|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() مذكرات في علوم التفسير (1) الشيخ طه محمد الساكت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد، فهذه مذكرات في علوم التفسير، أمليتُها على طلبة الصف الرابع لمدرسة دار التوحيد السعودية، راجيًا من الله تعالى أن يكتب لها النفع والقبول؛ إنه أعظم مسؤول، وأكرم مأمول. بيان معنى التفسير لغة واصطلاحًا 27 /1 /1369هـ التفسير لغة: مصدر فَسَّر؛ أي: بَيَّن ووضَّح؛ يقال: فسَّره تفسيرًا؛ أي: بيَّنه وكشفه، مأخوذ من الفَسْر، وهو البيان والكشف، وأكثر استعمال الفَسْر لإظهار المعنى المعقول. واصطلاحًا: علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن العظيم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. أقسام التفسير ينقسم التفسير إلى ثلاثة أقسام: 1- تفسير بالرواية. 2- وتفسير بالدراية. 3- وتفسير بالإشارة. فالأول: هو التفسير بالمأثور، والثاني: هو التأويل أو التفسير بالرأي، والثالث: هو التفسير الإشاري. الكلام على القسم الأول، وهو التفسير بالمأثور: التفسير بالمأثور: هو بيان معنى القرآن الكريم بما ورد في القرآن أو صح وروده في السنة النبوية؛ فإن في القرآن الكريم آيات مفسِّرة للأخرى، كما أن في السنة النبوية كثيرًا مما يُبيِّن بعضَ آياته، وكذلك ما صح وروده عن الصحابة؛ فإنهم أدرى به؛ لِما شاهدوه من القرائن عند نزوله، ولما اختصُّوا به من الفهم التام والعمل الصالح، وقد بيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ ولذلك كانوا يقيمون في حفظ القرآن مدة طويلة، وقد ورد أن ابن عمر أقام على حفظ البقرة ثمان سنين؛ ولهذا أطلق بعضهم القول بأن تفسير الصحابي الذي شاهَد الوحي له حكم المرفوع؛ أي: فكأنه راوٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيَّد ذلك بعضهم بما إذا كان ذلك في بيان سبب النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه، وإلا كان من الموقوف عليه؛ قال السيوطي في ألفيته: وهكذا تفسير من قد صَحِبا ![]() في سبب النزول أو رأيًا أبَى ![]() وعَمَّم الحاكم في المستدرَكِ ![]() وخَصَّ في خلافه كما حُكي ![]() وأما المنقول عن التابعين، ففيه خلاف: • بعضهم عدَّه من المأثور؛ لأن الغالب تلقيه عن الصحابة. • وبعضهم عده من التأويل؛ نظرًا لكثرة اختلافهم أكثر من الصحابة. وعلى هذا؛ فمرجع التفسير بالمأثور إلى ثلاثة مصادر: 1- القرآن الكريم. 2- السنة النبوية. 3- أقوال الصحابة. مثال تفسير القرآن بالقرآن: • قوله تعالى: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 37]، فسَّره قولُه: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]. • وقوله: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [الأنعام: 103]، فسَّره قوله: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]؛ أي: لا تحيط به. • وقوله تعالى: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 1]، فسَّره قوله: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ﴾ الآية [المائدة: 3]. • وقوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40]: قيل: "عهده" فُسِّر بقوله تعالى: ﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ [المائدة: 12]. وفُسِّر "عهدهم" بقوله: ﴿ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [المائدة: 12]. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة لذلك. ومثال تفسير القرآن بالسنة الصحيحة: • تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الظلم الوارد في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82] بالشرك. • وتفسير الحساب اليسير الوارد في قوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]بالعَرْض. • وتفسير القوة في قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60] بالرمي. • ومن ذلك ما ذكر في البخاري في كتاب التفسير، وفي غير البخاري من كتب السنة الصحيحة، وهو كثير أيضًا. ومثال تفسير القرآن بأقوال الصحابة الثابتة عنهم: ما صح من رواية ابن عباس وغيره من الصحابة مما هو منتشر في كتب التفسير بالأسانيد الصحيحة، وأهمها تفسير ابن جرير الطبري كما سيأتي. ولنذكر من اشتهر بالتفسير من الصحابة ثم من التابعين، فنقول: المفسرون من الصحابة اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين. أما الثلاثة الأول الخلفاء، فالرواية عنهم قليلة جدًّا؛ وذلك بسبب تقدُّم وفاتهم واشتغالهم بمهام الخلافة والفتوحات وترتيب الجيوش؛ ولذلك كان المروي عنهم في التفسير قليلًا، حتى إن المروي عن أبي بكر مما صح لا يكاد يبلغ من الآثار عشرةً. وأما الرابع من الخلفاء - وهو علي رضي الله عنه - فالرواية عنه كثيرة؛ وذلك بسبب تفرُّغه عن مهام الخلافة مدة طويلة إلى ما بعد الخلفاء الثلاثة، وتأخُّر وفاته عنهم، وتصدُّره في الفتيا والقضاء. وأما الثلاثة الذين بعدهم - وهم عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وأبي بن كعب - فهم أيضًا من المُكْثِرين في التفسير؛ فيكون المكثرون في التفسير أربعة، وهم هؤلاء الثلاثة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وأما زيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبدالله بن الزبير، فهم - مع شهرتهم في التفسير - أقل من الأربعة قبلهم؛ ولذا نقتصر على ترجمة الأربعة المكثرين فنقول: ♦ عبدالله بن عباس: هو حبر الأمة وفقيهها وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((اللهم فقِّههُ في الدين، وعلِّمه التأويل))، وقال ابن مسعود رضي الله عنه في الثناء عليه: "نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس"، وقال عمر في مدحه: "إن له لسانًا سَؤُولًا، وقلبًا عقولًا". ومما يدل على فضله ورفعة منزلته ما أخرجه البخاري عنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنَّ بعضهم وجد في نفسه وقالوا: "لِمَ يدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟!"، فقال عمر: "إنه مَن قد عَلمتم"، فدعاهم ذات يوم فأدخَلَني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذٍ إلَّا ليريهم، فقال: "ما تقولون في قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1]؟ فقال بعضهم: "أمرنا أنْ نحمدَ الله ونستغفرَه إذا نُصرنا وفتح علينا"، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال عمر: "فكذلك تقول يا بن عباس؟"، فقلت: "لا"، فقال: "ما تقول؟"، قلتُ: "هو أَجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه له، فقال: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾، فذلك علامة أجلك، ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]"، فقال عمر: "لا أعلمُ منها إلا ما تقول". وقد ورد مما يدل على فضله وتبحُّره في فهم القرآن آثار كثيرة وأخبار مشهورة. وكان من أسباب نبوغه وقوة ذاكرته أمور: أولها: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وملازمة ابن عباس للنبي صلى الله عليه وسلم من عهد التمييز. ثانيها:نشأته في مهد النبوة، وملازمته لكبار الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وتعرفه منهم مواطن نزول القرآن، وتواريخ التشريع، وأسباب النزول، وغير ذلك. ثالثها: حفظه للغة العربية، ومعرفته آدابها وخصائصها وأساليبها؛ حتى إنه كان كثيرًا ما يستشهد للمعنى الذي يريده من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من كلام العرب. رابعها: بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرُّجه منه، والإقدام على تقرير ما أداه إليه اجتهاده؛ فقد كان شجاعًا في بيان ما يعتقد أنه حق، ويجهر به أين ما كان. هذه أهم أسباب ذيوع صيته وغزارة علمه، يضاف إلى ذلك: قريحته الوقادة، ورأيه الصائب، وعقله الراجح، ودينه المتين، فرضي الله عنه وأرضاه. الرواية عن ابن عباس واختلاف الآراء فيها: ورد عن ابن عباس في التفسير آراء كثيرة، وروايات متعددة، وطرق مختلفة، وهذه الروايات متفاوتة في الصحة والضعف؛ لذا تتبع العلماء سلسلة الرواة عنه تعديلًا وتجريحًا، وإليك أشهر الطرق عن ابن عباس: 1- طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عن ابن عباس: وهذه الرواية أصحُّ ما روي عن ابن عباس وأجودُه. قال فيها الإمام أحمد: "إن بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل لها إلى مصر قاصدًا، ما كان كثيرًا". وقال فيها ابن حجر: "وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرًا فيما يعلِّقه عن ابن عباس، وكفى بتوثيق البخاري لها شاهدًا على الصحة، وإن قال بعضهم: إن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس وإنما أخذ عن مجاهد أو سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ لأن كلًّا من المذكورين ثقة؛ فلا ضير في كونه واسطة بين ابن أبي طلحة وبين ابن عباس". 2- رواية ابن جريج عن ابن عباس: جمع فيها الصحيح والضعيف، فلم يتميز في روايته الصحيح من غيره. وقد روى عن ابن جريج جماعة كثيرون، منهم محمد بن ثور عن ابن جريج عن ابن عباس؛ روى نحو ثلاثة أجزاء كبار. 3- الضحاك بن المزاحم عن ابن عباس: وطريقه منقطعة. 4- العَوْفي عن ابن عباس: وهي طريق ضعيفة. وبالجملة؛ فالذي قاله العلماء النقادون لرواية ابن عباس: إن طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - من أجود الطرق، وقد اعتمد عليها البخاري؛ وكفى به شاهدًا. ورواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس غير مرْضية. ورواية ابن جريج تحتاج إلى بحث وتدقيق؛ لأنه جمع ما ذكر في كل آية عن ابن عباس من الصحيح والسقيم، ولم يتحرَّ الصحة. ورواية الكلبي عن أبي صالح: أوهى طرقه، وإن ضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير، فهي سلسلة الكذب. ♦ عبدالله بن مسعود: هو عبدالله بن مسعود الهُذَلِيُّ، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم قديمًا وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه، وحدَّث بالكثير عنه، وكان يقول: "أخذتُ من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة"؛ أخرجه البخاري. وهو أول من جهر بالقرآن بمكة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما نزل، فليقرأه على قراءة ابن أمِّ عبد))؛ ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "الإصابة"، وذكر السيوطي في "الإتقان" أنه ورد عن ابن مسعود أنه قال: "والله الذي لا إله غيره، ما نَزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلمُ مكان أحد أعلمَ بكتاب الله مني تناله المطايا، لأتيتُه"، وقد روي عنه في التفسير أكثر من علي، وروي أنهم قالوا لعلي: "أخبِرْنا عن ابن مسعود"، قال: "عَلِمَ القرآنَ والسنةَ ثم انتهى، وكفى بذلك علمًا". روى عنه أبو صالح كما روى عنه التابعون من أهل الكوفة، ووردت أسانيد كثيرة تنتهي إليه، وهي موجودة في كتب التفسير بالمأثور وفي كتب الحديث، وقد تتبعها العلماء كما تتبعوا غيرها من الروايات بالنقد تعديلًا وتجريحًا. مات ابن مسعود بالمدينة سنة 32هـ، وقيل: مات سنة 30هـ، وقيل: مات بالكوفة، والأول أثبت. ♦ علي بن أبي طالب: هو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي؛ رابع الخلفاء، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتمع معه صلى الله عليه وسلم في جده، وهو صهره وزوج السيدة فاطمة رضي الله عنها، وذريته صلى الله عليه وسلم منهما، كان بحرًا في العلم، وحجة في الفهم والاستنباط، كثيرًا ما كان يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي، واستجلاء ما أشكل؛ حتى اشتهر: "قضية ولا أبا حسن لها"، وقضاؤه بالعدل معروف، فوق ما كان متصفًا به من الشجاعة في الحق، ونصرة الدين، والإعراض عن الدنيا وزخرفها؛ فكيف وقد تربى في مهد النبوة، ونهل منها الحكم الغالية، والأسرار النافعة، وعمَّته مشكاة أنوارها؟ فكان من أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل، وقد ورد عن ابن عباس أنه قال: "ما أخذتُ من تفسير القرآن، فعن علي بن أبي طالب"؛ فهو صدر المفسرين والمؤيد فيهم، إلا أنه - لأسباب سيأتي بيانها - قد أكثر الناس من الدس عليه في الرواية؛ ترويجًا لمذاهبهم الباطلة؛ لذا أخذ الحذاق من النقاد في بحث تلك الروايات، واعتماد ما صح منها وتزييف غيرها، واستشهد علي رضي الله عنه في اليوم السابع عشر (17) من رمضان سنة (40) من الهجرة. ♦ أبي بن كعب: هو أبو المنذر أُبَيُّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي المدني، سيد القراء وأحد كتاب الوحي، شهد بدرًا، وقد ورد في مدحه أنَّ أقرأَهم لكتاب الله عز وجل أُبي بن كعب. ورد عنه في التفسير نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب، وهذا الإسناد صحيح، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من تلك النسخة كثيرًا، وكذا أخرج الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده. توفي أبي بن كعب سنة عشرين، أو اثنتين وعشرين، أو ثلاثين. هذا، وإنما نقتصر على ترجمة هؤلاء الأصحاب الأربعة؛ لشهرتهم وكثرة الرواية عنهم. وقد ورد عن غيرهم من الصحابة اليسير، كأنس وأبي هريرة وابن عمر وجابر، كما ورد عن عبدالله بن عمرو بن العاص أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة، وهذه تشبه أن تكون مما تحمَّله عن أهل الكتاب. المفسرون من التابعين: اشتهر بعد عصر الصحابة من التابعين مفسرون كثيرون انتشروا في الأمصار، فمنهم مَن كان بمكة، ومنهم مَن كان بالمدينة، ومنهم مَن كان بالعراق. قال ابن تيمية: "أعلمُ الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم، وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبدالرحمن بن زيد، ومالك بن أنس" اهـ. فهؤلاء قدماء المفسرين، وغالب أقوالهم تلقوها عن الصحابة، وهم بذلك قد بلغوا شأوًا عظيمًا في فهم كتاب الله تعالى. ثم حمل تفسيرَ كتاب الله تعالى عُدُولُ كل خَلَف، وقد ورد: ((يحمل هذا العلم مِن كل خَلَفٍ عُدولُه، ينفُون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبطِلين، وتأويل الجاهلين)). ♦ تدوين التفسير بالمأثور، وخصائص الكتب المؤلَّفة في ذلك: بعد طبقات التابعين الذين تلقوا أقوالهم عن الصحابة، أُلفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبدالرزاق، وآدم بن أبي إياس، وإسحاق بن راهويه، وروح بن عُبادة، وعبد بن حُمَيْد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن أبي طلحة، والبخاري وغيرهم. وبعد هذه الطبقة: ألف ابن جرير الطبري كتابه، وهو من أجل التفاسير قدرًا وأعظمها شأنًا، ثم ابن أبي حاتم وابن ماجه والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ بن حيان وابن المنذر وغيرهم. وهؤلاء جميعًا ومَن قَبلهم كانت تفاسيرهم مسنَدة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، ما عدا ابن جرير؛ فإنه زاد توجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وذِكْر الإعراب والاستنباط.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() مذكرات في علوم التفسير (2) الشيخ طه محمد الساكت التعريف بابن جرير الطبري وتفسيره: • هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، أحد علماء القرن الثالث الهجري، ولد 224هـ وتوفي سنة 310هـ، كان من القناعة والزهد بالمحل الأعظم، وهو رأس المفسرين على الإطلاق؛ جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله تعالى، بصيرًا بالمعاني، عالمًا بالسنن وطرقها: صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عالمًا بأحوال الصحابة والتابعين. • وتفسيره من أجَلِّ التفاسير بالمأثور؛ أسنَده إلى الصحابة والتابعين، ووَجَّه الأقوال ورَجَّح بعضها على بعض، وذكر فيه كثيرًا من وجوه الإعراب واستنباط الأحكام. • أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلَّف في التفسير مثله. • قال النووي في "التهذيب": "كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنِّف أحد مثله". وقال الشيخ أبو حامد الإسفرايني شيخ الشافعية: "لو رحل أحد إلى الصين حتى يُحصِّل تفسير ابن جرير، لم يكن ذلك كثيرًا". وبالجملة، فإنه جَمَع أشتات التفاسير، وقَرَّب البعيد منها، وشَفى في الإسناد. كتاب "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" للسيوطي: قال في مقدمته أنه لخَّصه من كتابه "ترجمان القرآن"، وهو التفسير المُسنَد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر في كتابه "الإتقان" أنه شرع في تفسير جامعٍ لجميع ما يُحتاج إليه، مِن التفاسير المنقولة، والأقوال المعقولة، والاستنباط والإشارات، والأعاريب واللغات، ونكت البلاغة ومحاسن البدائع، وسماه "مجمع البحرين ومطلع البدرين"، وذكر أنه جَعل كتاب "الإتقان" مقدمة له، وذكر في خاتمة كتاب "الإتقان" نبذة صالحة من التفسير بالمأثور الذي ورد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ابتدأ بفاتحة الكتاب، ثم بالبقرة وهكذا، ذاكرًا في كل سورة ما ورد. تفسير البغوي: البغوي: هو الحسين بن مسعود البغوي، الفقيه الشافعي الملقب بـ"محيي السنة وركن الدولة". كان إمامًا في التفسير والحديث، وله التصانيف المفيدة، منها: "معالم التنزيل"، وهو من أجَلِّ التفاسير بالمأثور. "أسباب النزول" للواحدي: جزء متوسط، اقتصر فيه مؤلفه على بيان أسباب النزول بالمأثور، وهذا النوع من التفسير لا مجال للتأويل فيه. "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس: هو كتاب جليل، تكلم فيه على بيان الناسخ والمنسوخ، وذكر أقوال العلماء مسنَدة، وقد استوعب فيه جميع ما قيل فيه بالنسخ من الآيات ولو لم يكن عنده صحيحًا. وهذا القدر - كما تقدم - لا يُعلم إلا من طريق الرواية، ولا مجال للرأي والتأويل فيه. طُرُق المفسرين بعد اختصار الأسانيد: بعد عصر الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ممن ألفوا في التفسير بالمأثور، ملتزمين حكاية الأسانيد كابن جرير وغيره، ألف قوم آخرون اختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال من غير أن ينسبوها لقائليها؛ والتبس بذلك الصحيح وغيره، وصار الناظر في كتبهم يظن أنها كلها صحيحة مع أنها ليست كذلك. وكثير من المفسرين أخَذ في نقل الإسرائيليات على أنها حقائق مقرَّرة، ويذكر القصص على أنها صحيحة ولو كانت منافية لعصمة الأنبياء، ولو تأملوا قليلًا في مخالفتها للأدلة العقلية، لنَزَّهوا كتبهم عنها، أو على الأقل لنبَّهوا على وضعها بعد حكايتها. ومن هنا، فُتِحَ بابٌ كبيرُ الضرر من أبواب الطعن لولا ما يقوم به العلماء في كل عصر من الذَّود عن الحقيقة. ومثاله: ما أَوْردوه مما يزينون به تفاسيرهم؛ كقصة أيوب وداود، وما قالوه في بدء الخليقة والزلازل ويأجوج ومأجوج، وما قالوه في ظواهر الكون كبرودة الماء في الآبار صيفًا وحرارته شتاءً، مما لا يطابق الحقائق العلمية الثابتة، ولم يكن له أصل إلا روايات خيالية نقلوها عن حُسن نية، وليتهم إذ فعلوا ذلك نبَّهوا على أصل وضعه. وقد عُنِيَ بعضهم بذكر شتات الأقوال، حتى إنه ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7] نحو عشرة أقوال، مع أنَّ الوارد الصحيح تفسيرُه باليهود والنصارى؛ ولكنه الولع بكثرة الأقوال أوقع في الحيرة. واعلم أنه قد صنَّف في التفسير خلائق كثيرون، اقتصر كل منهم على الفن الذي برع فيه. فصاحب العلوم العقلية عني بأقوال الحكماء والفلاسفة وشُبَههم والرد عليهم، كالفخر الرازي في تفسيره الكبير المسمى بـ"مفاتيح الغيب". وصاحب الفقه كانت عنايته شديدةً بتقرير الأدلة للفروع الفقهية، والرد على أدلة المخالفين، وذلك كالقرطبي في تفسير "الجامع لأحكام القرآن". وصاحب النحو كان اهتمامه شديدًا بالإعراب ووجوه وقواعد النحو وفروعه، وذلك مثل الواحدي في "البسيط"، وأبي حيان في "البحر المحيط". وأصحاب المذاهب الفاسدة والآراء المبتدعة قصدوا إلى تأويل القرآن طبق مذاهبهم وبدعهم. والأخباريون وأصحاب التواريخ قصدوا استيفاء القصص والأخبار عمَّن سلف، ونقلوا في ذلك كل ما ورد، سواء كان صحيحًا أو فاسدًا. والإشاريون وأرباب التصوف قصدوا ناحية الترغيب والترهيب والزهد والقناعة والرضا، وفسروا القرآن بما يطابق أذواقهم ومشاربهم. وبالجملة، فإن صاحب كل فنٍّ تكلَّمَ في التفسير بما يوافق فنَّه ولو كان بمعزل عن التفسير وعن الغرض الذي من أجله نزل القرآن. ولقد غالى بعض العلماء، فحاول أن يجعل القرآن الكريم مشتملًا على جميع الفنون والعلوم؛ فحَمَّلوه من التأويل ما لم ينزل الله به من سلطان، وتعسَّفوا في ذلك حتى جعلوه مشتملًا على علوم الطبيعة والكيمياء والرياضة وتقويم البلدان والتاريخ، وهلم جرًّا مما أملاه عليهم خيالهم، فإن كان غرضهم اشتماله على قواعد العلوم كلها، فذلك غير ظاهر، وإن كان الغرض ذكر بعض المسائل العلمية المختلفة مما هو مفيد في مواطن العظة والاعتبار، فذلك ما لا خلاف فيه، ولا يحتاج إلى تعسف؛ لأن القرآن الكريم ما نزل إلا للهداية وما يتعلق بها، لا ليكون كتاب فلسفة وتشريح؛ وإنما يذكر فيه ما يتعلق بالكائنات على اختلافها للعبرة والعظة والهداية فحسب، وذلك من آيات إعجازه، وهذا لا ينافي أن العلوم الشرعية جميعها مستنبَطة من القرآن الكريم، وبها كان للقرآن العظيم الفضل الأول على العلماء وتمت به الهداية؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تنبه إلى الغرض المقصود من إنزال القرآن، وهو الموعظة والهداية. نعم، إن معرفة العلوم العربية وقواعدها وعلوم أصول الدين والفقه مما يساعد كثيرًا على فهم بعض الآيات ويبين المراد؛ فالمفسر في حاجة إليها لتكون عونًا له على فهم الغرض المقصود من القرآن، لا لتكون هي المقصود الأول كما فعله بعض من المفسرين. طبقات المفسرين: طبقات المفسرين أربعة: الطبقة الأولى: المفسرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم. الطبقة الثانية: المفسرون من المحدِّثين؛ وهم الذين صنفوا التفاسير مسنَدة، مورِدين فيها أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد، كابن جرير الطبري. الطبقة الثالثة: المفسرون من أهل السنة؛ وهم الذين ضموا إلى التفسير التأويلَ، وحذفوا الأسانيد، وتكلموا على معاني القرآن وأحكامه وغير ذلك، وهو الذي به الاعتناء في هذا الزمن. الطبقة الرابعة: من أهل البدع والأهواء؛ كالمعتزلة والشيعة وأضرابهم. والذي يستحق أن يسمى مفسرًا مِن هذه الأربعة هما الطبقتان: الأولى والثانية. وأما الطبقة الثالثة، فالجدير بأصحابها أن يسموا مؤوِّلين لا مفسرين؛ ولذا كانت كتبهم في الغالب بالتأويل. وأما الطبقة الرابعة، فهم متكلمون في القرآن بالرأي المذموم، ومن أشهرهم: الرماني والجبائي والقاضي عبدالجبار والزمخشري، وكثير لا يعد الزمخشري منهم؛ لأن كتابه وإن كان فيه مناحٍ من الاعتزال إلا أنه لا يخلو من فوائد مهمة. ومن هذه الطبقة مفسرو الشيعة والباطنية. وأما الذين تكلموا في القرآن من جهة العلوم، فهم من أهل الطبقة الثالثة أيضًا؛ لأن كتبهم لا تخلو من تفسير وتأويل، وإن كان الغالب عليهم ناحية من العلوم التي تكلموا فيها. الضعف في رواية التفسير بالمأثور وأسباب ذلك: قد كثرت الروايات الضعيفة في التفسير بالمأثور، وقد علمتَ فيما سبق أن كثرة الرواة عن ابن عباس لفتت أنظار النقاد إلى البحث والتمحيص والنقد والتعديل والتجريح، حتى ورد عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه لم يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أكثر من مائة أثر في التفسير، بل قد وُضعت روايات كثيرة نُسبت إلى ابن عباس وغيره من الصحابة، غير أن ما نسب منها إلى ابن عباس وعلي رضي الله عنهما - أكثر مما نسب إلى غيرهما. وأسباب ذلك: 1- أن نسبة الرواية إلى أحد الصحابة تُوجب مِن الثقة والقبول ما لا يحصل إذا نسبت إلى غيره، وبخاصة إذا نسبت إلى عليٍّ وابن عباس؛ لكونهما من بيت النبوة. 2- المذاهب الدينية والسياسية كانت من أهم الأسباب في وضع التفسير؛ فالشيعة كانوا ينسبون إلى علي رضي الله عنه من الروايات ما هو منه بريء، والمتزلِّفون إلى الخلفاء العباسيين كانوا يتقربون بكثرة المروي عن جدهم عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، وكلما ذُكرت آية ذكروا له فيها رواية. 3- كثرة الرواية عن أهل الكتاب الذين أسلموا وقد بقي في أذهانهم من الأخبار ما لا تعلُّق له بالأحكام الشرعية؛ كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وأسباب الكائنات، وكثير من القصص، فقد تساهَل الناس في النقل عنهم ولم يقصدوا إلى التحري، وبخاصة فيما لا يترتب عليه استنباط أحكام شرعية، وأكثر من رُوي عنه من أهل الكتاب الذين أسلموا: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام. وقد شُرح التفسير بهذه الروايات الإسرائيلية وكثرت الأقوال وتضاربت الآراء، حتى قام المحققون من العلماء فتحروا الصحة وزَيَّفوا ما لا يستند على نقل صحيح. 4- حذف الأسانيد بعد عصر التابعين ونقل الأقوال من غير نسبتها إلى قائليها؛ وبذلك الْتبس الصحيح بالعليل، وصار كل من يسنح له قول يورده، وما يخطر بباله يعتمده، فمَن جاء بعده نَقَل عنه؛ ظانًّا أن له أصلًا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومَن يرجع إليهم في التفسير. التفسير بالرأي والاختلاف في جوازه: الرأي: يطلق على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس. ومنه: أصحاب الرأي؛ أي: أصحاب القياس. والتفسير بالرأي: هو تفسير القرآن بالاجتهاد، بعد معرفة المفسر كلام العرب وأساليبهم في القول، ومعرفته بالألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي، ووقوفه على أسباب النزول، ونحو ذلك. وقد اختلف العلماء في التفسير بالرأي؛ فقال بعضهم: إن التفسير بالرأي غير جائز، وقال آخرون: إنه جائز. استدل المانعون بأدلة: 1- أن التفسير بالرأي قولٌ على الله بغير علم، والقول على الله بغير علم لا يجوز؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]. وأجيب عن هذا الاستدلال: بأن المفسر بالرأي لا يقول على الله بغير علم، بل هو يعتمد على ما يعطيه ظاهر القرآن استنادًا إلى أساليب اللغة. 2- روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اتقوا الحديث عليَّ إلا ما علمتم، فمَن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار)). وأخرج أبو داود عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ)). وأجيب عن حديث ابن عباس بما يأتي: أ- أنه محمول على مَن قال برأيه في مُشْكل القرآن ومتشابهه ونحوه مما لا يُعلَم إلا من طريق النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، وهذا متعرِّض لسخط الله؛ لاجترائه على ما لا يُعلَم إلا من قِبَل رسوله. ب- أنه محمول على مَن قال في القرآن قولًا وهو يعلم أن الحق غيره، بل أن يكون له في الشيء رأي وإليه مَيْل مِن طَبْعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق هواه؛ ليحتج به على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى، لَما لاح له المعنى الذي حَمل القرآن عليه[1]. أو: هو يجهل الحق، فيحمل الآية - إذ كانت محتملة لأكثر من وجه - على ما يوافق غرضه، ثم يرجح - برأيه وهواه - ذلك الوجه، ولولا رأيُه لما ترجح عنده ذلك الوجه[2]. ومِثلُ مَن يعلم أن الحق خلاف قوله، ومن يجهل الحق ولكن يرجح برأيه الذي يوافق غرضه - من له غرض صحيح، فيطلب له دليلًا من القرآن يعلم أنه ليس مقصودًا به ما أراد، كالداعي إلى مجاهدة النفس فيقول: المراد بقوله تعالى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [النازعات: 17] - المراد به النفس، فهذا أيضًا قائل في القرآن برأيه[3]. ج- أن حديث ابن عباس محمول على من يقول في القرآن بظاهر العربية، مِن غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن، وما فيه من الألفاظ المبهمة، والاختصار والحذف والإضمار، والتقديم والتأخير؛ إذ النقل لا بد منه في التفسير أولًا لاجتناب مواضع الغلط، وبعد ذلك يكون التوسع في الفهم والاستنباط، فالنظر إلى ظاهر العربية وحده غير كافٍ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ﴾ [الإسراء: 59]، فإن معناه: وآتينا ثمود الناقة آية مبصرة: بينة واضحة على صدق صالح عليه السلام، فظلموا بقتلها أنفسهم أو فجحدوا. ولكن الناظر إلى ظاهر العربية يظن أن ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ حال من الناقة، وهي وصف لها في المعنى، ولا يدري بمَ ظلموا؟ وهل ظلموا غيرهم أو أنفسهم؟ وإذا صح حمْل الحديث على أحد هذه الأوجه، لا يصح دليلًا للقائلين بالمنع. هذا، وقد أُجيبَ عن حديث جندب بأنه لم تثبُت صحته، وعلى فرض ثبوتها، فيُجاب عنه بنحو ما أجيب به عن حديث ابن عباس. [1] وهذا قد أخطأ في رأيه، وأخطأ في حمل الآية عليه. [2] وهذا قد أخطأ في قصر الآية على أحد احتمالاتها. [3] وهذا قد أخطأ في التطبيق.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() مذكرات في علوم التفسير (3) الشيخ طه محمد الساكت 3- ما ورد عن الصحابة والتابعين مِن الآثار التي تدل على أنهم كانوا يتحرَّجون عن القول في القرآن بآرائهم؛ ومِن ذلك ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "أيُّ أرض تُقِلُّني، وأي سماء تُظلني، إذا قلتُ في القرآن برأيي أو بما لا أعلم؟". ورُوي عن سعيد بن المسيَّب أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن قال: "أنا لا أقول في القرآن شيئًا"، وكان إذا سُئل عن الحلال والحرام تكلم. وروي عن الشَّعبي أنه قال: "ثلاثٌ لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرؤى". وغير ذلك من الأخبار التي تدل على أن القول في القرآن بالرأي ممنوع. وأجيب عن هذه الآثار: بأن إحجام مَن ذكرنا عن القول في القرآن - كان حذرًا وخوفًا أن يخطئوا أو يُتَّخَذوا أئمةً في هذا الشأن، وليس ذلك لأن تأويل القرآن محجوب عن علماء الأمة. على أنه قد ورد عنهم أيضًا ما يفيد أنهم تكلموا في القرآن باجتهادهم وآرائهم؛ فقد ورد عن أبي بكر أنه سُئل عن "الكلالة" المذكورة في القرآن، فقال: "أقولُ فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان غير صواب فمني ومن الشيطان: الكلالةُ كذا وكذا". وكان جملةٌ من السلف كثيرٌ عددهم يفسِّرون القرآن، وأولُهم الصحابة رضي الله عنهم، فقد فسَّروا القرآن واختلفوا فيه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، فدل ذلك على أن مَن كان يتورع منهم كانوا يخشون الخطأ، وكان بعضهم يخشى أن يُتَّخَذ إمامًا يُبنى على مذهبه ويُتَّبع طريقُه، فلعل متأخرًا عنه يفسر القرآن ويخطئ ويقول: "إمامي في التفسير بالرأي فلان من السلف"؛ هذا هو السر في إحجامهم عن التفسير. أدلة المجوزين: استدل القائلون بجواز التفسير بالرأي بما تقدم من تفسير السلف وبما يأتي: 1- الدليل الأول: القرآن؛ وهو قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 27، 28]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]. وجه الدلالة من هذه الآيات: أنه تعالى حث على تدبُّر القرآن وفهمه والاعتبار بآياته والاتعاظ بعظاته، وذلك يدل على أن المكلَّفين ملزمون بتأويل ما لم يستأثر الله بعلمه، وإلَّا لكانوا مُلزَمين بالاعتبار والاتعاظ بما لا يفهمون؛ فالتدبر والاتعاظ متوقِّف على الفهم والفقه. وفي قوله تعالى: ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83] دليل على أن هناك علمًا يستنبطه العلماء؛ أي: يستخرجونه بالفهم ودقة النظر. 2- الدليل الثاني: من السنة؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقههُ في الدين، وعلِّمْه التأويل))، فلو كان التأويل قاصرًا على السماع والنقل كالتنزيل، لمَا كان هنا فائدة لتخصيصه؛ فدل على أن التأويل خلاف النقل، وهو التفسير بالاجتهاد وحُسن الاستنباط. 3- الدليل الثالث: لو لم يَجُز التفسير بالرأي - أي: الاجتهاد - لتعطل أكثر الأحكام، وذلك باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تفسير كل آية، بل المنقولُ عنه في ذلك قليل جدًّا. 4- الدليل الرابع: أنه لو لم يَجُز، لكان النظر في القرآن والتدبر في آياته والاتعاظ بعظاته ممنوعًا؛ لتوقُّف ذلك على الفهم كما سبق، ولو كان كذلك، لمَا كان الاجتهاد جائزًا، وهذا منافٍ لما تقرر مِن أنَّ المجتهد مأجور - أصاب أو أخطأ - ما دام غرضُه الحق ومعرفة الصواب. ♦ بيان الصواب في هذه المسألة: الحق أن الرأي نوعان: أحدهما: جارٍ على موافَقة كلام العرب وموافَقة الكتاب والسنة؛ وهذا جائز ولا يصح إهماله، وليس مرادًا بالذم والنهي. ثانيهما: غير جارٍ على قوانين العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، كما تقدم في الإجابة عن أدلة المنع؛ وهذا هو مَوْرِد النهي والذم، وفي هذا النوع جاء التشديد في القول بالرأي في القرآن، مثل ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بيِّنٍ فسقُه، ولكن أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أذلَقَه بلسانه، ثم تأوَّلَه على غير تأويله". وعلى هذا يُحمَل النهي في الحديثين السابقين. ♦ أقسام التفسير بالرأي الجائز وغير الجائز: نقل السيوطي في الإتقان (ص178 ج2) عن الزركشي ما خلاصته: "للناظر في القرآن لطلب التفسير مصادر كثيرة، ترجع إلى أربعة: 1- النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع التحرُّز عن الضعيف والموضوع. 2- الأخذ بقول الصحابي؛ فقد قيل: إنه في حكم المرفوع، وخَصَّه بعضهم بما فيه سبب النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه. وفي الرجوع إلى قول التابعين روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل المنع، وحكوه عن شعبة، لكن عمل المفسرين على خلافه؛ فقد حكوا في كتبهم أقوالهم؛ لأن غالبها تلقوه عن الصحابة، وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ، فيظن مَن لا فهم عنده أن ذلك اختلاف حقيقي؛ فيحكيه أقوالًا، مع أنه ليس كذلك، بل كل واحد منهم ذَكر معنى مِن الآية؛ لكونه أظهَرَ عنده أو ألْيَق بحال السائل، وقد يكون بعضهم يُخبِر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخرُ بمقصوده وثمرته، والكل يأوي إلى معنى واحد غالبًا، وإن لم يمكن الجمع، فالمتأخر مِن القولين عن الشخص الواحد مقدَّمٌ إن استويَا في الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدم. 3- الأخذ بمطلَق اللغة، مع التحرُّز عن صرْف الآيات إلى احتمالات لا يدل عليها الكثير من الكلام، ولكن يدل عليها القليل، أو لا توجد غالبًا إلا في أشعارهم. 4- التفسير بالمفهوم من معنى الكلام والمأخوذ من أدلة الشرع؛ وهذا هو الذي دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: ((اللهم فقههُ في الدين، وعلِّمه التأويل))، والذي عناه علي بقوله: "إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلًا في القرآن". ومن هنا؛ اختلف الصحابة في تفسير بعض الآيات، فأخَذ كلٌّ برأيه على منتهى نظره. فمَن فسر القرآن برأيه - أي: باجتهاده - بانيًا تفسيره على هذه الأصول، كان ذلك جائزًا وسائغًا، وهذا هو المسمَّى بالرأي المحمود. وأما الذي يفسر القرآن تفسيرًا غير مبني على أصل من هذه الأصول، فهذا تفسيره بالرأي المذموم، وهو داخلٌ في الوعيد الذي ذُكر في الحديثين السابقين، منتهِكٌ لحرمة النهي في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، داخلٌ في زمرة الذين يقولون على الله ما لا يعلمون. ♦ والتفسير بالرأي المذموم لا يخرج عن خمسة أنواع: 1- التفسير مِن غير العلوم التي لا بد منها في التفسير، وسيأتي بيانها. 2- تفسير المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. 3- التفسير المقرِّر للمذهب الفاسد؛ بأن يجعل المذهب أصلًا والتفسير تبعًا. 4- التفسير مع القطع بأنَّ مراد الله كذا، مِن غير دليل. 5- التفسير بالهوى والاستحسان"[1]. هذا، وينبغي أن يُعلم أنَّ علوم القرآن أنواع ثلاثة: 1- النوع الأول: علم لم يُطلِع الله عليه أحدًا من خلقه مما استأثر به وحده؛ كمعرفة كُنْهِ ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو. وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعًا. 2- ما أطْلَع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم واختصه به. وهذا لا يجوز الكلام فيه إلَّا له صلى الله عليه وسلم أو لمن أذن له. 3- العلوم التي علمها الله لنبيه وأمره بتبليغها. وهذا النوع منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بِطَريق السمع؛ كالناسخ والمنسوخ، والقراءات واللغات، وقصص الأمم الماضية، وأسباب النزول، وأخبار الحشر والنشر والمعاد، ونحو ذلك. ومنه ما يجوز القول فيه بالرأي والنظر والاستنباط؛ كالمواعظ والأمثال والحكم، وفروع الفقه ونحوها، لمن تأهَّل للنظر والاجتهاد. ♦ العلوم التي لا بد منها في التفسير: العلوم التي لا يجوز التفسير إلا معها: هي اللغة والنحو والصرف والاشتقاق، وعلوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، وعلم القراءات، وعلم التوحيد وأصول الفقه، وأسباب النزول والقصص، والناسخ والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبيِّنة لتفسير المجمَل والمبهَم، وعلم الموهبة؛ وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وهذا العلم يُكتسب بفعل الأسباب الموجبة له من العمل والزهد، كيف وقد قيل: إنه لا يَحسُن للناظر فهم معاني الوحي الإلهي ولا تنكشف له أسراره، وفي قلبه بدعة أو كِبر أو هوى أو حُب دنيا، أو وهو مُصِر على ذنب، أو غير مُتحقِّق بالإيمان أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم؟ فهذه كلها حُجُب وموانع من الوصول إلى الحق والوقوف على معاني القرآن، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]. نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى فهم أسرار كتابه، وأن يوجهنا إلى العمل بما فيه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. انتهى مقرر السنة الرابعة. [1] الإتقان، (2/ 183).
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() مذكرات في علوم التفسير (4) الشيخ طه محمد الساكت "مقرر السنة الخامسة" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين؛ نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين. أما بعد، فهذه مذكرات في علوم القرآن، أمليتُها على طلبة الصف الخامس بدار التوحيد السعودية، مراعيًا فيها أن تكون تكملة لما أمليتُه عليهم مِن هذا الفن في الصف الرابع، راجيًا من الله النفع والقبول؛ إنه أعظم مسؤول، وأكرم مأمول. أهم كتب التفسير بالرأي: علمت مما تقدم لك في الصف الرابع أنَّ التفسير بالرأي ينقسم إلى قسمين: جائز، وهو الممدوح، وغير جائز، وهو المذموم، وقد أُلِّفت في كل من القسمين كتب كثيرة، سيأتي لك التعريف بأشهرها. أشهر المؤلفين في القسم الأول (الجائز) من أشهر المؤلفين في التفسير بالرأي المحمود: 1- ناصر الدين أبو سعيد عبدالله بن عمر البيضاوي؛ له تفسير "أنوار التنزيل وأسرار التأويل". 2- أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي؛ له التفسير المسمى: "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم". 3- نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري؛ له التفسير المسمى: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان". 4- محمد الشربيني الخطيب؛ له التفسير المسمى: "الصراط المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير". 5- عبدالله بن أحمد بن محمود النَّسَفي؛ له التفسير المسمى: "مدارك التنزيل وحقائق التأويل". 6- علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي؛ له تفسير "الخازن". التعريف بتفسير البيضاوي • هو كتاب جامع بين التفسير والتأويل على مقتضى قواعد اللغة العربية، قرَّر فيه الأدلة على أصول أهل السنة. • يمتاز بدقة العبارة وجمع الأقوال باختصار، غير أنه روى في آخر تفسير كل سورة أحاديث ضعيفة في فضلها ولم يتحرَّ في ذلك الصحة. • وقد كُتبت عليه حواشٍ كثيرة، أهمها: حاشية الشهاب الخفاجي؛ وهي ديوان أدب، وفيها من الفنون المختلفة ما يدل على وفرة العلم وسعة الاطلاع. تفسير أبي السعود • من أهم مميزات هذا التفسير: عنايته بفنون البلاغة، وحرصه على إبرازها وتقريرها، وبخاصة في باب الفصل والوصل ووجوه المناسبات بين الآيات، وقد خلا من كثير من القصص الإسرائيلي، وجرى على قواعد أهل السنة، غير أن في أسلوبه بعض تعقيد يحتاج إلى إعمال فكر ودقة نظر. تفسير النيسابوري هو خلاصة لما في تفسير الفخر الرازي، وفيه زيادة عليه ما يأتي: أ- وجوه القراءات المفصلة. ب- التفسير الإشاري؛ وسيأتي الكلام عليه. جـ- سهولة عبارته وخلوه من الحشو. د- إيراده لبعض الإشكالات وإجابته عنها. ويُعتبر تفسير النيسابوري من أجلِّ التفاسير قدرًا وأعظمها شأنًا. تفسير النَّسَفي كأنه مختصر من تفسير الكشاف، غير أنه مخالف له في الطريقة؛ فهو على مذهب أهل السنة، والكشاف على مذهب المعتزلة. وكتاب النسفي كتاب جليل - مع اختصاره - مشتمل على فوائد نافعة؛ ولذلك اعتمده كثير من الدوائر العلمية. تفسير الخطيب والخازن كلاهما مشتمل على القصص الإسرائيلي بتوسُّع، وقد اعتنى صاحب الخازن بتقرير الأدلة في بعض المواضع، بخلاف الخطيب؛ فإن المأثور فيه - مع حذف الأسانيد - أكثر، وهما كتابان جليلان إذا استثنينا بعض القصص. هذه أهم الكتب المتداولة - عدا تفسير الألوسي - ولو شئنا أن نذكر المفسرين من هذا القسم ونعرف كل كتاب بإسهاب، لخرجنا عن قصد الاختصار. أشهر المؤلفين في القسم الثاني (غير الجائز) 1- الزمخشري: له كتاب "الكشاف". 2- القاضي عبدالجبار: له كتاب "تنزيه القرآن عن المطاعن". وسنتكلم عليهما بالتفصيل. التعريف بالزمخشري والكشاف هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، النحوي اللغوي المتكلم المعتزلي المفسر، الملقب بـ"جار الله". ولد في رجب سنة 467هـ بـ"زمخشر" قرية من قرى خوارزم، وتوفي سنة 538هـ. كان متظاهرًا بالاعتزال داعية إليه، وكان علامة زمانه، فريدًا في الأدب، ونسابة العرب، وكان إمام عصره؛ برع في اللغة والنحو والبلاغة، وما دخل بلدًا إلا واجتمع عليه أهلها وتتلمذوا له. صنف كتبًا مفيدة، منها: كتاب "الكشاف"؛ وهو كتاب مهم في تفسير القرآن الكريم، له فيه آراء مفيدة، تكلم فيه على وجوه الإعجاز في غير ما آية فأفاد وأجاد، وبيَّن أسرار البلاغة وأشار إلى دقائق في النظم الكريم، ولولا ما في كتاب الكشاف من تأييد مذهب المعتزلة - بحمْل النظم الكريم عليه ولو بالتأويل البعيد - لكان خير مرجع وأعظم ديوان؛ لذلك ينبغي لكل من تمكَّن في أصول الدين ووقف على الأدلة اليقينية - أن يطالع الكشاف بإمعان؛ فإنه من أمهات كتب البلاغة القرآنية. ومما امتاز به كتاب الكشاف ما يأتي: 1- خلوُّه من الحشو المُخل والتطويل المُمل. 2- سلامته من القصص الإسرائيلي. 3- اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم في كثير من المواضع. 4- عنايته بعلمي المعاني والبيان بأحسن بيان؛ فقد يفيض في كثير من النكت البلاغية قصدًا إلى ما في القرآن الكريم من بلوغه الغاية في البلاغة تحقيقًا لدرجة الإعجاز. 5- تحقيقه لمذهب المعتزلة في كثير من الآيات على طريقة أهل الكلام. 6- بيانه لما يقصد إيضاحه بطريق السؤال والجواب في مواضع كثيرة؛ فيقول في السؤال: "فإن قلتَ:..." إلخ، ثم يقول في الجواب: "قلتُ:..." إلخ. نماذج من تفسير الكشاف: أ- المنزلة بين المنزلتين. ب- لا يفعل القبيح؛ فأفعال العباد مخلوقة لهم. جـ- إنكار الرؤية. المثال الأول: في إثبات المنزلة بين المنزلتين: قال الزمخشري في تفسير قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ الآية [البقرة: 3]: "فإن قلتَ: ما الإيمان الصحيح؟ قلتُ: أن يعتقد الحق، ويُعرب عنه بلسانه، ويصدقه في عمله؛ فمَن أخلَّ بالاعتقاد - وإن شهد وعمل - فهو منافق، ومَن أخلَّ بالشهادة فهو كافر، ومَن أخلَّ بالفعل فهو فاسق". فقد فَسر الإيمان بناءً على معتقده، وهو وجود منزلة بين منزلتين. ويرد عليه اللغة والشرع؛ أما اللغة: فمعنى الإيمان التصديق، وأما الشرع: فعَطْف العمل عليه في كثير من الآيات يقتضي أنه غيره، وأن الإيمان يحصل بدون العمل. المثال الثاني: قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]: "وإسناد الرزق إلى نفسه؛ للإعلام بأنهم ينفقون الحلالَ المطلَق، الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى" اهـ. وهذا يقتضي أن الرزق الحلال من الله، وأن الرزق الحرام من العبد؛ جريًا على قاعدة "لا يفعل القبيح"؛ وذلك مخالِف لقوله تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ ﴾ [فاطر: 3]، فالله سبحانه هو الخالق وهو الرازق وحده. المثال الثالث: في تفسير قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]. قال الزمخشري: "ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي، ونيل رضوان الله والنعيم المحقق..." إلخ اهـ. فتراه يقرِّر أنَّ أعظم الفوز هو النجاة من النار والظفر بالجنة، وأنْ لا فوزَ وراء ذلك؛ وفي هذا إنكارٌ للرؤية بطريق التعريض لا التصريح، وقد أنكر الرؤية صراحةً؛ حيث فسر آية الأنعام - وهي قوله تعالى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾ [الأنعام: 103] - طبق معتقده، فقال: "البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركَّبه الله في حاسة النظر، وبه تدرك المبصرات؛ فالمعنى: أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه؛ لأنه متعالٍ أن يكون مبصرًا في ذاته؛ لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلًا أو تابعًا كالأجسام والهيئات"؛ اهـ. ويرد عليه بأنَّ المنفي في الآية إنما هو الإدراك الذي هو الإحاطة، لا أصل الرؤية؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ﴾ [يونس: 90]؛ أي: أحاط به، وقوله حكايةً عن أصحاب موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]؛ أي: مُحاط بنا، وأما مجرد الرؤية بدون إحاطة، فليس بمنفي. ولم يذكر الزمخشري دليلًا عقليًّا على استحالة الرؤية، ولكنه اقتَصر على استبعاد أن يكون المرئي في غير جهة. ونقول له: إن منشأ ذلك الوهم - الذي يُستبعَد أيضًا - أن يكون الموجود في غير جهة، والعقل السليم يبطل هذا الوهم ويجيز الأمرين معًا، وكما نقول: لا تحيط به العقول مع حصول المعرفة، نقول: لا تحيط به الأبصار مع حصول أصل الرؤية. ومما يدل على ثبوت أصل الرؤية من القرآن: قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقد جعل الله الحجب عنه عقابًا للكافرين؛ حيث قال: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، فتكون الرؤية ثوابًا للمؤمنين. وفي السنة أحاديث صريحة في إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة. كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن هو كتاب في تفسير القرآن بالرأي على مذهب المعتزلة. ألفه القاضي عبدالجبار بن أحمد البغدادي؛ شيخ المعتزلة في عصره. استدعاه الصاحب إلى الرَّيِّ بعد سنة 360هـ، فبقي فيها مواظبًا على التدريس، إلى أن توفي رحمه الله سنة 415هـ. ويمتاز هذا الكتاب بما يأتي: 1- ذكر الشبه والإجابة عنها، وذكر مسائل تتضمن كل مسألة سؤالًا وجوابًا في الآية. 2- لم يتعرض فيه لتفسير القرآن جميعه؛ وقد يَذكر من السورة الطويلة آياتٍ تُعد، مكتفيًا بما يستطيع تأويله على مقتضى عقيدته وإن كان بعيدًا. 3- أيَّد فيه مذهب المعتزلة في كثير من الآيات كما سلك صاحب "الكشاف". 4- تعرض لدفع شبه ربما ترد على ظاهر القرآن، فأبطلها بما هو آية في التحقيق وغاية في التدقيق، لولا ما يَعرِض في ثنايا كلامه من حمْل القرآن على مذهبه. وبالجملة، فإن هذا الكتاب - على صغر حجمه وعدم إطالته - قد حوى كثيرًا من الفوائد؛ فلا ينبغي أن يُترَك ما فيه من خير كثير بسبب ما في ثناياه من رأي كليل، بل الواجب أخْذ زُبده وطرح مخضه.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() إعجاز القرآن الكريم (مذكرات في علوم التفسير - 5) الشيخ طه محمد الساكت الشيعة وتفسير القرآن: ومن المفسِّرين بالرأي المذموم: الشيعة؛ وهم قوم تشيَّعوا للإمام علي رضي الله عنه. ومنهم من غالى في تشيُّعه حتى بلغ حدَّ الكفر، ومنهم قوم لم يبلغوا ذلك، ولكنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في تقدير أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وتقديمهم على الإمام علي في الإمامة. وهؤلاء قد ذُكرت عنهم تأويلات في كتاب الله عز وجل أيَّدوا بها مذهبهم، بل ووضعوا أحاديث كثيرة تشهد لهم. ومن كتبهم في التفسير: كتاب يسمى "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار"، ألَّفه شيعي يسمى عبداللطيف الكازلاني، وذكر فيه العَجب العُجاب من التأويلات الفاسدة والآراء الباطلة، وقد صدَّره بمقدمة ذكر فيها: "ما للإمام علي وشيعته من النصيب الأوفر من كتاب الله تعالى"، وذكر أحاديث كثيرة، ثم فسَّر المفردات القرآنية حسب الحروف الأبجدية بما يطابق مذهب الشيعة؛ فمن ذلك أنه فسر كلمة "الأرض" بالدين، وبالأئمة، وبالشيعة، وبالقلوب التي هي محلُّ العلم وقرارُه، وبأخبار الأمم الماضية؛ فحمَل هذا اللفظ - الذي لا يجهل أحد معناه - على تلك المعاني البعيدة من غير استناد إلى أمَارة أو قرينة، ولا حامل له على ذلك إلا مُجرَّد الرأي الفاسد والاعتقاد الباطل. مزج العلوم الأدبية والكونية وغيرها في التفسير وسبب ذلك وأثره علمتَ مما سبق أنَّ تفسير القرآن العظيم كان بما يُتلقَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيان القرآن لما أُجمل فيه على النحو المتقدم، ثم جرى الصحابة والتابعون ومَن بعدهم على التفسير بالمأثور وبما يعرفونه من لغة العرب بحسب سليقتهم؛ لأنه عربي مُبِين، وهم أهل اللغة، وبلسانهم نزل القرآن، وظل الأمر على هذه الحال حتى دُوِّنت العلوم العربية وصارت قواعد ومسائل لتَكون وسائل لفهم كتاب الله العزيز. وكان العرب قد اختلطوا بالعَجم؛ بسبب كثرة الفتوحات، وتفرقوا في البلاد، وضَعُفت السَّليقة؛ فاحتيج إلى هذه العلوم العربية لتكون أداة لفهم بلاغة القرآن، وعونًا على إدراك ما تضمَّنه من المعاني والأحكام، خصوصًا فيما لم يرد فيه أثر. لذلك؛ اشتدت عناية المفسرين بتلك العلوم الأدبية؛ فإنها الوسيلة إلى فهم القرآن العزيز، وبها يُعرف وجه إعجازه، وتُستنبط معانيه وأحكامه. ومِن أشهر المفسرين الذين عُنوا بتلك الناحية في القرآن الكريم: "الزمخشري" في تفسيره "الكشاف"، و"أبو السعود" في تفسيره المعروف بـ"إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم"، وقد تقدمت الإشارة إلى كل منهما. وعلى هذا يمكننا أن نقرر ما يأتي: مُزجت العلوم العربية بالتفسير؛ لتكون أداة لفهم القرآن، وعونًا على تذوق أسراره بعدما ضَعُفت السليقة العربية. العلوم الكونية: ولمَّا قَويت شوكة المسلمين، واتَّسع سلطانهم، وخضع لهم كثير من الأمم الأجنبية، عَمَد المسلمون إلى العلوم الفلسفية وترجموها إلى اللغة العربية، ثم قارنوا بينها وبين القرآن العزيز؛ فما رأوه موافقًا للقرآن أَثبتوه وأيَّدوه وشرحوه، وما رأوه مُخالفًا رَدُّوا عليه ونَقضوه وأَبطلوه؛ ولهذا نرى كثيرًا من كتب التفسير ممتزجًا بآراء الفلاسفة وأقوال الحكماء. ومن أجَلِّها: تفسير الإمام فخر الدين الرازي؛ فقد سلك مسلك الحكماء في الاستدلالات العقلية في مباحث الإلهيات، مهذبًا للأدلة بما يوافق أصول أهل السنة، وتعرض لرد شُبه الفلاسفة في غير ما موضع، كما سلك مسلك الطبيعيِّين في الكونيات؛ فتكلَّم في الأفلاك وفي السماء والأرض والحيوان والنبات، بل وفي أجزاء الإنسان وغير ذلك مما جرَّ إليه الاستدلال على وجود الصانع في كثير من الآيات. وعلى هذا يمكننا أن نقول: مُزجت العلوم الفلسفية بالتفسير بعد أن تُرجمت الفلسفة إلى اللغة العربية، وقُورن بينها وبين القرآن العزيز. العلوم الفقهية: حينما أَيْنع الفقه الإسلامي، وتعدَّدت فصوله، وتشعَّبت مسائله، وكثر الخلاف فيه - أخذ كل فقيه يَستدل على رأيه بما يمكنه من آيات القرآن، مؤيدًا وجهة نظره، معترضًا على آراء مخالفيه، وجاء مِن المفسرين مَن جَمع تلك الآراء الفقهية ووضح وجهات النظر المختلفة أثناء الكلام على التفسير. ومن أشهر هؤلاء المفسرين الفقهاء: "القرطبي" في كتابه: "الجامع لأحكام القرآن"، و"الجصاص" في تفسيره المعروف بـ"أحكام القرآن"، وكثيرًا ما يعرض الألوسي والفخر الرازي للاستدلال الفقهي أثناء تفسير آيات الأحكام. وعلى ذلك؛ يمكن القول بأنه مُزجت العلوم الفقهية بالتفسير حينما نضج الفقه الإسلامي واعتنى الفقهاء بالاستدلال على آرائهم من القرآن. العلوم الاجتماعية: كذلك اشتدت عناية المفسرين بشرح ما تضمَّنه القرآن من السياسات العامة؛ كسياسة الحرب والسِّلم والمعاهدات، والبيع والشراء، والنظر في شؤون الرعية، والسياسات الخاصة كمعاملة الوالدين والأولاد والأقربين والزوجة والجيران والأصدقاء، وغير ذلك؛ فامتزجت كتب التفسير بهذه العلوم؛ نظرًا لما تضمنه القرآن من حاجة البشر، وصلاحيته لكل زمان ومكان. ومن أشهر المفسرين الذين عنوا بتلك الناحية الاجتماعية: الشيخ السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المعروف بـ"تفسير المنار". أثر تلك العناية: وكان من آثار عناية المفسرين بتلك النواحي المختلفة من العلوم - أن اتسع نطاق البحث العلمي، ووجد العلماء موردًا صافيًا ومنهلًا عذبًا يغذي عقولهم ويشبع نهمهم؛ فاتسعت دائرة العلوم اللسانية بعد أن كانت في بدء وضعها ضيقة، وتنوَّعت العلوم والفنون وأيْنَعت ثمارها، وأصبحت المكتبة الإسلامية زاخرةً بشتى الموسوعات في مختلف الفنون. إعجاز القرآن الكريم الإعجاز في الأصل: إثبات العجز، وإثبات العجز مُستلزِم لإظهاره. والمراد به هنا: إظهار صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته، وبذلك سميت المعجزة معجزة؛ لأن البشر يَعجِزون عن الإتيان بمثلها، ويظهر بذلك صدق من تظهر على يديه في دعواه الرسالةَ. القرآن معجزة خالدة: مقارنة بين معجزة القرآن وسائر المعجزات: اختار الله القرآن الكريم ليكون هو المعجزة الباقية والآية الدائمة الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد كانت معجزات بني إسرائيل حسِّيَّة؛ كقلب العصا حيةً، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ وذلك لبلادة بني إسرائيل وضَعْف بصيرتهم وقلة فهمهم تحتاج إلى الإيقاظ بالمحسوسات. أمَّا هذه الأمة، فقد أكرمَها الله تعالى وجعل معجزة نبيها أعظم معجزة؛ وذلك لأمرين: أولهما: الإشارة إلى كمال أفهام الأمة، وصفاء أذهانها، وسلامة تفكيرها، ورجحان عقولها. وثانيهما: الإشارة إلى بقاء شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ببقاء معجزته ودوامها ما بقيت العقول واستقامت الأفهام. وتلك المعجزة العُظمَى هي القرآن، وقد أخبر الله عنه بأنه الآية الكافية والمعجزة الباقية؛ فقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 51]، كما أخبر بأن القرآن شاهد على صِدق النبوة بقوله سبحانه: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166]. وليس إلى الشك سبيل في أنَّ القرآن هو الشاهد الأعظَم على صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه يؤيِّد هذا حيث يقول: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. وقد انقرضت معجزات الأنبياء جميعًا بانقراض عصورهم، ولم يشهدها حين وقوعها إلا من كان حاضرًا عندهم. أما معجزة القرآن، فإنها باقية إلى الآن، يشهدها القريب والبعيد، ويتردد صداها في الشرق والغرب، وستبقى كذلك خالدة حتى تقوم الساعة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطِي مِن الآيات ما مِثله آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا)). قال العلماء: معناه أنَّ المعجزات الماضية كانت تُشاهَد بالأبصار، ومعجزة القرآن كانت تشاهَد بالبصيرة؛ فلا يمر عصر إلا وهي مُشاهَدة. الدليل على إعجاز القرآن تحدَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بالقرآن؛ أي: طلب منهم أن يأتوا بمثله، فعجَزوا عن ذلك مع كونهم أهل البلاغة والبيان. وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُعجِز؛ فالقرآن الكريم مُعجِز. أمَّا أنه صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب بالقرآن، فقد ثبت ذلك بالنقل المتواتر؛ بل ثبت في نفس القرآن في أكثر من آية، وذلك التحدي على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: التحدِّي بالقرآن كله؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]. المرتبة الثانية: التحدِّي بعشر سور من القرآن؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [هود: 13] جوابًا لقوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ [هود: 13]. المرتبة الثالثة: التحدِّي بسورة منه؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ الآيتين [البقرة: 23]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 37، 38]. وهذه المراتب الثلاث هي النهاية في بلوغ التحدي. وأما أنهم عجزوا عن معارضته؛ فلأنهم لم يلجؤوا إليها مع توفُّر الدواعي إليها، وعدم المانع لهم منها، وكل مَن هذا شأنُه فهو عاجز عن معارضة القرآن؛ فالعرب عاجزون عن المعارضة. بيانُ أنهم لم يلجؤوا إليها: أنهم لو لجؤوا وعارَضوا، لاشتهرَ أمرُ المعارَضة كاشتهار أمر القرآن بل أشد؛ لأنهامُبطلة لأمره، لكنها لم تُنقَل، فضلًا عن أن تشتَهر. وبيانُ أن الدواعي إليها متوفرة: أنه يتوقف عليها حفظ أديانهم ودمائهم وأموالهم، مع كونهم ذوي حَمِيَّة وغيرة وقوة ومَنَعة. وبيان أنهم لا مانع لهم من المعارضة: فلأنهم كانوا أكثر عددًا وقوة مما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصًا في بادئ الأمر. ويوضح لك عجز العرب عن معارضة القرآن: أنهم عرَّضوا أنفسهم للقتل، وأموالَهم للسَّلْب، ونساءهم وأولادَهم للسبي، وقوَّتَهم للذَّهاب، ودينَهم للضياع، وحميَّتهم للذلة والانكسار، وقد كانت المعارضة عليهم أسهل من ذلك كله؛ فعُدُولهم عنها إلى ما هو أشدُّ دليلٌ على إحساسهم بالعجز عن المعارضة، وإلا لما ارتكبوا الأَشدَّ مع إمكان الأيسر. هذا، وإذا ثبت عجْز العرب عن المعارضة، ثبت عجْز سائر الأمم من باب أولى؛ لأنهم لم يَبلُغوا شأوهم في قوة اللسان العربي. نظير ذلك: السحرة؛ لمَّا عجزوا عن معارضة موسى في قلب العصا حيَّةً، ثبَت عجْز غيرهم مِن باب أولى؛ لأنهم لم يبلغوا شأوهم في فن السحر. وقِس على هذا سائر المعجزات.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |