|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() بداية الشعر الجاهلي (1) د. إبراهيم عوض يقف الشِّعر على رأس قائمة الثقافة الجاهلية كما هو معروف؛ ولهذا نذكره أول شيء من تلك الثقافة، وفي هذا الفصل نناقش بعض القضايا المتصلة به؛ تمحيصًا لما تَعِجُّ به الساحة الأدبية من آراء في ذلك الموضوع، وأُولى تلك القضايا عُمر هذا الشعر الجاهلي؛ يقول الجاحظ في كتابه: "الحيوان": "وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة، وكتب أرسطاطاليس ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقراطس وفلان وفلان قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب، ويدل على حداثة الشعر قول امرئ القيس بن حُجر: إنَّ بني عوفٍ ابتنوا حسنًا ![]() ضيَّعه الدُّخْلُلُون إذ غدروا ![]() أدَّوْا إلى جارهم خفارتَه ![]() ولم يضِعْ بالمغيب مَن نصروا ![]() لا حِميريٌّ وفى ولا عُدَس ![]() ولا استُ عَيرٍ يحكُّها الثفَرُ ![]() لكن عُوَيرٌ وفى بذمتِه ![]() لا قِصَرٌ عابه ولا عَوَرُ ![]() فانظر كم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام". وقد ترددت هذه المقولة في خطها العام لدُنْ مؤرخي الشعر الجاهلي ودارسيه؛ إذ يرون أن الشعر الجاهلي الذي يمكن الاطمئنان له إنما يبدأ من ذلك التاريخ الذي ذكره الجاحظ (انظر مثلًا نيلدكه/ من تاريخ ونقد الشعر القديم/ من ترجمة د. عبدالرحمن بدوي في كتابه: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي"/ ط2/ دار العلم للملايين/ 1986م/ 19، وكارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربي/1/ ترجمة د. عبدالحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1977م/ 55، وأحمد الإسكندري ومصطفى عناني/ الوسيط في الأدب العربي وتاريخه/ ط4/ مطبعة المعارف ومكتبتها/ 1342هـ - 1924م/ 44- 45، وريجي بلاشير/ التأثيرات الوراثية والمشاكل التي تضعها رواية الشعر العتيق/ من ترجمة د. عبدالرحمن بدوي في كتابه: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي"/ 283، ود. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ ط7/ دار المعارف/ 1976م/ 38 - 39، ود. عبدالعزيز نبوي/ دراسات في الأدب الجاهلي/ ط3/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1999م/ 12 - 13)، وإن كان أرنولد نيكلسون المستشرق البريطاني المعروف ينزل بهذا التاريخ إلى مدى قرن واحد فقط أو أكثر قليلًا، بدءًا من عام 500م تقريبًا (Reynold A، Nicholson، A Literary History of the Arabs Cambridge، 1969، P، 71)، والواقع أن الجاحظ، مع احترامي الشديد له وإعجابي البالغ به وبفكره وأسلوبه وشخصيته كلها، لم يقدم دليلًا على هذا الذي قال؛ إذ كيف يمكن الاقتناع بأن الذي مهد السبيل للشعر هو امرؤ القيس والمهلهل بما يعني أنهما أول من قال الشعر من العرب، وأن شعرهما من ثم يتسم بما يتسم به أول كل شيء من البدائية وقلة الفن والسذاجة بالنسبة لما جاء بعده، على حين أن ما خلفه لنا الملك الضليل من شعر، سواء من ناحية المقدار أو من ناحية القيمة الفنية حتى لقد جعلوه أميرًا للشعراء الجاهليين، يكذب ذلك تكذيبًا شديدًا؟! ولقد لفتت هذه المسألة أنظار الباحثين فأبدوا استغرابهم أن يكون الشعر الجاهلي بما فيه من فن متقدم وليد تلك المدة القصيرة التي يحددها الجاحظ بمائة وخمسين عامًا أو مائتين فقط قبل الإسلام، يقول مثلًا أحمد حسن الزيات: "وليس يسُوغ في العقل أن الشعر بدأ ظهوره على هذه الصورة الناصعة الرائعة في شعر المهلهل بن ربيعة وامرئ القيس، وإنما اختلفت عليه العُصُر وتقلبت به الحوادث وعملت فيه الألسنة حتى تهذب أسلوبه وتشعبت مناحيه"؛ (أحمد حسن الزيات/ تاريخ الأدب العربي/ ط24/ دار نهضة مصر/ 28)، ويقول أيضًا حنا الفاخوري: "وأقدَم شعر وصل إلينا كان ما قيل في حرب البسوس، أو قبل ذلك قليلًا، وكان قصائد كاملة تدل على محاولات كثيرة سبقتها وهيأت طريقها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من استقامة الوزن واللغة والبيان"؛ (حنا الفاخوري/ تاريخ الأدب العربي/ دون دار نشر أو تاريخ/ 52)، ومثلهما في ذلك د. عبدالعزيز نبوي، الذي يقرر أن "الشعر الجاهلي، منذ أقدم نصوصه التي وصلت إلينا، قد اكتملت له أو كادت مقوماته الفنية، بدءًا من طرائق التعبير، وانتهاءً بالموسيقا من وزن وتقفية، وهذا يعني أنه مرت حقبٌ طويلة قبل أن يستقر للشعر الجاهلي سماته وخصائصه"؛ (د. عبدالعزيز نبوي/ دراسات في الأدب الجاهلي/ 12) ... إلخ، ويؤكد تشارلز ليال أن "تعدد البحور التي كان يستعملها الشعراء الجاهليون وتعقدها، وكذلك القواعد الراسخة التي تتعلق بالوزن والقافية، فضلًا عن الأسلوب الواحد الذي كانوا ينتهجونه في بناء قصائدهم رغم المسافات التي تفصل كلًّا منهم عن الآخر، كل ذلك يشير إلى دراسة وممارسة طويلة سابقة لفن الشعر وإمكانات اللسان العربي، وإن لم يكن بين يدينا سجلٌّ لشيء من هذا"؛ (C، J، Lyall، Translations of Ancient Arabian Poetry، London، 1885، P، xvi)، وهو ما يوافقه عليه رينولد نيكلسون (A Literary History of the Arabs، P، 75 - 76)، وبالمثل يقرر إجناطيوس جويدي في كتابه (L` Arabie Anteislamique) أن القصائد الجاهلية الرائعة التي وصلتنا عن القرن السادس الميلادي تشير إلى أن وراءها صنعة طويلة ( I، Guidi، L` Arabie Anteislamique، Paris، 1921، P،21)، ويعلل كليمان هوار اختفاء الشعر السابق على ذلك التاريخ بأن الذكريات البشرية، ما لم يتم حفظها كتابة على الجدران أو الحجارة أو الأوراق، فإنها حَريَّة أن تضيع مع الأيام، ومن ثم يضيف قائلًا: إن الشعر العربي الذي وصلنا لا يرجع إلى أبعد من القرن السادس الميلادي عندما استعملت الألفباء النبطية في تسجيل ذلك الشعر (Clement Huart، A History of Arabic Literature، William Heinmann، London، 1903، P، 7)، ثم إن كلام الجاحظ عن زرارة والمسافة الزمنية التي تفصله عن الرسول عليه السلام لا علاقة له بهذا الذي نحن فيه، فضلًا عن أن الأبيات التي استشهد بها عميد الكتَّاب العرب القدماء لا تتضمن شيئًا مما يشير إليه. وفوق ذلك فلست أستطيع أن أجد مناسبة بين كلامه في هذا السياق عن امرئ القيس والمهلهل من جهة وكلامه عن فلاسفة اليونان من جهة أخرى، وإن كان عبدالفتاح كيليطو قد تصور أن الجاحظ إنما يوازن بين الشعر والفلسفة معليًا من شأن الأخيرة، جاعلًا إياها كالشيخ المجرب الطويل العمر، أما الشعر فصبي نزق لم تعركه الحياة بعد؛ لأن عمره لا يزال قصيرًا، وهذه هي عبارته: "لا جدال أن هذا المتكلم يقدم الفلسفة على الشعر، ليس في الزمن فحسب، وإنما في القيمة أيضًا، فكأن الأسبقية الزمنية تمنح الفلسفة جدارة ومزية واستحقاقًا، بينما تأخر ظهور الشعر علامة على طفولته وسذاجته وعدم نضجه، الفلسفة كالشيخ الذي جرب الأمور واستفاد من عمره الطويل، بينما الشعر كالصبي الطائش النزق الذي لا يؤبه لكلامه ولا يُعتمد عليه ولا يعتد به"؛ (عبدالفتاح كيليطو/ بين الفلسفة والشعر/ موقع "lycos")، لكن التركيب النحوي في كلام الجاحظ لا يساعد على تفسير العبارة على هذا النحو، وإلا لجاء هكذا مثلًا: "أما الشعر فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة، وأما كُتُب أرسطاطاليس ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديموقراطس وفلان وفلان، فموجودة قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب"، وبذلك تكون هناك مقارنة بين الشعر والفلسفة، علاوة على أن تركيب جملة الجاحظ، فيما لو أبقيناها رغم ذلك كما هي، ينقصه خبر المبتدأ، وهو كلمة "موجودة" أو ما يشبهها، اللهم إلا إذا كان الجاحظ قد قصد أنه قبل الشعر كانت هناك كتب في فلسفة الشعر مهدت الطريق إليه، لكن لا بد أن نفترض في هذه الحالة أنه قد سها فاستطرد قافزًا من الكلام عن الشعر الجاهلي إلى الكلام عن الشعر عمومًا؛ لأنه لا صلة، كما نعرف، بين شعر الجاهليين وفلسفة الإغريق، وعندئذ يكون قول الجاحظ: "وكتب أرسطاطاليس ..." معطوفًا على قوله: "امرؤ القيس بن حُجر والمهلل بن ربيعة"، وهو ما قد يرشح له ورود "كتب أرسطوطاليس" بعد فاصلة، لا بعد نقطة كما كتبها كيليطو. وعلى أية حال، فهناك أشعار تُروى عن أزمان أبعد كثيرًا من تلك المدة التي حددها الجاحظ؛ كتلك التي تنسب لعاد وثمود مثلًا، صحيح أن ابن سلام قد نفى أن تكون مثل تلك الأشعار حقيقية، إلا أن الحجة التي استند إليها في ذلك النفي ليست بالحاسمة؛ ذلك أنه اعتمد فيها على ما جاء في القرآن الكريم عن أولئك القوم من أنهم لم تبقَ منهم باقية، وهو ما أدى به إلى التساؤل قائلًا: إنه إذا كانت عاد وثمود قد استؤصلتا كما جاء في القرآن، فمن الذي أدى لنا تلك الأشعار يا ترى؟ لكن فاته أن القرآن لم يقل: إنهم جميعًا استؤصلوا، بل الذين استؤصلوا منهم هم الكافرون فقط؛ كما جاء في الآيات 50 - 68 من سورة "هود"، كذلك من الممكن جدًّا أن يكون غيرهم من العرب ممن كانوا يحفظون تلك الأشعار هم الذين أدوها لنا، ولست أقصد بذلك أن هذه الأشعار وأشباهها صحيحة بالضرورة، فليس ذلك همي في هذا السياق، بل كل ما أريد أن أوضحه هو أن الحجة التي ساقها ابن سلام، على جلالة قدره، لا تستطيع أن تحسم المسألة، وبخاصة أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون الثموديون قد قالوا شعرًا، ولا أن يكون ذلك الشعر قد بقي تلك المدة التي تفصل بينهم وبين الإسلام؛ إذ هي ليست بالمدة الطويلة، فها نحن أولاء ما زلنا نهتم بأشعار الجاهلية التي يُقر بها الباحثون، ونقرؤها وندرسها ونحفظ كثيرًا من نصوصها رغم انصرام كل هاتيك القرون التي تبلغ الألف والستمائة من السنين، ومثلهم في ذلك تلك الأمم التي اختفت من مسرح التاريخ واختفت معها لغاتها فلم يعد يعرفها إلا المتخصصون القليلون، والتي نعرف مع ذلك عن تراثها وآدابها وأفكارها وعقائدها الشيء الكثير، كما هو الحال مع الأكاديين مثلًا من التاريخ القديم، والهنود الحمر من تاريخنا الحديث، وعلى الوجه الآخر قد يكون تراث أمة من الأمم مصونًا متاحًا بين أيدي أخلافها، لكنهم لا يعرفون عنه شيئًا، كما كان وضع الحضارة المصرية الفرعونية مثلًا بالنسبة لنا نحن المصريين قبل الحملة الفرنسية وقبل فك حجر رشيد، الذي كان بمثابة كلمة "افتح يا سمسم" لكنوز علي بابا. ولقد كانت اللهجة الثمودية تجري على القواعد التي نعرفها في الفصحى في اشتقاقاتها وأزمنة أفعالها ووجود صيغ التثنية وأسماء الإشارة والضمائر وحروف الجر والعطف فيها، وإن كانت أداة التعريف عندهم هي "الهاء" بدلًا من "أل"؛ (د. شوقي ضيف/ العصرالجاهلي/ 112)، مما يمكن أن يفسَّر على أنه مظهر لهجي يختفي عند نظم الشعر مثلًا، فلماذا نحيل إذًا أن يكون الثموديون قد قالوا شعرًا، أو أن يكون شعرهم قد بقي حتى وصل بعض منه أهل الجاهلية القريبين من الإسلام؟ أما قول د. جواد علي، تحت عنوان "العربية الفصحى" في الفصل التاسع والثلاثين بعد المائة من كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، إن النصوص التي وصلتنا عن الثموديين تختلف عن العربية التي نعرفها - فمن الممكن، لو صح هذا الكلام وكان شيئًا مطردًا في اللغة كلها، الرد عليه بأن هذه النصوص ليست نصوصًا أدبية، وأنه كان من عادتهم تخصيص اللغة التي نسميها الآن بـ: "الفصحى" للإبداع الأدبي فقط، وتخصيص اللهجات القبلية لما عدا ذلك حتى لو كان شيئًا مكتوبًا، الواقع أنه لا يوجد عقلًا ولا نقلًا ما يُحيل هذا، وأما اعتراض الدكتور طه حسين مثلًا على الرائية التي ينسبها صاحب "الأغاني" لأحد أصهار إسماعيل من العرب بحجة أنها مكتوبة بلغة لينة مفهومة الألفاظ مستقيمة القواعد النحوية والصرفية والعروضية كلغة العرب أيام النبي - عليه السلام - بما يفيد أن اللغة العربية قد ظلت كل ذلك الزمن الطويل دون تطوير؛ (في الأدب الجاهلي/ دار المعارف/ 1964م/ 182 - 183، وبالمناسبة فعبارة "عليه السلام" هذه فمن عندي؛ إذ لم يحدث مرة أن صلى الدكتور طه على النبي في ذلك الكتاب!)، فيمكن الجواب عليه بأننا لا نزال حتى الآن، ورغم مرور زمن أكبر من الزمن الذي يفصل بين إسماعيل والجاهلية القريبة من الإسلام، نفهم كثيرًا من الشعر الجاهلي مع اختلاف حياتنا الآن عن الحياة آنذاك أكثر مما كانت مختلفة بين العصرين المذكورين، وبخاصة أن موضوع القصيدة المشار إليها موضوع إنساني بسيط لا يتعلق بوصف الحصان ولا الناقة وما إلى ذلك مما يكثر فيه الغريب بالنسبة لنا؛ لأن حياتنا الآن تخلو من الناقة والحصان، ولا نعرف أسماء أعضائهما ولا وجوه الحسن والسوء فيها كما كان يعرفها الجاهليون، بل يتعلق بحدثان الدهر وتقلبات الأيام وحتمية الموت وعجز البشر عن الوقوف في وجه تصاريف القدر، مما يخلو عادة من حُوشيِّ الألفاظ، ولا يجد القارئ صعوبة في فهمه، كما أن قواعد النحو والصرف والعروض ما زالت باقية كما تركها لنا الجاهليون رغم اختلاف ظروف حياتنا تمامًا عن حياتهم، ومع هذا فلا بد أن أسارع إلى التوضيح بأني لا أقول بالضرورة: إن تلك القصيدة صحيحة فعلًا؛ إذ يحتاج الأمر إلى دراسة أوسع وأعمق وأكثر أناة مما فعل طه حسين المتسرع دون سبب وجيه إلى الرفض والإنكار، لا لشيء إلا لأن المستشرق البريطاني مرجليوث (كما سنوضح لاحقًا) قد شاءت له حماقتُه وعصبيته على العرب والإسلام من قبله أن يحمل على الشعر الجاهلي كله لينسفه نسفًا، فجاء طه حسين فنسج على منواله وأنكر الشعر الجاهلي بدوره: كله أو جُله! وقد ننتهي بعد هذا إلى قبول القصيدة كلها أو بعضها، أو إلى رفضها جملة، أو إلى التوقف بشأنها. وعلى أية حال، فهذا نص ما قاله ابن سلام في كتابه: "طبقات فحول الشعراء" في سياق هجومه على ابن إسحاق صاحب سيرة النبي عليه السلام: "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبدمناف، وكان من علماء الناس بالسير، قال الزهري: لا يزال في الناس علم ما بقي مولى آل مخرمة، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلامٌ مؤلفٌ معقودٌ بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: مَن حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [الأنعام: 45]؛ أي: لا بقية لهم، وقال أيضًا: ﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ﴾ [النجم: 50، 51]، وقال في عاد: ﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [سورة الحاقة: 8]، وقال: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [سورة إبراهيم: 9]، وقال يونس بن حبيب: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه: إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، أخبرني مسمع بن عبدالملك أنه سمع محمد بن علي يقول: قال أبو عبدالله بن سلام، لا أدري أرفعه أم لا، وأظنه قد رفعه: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه: إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء، قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حِمْيَر وبقايا جرهم، وكذلك يُروى أن إسماعيل بن إبراهيم جاورهم وأصهر إليهم، ولكن العربية التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه، وتلك عربية أخرى غير كلامنا هذا، لم يجاوز أبناء نزار في أنسابهم وأشعارهم عدنان، اقتصروا على معدٍّ، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لَبِيد بن ربيعة الكلابي في بيت واحد قاله، قال: فإن لم تجِدْ مِن دون عدنان والدًا ♦♦♦ ودون مَعدٍّ فلتَزَعْك العواذلُ وقد رُوي لعباس بن مرداس السُّلمي بيت في عدنان قال: وعكّ بن عدنان الذين تلعَّبوا ♦♦♦ بمَذحجَ حتى طُرِّدوا كلَّ مطرد والبيت مُريب عند أبي عبدالله، فما فوق عدنان أسماء لم تؤخذ إلا عن الكتب، والله أعلم بها، لم يذكرها عربي قط، وإنما كان معدٌّ بإزاء موسى بن عمران صلى الله عليه أو قبله قليلًا، وبين موسى وعاد وثمود الدهر الطويل والأمد البعيد، فنحن لا نُقِيم في النسب ما فوق عدنان، ولا نجد لأولية العرب المعروفين شعرًا، فكيف بعاد وثمود؟!". وواضح أن ابن سلام يظن أن عادًا وثمود كانتا قبل زمنه بآلاف السنين وأنه لم يبقَ منهما شيء، لكن ثمود لم يكن يفصل بينها وبين الإسلام في الواقع أكثر من ألف سنة أو أقل؛ إذ يعود تاريخ الثموديين إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون، واستمروا بعده فترة، وكانوا يسكنون مدائن صالح وما حولها، وجاء في القرآن الكريم أنهم قد أخذتهم الرجفة، إلا أنهم رغم هذا قد خلفوا لنا كثيرًا من النقوش في بلادهم وخارج بلادهم (د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 33، 111)، مما يدل على أن فهم ابن سلام للآية الكريمة الخاصة باستئصالهم لم يكن فهمًا سليمًا، كذلك فاللغة التي كتبوا بها نقوشهم لا تختلف عن العربية الفصحى كما نعرفها، اللهم إلا فيما لا يقدم أو يؤخر حسبما رأينا، كما أن ثمود على الأقل تتلو تاريخيًّا إسماعيل بن إبراهيم ولا تتقدمه، كما سبق إلى وهم عالمنا الجليل؛ إذ إن إبراهيم وإسماعيل إنما سبقا ميلاد السيد المسيح بأزمان طوال، وليس بقرون قليلة، كما هو الحال مع ثمود حسبما عرفنا قبل قليل، فضلًا عن أنه لا يوجد فارق زمني يُذكر بين ثمود وموسى عليه السلام حسبما يقول ابن سلام، فقد قرأنا آنفًا أن ثمود سبقت عيسى عليه السلام بعدة قرون، وهو ما يصدق على سيدنا موسى أيضًا، كذلك فإسماعيل لا يمكن أن يكون هو أول من تكلم العربية طبقًا لما يقوله ابن سلام، الذي يضيف مع ذلك أنه عليه السلام قد نسي لغته الأولى لصالح لغة الضاد؛ إذ السؤال هو: وكيف ينسى ذلك النبي الكريم لغته ويتخذ لغة أخرى إلا إذا كانت هذه اللغة الأخرى لها وجود آنذاك، وهو ما يعني أنها سابقة على نسيانه للغته؟ وهذه اللغة هي لغة زوجته العربية؛ أي إن اللسان العربي كان موجودًا في ذلك الحين، ولم يكن إسماعيل أول من تكلم به كما قال ابن سلام؛ فالفرد (أي فرد) لا يمكنه استحداث لغة لم تكن؛ لأن اللغة تحتاج إلى أزمان وأزمان، وهي تنمو وتتطور وتتسع وتتعقد بالتدريج لا دفعة واحدة كما يوحي كلام ابن سلام رحمه الله. يتبع
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 09-11-2022 الساعة 12:49 PM. |
#2
|
||||
|
||||
![]() بداية الشعر الجاهلي (1) د. إبراهيم عوض وعلاوة على ذلك، فقد ورد اسم عدنان عند شعراء آخرين غير الشاعرين اللذين ذكرهما عالمنا الجليل، واللذين تابعه فيما قاله عنهما د. جواد علي في أول الفصل الأربعين بعد المائة (بعنوان "اللسان العربي") من كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، ومن هؤلاء الشعراء المهلهل بن ربيعة وليلى العفيفة وأمية بن أبي الصلت، الذين يقولون على التوالي: يوم لنا كانت رئاسةُ أهلِه ♦♦♦ دون القبائلِ مِن بني عدنان ••• يا بني الأعماصِ، إما تقطعوا ♦♦♦ لبني عدنان أسبابَ الرَّجا ••• قُل لعدنان: فُدِيتم! شمِّروا ♦♦♦ لبني الأعجامِ تشميرَ الوحَى ••• نفَوْا عن أرضِهم عدنانَ طرًّا ♦♦♦ وكانوا للقبائلِ قاهرينا وفي "مجمع الأمثال" للميداني بيتٌ شعري آخر ورد فيه اسم "عدنان"، نسبه المؤلف لعبدالله بن همام أحد بني عبدالله بن غطفان، مضيفًا أنه يُنسب للنابغة أيضًا، وهو ما عزاه البغدادي في "خزانة الأدب" لهذا الأخير فقط، وإن كان قد عاد فذكر أنه يُنسب في "الفاخر" (للمفضل بن سلمة) إلى الاثنين جميعًا، مع تحديد الغطفاني بأنه عبدالله بن همارق، ونصه: بما انتهكوا مِن ربِّ عدنانَ جهرةً ♦♦♦ وعوفٌ يناجيهم، وذلكمُ جَلَلْ وفي "الإيناس بعلم الأنساب" يورد الوزير المغربي هذين البيتين لسلمة بن قيس العُكلي: سيبلُغُ قذفي نهشلًا أن مجدَها ![]() قصيرٌ وقولي شتمُه وقصائدُهْ ![]() ويأتي على الفورَينِ دون محجَّرٍ ![]() ويصعَد في عكِّ بن عدنان ناشدُهْ ![]() وبالإضافة إلى ذلك فقد مر بنا ما قاله عدد من الباحثين من أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمكن أن يكون أول ما نظمته العرب من أشعار، بل لا بد أن تكون قد سبقته أشعار أخرى على مدى زمني طويل حتى استوى الفن الشعري على سُوقه، أما إلى أي مدى يمتد هذا الزمن في الماضي بالضبط فعلمه عند الله؛ إذ لم يستطع حتى الآن أي باحث الإتيان بما يشفي ويكفي في هذا السبيل. وهذا كله من شأنه التخفيف من مخاوف ابن سلام والتهدئة من شكوكه التي نحترمها رغم كل شيء؛ إذ لم يكن الرجل في تلك المخاوف ولا في هذه الشكوك صاحب هوى أو مأرب، بل كان يبغي البحث عن برد اليقين في مجال من مجالات العلم، ولم يكن يقصد إحداث ضجيج مقعقع يلفت إليه الأنظار، ولا أن يحارب العرب والمسلمين بتشكيكهم في كل شيء من تراثهم وحضارتهم كما يفعل بعض المستشرقين ومن يعدو لاهثًا خلفهم مقلدًا لهم في كل ما يفعلون، على أني، كما سبق التنبيه، لا أقول: إن الأشعار التي بلغتنا عن عاد وثمود وأشباههما لا بد أن تكون صحيحة بالضرورة، بل كل ما أبغي قوله هو أننا ينبغي أن نعيد النظر فيما قيل بخصوص الشك في الشعر الجاهلي. وهذه هي النقطة التي أريد أن أتناولها الآن، وقد كان ابن سلام هو أول مَن فصَّل القول من القدماء في هذه القضية، وإليك بعض ما قاله في هذا الصدد مما أصبح منطلقًا لمن جاء بعده (وبخاصة من المحدَثين عربًا ومستشرقين) للشك في شعر ما قبل الإسلام: بعضه أو كثير منه أو جُله أو كله، قال: "وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير، لا خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يستفاد ولا معنى يُستخرج ولا مثل يُضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر مُعجب ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي، وقد اختلف العلماء بَعْدُ في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه". ثم مضى مؤكدًا أن "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت، لا تعرفه بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا وسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف بهرجها وزائفها وسوقها ومفرغها، ومنه البصر بغريب النخل، والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده مع تشابه لونه وسنه وذرعه حتى يضاف كل صنف إلى بلده الذي خرج منه، وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون جيدة الشطب نقية الثغر حسنة العين والأنف جيدة النهود ظريفة اللسان واردة الشعر، فتكون في هذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار وأكثر، ولا يجد واصفها مزيدًا على هذه الصفة، وتوصف الدابة فيقال: خفيف العنان لين الظهر شديد الحافر فتيُّ السن نقي من العيوب، فيكون بخمسين دينارًا أو نحوها، وتكون أخرى بمائتي دينار وأكثر، وتكون هذه صفتها، ويقال للرجل والمرأة في القراءة والغناء: إنه لندي الحَلق ظل الصوت طويل النفَس مصيب للحن، ويوصف الآخر بهذه الصفة، وبينهما بون بعيد، يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له بلا صفة ينتهي إليها ولا علم يُوقف عليه، وإن كثرة المدارسة لتعدي عليّ العلم به، فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به". ثم يضرب على ذلك بعض الأمثلة من واقع الحياة الأدبية: "قال محمد: قال خلاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله: بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم، قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم، قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت، وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه فما أبالي ما قلتَ أنت فيه وأصحابك! قال: إذا أخذت درهمًا فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء، فهل ينفعك استحسانك إياه؟". ويبدو أن ابن سلام يتصور أن الشعر الصحيح لا بد أن يكون شعرًا جيدًا من الناحية الفنية والمضمونية بالضرورة، وهذا ما يوحي به قوله عما لا يطمئن له من شعر: إنه "لا خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف"، مع أنه لا تلازم البتة بين الشعر الصحيح من جهة والجودة الفنية والفائدة الخلقية والاجتماعية من جهة أخرى، ولا بين الشعر المزيف وتفاهة الفن والمضمون كذلك، وهذا مما يعرفه كل أحد، أما قوله، عن بعض ما كان يُتداول على أيامه من شعر لا ترتاح نفسه له ولا يرى صحته: إنه "قد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء" - فقد يمكن التعقيب عليه بأن الشعر المروي عن أهل البادية لا بد أن ينتهي هو أيضًا بعد ذلك إلى التقييد في الورق، فليست الكتابة إذًا عارًا على النصوص الشعرية ولا على من يأخذ بها، ولا ينبغي من ثم أن تتخذ تكأة لرفض شيء من تلك النصوص إلا إذا قام دليل قاطع على أنه زائف مصنوع، كما أن رواية الأعراب لشيء من الشعر ليست في حد ذاتها برهانًا على صحته؛ إذ البدو بشر من البشر في نهاية المطاف، يجوز عليهم الكذب والصدق جميعًا، ويقع منهم التزييف كما يقع منهم التحقيق، وفيهم الأمين الذي يُطمأن له، والخائن الذي يجفل منه ولا يوثق به، ثم هل كان العرب كلهم أبناء بادية؟ ألم يكن فيهم من يسكن المدن؟ ألم يكن بين سكان المدن هؤلاء شعراء؟ بلى كان بينهم شعراء، وابن سلام نفسه قد أفرد لشعراء مكة ويثرب والطائف والبحرين قسمًا خاصًّا من كتابه الذي نحن بصدده، علاوة على من كان يعيش منهم في بلاطي الحيرة والغساسنة، فكيف نسي عالمنا الجليل هذا حين اشترط أن يكون الشعر الصحيح من رواية البدو، والبدو وحدهم؟ وهذا أكبر دليل على أن ما زعمه كليمان هوار من أن المدن العربية في ذلك الحين كانت من شدة الاشتغال بالتجارة بحيث لم تكن هناك أية فرصة لترعرع الإبداع الأدبي فيها هو كلام لا يؤبه به البتة (Clement Huart، A History of Arabic Literature، P،6)، وفوق هذا ألم يكن بين العرب من يعتمد على الكتابة في رواية الشعر الجاهلي؟ ثم لماذا ننسى أن كثيرًا جدًّا من البدو العرب قد انتقلوا إلى العيش في أمصار البلاد المفتوحة وأصبحوا بهذا من سكان المدن؟ أفإن تغيرت مساكنهم ينبغي أن يتغير الحكم عليهم ولا يوثق عندئذ بما يروونه من شعر الجاهليين؟! أما حديث ابن سلام عن قدرة العلماء المطلقة على فرز صحيح الشعر الجاهلي من زائفه بمجرد النظر فيه، ففيه مبالغة كبيرة رغم معرفتنا بقيمة التخصص وضرورته؛ إذ إن أحكام العلماء التي تكلم عنها ابن سلام هنا لا تزيد عن أن تكون أحكامًا انطباعية، ومعروف ما يمكن أن يعتري الأحكام الانطباعية من فساد مهما علت درجة صاحبها في العلم والخبرة، ومن هنا كان لا بد للعالم من الرجوع إلى القواعد المرعية عند أهل كل صناعة، وتعريف القارئ عن طريق التطبيق العملي كيف اعتمد عليها في الحكم على هذا النص الشعري أو ذاك، وسَوْق البراهين التي تدل على ما يقول حتى تكون أمام الباحث الفرصة لتمحيص ما يقرأ، ومن ثم قبوله أو رفضه عن بينة، وهو ما لم يفعله ابن سلام للأسف في كثير من الحالات، كما في النص الذي نناقشه الآن، والذي ينسب للعلماء قدرات خارقة لا تعرف الفشل، أو لم يوفق فيه في بعض الحالات الأخرى، كما رأينا في حديثه عما ينسب لعاد وثمود من أشعار، إن كلام ابن سلام هنا ليشبه قول من يرى أن الطبيب ليس في حاجة إلى تحليلات ولا أشعة ولا إلى الكشف على المريض، بل يكفيه أن يلقي نظرة عليه فيعرف للتو ما يعاني منه، وهو ما يتسبب في وقوع كوارث كان من الممكن تدارك كثير منها وتجنُّب نسبة غير قليلة من حالات الوفاة أو تفاقم المرض لدرجة خارجة عن السيطرة مثلًا لو أن الطبيب طامن من غلوائه في الثقة بعلمه وخبرته بعض الشيء، وكم كان يونس صادقًا في قوله التالي الذي استشهد به ابن سلام: "لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء واحد كان ينبغي لقول أبي عمرو بن العلاء في العربية أن يؤخذ كله، ولكن ليس أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك"، كما أنه هو نفسه يحكم على خلف الأحمر قائلًا: "اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه"، مع أن خلفًا هذا متهم لدى بعض العلماء الآخرين بأنه وضَّاع كبير للشعر، فما القول في هذا؟ أليس هذا دليلًا آخر على أن مسألة معرفة العلماء بالشعر الجاهلي ومقدرتهم على تمييز صحيحه من ملفَّقه مسألة نسبية؟ وإلا فلماذا اختلفوا في الحكم على خلف الأحمر إذًا إذا كانت أحكامهم لا يخر منها الماء كما يريدنا ابن سلام أن نصدق؟! ليس ذلك فقط، بل ها هو ذا ابن سلام نفسه يخبرنا بأن الاختلاف بين المختصين برواية الشعر الجاهلي كان شديدًا، وأن هذا الاختلاف قد دفعه إلى الاقتصار على بعض ذلك الشعر وأصحابه دون البعض الآخر: "وقد اختلف الناس والرواة فيهم، فنظر قوم من أهل العلم بالشعر والنفاذ في كلام العرب والعلم بالعربية إذا اختلفت الرواة فقالوا بآرائهم، وقالت العشائر بأهوائها، ولا يُقنع الناس مع ذلك إلا الرواية عمن تقدم، فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا، فألفنا مَن تشابه شعره منهم إلى نظرائه فوجدناهم عشر طبقات، أربعة رهطٍ، كل طبقة متكافئين معتدلين"، أما قوله عن ابن إسحاق: "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبدمناف، وكان من علماء الناس بالسير، قال الزهري: لا يزال في الناس علمٌ ما بقي مولى آل مخرمة، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أُتينا به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ" - فأرى أن فيه تجنيًا عليه؛ إذ كيف السبيل إلى معرفة أن الرجال والنساء المذكورين هنا لم يقولوا شعرًا قط؟ الحق أن ذلك أمر يحتاج إلى دليل، وبخاصة أن أمامنا أشعارًا تُنسب لهم، ونفيها عنهم هو الذي يحتاج إلى برهان، وأين هذا البرهان؟ ثم إن عالمنا الجليل يؤكد أنه قد ضاع من الشعر العربي الكثير والكثير، وهو ما كان ينبغي أن يحجزه عن التسرع في إطلاق مثل تلك الأحكام! على أنني لا أقصد أن كل ما أورده ابن إسحاق في السيرة النبوية من أشعار صحيح لا ريب فيه، بل قُصارى ما أقول إن الأمر لا ينبغي أن يُقطع فيه بتلك السهولة التي ينتحيها ابن سلام، ثم إنني لا أفهم على أي أساس حكم على الأشعار المنسوبة في السيرة لعاد وثمود بأنها مجرد كلام معقود بقوافٍ وليست شعرًا، ألم يكن أحرى به أن يورد لنا الحيثيات التي نفى بها عن هذا الشعر الجودة الفنية، بل أنكر بناءً عليها مجرد دخوله ميدان هذا الفن؟ ومرة أخرى هل لا بد أن يكون كل شعر صحيح جيدًا من الناحية الفنية؟ وهو يقول: إن الشعر الجاهلي كان غزيرًا شديد الغزارة، لكن "جاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير، وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدح هو وأهل بيته به، صار ذلك إلى بني مروان أو صار منه، قال يونس: فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلَّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يُشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيُشكل ذلك بعض الإشكال، قال ابن سلام: أخبرني أبو عبيدة أن ابن داود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدَم له البدوي من الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح العطاردي فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته، فلما نفِد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله، وكان أولَ من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حمادٌ الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره وينحله غير شعره ويزيد في الأشعار، قال ابن سلام: أخبرني أبو عبيدة عن يونس، قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة وهو عليها فقال: ما أطرفتني شيئًا، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة، مديح أبي موسى، قال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى لا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس، قال ابن سلام: أخبرني أبو عبيدة عن عمر بن سعيد بن وهب الثقفي، قال: كان حماد لي صديقًا مُلطفًا فعرض عليَّ ما قبله يومًا، فقلت له: أملِ عليَّ قصيدة لأخوالي بني سعد بن مالك لطرفة، فأملى عليَّ: إنَّ الخليطَ أجد منتقَلُهْ ![]() ولذاك زُمَّت غدوةً إبلُهْ ![]() عَهدي بهم في النقبِ قد سندوا ![]() تَهدي صعابَ مطيِّهم ذُلُلُهْ ![]() وهي لأعشى هَمْدان، وسمعت يونس يقول: العجب ممن يأخذ عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسِر". وكلام ابن سلام عن تشاغل العرب عن الشعر بالإسلام والجهاد والفتوح معناه أولًا أن العرب كانوا جميعًا مجاهدين لا يستقر منهم في بلده ولا بيته أحد، وهذا بطبيعة الحال غيرُ صحيح، إنما كان بعضهم يجاهد، وبعضهم يتاجر، وبعضهم يزرع، وبعضهم يصنع، وبعضهم يرعى، وبعضهم يعلم أو يتعلم ... إلخ كما هو الحال في أي مجتمع آخر، ومعناه ثانيًا أنهم عادوا لا يقولون الشعر ما داموا لا يروونه؛ إذ الرواية أسهل وأقل بعثًا على الحرج من النَّظم، لكننا ننظر فنجد أنهم ظلوا يقولون الشعر حتى على أيام النبي عليه السلام، وفي أثناء الفتوح ذاتها، وهناك شعرٌ جد كثير قيل فيها كما نعرف جميعًا، بل إن الرسول عليه السلام كان يقرب إليه بعض شعراء المسلمين ويحثهم على قول الشعر في الذب عن الدين الجديد ويشجعهم، فكان يقول لحسان: ((اهجُهم "أي القرشيين" ورُوح القدس معك))، فكيف يقال إذًا: إن الإسلام قد شغَل العرب عن رواية الشعر، حتى إذا انتهوا من الفتوح (والكلام هنا بالمناسبة مضطرب، وكأن الجهاد شيء آخر غير الفتوح!) ورجعوا إلى أنفسهم وما كانوا يحفظونه من الأشعار وجدوا أنهم قد نسوا نصيبًا كبيرًا جدًّا منها؟ وبالنسبة لابن متمم بن نويرة هل يعقل أن يأخذ في ارتجال تلك الأشعار الكثيرة المتتابعة التي تشبه شعر جده بهذه السهولة، كما يُفهم من الرواية الخاصة بذلك؟ ثم لماذا يصنع ذلك يا ترى؟ وهل شرط أن يكون شعر متمم على مستوى واحد من المتانة والرُّوَاء؟ أليس من الطبيعي أن يتفاوت شعر الشاعر فيكون بعضه قويًّا متينًا، والآخر دون ذلك، كما هو الحال حتى في شعر شاعر عبقري مثل المتنبي؛ إذ نجد في ديوانه مقطوعات وقصائد لا ترتفع إلى مستوى شعره الآخر الرائع في سيف الدولة وكافور وفي التغني بمفاخره وأحزانه الذاتية؟ وقل مثل ذلك في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وهذان مجرد مثالين اثنين لا غير، وإلا فمعروف عند المشتغلين بالأدب والنقد أن ذلك ينطبق على سائر الشعراء. (.. يتبع).
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 09-11-2022 الساعة 12:50 PM. |
#3
|
||||
|
||||
![]() بداية الشعر الجاهلي (2) د. إبراهيم عوض أما بالنسبة لحماد وما اشتهر به من كذب ونَحْل، فإني أتساءل بدوري: إذا كان حماد على هذه الشاكلة من الاشتهار بالنحل والتلفيق، وكذلك باللحن والكسر فوق البيعة بما يعني أنه من الشعر لا في العير ولا في النفير، فما الذي كان يضطرهم إلى اللجوء إليه دائمًا وسؤاله عما في جعبته من جديد؟ ثم هل من الحتم اللازب أن يعرف بلال بن أبي بردة كل شعر الحطيئة، أو كانت ذاكرته قرصًا مدمجًا سُجل عليه كل شعر الشاعر الهجَّاء فلا يند عنها شاردة ولا واردة من ذلك الشعر؟ كذلك أليس من حقنا أن نسمع رد المتهم على التهمة الموجهة إليه؟ لكن للأسف تسكت الرواية عند هذا الحد فلا تعطي المسكين الفرصة لإبداء وجهة نظره! ثم من يا ترى أنبأ الناس بما دار بين بلال وحماد من حوار واتفاقهما في نهاية الأمر على ترك القصيدة المزيفة تذيع في الناس؟ إن أيًّا منهما لا يمكن أن يكون هو من روى القصة، وإلا لكان كمن يحفِر قبره بيده، كما أنه لم يكن هناك إلا هما وحدهما كيلا يقول قائل: إن شخصًا ثالثًا هو الذي فضح الأمر، أما لو افترضنا بعد ذلك كله أن قد كان هناك شخص ثالث، فإنهما لم يكونا ليجرُؤَا على قول هذا الكلام بمسمع منه؛ حتى لا يشوها صورتهما في عينه، وفي "الأغاني" أن المدائني كان ينسب القصيدة المذكورة للحطيئة فعلًا! فما الذي يمكن أن نقوله هنا؟ وهذا هو نص "الأغاني": "وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشًا للغزو فأنشده: "جمعْتَ مِن عامرٍ فيه ومِن أسد"، وذكر البيتين وبينهما هذا البيت وهو: فما رضِيتَهمُ حتى رفَدْتَهمُ ♦♦♦ بوائلٍ رهطِ ذي الجدَّين بسطام" ثم هل يقدح خطأ حماد في نسبة قصيدة أعشى هَمْدان لطرفة في أمانته بالضرورة؟ ألا يمكن أن تكون المشكلة مشكلة ذاكرة لا مشكلة ضمير؟ وهل هذا هو النص الشعري الوحيد الذي أحاط به الخلاف حول نسبته لصاحبه حتى نذهب لنعلق المشنقة لحماد؟ ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام وجهة النظر الخاصة بأحد الطرفين دون الآخر، وكأن حمادًا خرس فلم يُحِرْ جوابًا وسلَّم بما قيل في حقه، وأين هذا؟ وعجيب أن يقال في حماد: إنه كان ينحل شعر الرجل غيره، هكذا دون إبداء الأسباب، ترى لماذا كان يفعل ذلك؟ أكان مصابًا بلوثة في عقله تجعله يتبرع من تلقاء نفسه بخداع الناس وإنفاق وقته وجده في ذلك "لله في الله"؟ وأعجب من هذا أن يقال: إنه كان يزيد في الأشعار رغم ما اتهم به في ذات الوقت من أنه كان يلحن ويكسر الشعر، يا له من أحمق! لكن ما القول في الذين كانوا يصرون بعد هذا كله على البحث عنده دائمًا عن الجديد في الشعر؟ أليسوا مثله حمقى بل أعرق منه في الحماقة وأوغل؟ وأعجب من هذا وذاك أن يلقب هذا الكذاب الوضاع الخالي من الموهبة الشعرية بـ: "الراوية"؟ إن مثل هذا اللقب ليس له في الواقع من معنى إلا أنهم كانوا يحترمون روايته ويقدرونها حتى إنهم لم يروا فيه إلا أنه "راوية"! وفي "الأغاني" أن المفضل الضبي قد وصفه بأنه "رجل عارف بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يُشبه به مذهب رجل ويُدخله في شعره ويُحمَل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء"؛ أي إنه كان عالمًا بالشعر ذا بصيرة نقدية عجيبة فيه وصاحب موهبة وبراعة في التقليد ومقدرة على خلط الأمور حتى لتتداخل الأشعار الصحيحة والزائفة على يديه فلا يميز بينهما إلا عالمٌ خِرِّيت، فمن نصدق يا ترى؟ أنصدق من يرميه بالجهل الفاحش بالشعر وباللحن والكسر فيه، أم نصدق من يصوره بصورة العبقري الجِهبذ الذي لا يُعجزه في هذا الميدان شيء؟ وهناك خبرانِ آخرانِ غريبان عنه في "الأغاني"، مُفادهما أنه بقي يكذب على الناس ويضع لهم الشعر الجاهلي المنحول على مدى عشرات السنين، على الأقل من أيام الخليفة الأموي الوليد بن يزيد (الذي نجح في امتحان عقده له كي يثبت أنه يحفظ فعلًا لمن لا يعرفهم من الشعراء مائة قصيدة على كل حرف من حروف الألفباء) حتى عصر المهدي ثاني خلفاء بني العباس حين اكتشف تلاعبه فنادى في الناس ألا يقبلوا روايته، وكأن الدولة الإسلامية كان من مهامها نقد الأدب والكشف عن الشعر المنحول! فهل يقبل العقل أن يظل الرجل يضحك على ذقون العرب كل هاتيك العشرات من السنين دون أن يكشفه أحد قبل المهدي العباسي، وكأنه يتعامل مع أمة من الأفدام الأغتام البائسين؟ وأخيرًا - وليس آخرًا - نجد ابن سلام يبدأ كلامه قائلًا: إن الشعر العربي لم يعرف غير الرواية الشفوية، ليعود فيضيف بعد قليل أنه كان هناك قسط كبير منه مقيدًا في ديوان عند النعمان بن المنذر وانتهى مطافه إلى أيدي بني مروان، وذلك القسط، حسب كلامه، هو أفضل الشعر الجاهلي من الناحية الفنية؛ لأنه شعر الفحول ومَن مدحوا النعمان وأسرته، وهذا تناقض واضح! كذلك نقرأ في "تاريخ بغداد" لأبي بكر الخطيب أن أبا عمرو الشيباني، وهو أيضًا راوية كوفي كحماد، كان يجمع شعر القبائل، حتى إذا انتهى من شعر إحداها كتب مصحفًا بخطه ووضعه في مسجد الكوفة، ومع هذا فقد كان خصومه يتهمونه بالسرف في شرب الخمر رغم إقرارهم بأنه ثقة في روايته، ويعلق طه حسين قائلًا: "وأكبر الظن أنه كان يؤجر نفسه للقبائل، يجمع لكل واحدة منها شعرًا يضيفه إلى شعرائها"؛ (طه حسين/ في الأدب الجاهلي/ 171)، وهو ما يعني أن من البشر مَن يظل يقول: "عنزة" ولو طارت، ومنهم طه حسين، فها هو ذا الشيباني قد اجتمع خصومه وأنصاره على توثيقه، بَيْدَ أن طه حسين لا يعجبه العجب، فيتهم الرجل بأنه كان يؤلف الشعر وينسبه إلى شعراء القبائل التي تدفع له، أما من أين أتى طه حسين بهذا الكلام، فينبغي أيها القارئ أن تخر على ما يقوله ساجدًا موافقًا ولا تسأل مثل هذا السؤال، وعجيب أن يسرف طه حسين في الشك في الشعر الجاهلي حتى لَيزعم أنه كله تقريبًا مصنوع صُنعًا، حاطبًا هكذا في حبل مرجليوث المستشرق البريطاني الخبيث مع بعض التلاوين التي لا تقدم ولا تؤخر، ثم يصدق دون أدنى تفكير أو محاولة في التثبت أية رواية تشكك في علماء المسلمين، بل يخترع لبعضهم الاتهاماتِ اختراعًا، كما رأينا في حالة الشيباني المسكين! أيًّا ما يكن الأمر، فإن ما قاله ابن سلام، وهو أكثر المؤلفين العرب القدماء شمولًا وتفصيلًا في الحديث عن النَّحْل والانتحال في الشعر الجاهلي، لا يُعد شيئًا إلى جانب ما كتبه المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث في بحثه الذي نشره في عدد يوليه 1925م من المجلة الآسيوية الملكية بعنوان "The Origins of Arabic Poetry"، والذي انقضَّ فيه على الشعر الجاهلي يَنفيه كله نفيًا باتًّا لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا، ويتهم العلماء العرب في العصر العباسي بأنهم قد صنعوا ذلك الشعر صناعة ولفَّقوا له أسماء شعراء فوق البيعة، وجاء على إثره طه حسين فردد مقولته تلك العجيبة حذوك النعلَ بالنعل، اللهم إلا بعض الخيوط الرفيعة التي لا تُذكر؛ إذ كل ما هنالك أنه، في الوقت الذي يزعم فيه مرجليوث أن "كل" الشعر الجاهلي منحول زائف، فإن طه حسين يحاول أن يبدو مستقلًّا عن متبوعه فيقول: "جُله، إن لم يكن كله"، أما فيما عدا ذلك فقد أخذ طه حسين من المستشرق البريطاني الموتور أدلته واتجاه بحثه، وعبثًا يحاول أنصار طه حسين تبرئته والادعاء بأنه لم يأخذ شيئًا من مرجليوث، رغم أن الدلائل والشواهد جميعها تنطق بأقوى لسان بأنه إنما أغار على بحث مرجليوث إغارة شاملة، وإن وشَّاه ببعض التزاويق والحذلقات التي ظن أنها يمكن أن تغطي على سرقته، بل إن مرجليوث نفسه قد اشترك في اللعبة مدافعًا عن ناهب فكرته، زاعمًا أن البحثين قد صدرا تقريبًا في وقت واحد، بينما يفصل بينهما عشرة أشهر كاملة، كما أن طه حسين في كل ما كتب قبل ذلك التاريخ من مقالات وكُتُب كان يتحدث عن شعر الجاهلية حديثَ المطمئن له تمام الاطمئنان، بل إنه في آخر ما كتب في هذا الموضوع قبل مرجليوث - وكان ذلك في الفصل الأول من كتابه: "قادة الفكر"، الذي سبق صدورُه صدورَ بحث مرجليوث بشهرين تقريبًا (في إبريل 1925م على وجه التحديد) - قد جعل من الجاهلية وأشعارها أساسًا لحضارة الإسلام، مؤكدًا أنه لولا هذه الأشعار وأصحابها ما كان الخلفاء والعلماء والقُوَّاد المسلمون، وقد ألحَّ على هذه الفكرة إلحاحًا كبيرًا، في الوقت الذي ذكر معها شك بعض الباحثين الأوربيين المحدَثين في وجود هوميروس، وهذا نص عبارته: "علامَ تقوم الحياة العربية في بداوة العرب وأول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر!... هل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها مَن ظهر مِن الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟"؛ (قادة الفكر/ ط9/ دار المعارف بمصر/ 10 - 11)، لكنه ما إن ظهر بحث مرجليوث ووصل إلى أيدي الباحثين والعلماء في مصر حتى رأيناه ينتكس على رأسه وينتقل مائة وثمانين درجة مرددًا عكس ما كان يردده طوال تلك السنين التي أربت على الخمس عشرة سنة منذ أول مقال وجدته يتناول فيه الكلام عن الشعر الجاهلي، كما وضحت في بحث لي كتبته منذ أكثر من سبع عشرة سنة ونشرته على المشباك منذ عدة سنوات بعنوان: "نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي: سرقة أم ملكية صحيحة؟". وقد عقدت لبحثي طه حسين ومرجليوث دراسة مستفيضة قارنت فيها بينهما، وانتهيت إلى أن الدكتور طه لم يأتِ بشيء أساسي غير ما قاله المستشرق البريطاني، وهذه الدراسة متاحة لمن يريدها في كتابي: "معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين": فكلاهما ينفي الشعر الجاهلي كله، وإن تظاهر طه حسين بأن من الممكن أن يكون بعض ذلك الشعر صحيحًا، لكنها صحة نظرية؛ لأنه في ذات الوقت يحرص على إثارة الريبة في ذلك الشعر جميعه متحججًا بأنه يجري في ذلك على الشك المنهجي الذي يُنسب للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وهو ما بينت أنه لا أساس له من الصحة؛ إذ إن طه حسين لم يفهم تلك الفلسفة ولا نجح في تطبيقها على موضوعه، فقد دخل الساحة وفي ذهنه التشكيك في الشعر الجاهلي لا لشيء إلا لأن مرجليوث قد شكك فيه، فكان لا بد له بدوره من الشك والتشكيك في كل ما يتعلق بذلك الشعر كأنه صدى صوت المستشرق البريطاني أو بُوق فمه، مع الاطمئنان في نفس الوقت إلى كل نص آخر ما دام يمكن الالتواء به لخدمة فكرته التي سرقها من مرجليوث بمباركة صاحبها كما رأينا، ولو كان يفهم فعلًا ذلك الشك المنهجي، أو على الأقل: لو كان مخلصًا وجادًّا في تطبيقه على بحثه، لوقف من كل النصوص التي بين يديه موقف الاحتراز والارتياب إلى أن يظهر له أنها تستحق الاطمئنان حقًّا. كما أن كليهما يهاجم الرواة الشفويين الذين يقول مؤرخو الأدب العربي بوجه عام: إنهم هم الذين حفظوا للأجيال التالية أشعار الجاهلية، ويشكك في مقدرتهم على أداء تلك المهمة، وفي الوقت ذاته ينفي كلاهما أن يكون العرب في ذلك الوقت على معرفة بالكتابة بحيث يستطيعون أن يسجلوا ذلك الشعر لو كان له فعلًا وجود، كي يحفظوه من الضياع، وبالمثل فكل منهما يعتمد في نفيه لذلك الشعر على اختفاء اللهجات القبلية من قصائده، ومجيئه كله في قالب فصيح، مما يشير إلى أن العرب كانوا ينظمون شعرهم قبل الإسلام بلغة واحدة هي اللغة الفصحى، وهذا ما يرفضه كلاهما ويرى أن الفصحى قبل الإسلام لم يكن لها وجود، كما يعتمد كل منهما على خلوِّ ذلك الشعر من الموضوعات الدينية، اللهم إلا ما فيه من بعض العقائد والشعائر الإسلامية، وهو ما يدل على أنه إنما صُنع بعد الإسلام صُنعًا؛ (انظر د. إبراهيم عوض/ معركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1987م/ 56 - 77). ومع هذا كله يأتي أحمد عبدالمعطي حجازي فيفسر شك طه حسين في الشعر الجاهلي على النحو التالي الذي لا أفهم كيف توصل إليه: "وإذا كان الرواة العرب ينسبون القصائد المعلقات لشعراء أفراد كامرئ القيس وطَرَفة بن العبد وعنترة، فقد ذهب عميد الأدب إلى أن الشعر الجاهلي منحول، أو هو بعبارة أدق نتاج جماعي يصور حياة الجماعة العربية البدوية ويجسد أخلاقها ويعبر عن نظرتها الخاصة للوجود بلغة طقسية قريبة من لغة الشعائر الدينية التي تصبح فيها الجماعة كيانًا واحدًا يتوحد فيه الأفراد وتتصل الأجيال"، وهو كلام لم يدُرْ في خاطر طه حسين ولا حتى في الأحلام! إنما هو من أوهام حجازي المضحكة! (انظر مقاله في "أهرام" الأربعاء 11 جمادى الأولى 1427هـ - 7 يونيه 2006م بعنوان: "الشعر في حياتنا - الشعر ليس امتيازًا خاصًّا"). ويجد القارئ ردًّا مفصلًا وتفنيدًا تامًّا لكل ما هرف به مرجليوث في الدراسة المطولة التي ألحقتها بترجمتي لبحث ذلك المستشرق (ديفيد صمويل مرجليوث/ أصول الشعر العربي/ ترجمة وتعليق ودراسة د. إبراهيم عوض/ ط2/ دار الفكر العربي/ 1421هـ - 2000م/ 115 - 162)، وفي تلك الدراسة بيَّنت أن دعوى مرجليوث القائلة بأن الشعر الجاهلي لم يكن له وجود، وأن العرب لم يعرفوا نظم الشعر قبل العصر الأموي - هي دعوى متهافتة، ويكفي أن نقرأ في ذلك الشعر الأموي نفسه الذي لا يشك فيه مرجليوث لحيظة إشارات متكررة إلى شعراء الجاهلية بوصفهم المثل الأعلى لشعراء العصر الأموي، علاوة على حديث القرآن الكريم المتكرر عن الشعر والشعراء، وهو الحديث الذي لا يمكن أن يكون معناه الكهانة والكهان، كما يزعم مرجليوث على غير أساس كي ينفي معرفة العرب للشعر في ذلك الوقت؛ إذ تحديت أي إنسان أن يأتينا بأي نص قديم يقول: إن كلمة "الشعراء" في ذلك الوقت كانت تعني "الكهان"، علاوة على أن وقائع التاريخ ورواياته تقول: إن الشعراء كانوا موجودين بكل يقين قبل الإسلام وفي عصر الرسول عليه السلام، على عكس ما يريد مرجليوث منا أن نقتنع، وبالمناسبة فقد سبقه كليمان هوار فربط على نحو ما بين الشاعر من جهة والكاهن والساحر من جهة أخرى (انظر: A History of Arabic Literature، PP، 7 - 8)، ثم يزيد الطين بِلَّة أن يردد أحمد حسن الزيات هذا السخف، وأن يكون ترديده له فوق ذلك ترديد الواثق المطمئن الذي لا يرى في الأمر أية غرابة، بل إن الطريقة التي ردده بها لتوهم من لا يعرف خبيئة الأمر أن هذا الكلام هو رأيه هو، توصَّل إليه من تلقاء نفسه، وفضلًا عن هذا فإنه لم يقدم لنا ما يدل على صحة ما يقول؛ "انظر كتابه: "تاريخ الأدب العربي"/ 28 - 29". وعودة إلى مرجليوث نقول: إنه لمن العجيب أن يأتي باحث في الشعر الجاهلي هو د. كرم الوائلي فيزعم أن المستشرق البريطاني لا ينكر وجود ذلك الشعر، بل يؤكد أنه كان موجودًا، وكل ما هنالك أنه يشك في الطريقة التي وصل بها إلينا، وهو ما يقلب كلام مرجليوث رأسًا على عقب؛ (انظر الفصل المسمى: "توثيق الشعر الجاهلي" من كتابه: "الشعر الجاهلي - قضاياه وظواهره الفنية" المنشور على المشباك)، ولا أدري من أين له بذلك الفهم الغريب؟! أما مسألة اللهجات التي يطنطن بها كل من مرجليوث وتابعه المصري المتفاني في تعقب خطواته الطائشة الهائشة الفائشة، فيكفي هنا في إدحاض ما زعماه بشأنها أن نقول: إن القرآن قد ذكر في أكثر من آية أنه نزل بلسان عربي، لا بلهجة قريش أو الحجاز مثلًا، مما يبرهن أصلب برهان على أنه كانت هناك لغة واحدة للعرب جميعًا بخلاف ما ادعاه الاثنان بهتانًا ومَيْنًا من أن اللغة العربية لم تصبح لسانًا لمن نسميهم بـ: "العرب" إلا بعد قيام الدولة الإسلامية، بدءًا من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أننا لم نسمع بتاتًا أن العرب في الجاهلية أو قبل قيام الدولة الجديدة بعد ذلك في عصر المبعث كانوا يحتاجون إلى تراجمة بين بعضهم وبعض، أو قامت عَقبة تحول دون تفاهمهم، ثم إننا ما زلنا حتى الآن نستعمل في حياتنا اليومية لهجات متعددة تختلف عن الفصحى في أشياءَ ليست بالهينة، لكننا حين نكتب أو نبدع نترك عادة هذه اللهجات وراء ظهورنا ونلجأ إلى المستوى الفصيح، فما المشكلة في هذا؟ بل إني لأذهب إلى عكس ما يقول به كثير من الباحثين من أن العرب قبل الإسلام بقليل من الوقت نسبيًّا قد انتهوا إلى اصطناع لهجة قريش في إبداعاتهم واتخاذها من ثم لغة أدبية لهم جميعًا؛ إذ أرى أن الفصحى كانت موجودة منذ زمن طويل، ينحو الخطباء والشعراء منهم نحوها تاركين عندئذ لهجاتهم المختلفة التي كانوا يخصصونها لموضوعات الحياة العادية، كما هو الحال في كل اللغات، وإلا فلو أخذنا بنظرية ارتقاء لهجة قريش عشية بزوغ الإسلام إلى احتلال موقع اللغة القومية للعرب كلهم لكان معنى هذا أن العرب قبل ذلك كانوا يصطنعون لغات مختلفة بعدد قبائلهم، وهو ما يقتضي أن كل قبيلة منهم كانت تمثل دولة مستقلة لها حدودها وقوميتها بحيث لا تتداخل مع أية قبيلة أخرى، وأين ذلك، وكيف، وهم لم يكونوا يستقرون في موضع واحد قط، بل كانوا دائمي السعي وراء العُشب والماء طول العام، والاختلاط من ثم في كل أرجاء البادية؟ أو أنهم كانت لهم لغة أخرى غير العربية يستعملون في أمورهم المعيشية لهجاتها المختلفة، تلك اللهجات التي أخذت لهجة قريش منها موقع الصدارة قرب مجيء الإسلام وأضحت بذلك لغتهم القومية بدلًا من لغتهم الأولى، فهل كان للعرب لغة أخرى غير هذه التي بين أيدينا؟ فما هي تلك اللغة يا ترى؟ وما اسمها؟ وما الدليل على وجودها؟ وفوق هذا فإن أيًّا من مؤرخيهم أو خطبائهم أو شعرائهم لم يتحدث في هذا الموضوع بتاتًا، بل لم يُشِرْ إليه أي باحث مجرد إشارة. يتبع
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 09-11-2022 الساعة 12:52 PM. |
#4
|
||||
|
||||
![]()
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 09-11-2022 الساعة 12:53 PM. |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |