إبراهيم وهاجر وإسماعيل على قمة من قمم التاريخ - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 209 - عددالزوار : 21833 )           »          الفرق بين الفقه وأصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          هل يقتضي النهي فساد المنهي عنه (الاتجاهات، المآخذ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 16 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 53 - عددالزوار : 40947 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 109 - عددالزوار : 68990 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 34398 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14646 - عددالزوار : 867682 )           »          شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 617 - عددالزوار : 199843 )           »          كبر الهمَّة في العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          علماء الحديث مهرة متقنون/ الإمام البخاري وشيخه أبو نعيم نموذجا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-01-2006, 05:46 PM
يانورالنور يانورالنور غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2006
مكان الإقامة: لبنان - جبل عامل - عربصاليم
الجنس :
المشاركات: 24
افتراضي إبراهيم وهاجر وإسماعيل على قمة من قمم التاريخ

إبراهيم وهاجر وإسماعيل على قمة من قمم التاريخ



ونكتفي هنا بذكر واقعة من الإبتلاءات التي جرت لإبراهيم ، أعني التي مهَّد الله بها سبحانه ، لنبوَّة محمد ( ص ) وإرساله رحمة للعالمين . والتي هي في قوله عزَّ وجل على لسان خليله إبراهيم : { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء . الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } . [ ( 37 ـ 39 ) : إبراهيم ] .

وموجز الحكاية ، أن الله تبارك وتعالى ، أمر نبيَّه إبراهيم ، بعد أن رزقه الولد من زوجه الثانية هاجر ، أن ينتقل بهما ، هاجر وإسماعيل ، وكان ما زال طفلاً رضيعاً ، من الشام إلى الحجاز .

وبديهي هنا ، أن تقطع هذه الأسرة الصغيرة ، مسافات واسعة شاسعة ، وتجتاز الوديان والصحارى والقفار الموحشة ، ولا بدَّ أن لهما من ركوب جملين ، واحداً لإبراهيم ، والآخر يحمل هودجاً فيه هاجر ووليدها الحبيب على قلب أبويه ، إسماعيل .

وتمضي الأيام والليالي ، على هذا الطريق الشاق الطويل ، الذي لا يخلو من خطر الوحوش المفترسة ، منها الضباع والذئاب الجائعة ، ومنها أسود الصحارى العربية الشهيرة . كما لا تخلو من قطـاع الطرق الذين كانوا في جاهلية تلك الأيام ، من الكثرة في أغلب الأمكنة على امتداد طريق القوافل .

وهنا أريد أن أتوقف قليلاً عند ظاهر الأمور ، لأعبر من هذا الظاهر إلى لب الحقيقة . أما الظاهر فهو صدق إبراهيم ، وعزمه الذي لا يلين ، وهمته التي لا تخبو ، ما دام الأمر في سفره هذا هو تلبية لأمر الله عزَّ وجل ، وما يقال عن إبراهيم في هذا المجال ، يقال كذلك عن هاجـر ، تلك الزوجة المثالية النادرة المثل في تاريخ الناس ، والتي لم يجعلها مثالية ورائعة وفريدة من نوعها في تاريخ البشرية ، إلاَّ أمـر واحد ، هو يقينها بالله جلَّت عظمته ، ومن تفريعات هذا اليقين ، ولاؤها وطاعتها له سبحانه ، عبر ولائها لزوجها إبراهيم وطاعتها له ، عليه وعليها سلام الله .

هذا هو ظاهر الأمر ، وسوف نرى في بقية الظواهر ، بعد بلوغ الهدف الذي هو مكة ، آيات باهرات من الصدق ، والصبـر بالله ، والثبات على طاعة الله ، والتفاني في سبيل الله ، من خليل الله إبراهيم ، وزوجته ، التي ظل يصفو جوهرها الإنساني ويصفو ، حتى صار جوهراً فذاً وعبقرياً . ومثلهما تماماً ، أصبح إسماعيل عليه السلام ، بعد أن نما وبلغ السعي ، وقدم نفسه طائعاً ، للذبح ، بيد أبيه الحبيب وسكينه المرهفة الشفرة . لولا أن تجلى أكثر فأكثر ، فضل الله ، ونعمة الله ، ورحمة الله ، وآلاء الله التي لا تحصى على عباده هؤلاء ، لأنهم من المطيعين ، كل الطاعة ، ولأنهم من الموقنين كل اليقين ، ولأنهم من أولياء الله الصالحين ، فرفع عنه وعن أمه وأبيه ، قدر الذبح هذا ، ووطأته فيما لو تم ، على الأبوين ، وفداه بكبشٍ عظيم . من هنا وهنالك ، ومن كل حدب وصوب ، بواطن الأمور وحقائقها الأصلية . وهي أن الله وحده هو المجير . هو الصاحب في السفر ، وهو الدافع لكل خطر ، ولأهوال الطريق ومشتقاتها . وهو سبحانه المعافي في الأنفس ، وهو عزَّت عظمته ، الباعث الهمة ، والمقوي العزيمة ، تحت عنوان الحديث القدسي : " إذا تقرَّب عبدي مني شبراً تقربت منه باعاً ، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة " ، وأنه قائم على كل نفسٍ ، وأنه على كل شيء وكيل .

فالفضل كله إذن هو فضل الله سبحانه وتعالى ، مرتباً الجزاء على النية والعمـل ، { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِـلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .

وسنرى إن شاء الله الكثير من مصاديق هذه الآية ، في هذه الأسرة الموالية لله وحده سبحانه ، ولاءً يصل إلى بذل المهج والأنفس والمتعلقات كلها ، طاعة لله عزَّ وعلا ، وجهاداً في سبيل مرضاته .

ويبدو أنه ، لا إبراهيم ولا هاجر كانا يعلمان شيئاً عن تفاصيل الخطة ، التي اختطها الله سبحانه ، لهما ولولدهما إسماعيل عليهم السلام ، هؤلاء الذين سيكون من نسلهم العرب عامة ، وخاصة خاتم النبيين وأعزَّ المرسلين محمّد (ص) ، الذي أرسله ، فيما بعد ، رحمة للعالمين . فهما لايعرفان المكان ولا طبيعة الأرض ولا المناخ ، ولا أي شيء آخر مما هو مطلوب منهما ، اللهم إلاَّ تنفيذ مضمون أمر الله سبحانه ، وهو الذهاب إلى الحجاز .

وآخر توجيه له عليه السلام ، من توجيهات الطرق ، هو أمره بالنزول في ذلك الوادي القريـب من مكان البيت العتيق ، الذي أصبح محجة للناس فيما بعد ، والذي هو بين جبال كالأغربة السود ، تحيط به من جانب .

وبعد النزول في هذا الوادي ، المجدب المقفر ، الذي لا حسيس فيه ولا أنيس ، جاء الأمر لإبراهيم ، أن ضع أسرتك في نفس هذا المكان وارجع أنت وحدك من حيث أتيت .

لا شك أنها مفاجأة لكليهما ، ورغم أنهما قد تمرسا بأنواع الرياضات النفسية والبدنية والإبتلاءات ، إلاَّ أن هذا الأمر ، وفي الظروف المحيطة ، شكَّل عليهما لأول وهلة ، نوعاً من الصدمة ، بدت آثارها بوجوم شملهما برهة من الزمن ، كان فيه إبراهيم يردد فيه طرفه بين طفله الوحيد وأمه من جهة وبين المكان المقفر الموحش من جهة ثانية وبين الزاد الذي كان استنفد كله في الطريق ، إلا تـميرات بقيت في قاع جراب ، من جهة ثالثة ، ثم انتبه إلى الأهم من ذلك كله : الماء ... فإذا السقاء الذي معهم لم يعد فيه قطرة . وكتم الأمر عن هاجر ، متوكلاً على الله .

أهكذا ، والآن ، ومع هذه المعطيات ، أتى أمر الله سبحانه بالرجوع وترك هذه المرأة الضعيفة وإبنها الرضيع وحدهما ، وبلا معين ؟

بلا معين ؟ ، لا ! ما هكذا يفكر إبراهيم .

إبراهيم يعلم تماماً أن المعين ، حاضر ناظر ، سميع بصير ، نعم المعين هو ، ونعم الكفيل ونعم الضامن والوكيل .

ـ اللهم لبيك ـ وخشية من أن يسجل عليه شيء من التردد ، في تلبية أمر الله سبحانه ، أو حتى من العاطفة الكبيرة على الزوج الحبيبة والطفل الجميل إسماعيل ، الذي التمعت عيناه البريئتان الصافيتان ، كأنما تقولان : في أمان الله يا أبتاه ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، هو ربنا وهو يرعانا . إنفتل إبراهيم إلى جمله ، بعد أن كانت له فقط فرصة أن يتناول علفه . فركبه وولى وجهه إلى بلاد الشام وقفل راجعاً ، بعد أن أبلغها وبكلمات قليلة ، قراره القاضي ببقائها ووليدهما ، ورجوعه هو إلى بلاد الشام .

وهنا ، وقد كانت هاجر عليها السلام ، قد استجمعت قواها وأفكارها بعد الصدمة ، ورأت الحقيقة ماثلة أمامها ، فلا هي في نوم ولا في حلم . وانتبهت إلى أهم شيء في عمرها ووجودها ، ولا سيما في هذه الظروف غير العادية هـذا الشيء ، هي أن تعلم ، إذا كان هذا الأمر هو من الزوج إبراهيم ، فيكون ذلك عجباً ، ويكون موجعاً محزناً ، ويدور حوله ألف علامة استفهام ، أم أن هذا الأمر من الله عزَّ وجل .

في هذه اللحظات من التساؤل ، كان إبراهيم قد ابتعد ، مدى وصول الصوت تقريباًُ . وحزمت أمرها ، ولماذا لا تسأله : ثم أخذت تعدو خلفه ، حتى اطمأنت إلى أنه يسمع صوتها ، ونادته : يا إبراهيم ... وإذ سمع توقف ، وأدار وجهه نحوها . فسألته : هل هذا الأمر ببقائنا هنا وحدنا منك أم من الله ؟ فلم يجب إبراهيم بصوته ، فلعلَّ دمعة كبيرة خشي أن يظهرها تجلداً ، وحياءً من ربه سبحانه وورعاً ، فبدلاً من ذرفها من عينيه ، لجلجها في حلقومه حيث احتبس صوته . فأشار بيده رافعاً إياها وسبابته نحو السماء . ففهمت هاجر ، أن الأمر من الله . وكمثل البرق الخاطف تبدل موقفها وجميع مشاعرها ، من حال التشتت والخوف والتساؤل إلى التركيز ، وقالت بطمأنينة كبيرة : ـ لا عليك ... إذن لا يضيِّعنا .

قالت ذلك تطمئن نفسها وتطمئنه ، ما أعظم هذا اليقين ، وما أجمل هذا البر ، يقينها بربها رب العالمين ، وبرها بزوجها الحبيب ، الذي ليس له من الأمر شيء ، إلاَّ أنه يؤمر فيطيع ، وله الشرف العظيم في أن يؤمر ويطيع إذا كان الآمر هو الله سبحانه ، رب السماوات والأرض وما بينهما رب العالمين .

لا عليك ... إذن لا يضيِّعنا ...

صحيح ، هكذا المرأة العميقة الإيمان ، العظيمة الخلق : أدب ومحبة مع الزوج ، وثقة به عالية ، فقط ، لأن ولاءَه لله ، بلغ حداً ، أن يستجيـب له سبحانه ، ويضحي بالأهل وبالولد وحتى بكل عاطفة تحجبه عن طاعة ربه وعن توليه والتفاني مجاهداً في سبيله . و " إذن لا يضيِّعنـا " ربنـا العظيم ، ربنا الحبيب .

ومن أين لها هذا ؟ قال تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ..} . [76 : مريم ] . وهكذا إذا وطَّن الإنسان النفس على التصديق بالله وآيات الله ، رفعه سبحانه وهداه زيادة عما كان . فيوطن نفسه على اليقين ، فيزيده الله كذلك يقيناً . وما كان من عند الله ، يبقى ، يكتب في القلب ، ويزيد لألاءً وصفاءً ، ويزيد الله على ذلك ، وهكذا ، حتى يبلغ الإنسان برعاية الله ورضاه وتوفيقه وحبه ، درجة الكمال الإنساني ، وهي ليست أبداً مستحيلة . وها نحن بصدد اثنين بلغاها ، رجل وامرأة . فقط لأنهما أقبلا على الله إقبالاً تركا معه الدنيا وما فيها من مغريات المال والزينة والجاه والشهوات ، وجعلا أمامهما الله وحده ، موحدين غير مشركين . ذاكرين الله آناء الليل وآناء النهار ، يملأهما الرضا بما قسم سبحانه ويقسم ، ويملأ قلبيهما الحب له وحده . الحب الأعظم الذي لا يجوز ولا يليق أن يشاركه فيه أحد .

ونبقى مع هاجر وطفلها الرضيع عليهما السلام ، بعد أن أفردها إبراهيم في ذلك الوادي الأغبر المتهجم ، تنقل طرفها بين الممسك بشغاف قلبها ، الطفل إسماعيل ، الواجم الهادىء على باب تلك الخيمة الصغيرة ، التي أقامها أبوه قبل سفره ، وبين رمال جافة ، بعد عهدها بالخضرة والنضرة والظل الظليل ، حتى ولا طير يمر ولو من بعيد ، ولو مرَّ الكرام . ثم تنظر إلى السماء ، متنهدة . ثم تتعجب من نفسها ... من تلك الطمأنينة العجيبـة ، والسكينـة التي تمتلكها ثم تتمتم : لا ... لا عليك يا إبراهيم . الله الذي أمـر بتركنا هنا ، هو أعلم وهو السميع البصير ، يرانا ، ويحبنا ونحبه ، ولن يضيِّعنا ... إذن لن يضيِّعنا .

كانت الشمس قد مالت عن خط الظهيرة . وكان الجهد قد أخذ من أم إسماعيل مأخذاً ، جهد السفر وجهد الصدمة بسبب إفرادها وطفلها في ذاك المكان الموحش البعيد . فتلفَّعت بخمارها واحتضنت رضيعها إسماعيل ، واستغرقت في نوم عميق ، ما درت مداه ، هل نامت بضع دقائق ، أم هي استيقظت بعد نوم ليلة وضحاها ، وكذلك شيئاً من ميلان الشمس . إذ أنها وجدت الشمس ما زالت مكانها ، وشغلها عن التفكير بذلك ، الذي أيقظها ، إسماعيل ، وهو يبكي . لقد جاع وهذا وقت رضاعه ... يا ربَّاه ! ليس في صدري لبن ، لعلَّ ذلك بسبب جوعي وعطشي وتعبي ! ... إذن أسقيه ماءً ـ استغفر الله ، نسيت أننا كذلك بلا ماء . أين السقاء ؟ سبحانك اللهم ، ليس فيه ولا قطرة . يا رباه إذن مـا العمل ؟

ويشتد بكاء الطفل : ـ يا إلـهي ... أنا أتحمـل ... أما الطفل فقد يموت عطشا . فلا لبن في صدري ... ولا ماء في السقاء ... يا إلـهي ...

وتنظر إلى السماء نظرة ، ثم إلى الأفق ، فتعترض بصرها أكمة ... فتعدو إليها ترتقيها ، ثم تشرف من هناك على الأرض ، لعلها تجد ماءً ، لعلها تجد بارقة تدل ولو على بعض الندى .

لا شيء ... لا شيء البتة ... أصبحت بعيدة عن طفلها ... يخيَّل إليها أن وحشاً قد يسمع بكاءَه ، فيأتي ويفترسه ... فتنحدر عن تلك الأكمة الصخرية الصوَّانية ، التي أصبحت منذ ذلك اليوم من شعائر الله عزَّ وجل ، وأصبحت من معالم الحج المشهورة ، وهي { الصفا } . تنحدر عنها السيدة هاجر ، ملهوفة مسرعة نحو وليدها ، لتجده بخير :

الحمد لله .

وإنما هو ما زال يبكي ، وقد جفَّت شفتاه القرمزيتان ، وأصبح فمه كبرعم ورد ذابـل . فاعتصرت شفقتها عليه قلبها . ثم نظـرت . فإذا أكمـة ثانية ، هي { المروة } ، التي أصبحت كذلك من شعائر الله المعظمة عند أتقياء القلوب . توقف بصرها عندها . فطارت إليها . ومن فوقها كذلك ، أشرفت على ما حولها من الأرض . فلم تجد شيئاً ولا بصيص أمل . ثم يخالجها خوف الأمومة على الطفل الرضيع . ولا سيما وهي تحسبه يحتضر :

لعله أصبح في الرمق الأخير .

ثم تنظر إلى جميع الجهات . فلا تجد غير هاتين الصخرتين العاليتين ، مكاناً تشرف منه على ما حولها من الأرض . فأخذت تسعى بينهما ، سعياً هادئاً حيناً ، تحدِّق من خلاله في الآفاق ، تريد المخرج . { ...وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا }

وما أعظم تقواها ! وأي مخرج ؟! لا شيء البتة في الأفق . ثم تهرول أحياناً ، من خشية على الرضيع ، وهكذا أشواطاً سبعة . كان آخرها رجوعاً إلى { الصفا } ، حيث أنها الأقرب إلى إسماعيل . ثم تهالكت نازلة من أعلى الأكمة ، وقد كاد يتملكها الخوف من أن يبتليها سبحانه بهلاك وحيدها إسماعيل . وتوجهت إليه لاهثة ، والغصة في حلقها ، والدموع في عينيها ، وقد تيبَّست شفتاها ظمـاً ونصبـاً :

أما من بشر في هذه النواحي يرشدني إلى ماء ؟! لو راعٍ في هذه الصحراء . لو قافلة تمر بنا فتسقينا . عفواً يا رباه . ذلك بيدك . لم أنسَ أنك أنت السميع البصير ، وأنك على كل شيء قدير . بلى ، هو بلاؤك ، فما هي النهاية ؟ فلتكن النهاية ما تكون . ولن تكون إلاَّ خيراً ، ما دمت بك صابرة ، وبحكمك راضية ، وفي سبيلك أبذل حياتي ، وعمري ، ونفسي وولدي . وأعلم علم اليقيـن ، أن العاقبة للمتقين . وأنك أرحم الراحمين .

وإذ اقتربت من الخيمة الصغيرة :

يا إلـهي ! لعل إسماعيل قد مات ! ... أم أنه بُحَّ صوته ، فإني لا اسمع له بكاء ؟

وألقت بنفسها فوق إسماعيل ، أول ما تنظر إلى عينيه ، فإذا هما ولا أجمل . وفمه قد أشرق ببراءَة وردة بلَّلها الندى :

يا ألله يا حصننا . يا ألله يا حبَّنا . نجا من تمسَّك بحبلك . وأمِنَ مَن لجأ إليك . لا ملجأ سواك . ولا قادر غيرك . ولا رحمان إلاَّ أنت . من وحَّدك فاز . ومن أشرك بك هوى . يا ربنا ! هذا ماء يجري من تحت قدميه ، وهو يفحص بهما الأرض نشيطاً جذلان فرحا ! هل أنا في حلـم ؟ ! ـ تفرك عينيها بكلتا يديها ـ لا ، لست في حلم . هذا الماء ، وهذا إسماعيل ، وهذه أنا التي قلت لإبراهيم ، وأنا في أعمق الإيمان ، وأعلى درجات اليقين برحمة رب العالمين : لا عليك يا إبراهيم ، لا عليك ، ما دام الله اختار لنا ، إذن لا يضيِّعنا . ربُّنا لا يضيِّعنا . وها هو سبحانه لم يضيِّعنا .

بللت بمزيد من قطرات الماء ، فم إسماعيل ، وهو يغرِّد ويزقو ، بأحلى من صوت بلبـل ، وأهيب من فرخ عقاب . ثم تذكرت القديسة عطشها وجفاف فمها . فما عبَّت عبَّا . وإنما نهلت نهلاً ، دليل العفَّة والقناعة واليقين بالله وبنعمته الدائمة {.. لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .. } وكانت تحمد الله وتشكره ، بين النهلة والنهلة . ودرَّ لبنها كأفضل ما كان يدرُّ في بلاد الشام ، على نهر من أنهارها ، بين الدلب والصفصاف :

أيها الينبوع المبارك ، ذكَّرتني بعذوبة أنهار بلاد الشام ، وينابيعها ، لا ليست مياهها أكثر بركة من هذا الماء . بدلالة هذه البركة في لبن إسماعيل ، والشبع عندي . وما لي حاجة بعد بتلك التميرات التي تركها إبراهيم ، يسَّر الله أمره ، وسهَّل دربه ، وجزاه الله كذلك ، على طاعته وصبره وتصديقه خير الجزاء . آه ... لو أنَّ إبراهيم يعلم الآن بما جرى لنا من نجاحنا كذلك في هذا الإمتحان المبارك ، الإمتحان الجميـل . نعم ، جميل هذا الإمتحان الفرح بعد الشدَّة . جميل ... وحقٌّ من الله سبحانه له الحمد . جميل ورائع . ماء فيه غذاء . إنما ما زال المكان موحشاً يا رباه .

والتفتت إلى السماء ، ففوجئت بأسراب من الطير ، تحلِّق فوقهما ، فوق المكان ، فوق الخيمة الصغيرة . إحتضنت إسماعيل ، تشمُّه وتعانقه :

أرأيت يا إسماعيل ؟ ! أرأيت صنيع الله الكريم بنا ؟ ! أرأيت ما أرحم ربنا وما أعظمه ؟ ! لو أنك تعلم . غداً إن شاء الله ، ستعلم وتتكلم . أنظر أي بنيّ ، ما أجمل تحويم الطيور فوق الماء . يقيناً إن الله سبحانه هدى أسرابها إلى هذا الينبوع . يا رباه ، الماء يفيض . يكثر ، يكاد المكان يغرق : زمِّي أيتها الأمواه . ربنا أقلل من إنبجاسها . الحمد لله . هكذا أحسن . ربَّنا لك الحمد . هذا ينبوعنا ، هذا لنا نحن ، إشربي أيتها الطيور ، إشربي هنيئاً . إنزلي بضيافتنا على فضل الله وكرم الله ورحمة الله . إنما ... إنما ... يا ربَّنا ، وبعد ، مع من نعيش ؟ فإنَّ لنا بعد حاجات . أنبقى هكذا ؟ ... وتسمع جلبة : رغاء إبل ، وأصوات رجال :

الله أكبر ، أرسل الله الفرج ، قبل أن تميل الشمس إلى الغروب . اللهم لك الحمد ...

وتحبس دموع الشكر ، وتشدُّ قامتها وعزيمتها ، فلقد رأت رائد القوم يقترب وفي صوته لهفة ، وفي عينيه عجب . ـ لمن هذا الماء يا إمرأة ؟ ـ هو لنا أيها البدويّ . ـ ومن أنتم ؟ ـ نحن آل بيت إبراهيم ، خليل الله . ـ ومن أي قبيل ؟ ـ نحن أنصار الله وأئمة الناس ، جعلنا للعالمين قادة ، وعن المؤمنين بالله ذادة . فأحنى هامته ، وردَّد كمن يسمع كلاماً عجباً : خليل الله ! خليل الله ! . ثم ثنى زمام فرسه ، وقفل راجعاً يخبر القوم في القافلة ، وقد بدت فيها الجمال المثقلة بأحمالها ، مع أنعام كثرت فيها الشياه وحملانها .

كانت قبيلة بقضها وقضيضها ، وجهها الله سبحانه إلى هذا المكان ، بعد أن كان نضب في نواحيها الماء ، ويبس الزرع ، وجف الضرع . وقد شاهدت من بعيد ، وبعيد جداً عن مكة المكرمة ، أشباح الطير وأسرابه ، وهي تحلق عالياً في السماء . وحيث يحلق الطير ، يوجـد الماء ، ذلك من علـم الأثر عند البدو الرحَّل .

وفوق ناقة شهباء ، كان شيخ القبيلة وزعيمها ـ وقد قلَّب الله قلبه بين العدل والرحمة والطمع في السكنى في هذا المكان . وهو أغلى ما تطمـح إليه القبائل : الماء الكثير الدائم ، وحيث يكون هذا يكون الكلأ والخصب وخفض العيش . وهم لا يرجون أحمد من ذلك ولا أرغد .

قال شيخ القبيلة بعد أن اتاه الرائد بتمـام الخبر : سلـهم إن كانوا يرضون بجورانا ، على أن نكـون لهم نعم الجـار ، نقوم بخدمتهم في جميع شؤونهم ، ولهم منا جمال وخيام ، وقطعان غنم مع رعيانها . ونساء يقمن على خدمة السيدة الشريفة هذه ، والستر والصون والعافية . وعد إليَّ بالخبر . فإن رضيت آتيها بنفسي شاكراً . وإلاَّ فانقدوها ثمن ما نحتاج إليه من الماء ، ثم نتابع سيرنا بحثاً عن ماءٍ مشاع . كذلك هي شريعة البدو وشريعة البادية .

وطبعاً ، رضيت السيدة التقية النقية ، التي كانت تجيب القوم إلى عروضهم بلسانها ، بينما قلبها ينبض بحمد الله ، بحمده وبشكر آلائه ومفاجآته وروعة عطاءاته وكرمه وإكرامه . ولا بدع فهو سبحانه ذو الجلال والإكرام . قالت وهي تغطي بوشـاح فمها وأنفها وتحتجب ببعض ركن الخيمة وهي تحتضن إسماعيل :

أهلاً بكم يا قوم . أنتم ضيوفنا ، فانزلوا على مائنا على الرحب والسعة ، وهـذا من أفضـال الله ونعمـه ، علينـا وعليكم . فاشكـروا الله وحـده واحمدوه .

وتقدم شيخ القبيلة ، وقد سمع مقالتها ، فحياها مطـرق الطرف ، بإجلال واحتـرام . ثم أخرج خنجراً من غمده رهيف الشفرة ، وجرح به يـده كعادتهم في هكذا مواقف . ثم أعطى العهود والمواثيق لآل بيت إبراهيم هؤلاء مقسماً بدمه الذي نزفت منه قطرات من جرحه ، ليكونن لهم هو وشعبه نعم الصديق ، ونعم الأخ ونعم الجار .

وقد وفى الرجل فيما بعد ، ووفى القوم . وتلك مشيئة الله سبحانه ، فهو إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون .

وانصرف الرجل . وقامت أم إسماعيل مصلية بين يدي الله ربها الرحيم ، ثم غابت في سجدة شكر طويلة على آلاء الله ونعمه . وقد كان الليل توشح منذ غروب الشمس بنعمة غير عادية ، سمع فيها ، كمثل مرور النسائم ، خفض أجنحة الملائكة ، يسبحون بحمد ربهم ، وينشرون في تلك البقاع ، ما حمَّلهم الله سبحانه وتعالى ، من المحبة والخيرات والبركات . وتحت هذه الأجنحة الناعمة ، أحتضنت أم إسماعيل طفلها المبارك . وإذ سقطت دمعة حب لله ، على خده الصغير النبيل ، مسحتها بخدها الشريف ، بانتظار فجر يوم جديد ، ويوم سعيد ، بل أيام كثيرة جديدة وسعيدة ، وكذلك بانتظار عودة خليل الله إبراهيم ، ناما في رعاية الله وحفظه وعينه التي لا تنام ، هانئين ، وكذلك نام القوم ، بعد أن تحدثوا طويلاً ، حول نيرانهم التي نوَّرت المكان وأدفأته أكثر ساعات الليل . متعجبين من كبر حظهم ، إذ هداهم الله إلى هذا الماء ، وهؤلاء الأخيار الأبرار ، وهذا المكان الطيب ، الذي كان قال فيه إبراهيم خليل الله ، قبل أن يغادره ، ليعود إليه من بعد مرارا ، وهو ما حكاه عنه الله تبارك وتعالى :{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . [ 37 : إبراهيم ] .

* * *

أما الخلاصة التي هـدفت إليها من خلال ذلك كله ، فهي في هذا السؤال : هو فضل من ؟ فضل إبراهيم ، وآل بيـت إبراهيـم على أنفسـهم وعلى الناس ؟ أم هو فضل الله ورحمته وكرمه عليهم وعلى الناس ؟ بل لإبراز فضلـه تبارك وتعالى قال الآية : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ... } كيف صنعناه هو وأهل بيته وكيف نبَّيْناهم . ليكون الذكر الحقيقي لله جملة وتفصيلاَ ، وليكون ذكر أوليائه ممراً وسبباً لذكره ، من حيث إظهار إخلاصهم له وحده سبحانه ، وتفانيهم في سبيله ، ليكونوا قدوة للعالمين . وليترسم الناس آثارهم في جهادهم في سبيل الله ، وفي تعبدهم وطاعتهم وذكرهم له وحده عزَّ ذكره وتعالى عما يشرك المشركون . قال جلَّت عظمته :

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . [ 4 : السجدة ] .

وقال عزَّ شأنه :

{ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَن شَاء ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ . مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ } . [ (11 ـ 16) : عبس ] .

وقال جلَّ جلاله :

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } . [ 152 : البقرة ] .
__________________
سماحة العلامة الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين

لبنان - جبل عامل - عربصاليم

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-01-2006, 07:18 PM
الصورة الرمزية ريحانة دار الشفاء
ريحانة دار الشفاء ريحانة دار الشفاء غير متصل
مراقبة قسم المرأة والأسرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2005
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 17,017
الدولة : Egypt
25

:salam:
اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اشكرك اختى على هذا الموضوع الرائع
جعلها الله فى ميزان حسناتك
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30-01-2006, 07:38 PM
الصورة الرمزية فتاة الاسلام
فتاة الاسلام فتاة الاسلام غير متصل
مشرفة ملتقى الفوتوشوب والرسم
 
تاريخ التسجيل: Dec 2005
مكان الإقامة: ** في دنيـــا الله الواسعة **
الجنس :
المشاركات: 7,124
افتراضي

جزااك الله خيراا اختاااه ووفقك ..

بوركتي على مشاركتك الرائعة ..
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سارة زوجة سيدنا إبراهيم عليه السلام التحدي_فلسطين الملتقى الاسلامي العام 2 22-10-2006 04:06 AM
المسرد التاريخي لمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبــو أحمد الملتقى العام 2 12-06-2006 09:56 AM
طلب بسيييييط ( أشرقي) (الفيديو كليب) (إبراهيم السعيد) واحاتي اطلب انشودتك المفضلة 2 30-04-2006 10:38 PM
** قصة إبراهيم خليل الرحمن** مسلمه اون لاين الملتقى الاسلامي العام 17 09-04-2006 03:13 PM


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.69 كيلو بايت... تم توفير 2.99 كيلو بايت...بمعدل (4.01%)]