي درجة التفكير بها، واقترانها مع نشاطات العقل إلى (دينٍ)؛ أي: نهج واعتقاد. 7- كل عقل في (نشاطه) يغور في الزمن الأول ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾؛ (الذَّاكرة، ومِن ثَم يصبح تاريخًا)، ويغور أيضًا في الزمن الثاني ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾، وهو يشمل عِلم الغيب، فمَن يستلب الضرورات في الاحتراب مثلاً (الخدعة- الحيلة- الدهاء- التدبير) بالإضافة إلى القوة، ومن دون أن يعرف ماهية الميل إن كان حقًّا له أم لا، دائمًا أم راهنًا؛ فإن كفَّة الغلَبة تميل إليه. 8- بإيجاز: سورة الروم المباركةُ ذكرَت كلمة الروم بالاسم خاصَّة للنبيِّ العربي والذين آمنوا به حينها؛ وذلك للسبب المباشر: أنها كانت أمَّة ذاتَ دين إلهي، ولها زمن ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ (دين النبيِّ عيسى عليه السلام) وقد غيَّبت وبدَّلت نشاطات اعتقادها عنه في كل مستويات حياتها اليوميَّة، واستبدلت به نَشاط العقل؛ بالاعتماد على القوة الماديَّة فقط، فأولت الزَّمن ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ إليها، وكان أمر الله هذا هو لله بعِلمه الغيبيِّ من دون أن تُدرك الروم ذلك، وأن الأمر معنيٌّ مباشرة باقترانه (فعلاً وعملاً) بالحياة اليومية بكل شؤونها ومَرافقها. وأما الأمة الأخرى (الفُرس) فلم تكن ذات دين إلهي، ولم يكن لها نبي مرسَل مِن قبل، ولكن الأمر لله من قبل حين تدبَّرَت الفرس أسباب الغلبة؛ باعتمادها على (النيروز)؛ النار التي يعبدونها، وكانت لهم دينًا واعتقادًا يستمدُّون منها التفكير بالزمن الماضي، فأوهمت بالنَّصر الراهن وكان ظلمًا وليس حقًّا، وهذا أمر الله ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾؛ ليكون استلهامًا لنشاطات عقل الأمة، الذاكرة والتاريخ ذات الدين الإلهي (الروم) القائم على الحق الدائم، وليس الراهن، وإعداد القوَّة للجولة القادمة، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 4، 5]. 9- مما سبق نجد المؤشرات التالية: أوَّلاً- أمَّة الفُرس: اتخذت عناصرَ غلبتها على الروم عناوينَ دائمة، وأصبحَت لها نهجًا، وظنَّت أنها قد امتلكت أسباب نصر دائم هو حق لها في التوسُّع والظلم في كل اتجاه، وبالتالي أبقَتْها، وأعدتها أركان قيامها واستمرار وجودها، وهي: • العقل (النيروز)- القوة- العِرْق (الفرس). وقد أطلَقت على هذه الأركان في الميثولوجيا الفارسية (الثالوث) الفارسي. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ابن المقفع والثالوث القديم د. أسعد بن أحمد السعود فأين بزرجمهر وأين كسرى معًا من هذا؟! وأين مَآلهم جميعًا بعد ظُهور دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأين ابنُ المقفَّع بعد كتابة كليلة ودمنة؟! تحديد طبيعة أو ماهية العقل: في كلِّ ما بُحث واستجدَّ في مسألة العقل في الفلسفة الوجودية وعلى مرِّ الأزمنة والدهور- قيل فيها: إنها جزءٌ لا يتجزَّأ من علم الفلسفة، واعتُبِرت فرعًا من فروعها الرئيسة، وهي تَنحو مَنحَيَين اثنين: الأول: 1- علاقة العقل بالأشياء الماديَّة من حوله؛ مثل الجسم والمحيط بهما. 2- مكونات العقل وأنشطته. الثاني: يَبحث في المفاهيم العقلية؛ مثل: المعرفة والإدراك، والتفكير والاعتقاد، والقرارات والإرادة، والرغبات والانفعالات، والأحاسيس والدوافع والأحلام... إلخ. وكثيرٌ هم الفلاسفة الذين تكلَّموا ووضَعوا نظرياتهم الفلسفيةَ بتفسير العقل، ولو ذكرنا بعض هؤلاء أو أشهَرهم؛ فإننا ننتهي إلى ضرورة ذِكر النظريات أيضًا؛ لأن النظرية إمَّا أن تُذكَر باسم قائلِها أو العكس؛ يُذكَر اسم الفيلسوف وأنه قائلُ النظرية. ولكن الذي يُهمُّنا هنا هو الاعتقاد أو تطبيق النَّظرية والأخذُ بها، ولا يَعني الاعتقادُ أو التطبيقُ أنَّ شخصًا ما آمَن بفكرةٍ وأخذ يكرِّر مفرداتها هنا وهناك، على غير هُدًى، ولكن الاعتقاد كما تَداولَته الأمم على امتداد التاريخ البشري هو الأخذ الصارم بالأفكار ونجاعة مَراميها، سيَّما وأن من يقوم بتطبيقها هم أهل الحُكْم وساسَتُه؛ ذلك لأنها تسهِّل لهم قيادةَ وتنظيمَ رعيَّتِهم، وتوجيهَهم بدقة بالغة. ولا يَغيب عن البال والذِّكر هنا أن مسألة تفسير العقل والجسد مسألةٌ وجودية مصيرية، تدخل في جدل حادٍّ مع الاعتقاد بالأديان والعبادات والإله، والمادة والروح؛ ولهذا كان حديثُنا أساسًا عن ذلك. وأهم آراء هذه النظريات هي الآتي: • الثنائية والأحادية: الأحادية: تؤمن بأنَّ العقل والجسد كيانٌ واحد، غير منفصل؛ أي: إنهما كيان وجوديٌّ واحد. الثنائية: تؤمن بأن العقل جوهر مستقلٌّ عن الجسد. وما بين الثنائية والأحادية كَثُرَت ألوانُ وأشكال التطبيقات المنهجية، ولكنَّ واحدةً منها فقط- أيًّا ما كان اسمُها- يستطيع أيُّ إنسان سواء كان عاميًّا أو متعلمًا من العوامِّ أو من الخاصة أن يستدلَّ على وجودها إن كانت مطبَّقة مشاهَدةً في منهجيَّات حياته، أم غائبة وغير مطبَّقة؛ وذلك إذا استطاع الانفرادَ مع فطرته الإنسانية بهدوءٍ تام، ومن دون رقيب سُلطَوي، تلك حالةٌ يَسهُل الوصول إليها، وغير غامضة أبدًا. وهذه المحاولة تسمَّى رغبة، والرغبة نابعةٌ من التفكير، والتفكير إحدى سِمات العقل، والعقل في الجسد، والجسد كائن ماديٌّ لإنسانٍ يعود له (يمتلك) كل ما في الجسد وكل ما في العقل، وهذا الإنسانُ مجموع، والمجموع يتَداولون الحياة، والحياة كيف؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟ وهنا يتوقَّفنا عُمرٌ ينتهي، وعمرٌ يبدأ، والتفكير والعقل لا يزالان كما هما، ولكنَّ الحاملَ الحاويَ لهما مرَّة يذهب، وأخرى يأتي، ومن حولهما وكلُّ ما في الحياة لا استقرار له ولا بقاء. • فهل العقل كُتلة ماديَّة؛ باعتباره جزءًا من الجسد، أو هو منفصلٌ مستقلٌّ عنه؟ • أم أن العقل شيءٌ معنوي غبر مادي، وبالتالي لا رابط له بالمادة؟ • ثم مَن يَخلق مَن؟ مَن الذي يُوجِد الآخَر؟ هل العقل يخلق الجسدَ (المادة)، أو الجسد (المادة) هو الذي يَخلق العقل؟ • القائل بأن الجسدَ المادَّةَ هو الذي يَخلق العقل، والعقل كما ذُكر في البداية (الحكمة والعفة والعدل)، وكل منها تشكل مندوحة لا حصر لها من الصفات والرغبات، يعني بكل بساطة أن الكون أو الأرض وما فيها، أو ما يحيط بالجسم من أشياء واحتياجات حسِّية مادية، هي التي تُنشئ أو تَخلق الحكمة والعفة والعدل في مَراحل التطور والتقدم؛ وبالتالي العقل! وهذه باختصار النظرية الفلسفية الماديَّة في نُشوء هذا الكون! • والقائل بأن العقل بالحكمة والعفة والعدل- بما يضم كل منهم من صفات ورغبات- هو الذي خلَق وأوجد المادَّة وتطوُّرَها وتقدمها (الكون والجسد والأرض، وما يحتاجه الإنسان من وسائل)، فالنظرية هنا تُسمَّى أو يطلق عليها: النظريَّة الروحية في نُشوء الكون! ونلاحظ أن هذه النَّظرية في عصرنا وأيامنا يطلق عليها: النظرية العَلمانية اللِّيبرالية؟ • إن النظرية العَلمانية، أو العلمانيَّة بشكلها العامِّ هي المكوِّن الأكبر والأساسي للفكر الفلسفيِّ للِّيبرالية، والتي بدَورها احتوَت وبلورَت جميعَ النظريات الفلسفية الوجودية في تفسير العقل والوجود، على مرِّ التاريخ، ومنها: (الهندية والفارسية والبوذية والرومانية القديمة)، وأيَّدَها في العصر الحديث مع بداية الثورة (التنوير) الصِّناعية أكثرُ آراء ومقولات فلاسفة العصر التنويري الحديث في أوربَّا والعالم، وكان مهندسُ قواعدها عالِمَ الرِّياضيات الفيلسوف (ديكارت) بمقولته المختصرة: (أنا أفكر، إذًا أنا موجود). • إن جوهر العلمانية في حكمِ وقيادة الدُّول والشعوب بنظامها الليبرالي هو إقصاءُ شريعة الدِّين نهائيًّا عن السُّلطة وحكمِ الناس، وجعلُه ممارسةً معزولة في حُدود حرِّية الفرد، غيرَ ذاتِ تأثير على حرية وحياة الآخرين، ومن هنا ومن هذا المفهوم أُلبِسَت الليبرالية في فكرها العلمانيِّ ثوبَ الديمقراطية بحرية الرأي والاعتقاد. ونتساءل عن ابن المقفَّع وكتابه: كيف كانت علاقته بما ذكرناه؟ من أجل ذلك يَجدر بنا أن نعود إلى الكتاب، ونبدأ بتتبُّع قول ابن المقفَّع: • فكَّر بيدبا الفيلسوف لما رأى الملك دبشليم ما هو عليه من السطوة والتجبُّر والتكبر وظلم الرَّعية؛ حيث استصغَر أمرَهم وأساء السِّيرة فيهم- فكر في (وجه الحيلة) في صَرفِه عما هو عليه، وردِّه إلى العدل والإنصاف. • ثم إن بيدبا دخل على الملك دبشليم، ووقَف بين يديه، (وكفَّر وسجد له)، واستوى قائمًا. • فقال بيدبا: (إني أسأل الله تعالى بقاءَ الملك على الأبد)، ودوامَ مُلكه على الأمد. • ويقول بيدبا للملك دبشليم: " كان الأولى بك أن تسلك سبيلَ أسلافك، وتتَّبِع آثار الملوك قبلك، وتقفوَ مَحاسن ما أبقَوْه لك، وتُقلِع عما عارُه لازمٌ لك، وشَينُه واقعٌ بك، وتُحسِن النظر برعيتك، وتَسُنُّ لهم سُنن الخير، الذي يَبقى بعدَك ذكرُه، ويُعقِبك الجميلَ فخرُه، ويكون ذلك أبقى على السلامة، وأدومَ على الاستقامة". ويتبع ابن المقفع (بيدبا) نصيحته للملك (دبشليم) في نفس المقام: "فإن الجاهل المغترَّ مَن استَعمل في أموره (البطَر والأمنية)، والحازم اللَّبيب مَن ساس الْمُلك بالمُداراة والرِّفق". وقبل أن ننتقل إلى توضيح السؤال السابق بالعلاقة، نتوقَّف عند (سلوك الملِك) التي هي (الدَّاء) ونصيحة الفيلسوف التي هي (الدَّواء). أولاً: سلوك الملك (الداء): وبيَّنها ابنُ المقفع بالتالي: السطوة، التجبُّر، ظلم الرعيَّة، وهذه الأمور تؤدِّي إلى غياب العدل والإنصاف. ثانيًا: النَّصيحة التي هي (الدواء): وبيَّنها ابن المقفع بالتالي: سلوك سبيل أسلافك، تتبُّع آثار الملوك قبلك، تقفوا محاسن ما أبقَوه لك، تقلع عمَّا عاره لازمٌ لك، وشَينه واقعٌ عليك. كل هذه مرحلةٌ أولى من الدواء، أما المرحلة الثانية، فهي: تُحسن النَّظر برعيتك، تَسنُّ لهم سنن الخير. وإن مرحَلَتَي تناول الدواء مُلخَّصها: بقاء السلامة، ودوام الاستقامة. إذًا هو الظلم وغياب العدل، ورفعُه يتم باتِّباع ضده؛ الإحسان والعفَّة، إذًا هي المساوئ وأضدادها المحاسن، وكلُّ هذه الأمور من نشاطات العقل، والعقل عند ابن المقفع (بيدبا) هو الدواء؛ لتحسين ظروف الرعية، ونشر العدل والمساواة؛ وذلك باتباع الملوك سننَ وآثارَ الملوك السابقين، ولا حاجة أبدًا إلى البَطر والأمنية (التعلُّل بالآمال). نلاحظ أنَّ ابن المقفع استخدم هذه ككلمةٍ فضفاضة (البطر والأمنية)، وتعليقنا عليها: أنه يَعتمد على ما يُملي عليه عقلُه- من خُططٍ وحيلٍ وأفكار فقط- لتغيير وتطوير الواقع، بدلاً من الاعتماد على المعتقَد الدينيِّ؛ ما هو مقدَّر بالغيب. فكَّر دبشليم الملكُ الظالم المتجبر مليًّا في حلِّ الفيلسوف، (وإلى هذه الساعة لم يتبيَّن الخبرَ اليقين؛ ماذا كان دين دبشليم؟ وما كانت آلهته التي يَعبدها؟ وماذا كان دينُ رعيَّته؟ وما الآلهة التي كانوا يعبدونها؟ وهل كان لكل طرَفٍ آلهةٌ تختلف عمَّا لدى الآخَر؟ وهل كان دبشليم يَجبر رعيته على عبادة آلهته التي كان يُفضِّلها، ويحرمهم من عبادة آلهتهم الخاصة بهم؟ إن هذا كان مبهَمًا تمامًا لنا). وإنَّ ما ساقه ابن المقفَّع في مطلع ذِكر مقابَلة الفيلسوف للملك عندما دخَل لمقابلته في المرَّة الأولى: الوصف التالي: "وكفَّر"؛ أي: انحنَى له، وكذلك: "وسجَد لهُ"، والسجود كان واضحًا بيِّنًا، وهاتان الحركتان كانَتا تقليدَيْن مشهورَين مُعتادَين عند الأقوام التي لا تَعرف عن الأديان السماويَّة شيئًا، وغالبًا ما يكون الملك عُرفًا هو الإلهَ أو نائبًا عنه، الذي تسجد له رعيته. ثم إن ابن المقفع أردَف بنفس المقابلة العتيدة للملك قائلاً: أول ما أقول: إني أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد؟! فكيف جمَع الضِّدَّين معًا (الحركة- السجود) و(سؤال الله تعالى)؟! (أين الله هنا)؟! ونسأل هنا مرَّة أخرى سؤالاً؛ لعلَّ ابن المقفع يجيب عليه، ولكنه لم يتطرَّق إليه في الكتاب (كليلة ودمنة) أبدًا: إنَّ مِن أشكال الظلم البائن والقاهر للرعية أن يَسجدوا للحاكم الظالم المتجبِّر، فهل تخلَّى الملك دبشليم عن هذ العار اللازم له؟ أي: تخلَّى عن ادعائه الألوهية، وطلبَ مِن رعيته ألاَّ تسجد له عند مقابلته؟ إنَّ هذا كان مبهمًا غائبًا من الكتاب كلِّه. يتبع
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |