شعيب عليه السلام وتبليغ الرسالة الإلهية إلى قومه - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 994 - عددالزوار : 122319 )           »          إلى المرتابين في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          رذيلة الصواب الدائم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          استثمار الذنوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          حارب الليلة من محرابك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          حديث: ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          ذكر الله تعالى قوة وسعادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          السهر وإضعاف العبودية لله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          مميزات منصات التعلم الإلكترونية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 19-04-2025, 11:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,513
الدولة : Egypt
افتراضي شعيب عليه السلام وتبليغ الرسالة الإلهية إلى قومه

شعيب عليه السلام وتبليغ الرسالة الإلهية إلى قومه

روضة محمد شويب

الحمد لله الرحيم الودود، نستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونُصلِّي ونُسلِّم على نبينا وقدوتنا محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى اصطفى رسله وأنبياءه، وبعثهم تترى مبشرين ومنذرين ليبلغوا رسالته إلى الخلق؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [غافر: 78]، وله في ذلك سبحانه حِكَمٌ منها ما علمنا ومنها ما لم نعلم[1].

كان أهل مدين قومًا عربًا يسكنون مدينتهم "مدين" التي هي قريبة من أرض كنعان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز قريبًا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة، ومدين قبيلة عُرفت بهم، وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل، وفي نسبه أقوال كثيرة، وفي صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال: ((أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر))[2].

وكان بعض السلف يسمِّي شعيبًا: خطيب الأنبياء؛ يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته؛ وقد روى إسحاق بن بسر عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبًا قال: ذاك خطيب الأنبياء))[3].

فال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 85]؛ أي: دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم يُنقل إلينا تفصيلها، وإن كان هذا اللفظ قد دلَّ عليها إجمالًا"[4].

وقال ابن عاشور: "وبينة شعيب عليه السلام التي جاءت في كلامه: يجوز أن تكون أطلقت على الآية لمعجزة أظهرها لقومه عرفوها ولم يذكرها القرآن، كما قال ذلك المفسرون، والأظهر عندي أن يكون المراد بالبينة حجة أقامها على بطلان ما هم عليه من الشرك وسوء الفعل، وعجزوا عن مجادلته فيها، فقامت عليهم الحجة مثل المجادلة التي حُكِيت في سورة هود، فتكون البينة أُطلقت على ما يبين صدق الدعوى، لا على خصوص خارق العادة، أو أن يكون أراد بالبينة ما أشار إليه بقوله: ﴿ فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا [الأعراف: 87]؛ أي: يكون أنذرهم بعذابٍ يحل بهم إن لم يؤمنوا"[5].

قوله تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا [الأعراف: 85]؛ أي: وأرسلنا إلى ولد مدين، وهو مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وهم أصحاب الأيكة - أخاهم شعيبًا في النسب لا في الدين، قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم، وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكائيل بن يسخر بن مدين بن إبراهيم، وأم ميكائيل بنت لوط، وقيل: هو شعيب بن يثرون بن مدين، وكان شعيب أعمى، وكان يُقال له: خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومَه، وكان قومه أهلَ كفرٍ وبخس للمكيال والميزان[6].

وقد ابتدأ الدعوة بالإيمان؛ لأن به صلاح الاعتقاد والقلب، وإزالة الزيف من العقل[7].

المعروف من التاريخ المنقول عن الأمم المشركة أن إشراكهم في توحيد الربوبية قليلٌ بالنسبة إلى إشراكهم في توحيد الألوهية[8].

أمرهم شعيب بعبادة الله وتوحيده، ونلاحظ هنا أن الرسل لم تُرسَل من أجل توحيد الربوبية؛ لأن كثيرًا من الناس كانوا مُقرِّين بأصله ومعانيه، والخصومة لم تكن فيه مع الرسل على خلاف توحيد الألهية، فقد انحرف كثير من الناس عن أصله وضلوا عن أساسه، لأنه كون توحيد الربوبية لم تُرسل الرسل من أجله، ليس معناه أنهم لم يدعوا إليه[9].

فتوحيد الربوبية من أعظم ما جاءت به الرسل، ومن أجَلِّ ما تضمنته الرسالات الإلهية، ومن أعلى ما دعت إليه الأنبياء؛ فهو يتعلق بالحديث عن أفعال الرب سبحانه، ويعرِّف الناس بخالقهم ومدبر شؤونهم جل وعلا، فلا جَرَمَ أنه من أشرف العلوم التي جاء بها وتضمنها بين طياته[10].

يقول ابن تيمية: "الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران؛ كما في قوله: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس: 1 - 3]، وفي قوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، فجمع بين الاسمين"[11].

وتتمثل دعوة شعيب عليه السلام:
أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم: ﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأعراف: 85]، وقال إسحاق عن ابن بشر عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: "كانوا قومًا طغاةً يجلسون على الطريق يبخسون الناس - يعني يعشرونهم - وكانوا أول من سن ذلك"[12].

وما جاء في هذا التشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمة؛ لأن المعاملات تعتمد الثقة المتبادلة بين الأمة، وإنما تحصل بشيوع الأمانة فيها، فإذا حصل ذلك نشط الناس للتعامل، فالمنتج يزداد إنتاجًا وعرضًا في الأسواق، والطالب من تاجر أو مستهلك يُقبل على الأسواق آمنًا لا يخشى غبنًا ولا خديعة ولا خلابة، فتتوفر السلع في الأمة، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها، فيقوم نماء المدينة والحضارة على أساس متين، ويعيش الناس في رخاء وتحابُبٍ وتآخٍ، وبضد ذلك يختل حال الأمة بمقدار تفشي ضد ذلك[13].

ثم قال لهم آمرًا: ﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود: 85، 86]، ولذلك فقوله: ﴿ مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي، مبالغة في النهي عن الفساد، والمراد: النهي عن الفساد كله، كما يدل عليه قوله: ﴿ فِي الْأَرْضِ المقصود منه تعميم أماكن الفساد، والفساد تقدم في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [البقرة: 11]، وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العام، وبه حصلت خمسة مؤكدات: بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص، ثم بالتعميم بعد التخصيص، ثم بزيادة التعميم، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان، ثم بتأكيده بالمؤكد اللفظي[14].

وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج، فابتدأ ينهيهم عن نوع من الفساد فاشٍ فيهم؛ وهو التطفيف، ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع؛ وهو أكل أموال الناس، ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد؛ وهو الإفساد في الأرض كله، وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال[15].

قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود: 86]، فتلك دعوة لمن آمن من قومه بأن يكملوا إيمانهم بالتزام الشرائع الفرعية، وإبلاغ لمن لم يؤمن بما يلزمهم بعد الإيمان بالله وحده، وفي دعوة شعيب عليه السلام قومه إلى الأعمال الفرعية بعد أن استقرت الدعوة إلى التوحيد، ما يؤذِن بأن البشر في ذلك العصر قد تطورت نفوسهم تطورًا هيَّأهم لقبول الشرائع الفرعية، فإن دعوة شعيب عليه السلام كانت أوسع من دعوة الرسل من قبله؛ هودٍ وصالحٍ عليهم السلام؛ إذ كان فيها تشريع أحكام فرعية، وقد كان عصر شعيب عليه السلام قد أظل عصر موسى عليه السلام، الذي جاء بشريعة عظيمة ماسَّة نواحي الحياة كلها[16].

قوله تعالى: ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ [هود: 86]؛ أي: ما يُبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيرًا وبركةً مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس والفساد في الأرض، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين.

وقال مجاهد: بقية الله طاعته.
وقال الربيع: وصيته.

وقال الفراء: مراقبته، وإنما قيد ذلك بقوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود: 86]؛ لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، أو المراد بالمؤمنين هنا المصدقون لشعيب، ﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود: 86] أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما، أو أحفظ عليكم أعمالكم وأحاسبكم بها، وأجازيكم عليها[17].

وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفعٌ عاجل له، من نوال ما يحبه، أعقب شعيبٌ موعظته بما ادَّخره الله من الثواب على امتثال أمره، وهو النفع الباقي، هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل[18].

ولفظ (بقية) كلمة جامعة لمعانٍ في كلام العرب؛ منها: الدوام، ومؤذنة بضده وهو الزوال، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل، وما يدعوهم إليه حظ باقٍ غير زائل، وبقاؤه دنيوي وأخروي، فأما كونه دنيويًّا، فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري، فهو حاصل من تراضٍ بين الأمة، فلا يحنق المأخوذ منه على آخذِه، فيُعاديه ويتربص به الدوائر، فبتجنب ذلك تبقى الأمة في أمنٍ من توثُّب بعضها على بعض، ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام))، فكما أن إهراق الدماء بدون حق يُفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة، فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور، فتكون معرَّضة للابتزاز والزوال[19].

وأيضًا فلأن نوالها بدون رضا الله عن وسائل أخذها كفرانٌ لله، يعرِّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها؛ قال ابن عطاء الله: "من لم يشكر النعم، فقد تعرَّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها"[20].

وأما كونه أخرويًّا، فلأن نهيَ الله عنها مقارن للوعد بالجزاء على تركها، وذلك الجزاء من النعيم الخالد؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مريم: 76][21].

على أن لفظ (البقية) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب، وهو معنى الخير والبركة؛ لأنه لا يبقى إلا ما يحتفظ به أصحابه، وهو النفائس؛ ولذلك أطلقت (البقية) على الشيء النفيس المبارك؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة: 248]، وقوله: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ [هود: 116]، وقال عمرو بن معديكرب أو رويشد الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم فما عليَّ بذنب منكم فوت[22]

قال المرزوقي: "المعنى: ثم يأتيني خياركم وأمثالكم يقيمون المعذرة، وهذا كما يُقال: فلان من بقية أهلٍ؛ أي: من أفضالهم"[23].

وفي كلمة (البقية) معنى آخر؛ وهو الإبقاء عليهم، والعرب يقولون عند طلب الكف عن القتال: أبقوا علينا، ويقولون: البقيةَ البقيةَ، بالنصب على الإغراء؛ قال الأعشى:
قالوا البقية والهندي يحصدهم ولا بقية إلا الثار وانكشفوا[24]

وقال مسور بن زيادة الحارثي:
أذكر بالبقيا على من أصابني وبقياي أني جاهد غير مؤتلي[25]

والمعنى: إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيئةِ العاقبةُ، فيكون تعريضًا بوعيد الاستئصال، وكل هذه المعاني صالحة هنا، ولعل كلام شعيب عليه السلام قد اشتمل على جميعها، فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة.

وإضافة (بقية) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعًا وتفريقًا إضافةُ تشريف وتيمن، وهي إضافة على معنى اللام؛ لأن البقية من فضله أو مما أمر به[26].

والمقصود من ذلك استنزال طائرهم؛ لئلا يشمئزوا من الأمر، وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال[27].

ونهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية: ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف: 86][28].

فذكَّرهم بنعمة الله تعالى في تكثيرهم: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 86][29].

ونهاهم عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف، وحذَّرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أُخراهم، وعنَّفهم أشد تعنيف: ﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود: 84]، كانوا مع كفرهم أهلَ بخس وتطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام، أخذوا بكيل زائد، واستوفَوا بغاية ما يقدرون عليه، وظلموا، وإن جاءهم مشترٍ للطعام باعوه بكيل ناقص، وشححوا له بغاية ما يقدرون[30].

وتلطف معهم في العبارة: قال تعالى عن نبيه: ﴿ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88]؛ أي: لست آمرَكم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشيء، فأنا أول من يتركه، وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة[31].

ثم انتقل إلى نوع من الترهيب: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89][32].

ثم مزج الترهيب بالترغيب: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90]، وتفنن شعيب علبه السلام في إضافة الرب إلى ضمير نفسه مرةً، وإلى ضمير قومه أخرى؛ لتذكيرهم بأنه ربهم؛ كيلا يستمروا على الإعراض، وللتشرف بانتسابه إلى مخلوقيته[33].

قال الزمخشري في قول الله تعالى: ﴿ رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] عظيم الرحمة للتائبين، فاعلٌ بهم ما يفعل البليغ المودة بمن يودُّه، من الإحسان والإجمال.

وقال السعدي في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [هود: 90] عما اقترفتم من الذنوب، ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 90] فيما يستقبل من أعماركم، بالتوبة النصوح، والإنابة إليه بطاعته، وترك مخالفته، ﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] لمن تاب وأناب، يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه، ومعنى الودود من أسمائه تعالى، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، فهو فعول بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول.

جاء في تفسير فخر الدين الرازي: وأما الوجه الخامس من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام: فهو قوله: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [هود: 90] من عبادة الأوثان، ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 90] عن البخس والنقصان، ﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ [هود: 90] بأوليائه ﴿ وَدُودٌ [هود: 90]، قال أبو بكر الأنباري: الودود في أسماء الله تعالى: المحب لعباده، من قولهم: وددت الرجل أوده.

الملاحظ في جوهر دعوة شعيب عليه السلام أمرهم بثلاثة أمور:
أحدها: إصلاح الاعتقاد، وهو من إصلاح العقول والفكر.

وثالثها: صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بألَّا يفسدوا في الأرض.

ووسط بينهما الثاني: وهو شيء من صلاح العمل خُصَّ بالنهي؛ لأن إقدامهم عليه كان فاشيًا فيهم حتى نسَوا ما فيه من قبح وفساد، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان.

فابتدأ بالأمر بالتوحيد؛ لأنه أصل الصلاح، ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم، وهي خيانة المكيال والميزان، وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف، وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدر، لأن المكتال مسترسل مستسلم، ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيال والميزان، فعززه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما[34].

وحاصل ما أمر به شعيب عليه السلام قومه، بعد الأمر بالتوحيد ينحصر في ثلاثة أصول هي:
حفظ حقوق المعاملة المالية.
وحفظ نظام الأمة ومصالحها.
وحفظ حقوق حرية الاستهداء[35].

واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف؛ وذلك لأنه بيَّن أولًا أن ظهور البينة له، وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن، يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى، ويصده عن التهاون في تكاليفه، ثم بيَّن ثانيًا أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليمًا رشيدًا، ثم بيَّن صحته بطريق آخر، وهو أنه كان معروفًا بتحصيل موجبات الصلاح، وإخفاء موجبات الفتن، فلو كانت هذه الدعوة باطلةً لما اشتغل بها، ثم لما بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض، وقال: لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل، عاد إلى تقرير ما ذكره أولًا؛ وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 90]، ثم بيَّن لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة؛ لأنه تعالى رحيم ودود، يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق؛ لأن رحمته وحبه لهم[36].

ومن شهادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، أنه إذا كان يوم القيامة، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم، والأمم المكذبة عن ذلك، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة، وزكَّاها نبيها[37].

قال تبارك وتعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ؛ لإطلاق قوله: ﴿ وَسَطًا بمعنى عدلًا، فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطًا، إلا في بعض الأمور، ولقوله: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحلَّه، أو حرَّمه، أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك، وفيها اشتراط العدالة في الحكم، والشهادة، والفُتيا، ونحو ذلك[38].

قال البغوي في تفسيره: أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو أسامة، قال الأعمش: أخبرنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُجاء بنوحٍ يوم القيامة فيُقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فيسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقال: مَن شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُجاء بكم فتشهدون؛ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].

ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180 - 182].
هذا، والله أعلم.

[1] قصص الأنبياء لابن كثير، ص: 197.

[2] نفس المرجع.

[3] المستدرك للحاكم (2/ 620 رقم 4071).

[4] قصص الأنبياء لابن كثير ص: 197.

[5] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور 4 /319.

[6] تفسير البغوي.

[7] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور 4 /319.

[8] المسلك الرشيد إلى شرح كتاب التوحيد، د. سلطان العميري، 1 /149.

[9] المسلك الرشيد إلى شرح كتاب التوحيد، د. سلطان العميري، 1 /147.

[10] المسلك الرشيد إلى شرح كتاب التوحيد، د. سلطان العميري، 1 /146.

[11] انظر: مجموع الفتاوي (10/284).

[12] قصص الأنبياء لابن كثير الدمشقي، ص 198.

[13] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور، 4 /322.

[14] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور 5/ 585.

[15] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور 5/ 585.

[16] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور 4 / 320.

[17] انظر: تفسير الفخر الرازي.

[18] التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور 5/ 586.

[19] المرجع نفسه.

[20] المرجع نفسه.

[21] المرجع نفسه.

[22] المرجع نفسه.

[23] المرجع نفسه.

[24] المرجع نفسه.

[25] المرجع نفسه.

[26] المرجع نفسه.

[27] المرجع نفسه.

[28] قصص الأنبياء لابن كثير (18).

[29] قصص الأنبياء لابن كثير ص 19.

[30] انظر: تفسير القرطبي 11 / 191.

[31] قصص الأنبياء لابن كثير الدمشقي، ص 198.

[32] نفس المرجع.

[33] التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 5 / 592.

[34] التحرير والتنوير لابن عاشور 5 / 584.

[35] نفس المرجع.

[36] تفسير فخر الدين الرازي.

[37] تيسير اللطيف المنان للعلامة السعدي.

[38] نفس المرجع.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 107.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 105.75 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]