|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
![]() يرى العلامة الدكتور ماجد الكيلاني التزكية في ضوء التوجيهات القرآنية والنبوية الشريفة بأنها عملية شاملة شمول الحياة نفسها وفي ضوء هذه التوجيهات فهو يُعرِّفها بأنها: عملية تطهير وتنمية شاملين هدفها استبعاد العناصر الموهنة لإنسانية الإنسان وما ينتج عن هذا الوهن من فساد وتخلف وخسران، وتنمية كاملة للعناصر المحققة لإنسانية الإنسان وما ينتج عن هذه التنمية من صلاح وتقدم وفلاح في حياة الأفراد.
والتزكية حسب هذا التعريف نوعان: تزكية معنوية ميدانها المعتقدات والقيم والثقافة، وتزكية مادية مادتها النظم والتطبيقات. نلاحظ أن التعريف قد وسّع دائرة التزكية من مستوى تطهير الناس من الشرك، وتربية القلب وتنميته بالكمال والصلاح وذلك بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وتزكية النفس بالصالحات وترك السيئات، إلى مستوى يشمل الأبعاد المادية والمعنوية من حياة الفرد والتي تشكل بطبيعة الحال في مجموعها المجتمعات؛ حيث أن تعريفات العلماء الماضين ومقلديهم من الحاضرين قد ركزت على المشاعر النفسية وتجلياتها في سلوك الفرد، دون الثقافة الخارجية التي تشكل البيئة العامة التي توجه إنجازات الأمة وتلون نشاطاتها، وعلى المظهر الشعائري للعبادة دون المظهر الكوني، في الوقت الذي قلصت المظهر الاجتماعي وحصرته في أخلاق الفرد بعيداً عن شبكة العلاقات الاجتماعية وعلاقات الحاكم بالمحكوم وما يتفرع عنها من علاقات في ميادين الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد وغيرها، لذلك فهو يضع لنا محتوى هذا المنهج في محورين رئيسين الأول: تزكية النفس والثاني تزكية البيئة العامة، وسنتناول في هذا التقرير تزكية النفس لبيان مدى الأفق الفكري عند أستاذنا الفاضل في بيانه لمجالات تزكية النفس التي لا تقتصر على العبادة والأخلاق حسب المفهوم الشائع لدى الكثيرين. تزكية النفس: وهي المجال الواسع للتزكية التي يوجه إليها القرآن الكريم، والنجاح في هذه التزكية نجاة للإنسان نفسه ووقاية لجهوده العلمية والعمرانية من الفشل في الدنيا والخسران في الآخرة، لقوله تعالى:" ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها "[ الشمس:7-10]، ويستخلص من استعمالات النفس المتكررة في مئات المواضع من القرآن الكريم والحديث الشريف، بأن النفس هي الوجود الحي للإنسان كله، وأن وجود النفس هذا ينقسم إلى قسمين: قسم معنوي يُشار إليه باسم القلب، وقسم مادي هو الجسم، كما يتجسد عمل القلب في نوعين من القدرات هما: القدرات العقلية، والقدرات الإرادية. أما عمل الجسم فتجسده الممارسات المادية المحسوسة، والتركيز على هذه الأنواع الثلاثة من أعمال القلب والجسم هو مدار تزكية النفس في التربية الإسلامية، وفيما يلي بيان لكيفية هذه التزكية 1. تزكية القدرات العقلية: من المعلوم أن العقل في القرآن الكريم وظيفة من وظائف القلب وليس وجوداً مستقلاً كما يظن البعض، ويبلغ إنسان التربية الإسلامية درجة النضج العقي- الرشد- حين يعقل ما هو خير وصواب، وما هو شر وخطأ. ويرى أن القدرات العقلية تتعرض للحالات التي تتعرض لها القدرات الجسدية من العافية والمرض والموت: فهي تصح بالعلم والعمل، وتمرض بالوهم والخرافة، وتموت بالجهل المطبق، وهذا ما يوجه إليه القرآن الكريم حين يذكر أن القلب الذي هو موطن القدرات العقلية يعي ويغفل، ويطمئن وينكر، ويؤمن ويكفر. وتتحقق تزكية القدرات العقلية من خلال أمور ثلاثة: الأول تزكية مسار الفكر، والثاني تزكية أشكال التفكير، والثالث تزكية أساليب التفكير. الأول: تزكية مسار الفكر فإنها تتم من خلال تنمية القدرات العقلية على التوجه للأهداف التي خُلقت من أجلها؛ وهي تدبير شؤون الإنسان وتنظيم علاقاته بالخالق والكون والحياة والآخرة، وحين تُحسن القدرات العقلية التوجه نحو هذه الأهداف فإنها تسمى- حكمة- ويسمى صاحبها حكيماً، وإلى ذلك يشر قوله تعالى:" يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً "[البقرة:269]، فإذا انشطنت- أي انحرفت عن قصد وعمد- عن التوجه لهذه الأهداف فإنها تنقلب مكراً سيئاً، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:" ولا يحيقُ المكرُ السّيء إلاّ بأهله "[فاطر:43]، وأما إذا عجزت القدرات العقلية وضعفت عن العمل فإنها تنقلب سفاهة وحمقاً، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:" ومن يرغبُ عن ملَّةِ إبراهيمَ إلاّ من سَفِهَ نفسَه "[البقرة:130]، وفي كلتا الحالتين الأخيرتين فإن الضرر يلحق بالإنسان في حياته الدنيوية ومصيره الأخروي الثاني: تزكية أشكال التفكير، فإن منهاج التزكية في التربية الإسلامية يحتاج أن يركز خلال مسار الفكر نفسه على التطهير من أشكال التفكير الخاطئة، وأن يتصف بأشكال التفكير السليمة، ويتم ذلك من خلال تربية إنسان التربية الإسلامية على ما يلي: أ- تدريب الإنسان على النقد الذاتي بدل التفكير التبريري، والمقصود بالنقد الذاتي نمط التفكير الذي يحمل صاحبه المسؤولية في النقص الذي يحدث والخطأ الذي يُقترف ولا يبحث عن مبررات خارجية. ب- التدريب على التجديد بدل التقليد، والتقليد الذي عناه القرآن الكريم هو عدم الاستفادة من القدرات العقلية واللجوء إلى محاكاة ما تفرزه القدرات العقلية عند الآخرين؛ سواء أكانوا من السلف الماضين أو الأقرباء والغرباء المعاصرين. ت- التدريب على التفكير العلمي بدل الظن والهوى؛ واتباع الظن والهوى من أعظم مظاهر الصنمية في التفكير والاعتقاد. ث- التدريب على التفكير الجماعي بدل التفكير الفردي، يتضمن القرآن الكريم والسنة الشريفة توجيهات مفصلة عن ضرورة الانتباه إلى التأثيرات المتبادلة بين الأنشطة التي تنقلها شبكة العلاقات التراثية بين أجيال الحاضر والماضي أو شبكة العلاقات الاجتماعية بين عناصر الحاضر القائم. ج- التدريب على التفكير الشامل بدل التفكير الجزئي، ويعني بالتفكير الشامل ذلك الذي يتناول الموضوعات تناولاً شاملاً ويحقق الإحاطة التاريخية والرسوخ الحاضر بها. ح- التدريب على التفكير السنني بدل التفكير الخوارقي، والمقصود بالتفكير السنني ذلك النوع من التفكير الذي يتعامل مع مواقف الحياة وظواهر الكون ومكوناته وحركة التاريخ الإنساني على أساس أنها جميعها تحكمها سُنن تنظم المقدمات والتفاعلات والنتائج طبقاً لقوانين محكمة دقيقة، صارمة، لا خلل فيها ولا وهن ولا محاباة ولا خصوصية ولا استثناء؛ وأن وظيفة إنسان التربية الإسلامية هي اكتشاف هذه السنن ثم العمل على الانسجام معها والحذر من الاصطدام بها عند ممارساته وبناء مؤسساته واختيار وسائله ونظم حياته، أما التفكير الخوارقي فهو الذي يجهل هذه السنن والقوانين ويلغي دور الإنسان في اكتشافها ويعفيه من تنظيم حياته طبقاً لها، ويقتصر على مشاهدة آثار عملها وانتظار خوارق ومعجزات إلهية تنعم عليه بآثارها النافعة وتنجيه من آثارها السيئة. خ- تدريب الإنسان على الانفتاح على الخبرات الصحيحة بدل الانغلاق على الخبرات التقليدية والجمود عليها: فالرسول صلى الله عليه وسلم يقرر أن الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها[ رواه الترمذي، وابن ماجه]، والمولى سبحانه يندد في القرآن بالذين ينغلقون على مفاهيم معينة ومعتقدات وأفكار محددة، ويجعل ذلك سمة من سمات الكافرين، مثل قوله تعالى:" إنَّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون* ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم "[البقرة:6-7]، والختم هنا عملية سننية قدم الكافرون أسبابه وخلق الله نتائجه، والختم على القلوب كالختم على الظروف والأغلفة فلا يستخرج منها شيء ولا يضاف إليها شيء، وكذلك قلوب الكافرين تنغلق وتختم على ما أودعت من أفكار، وهذه حال الثقافات الأرضية ونظم التربية التي تحمل هذه الثقافات عبر الأجيال، ومثل الثقافة الغربية المتعصبة، ثقافة العصبية القبلية في الأقطار العربية والإسلامية التي استعصت على جميع محاولات التجديد إلا ما كان تلوينها الثقافي بالأفكار الإسلامية وغيرها من الأفكار حيث حافظت على جوهرها وروحها خلال حقب التاريخ وفي ميادين الحياة المختلفة ولكنها كانت تطلي نفسها بطلاء الأفكار والمبادئ الجديدة. الثالث: تزكية أساليب التفكير، فإن منهاج التزكية في التربية الإسلامية يحتاج أن يركز علماً وممارسة على تدريب الإنسان على خطوات التفكير العلمي التي تبدأ بالإحساس بالمشكلة ثم الانتقال إلى تحديدها ثم الوعي بتفاصيلها ثم جمع المعلومات المتعلقة بها، ثم تحليل هذه المعلومات وتدبرها ثم الانتقال إلى اكتشاف الحكمة الكامنة وراءها ووضع الحلول اللازمة لها، وخلال هذه التزكية لا بد من تطهير تفكير الإنسان من آثار التفكير الشاعري الذي يقفز من خطوة الشعور بالمشكلة إلى طرح الحلول لها انطلاقاً من الظنون والأهواء التي تمليها العصبيات الجاهلة والتمنيات والرغبات المسبقة. 2. تزكية القدرات الإرادية: الإرادة هي القوة الثانية للقلب، وتعرّف بأنها قوة المشيئة والاختيار، وهي قوة خلقها الله في الإنسان لتحركه نحو إنجاز الأهداف التي تشهدها القدرات العقلية، والإنسان فيه عدد كبير من القدرات أو الدوافع الإرادية تتوازى مع حاجاته المادية والمعنوية مثل: دوافع الشهوات، ودوافع الحب، ودوافع الخوف، ودوافع الغضب. وهي كلها ضرورية ومهمة إذا توجهت نحو أهدافها توجهاً سليماً، والذي يستهدفه- منهاج التزكية- هو تنظيم عمل هذه الدوافع بحيث تتوجه نحو أهدافها التي خلقت من أجلها كأن تتحرك شهوات الطعام والشراب إلى أهدافها في الحفاظ على الجسد البشري، وهكذا في جميع الدوافع التي تندرج تحت القدرات الإرادية في الإنسان. 3. تزكية القدرات السمعية والبصرية: السمع والبصر أدوات تتلقى العلم والمعرفة ثم ترسلها إلى القوى العقلية لتقوم بفهمها ووعيها، ولكن الإنسان لا يحسن استعمل هذه الأدوات إلاّ إذا تزكى من المشتتات، وتدرب على مهارات الاستماع والإبصار، وهذه إحدى مسؤوليات-منهاج التزكية- في التربية الإسلامية، وهو ما يوجه إليه قوله تعالى:" إنَّ السَّمع والبَّصر والفؤاد كُلُ أُولئكَ كان عنهُ مسئولاً "[الإسراء:36]، ولقد أطنب علماء الزهد في الحضارة الإسلامية في مناقشة العوامل النفسية- الانفعالية أو المعوقات المشتتة للانتباه والتي تحول دون الاستفادة من حسن الاستماع والإبصار لكنها تركزت في ميدان المظهر الديني للعبادة، وفي حياة الفرد، دون التوسع في مناقشة مظاهرها في شبكة العلاقات الاجتماعية وفي ثقافات الأمم وتطوير أنماط الفقه واتجاهات المعرفة في ميادين المظهر الاجتماعي والمظهر الكوني للعبادة. 4. تزكية الجسم: تتكامل ممارسات الجسم الخارجية مع القدرات العقلية والقدرات الإرادية، ولما كان الإنسان مبتلى بحرية الاختيار والتفكير؛ فإن سلوكه مرتبط بتوازن أداتي الاختيار والتفكير: أي الإرادة والعقل، ولذلك حين يصيب الاضطراب هاتين الأداتين فإنَّ الإنسان يأكل أكثر من الكمية التي يحتاجها، وفي أوقات لا يحس بالجوع، وقد يأكل ويشرب ما يضره، وينكح لا لبقاء النوع واستمرار الذرية، وبوسائل وأشكال تتسبب في تدمير النوع؛ أي قد ينزل عن مستوى السلوك الحيواني وينطبق عليه الوصف الإلهي القائل:" أولئك كالأنعامِ بل هم أضلّ أولئكَ هُمُ الغافلون "[الأعراف:179]، لذلك احتاج الجسم الإنساني إلى تنظيم حاجاته وتزكيتها بغية تحقيق هدفين اثنين: الأول؛ إباحة كل ما أحله الله للإنسان، والذي أحله الله هو الطيب النافع الذي يتفق مع قوانين الخلق، والثاني؛ منع كل ما حرمه الله على الإنسان، والذي حرمه الله هو الخبيث الضار الذي يصطدم بقوانين الخلق. من خلال العرض السابق نلحظ أن مفهوم التزكية في الفقه التربوي الإسلامي يشمل جميع القدرات التي ترتقي بالنفس من مستوى أداء العبادة الشعائري إلى مستوى الرقي الفكري والإحسان في جميع ميادين الحياةبحيث يتحقق فينا قوله تعالى:" كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلواْ عليكم ءاياتنا ويُزكّيكم ويُعلِّمُكُمُ الكتابَ والحكمةَ ويُعلِّمُكُم مَّا لم تكونوا تعلمون "[البقرة:151]. المرجع: ماجد عرسان الكيلاني، مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها، سلسلة أصول التربية الإسلامية(3)، دار القلم، دبي، 2005م. - لمن يرغب بمزيد من التوسع ينصح بقراءة كتابين رائعين للأستاذ الكيلاني من سلسلة أصول التربية الإسلامية وهما: مناهج التربية الإسلامية والمربون العاملون فيها، وكتاب أهداف التربية الإسلامية - |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |