الهداية من أدلة إثبات وجود الخالق جل وعلا - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4617 - عددالزوار : 1469203 )           »          (وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلَا النَّصارى) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من أعظم ما يُفسد العلاقة بين زوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          من فوائد غضِّ البصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من وسائل استشعار النعم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من أروع الآثار: حوار هرقل مع أبي سفيان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كلام نفيس لابن القيم في الجواب عن سبب تسلط الكفار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          وقفات ثلاث بعد توقف القصف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          احذر مقاربة الفتنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          صفات المنافقين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم يوم أمس, 12:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,470
الدولة : Egypt
افتراضي الهداية من أدلة إثبات وجود الخالق جل وعلا

الهداية من أدلة إثبات وجود الخالق جلّ وعلا

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فالإنسانُ بطبعه يميلُ للتثبُّت من صحة أيّ أمرٍ لا يتيقنُ منه، لأنَّ سكينةَ النفسِ، وطمأنينةَ القلبِ، وزوالَ الشك لا تحصلُ إلا باليقين، ولا يقينَ من غير تثبُّت، ولا تثبُّت من غير دليلٍ قاطع.. ولذا فمن الطبيعي ألا يقبلَ إنسانٌ دعوىً إلا ببينةٍ وبرهان، ولا يُسلِّمَ لحكمٍ إلا بدليلٍ وإثبات..

وتعريف الدليلِ هو الطريقُ الموصلُ إلى إثباتٍ أمرٍ ما أو نفيهِ بطريقةٍ مُعتبرةٍ.. ومن البديهي أنه كلَّما عظمُ الأمرُ اشتدَّت المطالبةُ بالدليلِ..

ولا شكّ أنَّ أعظمَ القضايا هي قضيةُ وجودِ الخالقِ سبحانه، ومصداقيةُ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، فهي القضيةُ التي ينبني عليها مصيرُ الانسانِ ومستقبلهُ الأخروي: فإمّا سعادةٌ أبدية، أو شقاءٌ سرمدي.. ومن فضل الله ورحمته أنَّ الأدلة التي تثبتُ وجودَ الخالقِ كثيرةٌ ومتنوعة، كالدليل العقلي، والدليل العلمي، ودليلُ الفطرة، والدليلُ الأخلاقي، والتاريخي، والجمالي، واللغوي، وغيرها من أنواع الأدلة.. وفي هذا المقال سأتحدثُ عن نوعٍ واحدٍ فقط منها، وهو دليلُ الهداية.. أمّا بقيةُ الأنواع الأخرى فقد تحدثتُ عن كل نوعٍ منها في مقالٍ مستقل، وتم نشرهُ في هذا الموقع المبارك بحمد الله..

أيها القارئ الكريم: ليس كلُّ دليلٍ على وجود اللهِ يرتكزُ على العقل أو الحسِّ أو البرهانِ المجرد، فهناك من الأدلة ما يمكنُ استخلاصهُ من أعماق التحولاتِ التي تطرأُ على حياة كثيرٍ من الأفراد والمجتمعات، حين تمتدُ إليهم يدُ الهدايةِ الإلهيةِ فتغير حالهم تغييراً إيجابياً عجيباً، وتنقلهم نقلةً إعجازيةً من أسفل سافلينَ إلى أعلى عليين.. إنها ولا شك أثرٌ من آثار الرحمةِ الإلهيةِ والعنايةِ الربانيةِ، وتدبيرٌ لطيفٌ من الحكيم الخبير، فاللهُ تعالى لا يتركُ الناسَ سُدى، بل يبعثُ إليهم من يهديهم، جماعاتٍ وأفرادًا..

وهذا النوعُ من الأدلة يمكنُ تسميتهُ بأدلة الهدايةِ الربانيةِ للفرد والأمةِ، وهو ينقسمُ إلى فرعين متكاملين:
الأول: دليلُ الهدايةِ الربانيةِ للأفراد..
وهو نوعٌ من الإدراك يتسللُ إلى نفس الإنسانِ من خلال تكرار ِالوقائعِ المتشابهة، فينطبعُ في وعيه كيقينٍ لا يحتاجُ إلى مزيد بيانٍ.. وكثيرٌ من الناس على اختلاف أديانهم وقناعاتهم يمرونَ بلحظاتٍ يوقنونَ فيها أنّ ما جرى في حياتهم لم يكن محضَ مُصادفةٍ، بل كان وراءهُ تدبيرٌ غيرُ منظور، وأنّ الأقدارَ تصرفت بحكمةٍ أعجزت فطنتهم.. فكم من مرةٍ نجا فيها إنسانٌ من مأزقٍ مُحتمٍ بطريقةٍ عجيبة؟.. أو جاءهُ فرجٌ غير متوقعٍ في لحظةٍ حرجة.. وكم من لقاءٍ عابرٍ، أو كلمةٍ مؤثرةٍ سمعها عرَضاً فغيّرت مسارَ حياته.. وأخرجتهُ من ورطةٍ حقيقيةٍ.. وكم من تأخيرٍ أو عرقلةٍ ظنها شراً، فإذا بها تُنقذهُ من مُصيبةٍ كبيرة، أو تقودهُ إلى خيرٍ لم يتوقعه؟.. وكم من ضيقٍ استحكمت حلقاتهُ، ثم جاءَ الفرجُ في لحظةٍ حرجةٍ، وبعدَ أن بلغَ اليأسُ مداه.. هذه الحوادثُ الصغيرة وأمثالها، تتكرر فتتركُ في النفس شعورًا يتعمقُ مع الأيام: بأنَّ هناك شيئًا ما.. إرادةً ما.. سمها ما شئت، هي نوعٌ من الرعاية الخفيّة، تُدركُها النفسُ وإن لم تستطع أن تُفسّرها تمامًا.. والمثيرُ للإنتباه أنَّ هذه الحوادث ليست نادرةً، بل هي شائعةٌ متكررة، وتزدادُ وضوحاً كلّما نظرَ الإنسانُ في تفاصيل عُمرهِ بصدقٍ وتأمُّلٍ.. لكأنما هناكَ يدٌ حكيمةٌ لطيفة، تُدبّر وتُرتبُ له أقدارهُ بخُفيةٍ ومن حيثُ لا يعلم، كما يُرتبُ الأبُ الحنونُ مسارَ طِفلهِ، ليجنبهُ السقوطَ في المهالك.. وتأخذُ بيده إلى مخرجٍ آمن.. وحتى الذين عاشوا سنواتٍ في الإنكار، كثيرٌ منهم يتحدثونَ عن لحظاتٍ فارقةٍ، يُسمُّونها "لحظاتِ الصحوة"، أو "الهداية"، يتغيّرُ فيها مسارُ حياتهم فجأةً، وبدون مُقدماتٍ تغيراً إيجابياً واضحاً..

فما الذي يجعلُ إنسانًا يتوقفُ فجأةً في منتصف الطريق، ليكتشفَ بطريقةٍ مُثيرةٍ أنهُ كان على وشك أن يقعَ في خطأٍ كارثي، وليتحولَ بعدها إلى طريقٍ آخرَ، فيه الخير والسلامةُ..

هذا الشعور المتكررُ، وهذه النجاةُ العجيبةُ، وهذه التحولاتُ المثيرةُ، تُشكّلُ حيَن تتراكمُ دليلاً يمكن أن نُسميهِ: دليلُ الهدايةِ الربانيةِ للأفراد.. إنهُ ليسَ برهانًا رياضيًا، ولكنهُ تراكمُ تجاربٍ حيّةٍ، تُقنعُ القلبَ كما تُقنعُ العقلَ، وتتركُ أثرًا قوياً لا يمحوهُ الزمن.. وتُشكلُ في النفس يقيناً: أنّ الإنسانَ ليسَ متروكًا سُدى، وأنّ هناكَ من يراهُ ويسمعهُ ويرعاه، ويُرتبُ له أموره برفقٍ ولطف، وإن لم يُدرك ذلك على الفور.. ومن ثمَّ يتحولُ الإيمانُ بالله عند هذا الإنسانِ من احتمالٍ منطقيٍّ إلى تجربةٍ وجوديةٍ عميقةٍ، لا يُمكنُ طمسُها بالمنطق الجاف..

فيا أيها السائرُ في دروب الحياة، لا تَغفل عن هذه الشواهدُ المتراكمة، والرسائل اللطيفة المتكررة.. فكلُّ نجاةٍ من هلكة، وكلُّ رحمةٍ أدركتك بعد شدة، وكلُّ رزقٍ جاءك من حيث لم تحتسب، وكلُّ توبةٍ جاءتك بعد طول غفلة، وكلُّ دعوةٍ رفعتها بصدقٍ فاستجيب لها.. كلُّ ذلك ليس صدفةً ولا عبثاً، إنما هو توقيعٌ خفيُّ أنَّ للكون رباً رحيماً حكيماً، لا ينسى خلقه، ولا يتركهم سُدى..

فطوبى لمن عقِل عن ربه الرسائل والإشارات، ورآهُ في دقائق اللطفِ والرحماتِ، قبلَ أن يراهُ في شواهد الأكوانِ والآياتِ.. ﴿ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون ﴾ [الأنعام:122]..

الثاني: دليلُ الهدايةِ الربانيةِ للأمة:
ألا يحقُّ لكلِّ عاقلٍ أن يتساءل: كيفَ أمكنَ لدين الإسلامِ أن يُحدِثَ كلَّ هذا التحولِ الهائلِ في سلوك الناسِ وقناعاتهم، وأخلاقياتهم.. وكيفَ استمرَ هذا التأثيرُ الكبير حتى بعد قرونٍ من غياب النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قلوبٍ لم تره، وألسنةٍ لا تتكلمُ لغتهُ، وبيئاتٍ بعيدةٍ عن أرضِ النبوة؟.. رغمَ أنّ هذا الدينَ لا يملكُ من أدوات ووسائلِ التأثيرِ والتغييرِ الماديةِ ما يملكهُ غيرهُ، ومع ذلك فإنَّ المشهدَ الـمُعجز يتكرر: فكم من أمَّةٍ كانت قابعةً في مجاهل التاريخ، غارقةً في الظلام والضلالات، فلما اتخذت الإسلامَ منهجاً واستقامت عليه، تبدلت أحوالهُا إلى أحسن حال، وعاشوا بعزةٍ وكرامةٍ لم يعرفوها من قبل..

وإنَّ هذا لوحده كافٍ لمن كان له قلبٌ وبصيرة، أن يؤمنَ بأنّ هذا ليسَ من صُنع البشر، فلقد ظهرَ في التاريخ أنواعٌ لا حصرَ لها من حركات الإصلاح، إلَّا أنَّ أيًّ منها لم تُغيّر النفوسَ من الداخل، ولم تُحييِّ القلوبَ والضمائر، ولم تبنِ إنسانًا جديدًا، كما يصنعُ الإسلامُ العظيم..

وإذا أردنا أن نستوعبَ الأمرَ جيداً، فلنقارن بين حالِ العربِ قبل الإسلامِ وبعدهُ، ولنتأملَ كيفَ انتقلوا من أدنى درجاتِ الحضارةِ، وأسوءِ حالاتِ الضعفِ والتخلفِ والتبعيةِ، إلى قمم الريادةِ والسيادة، والتأثيرِ والقيادة.. كيف تجاوزوا الأمية، والجهلَ والوثنية، والتناحرَ والفوضى والعصبيةَ القبلية، ليصبحوا دُعاةَ علمٍ وهدى، وحُماةَ عدلٍ وحقَّ، وبُناةَ حضارةٍ وأمجاد.. كيف خرجوا من صحراءَ جرداء، لم يكن فيها حضارةٌ ولا مدنية، ولا نظامٌ ولا قوة، ليهزموا أعتى الجيوش وأقواها، ويفتحوا أعظم البلدان وأمنعها، ويأسسوا حضارةً نوعيةً ما عرفَ العالمُ شبيهاً لها، ولينشروا العدلَ والسلامَ في كلّ أصقاعِ المعمورةِ.. وليعلِّموا الدنيا أرقى مبادئِ الإنسانية، وأعلى مستوياتِ الأخلاقِ والقيمِ السَّامية..

فايُّ سرٍّ جعلَ من رعاة غنمٍ متخلفين، يتحولون إلى أعظم قادةِ أُممٍ فاتحين؟.. ما الذي حولَ أولئك الأعرابِ المتناحرينَ إلى إخوةٍ متحابينَ مُتكاتفين.. أيُّ روحٍ علويةٍ سرت فيهم فجعلتهم يقودونَ قافلةَ الإنسانيةِ نحو النورِ والهدى، بعد أن كانوا في حالٍ لا أفسدَ ولا أسوأ منها.. ما الذي حدثَ لعبدة الأحجارِ والأصنامِ حتى تغيرت حياتهم واستقامَ أمرهم؟.. ألم يكن الواحدُ منهم يصنعُ إلاههُ بيده من التمر، فإذا جاعَ أكلهُ.. ألم يكن دُينهم أن يقتلَ بعضهم بعضاً، وأن يبغي بعضهم على بعض، وأن يدفنَ أحدهم ابنتهُ حيةً كراهيةَ أن تأكلَ من طعامه.. الم يصفهم إمبراطورُ الفرسِ بقوله: "إني لا أعلمُ في الأرض أمةً أشقى ولا أقلَّ عدداً ولا أسوأ ذاتَ بينٍ منكم"..

فما الذي تغيرَ فيهم حتى صارت جحافلُ فارسَ والرومَ رغم إمكانياتها الضخمةِ، وكفاءتها العالية، وخبرتها الطويلة في القتال، تقفُ أمامهم عاجزةً.. كيف أصبحَ هؤلاءِ الأعراب المتخلفون بإمكانياتهم البدائية، وخبرتهم المحدودة، يُذيقونَ أعدائهم أمرَّ وأنكى الهزائمَ المتتابعة..

إنَّ المرءَ ليتساءلُ بانبهارٍ شديد: ما الذي جعلَ عبَّادَ الحجارةِ والأصنام، وهم الذين فروا بالأمس هاربينَ من أمام أبرهةَ الحبشي وهو يريدُ هدمَ كعبتهم المقدسة، فإذا بهم يدمدِمونَ في وقتٍ واحدٍ على عروش فارسَ والروم، ويدوسون تيجانهم، حتى هلكَ قيصرُ فما قامَ قيصرٌ بعده، وهلكَ كسرى فما جاءَ بعدهُ من كسرى..

لا شك أنَّ هذا الانتقالَ الإعجازي والتحولَ المذهلَ يستحقُ وقفةَ تأملٍ طويلةٍ.. لأنَّه ليس تحولاً عادياً كالذي يحصلُ لغيرهم من الأمم المتحضرة، بل هو انتقالٌ جذريٌ في فكر الإنسانِ ووعيهِ وقيمهِ، وفي أهدافهِ وغاياتهِ، أنتجَ أعظمَ وأضخمَ تحولٍ في تاريخ البشر، بل إنه من العمق والاتساعِ والسرعةِ بحيثُ لا يُمكنُ أن تُحدثهُ طاقاتُ البشرِ المحدودة، إذ لا بدَّ له من قوةٍ عليا تَمدهُ وترعاه، لا بدَّ لهُ من مصدرٍ إلهيٍ خبيرٍ قدير.. ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم ﴾ [الحديد:9]..

لقد كان العربُ قبلَ الإسلامِ في أسوءِ حالاتهم، فكانوا في تخلفٍ وجهلٍ مُدقعٍ، لا يقرؤونَ ولا يكتبون، ولا يعرفونَ نظامًا ولا دولةً، ولا يجمعهم دستورٌ ولا قانونٌ ولا عقيدة.. كانوا قبائلَ متنافرةً مُتناحرةً، يعيشونَ على السلب والنهبِ والغاراتِ، ويتقاتلونَ على أتفه أسبابِ الخلافات، ويغلبُ عليهم الظلمَ وسفك الدماءِ ونهبَ الممتلكات، وعبادةَ الأوثانِ ووأدَ البنات.. وقل ما شئتَ مما ساءَ وقبحَ من العادات والصفاتِ..

حتى بعث الله نبيهُ محمداً صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى الله وحدهُ، وينقلُهم من عبادة الأصنامِ إلى عبادة ربِّ الأنامِ، ويعلّمُهم منهجَ القرآنِ وتعاليمَ الإسلام، ذلك المنهجُ الربانيُّ المتكامِل، الذي يُعرِّفُهم بخالِقهم، ويُبيِّنُ حقَّ اللهِ تعالى عليهِم، ويضبِطُ علاقاتهِم ببعضهم، وينظمُ كل شؤونِ حياتهِم، ويَدعوهم إلى كُلِّ فضِيلةٍ، ويَنهاهم عن كُلِّ رذِيلةٍ.. وسرعانَ ما بدّلَ القرآنُ احوالهم، وطهرَ أرواحهم، وزكّىَ أخلاقهم، وصاغَ عقولهم، ولم يكن التغيرَ مجردَ تحسّنٌ في السلوك أو اجتنابٍ لبعض العاداتِ السيئة، بل كان انقلابًا كليًا في شخصية الإنسانِ ونظرته إلى الحياة، وإلى نفسه، وإلى ربه، وإلى الناس من حوله.. فأصبحوا أُمَّةً جديدةً، لهم غايةٌ ورسالةٌ ومنهج.. فمنهجهم القرآن الكريم، وغايتهم: رضا الرحمن، ورسالتهم: هدايةُ الناسِ إلى الإسلام، وأصبحوا يرونَ الموتَ في سبيل الحقِّ أكرمَ من حياة الذُّلِ والخنوع، ويرونَ إقامةَ العدلِ واجبًا فوقَ كُلّ اعتبار، ويرونَ الناسَ كلّهم سواسيه، لا فرق بين عربيٍّ ولا عجميٍّ إلا بالتقوى..

وكان من نتاج هذا التحولِ العميقِ أن أصبحت هذه الأمّةُ الجديدةَ أقدرَ الأممِ على البناء، وأسرعها في التمدُّدِ والنماء، وأكثرِها عدلًا ورحمةً وإخاء.. ولم تُعرف حضارةٌ في التاريخ بدأت من الحضيض كما بدأت أُمّةَ الإسلام، ثمّ انتشرت بهذه السرعة، وبلغت هذا العمقَ والتوسعَ في البناء والنفعِ والازدهار..

ولو أمعنتَ النظر في طبيعة الأثرِ الذي أحدثهُ هذا المنهجُ الربانيُّ في أتباعه، لرأيتَ من الشواهد ما يُذهلُ العقولَ.. فرجلٌ كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان في الجاهلية أعرابياً فظًّا غليظًا، يسجدُ لحجرٍ، ولا يعرفُ رحمةً ولا رقةٍ، ثمَّ إذا به يتحولُ إلى نموذجٍ للعبقرية والعدلِ والرحمةِ، والزُهدِ والخشيةِ.. لا يفري أحدٌ فريّهُ، ليس هو فقط، بل وغيرهُ مئاتٌ وألوفٌ وعشراتُ الألوف خرجوا في وقتٍ واحدٍ.. وأصبحوا ولاةً وقادةً وقضاةً ومعلّمينَ ومرابطينَ على الثغور، ينشرونَ العلمَ والأخلاق، ويُقيمونَ الأمن والعدلَ، ويُربّونَ الأجيالَ، ويُديرونَ دولًا متراميةَ الأطرافِ، ويؤسسون حضارةً ما عرفَ التاريخُ مثلها..

فأيُّ منهجٍ هذا الذي يُحوّلُ النفوسَ إلى هذا المستوى من الصدقِ والتفاني؟ وأيُّ نبيٍّ هذا الذي ربّى أولئك الرجال؟ وأيُّ كتابٍ هذا الذي هزّ الأرواحَ من أعماقها، وصاغها صياغةً جديدة؟.. ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون ﴾ [الأنبياء:10]..

لا شكَّ أنّ هذا ليسَ من صنع بشرٍ، بل هو من عند الخالقِ جلّ وعلا، العليمُ الخبير، والذي يعلمُ كيفَ تُبنى الأُمم، وكيفَ تُزكّى النفوسُ، وكيفَ تُوجّهُ الطاقاتُ، وكيفَ تُستثمرُ بالطريقة المثلى..

وإنّ أعظمَ ما في هذ التحولِ الهائل، ليس في حجمَ التوسعِ وضخامتهُ، ولا في قوته وسرعته، بل في طبيعة التغييرِ وطريقتهِ.. فمع عدلِ المسلمينَ وحُسنِ تعاملِهم دخلَ الناسُ في دين اللهِ أفواجًا، من غير حربٍ ولا جيوشٍ.. حدثَ هذا في مناطقَ كثيرةٍ كإندونيسيا وماليزيا وجنوبِ أفريقيا.. وواللهِ لو لم يكن هذا الدينُ من عندِ الله، لما كُتبَ له هذا القبولُ الكبير، ولما دخلَ الناسُ فيه أفواجاً، ولما بلغَ من الإصلاح ما بلغ، ولما أخرجَ أمةً بهذا الصفاءِ والتوازنِ والانسجام..

إنّ هذه النقلةَ التاريخيةَ المذهلةِ، من الجهل إلى العلم، ومن الغواية إلى الهداية، ومن الفوضى إلى النظام، ومن عبادة الأوثانِ إلى عبادة الرحمنِ وحده.. كُلها تدلُ دِلالةً قاطعةً على أنَّ هذا الدينَ ليس اجتهادًا بشريًا، بل هو منهجٌ ربانيٌّ: ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدون ﴾ [البقرة:138].. ولقد شهد خصومُ الإسلامِ قبل أصدقائهِ بأنَّ هذا التّحولَ ليس عادياً، وأنَّ وراءهُ سِرًّا إلهياً.. يقولُ الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون: "ما عرَفَ التاريخُ فاتحينَ أرحمَ من العرب المسلمين.. وإنَّ محمدًا قد أحدثَ في قومه ثورةً لم يشهدِ التاريخُ لها مثيلًا، فقد حوّلهم من قومٍ بدائيين، إلى أُمةٍ تحملُ رسالةً حضاريةً عظيمة، وكلُّ ذلك في زمنٍ وجيز".. بل اعترفَ توينبي، أحدُ كبارِ المؤرخينَ في العصر الحديث، بأنَّ الحضارةَ الإسلاميةَ قامت على أساسٍ أخلاقيٍ عجيب، لم تعرف له أوروبا مثيلًا في العصور الوسطى.. ويقولُ المستشرق الأمريكي ستودارد: "إنَّ نشوءَ الإسلامِ هو النبأُ الأعجبُ في تاريخ الإنسانِ كله.. فقد ظهرَ الإسلامُ في أمةٍ كانت متضعضعةِ الكيان، مُنحطةِ الشأن، فلم يمضِ على ظهوره سنواتٍ، حتى غطى نصفَ الأرض، ممزقاً ممالك عاليةَ الذرى، متراميةَ الأطرافِ، مُشيّداً عالماً حديثاً متراصِ الأركانِ".. أمّا المؤرخُ البريطاني إدوارد جيبون، فقد قال: "بقوةٍ واحدةٍ وفي وقتٍ واحدٍ زحفَ العرب على فارس والروم، وخلالَ عشرِ سنواتٍ من خلافة عمرٍ، أخضعوا ستةً وثلاثينَ ألف مدينةٍ وقلعةِ، وهدموا أربعةَ آلافِ معبدٍ، وبنوا أربعةَ عشرَ ألفَ مسجدٍ"..

وإنّ هذه النقلةَ التربويةَ الهائلةَ التي أحدثَها الإسلامُ في الأمة العربية، لهي دليلٌ من أقوى الأدلةِ على وجود الخالق، لأنَّ القوةَ التي صنعت هذه التحوّلَ العميقَ، لا يمكنُ أن تكونَ إلا من عند الله، ولا يمكنُ لعاقلٍ مُنصفٍ أن ينسبها إلى الصدفة، أو إلى عبقرية فردٍ من الناس.. إنها آيةٌ بينةٌ، تشهدُ أنَّ هذا الدينَ ليس صناعةً بشرية، بل هو رسالةٌ ربانيةٌ، هزّت الأرضَ، وبدّلت التاريخَ، وأثبتت أنّ الإيمانَ الحقَّ يغيّرُ الإنسانَ تغيّيرًا جذريًا، ويرفعهُ من أسفلِ سافلين إلى أعلى عليين..

وإنَّ التاريخَ ليشهدُ أنَّ المسلمينَ يومَ تمسكوا بتعاليم دينهم سادوا وشادوا، وعمروا الأرضَ وطوروها، وأناروا للإنسانية طريقَ التقدمِ والرقي، وقدموا حضارةً امتدت منافعها إلى كلّ المجالات.. فلما ابتعدوا عن تعاليم دينهم، وجهلوه وأهملوه، انحدروا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إليه عودةً صادقةً صحيحة.. ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ [آل عمران:110]..

وعليه فأدلةُ الهدايةِ الربانية للفرد والأمّة برهانٌ حيٌ على أنَّ وراءَ الكونِ يدًا تُمسكهُ، وعينًا تحرُسهُ، ورحمةً ترعاهُ وتعتني به.. فاللهُ جلّ وعلا يقول: ﴿ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [الروم:50]..

نسألُ اللهَ أن يشرح صدرونا جميعاً للحق، وأن يهدينا سواء السبيل..

وأخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 82.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 80.50 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]