مظاهر اهتمام ابن جني بالبنية العميقة والسطحية في الخصائص - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1074 - عددالزوار : 127208 )           »          سورة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          عظات من الحر الشديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          المشي إلى المسجد في الفجر والعشاء ينير للعبد يوم القيامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          القلب الناطق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          الظلم الصامت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          من أدب المؤمن عند فوات النعمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          عن شبابه فيما أبلاه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          بلقيس والهدهد وسليمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          غزة تتضور جوعا.. قصة أقسى حصار وتجويع في التاريخ الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله
التسجيل التعليمـــات التقويم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 24-11-2021, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,699
الدولة : Egypt
افتراضي مظاهر اهتمام ابن جني بالبنية العميقة والسطحية في الخصائص

مظاهر اهتمام ابن جني بالبنية العميقة والسطحية في الخصائص (1)
أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن





يظهر اهتمام ابن جني بثنائية البنية في مظاهر ومسائل كثيرة، من أهمها دراسته للآتي:
أولاً: دراسة الأصل والفرع: الأصل في الجمل والمفردات هو البنية العميقة، والفرع هو البنية السطحية في عُرف البنيويين التحويليين، وللعلماءِ العربِ - ومنهم ابن جني - موقفٌ من مسألة الأصل والفرع، قد يتَّفق في مُعظمه مع رأي اللُّغويين المُحدثين، فإنَّ الأصل هو ما يوجد ويستمر في جميع فروعه، وهو ما لا يحتاج إلى علامة. وهو بذلك مستغنٍ عن فروعه، وإنَّه ما يبنى عليه.

ولقد أولى ابن جني مسألة الأصل والفرع عناية فائقة، ومن ذلك قوله: "ومن إصلاح اللفظ قولهم: « كأن زيدًا عمرو» اعلم أنَّ أصل هذا الكلام « زيد كعمرو» ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه (إنَّ) فقالوا: « إنَّ زيدًا كعمرو » ثم إنَّهم بالغوا في توكيد التشبيه: فقدَّموا حرفه إلى أول الكلام، عنايةً به، وإعلامًا أنَّ عقد الكلام عليه، فلمَّا تقدَّمت الكاف وهي جارة لم يجز أن تباشر (إنَّ)؛ لأنَّها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل، فوجب لذلك فتحُها، فقالوا: « كأنَّ زيدًا عمرو»"[1]؛ على أنَّ (زيدًا) مبتدأ، وأنَّ النَّصبة حركة اقتضاءٍ. ويرى ابن جني أنَّ (كأنَّ) مركَّبة من الكاف و(أنَّ)، والدليل على ذلك قوله:" كأنَّ ولعلَّ... وهما مركَّبتان لأن الكاف زائدة واللام زائدة ".[2]

ومَنْ يقرأ كلام ابن جني السابق عن التحويلات والإضافات التي يمكنها أن تلحق الجملة السابقة وأمثالها، يحسُّ بوشائج جلية بين كلامه، وما يذهب إليه البنيويون التحويليون، كما يتوافق مع ما يراه علم السيميائية من دراسة ما يُؤثِّر في الدلالة للكلمة أو الجملة، ويتوافق مع التداولية أيضًا، وعلم لغة النصِّ، والمدرسة الوظيفية، وغير ذلك من المناهج اللغوية الحديثة.

ويقول في ذلك أيضًا: " كما أنَّ التأنيث لمَّا كان معنى طارئًا على التَّذكير احتاج إلى زيادة في اللفظ علمًا له؛ كـ(تاء) طلحة وقائمة وألفي بشرى وحمراء وسكرى، وكما أنَّ التعريف لما كان طارئًا على التَّنكير احتاج إلى زيادة لفظ به؛ كـ(لام التعريف) في الغلام والجارية، ونحوه ".[3]

فممَّا سبق يتأكَّد لدينا أنَّ ابن جني قد أولى مسألة الأصل والفرع عناية فائقة، وأنَّه وصف كيفية تحوُّل الجمل أو المفردات من الأصل إلى الفرع؛ وبعبارة أخرى من البنية العميقة إلى البنية السطحية، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ في خصائصه. ومن أمثلة ذلك أيضًا قوله:"لأنَّ لهذه اللغة أصولاً وأوائل قد تخفى عنَّا، وتقصر أسبابها دوننا؛ كما قال سيبويه: أو لأنَّ الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر".[4]

ويؤكِّد ذلك بقوله:" أفلا ترى إلى الصنعة كيف تحيل لفظًا إلى لفظٍ، وأصلاً إلى أصلٍ، وهذا ونحوه إنَّما الغرض فيه الرياضة به، وتدُّرب الفكر بتجشُّمه، وإصلاح الطَّبع لما يعرض في معناه وعلى سمته".[5] ومثل ذلك الأمر من الصنعة " قد يكون الأصلُ واحدًا وفروعه متضعفة ومتصعِّدة، ألا ترى أنَّ الاشتقاق تجد له أصولاً ثم تجد لها فروعًا، ثم تجد لتلك الفروع فروعًا صاعدة عنها" [6]. ويقول: "وأمَّا الاشتقاق الأكبر: فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية، فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنىً واحدًا تجتمع التراكيب الستة، وما يتصرف من كُلِّ واحدٍ منها عليه، وإن تباعد شئٌ من ذلك عنه رُدَّ بلطف الصَّنعة والتَّأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد..."[7].

ولكن الحديث عن الأصل والفرع، والتكهن بالأصل فيه لجوءٌ إلى المنهج التاريخي الذي يأباه الوصفيون؛ وخاصة إذا تعلَّق الأمر بأصل المفردات، ولكن الموقف مغايرٌ تمامًا عند التحويليين التوليديين وخاصة إذا تعلَّق الأمر بأصل الجمل والتراكيب.

وليس هذا الأمر على إطلاقه - الأصل والاشتقاق - بل له ضوابطه وشروطه التي يجب أن تُراعى، ومن ذلك عند ابن جني " فأمَّا أن يتكلَّف تقليب الأصل ووضع كُلِّ واحدٍ من أحنائه موضع صاحبه؛ فشيءٌ لم يعرض له ولا تضمن عُهدته"[8]. ويزيد ابن جني هذا الأمر وضوحًا حيث يقول:"العربُ إذا غيَّرت كلمةً عن صورةٍ إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مُشابهة لأصول كلامهم ومُعتاد أمثلتهم"[9]. وقد نصَّ النُّحاة على أنَّ مُخالفة الأصل لا تكون إلا لغرضٍ، وخصَّص ابن جني بابًا لهذه المسألة سمَّاه (إقرار الألفاظ على أوضاعها الأول ما لم يدعُ داعٍ إلى التَّرك والتَّحوُّل)[10].

والتَّحول عن الأصل مقبولٌ لدى النُّحاة لكنهم لا يُفرِّطون في تأويله بغير داعٍ، ويرفض النُّحاة التَّعسُّف في التَّأويل؛ من أجل هذا أوصى ابن جني بالمُلاطفة في التَّعامل مع الصُّور المُتغيرة عن الأصل حيث يقول:" وذلك أن ترى العرب قد غيَّرت شيئًا من كلامها من صورةٍ إلى صورةٍ، فيجب حينئذ أن تتأتى لذلك وتلاطفه، لا أن تخبطه وتتعسَّفه "[11].

ولقد عرض البنيويون التحويليون لمسألة الأصل والفرع في مواضع مختلفة - كما مرَّ - منها أيضًا:" بحثهم للألفاظ ذات العلامة (mark) وتلك التي بلا علامة (un mark)، وقرَّروا أنَّ الألفاظ غير المُعلَّمة هي الأصل، وهي أكثر دورانًا في الاستعمال، وأكثر تجردًا، ومن ثمَّ أقرب إلى البنية العميقة... فالمفرد غير المعلم (book - boy) والجمع تلحقه (s) (books - boy)، والمفردُ أصلٌ، والجمعُ فرعٌ " [12].

ثانيًا: دراسة العُمَدُ والفَضْلاتُ: لقد حدَّد النُّحاة العرب البنية العميقة للجمل العربية في نمطين: الجملة الاسمية (المبتدأ + الخبر) والجملة الفعلية (الفعل + الفاعل)[13]، وهم يُسمُّون هذه الأشياء الأربعة (العُمَد) وما سواهم (فضلات) أو مُكمَّلات الجملة كـ"المفعول به، والتحذير، والإغراء، والاختصاص، والمنادى، والمندوب، والاستغاثة، والترخيم، والمفعول المطلق، والمفعول له، والمفعول فيه، والمفعول معه، والمستثنى، والحال، والتمييز، ونواصب المضارع ". [14] ومن ذلك تأكيدهم أهمية الفاعل؛ لأنَّ الفاعل عمدة فلا يحذف[15].

ويرى ابن جني كغيره من النُّحاة العرب أنَّ بالعربية نوعين من الجمل - الاسمية والفعلية - وعماد الاسمية (المبتدأ والخبر) وعماد الفعلية (الفعل والفاعل)، وما زاد على ذلك سمَّوه بالفَضْلاتِ التي تلزم البنية السَّطحية، ومن ذلك قوله:" وكان صاحب الجملة التي هي (الفعل والفاعل) إنَّما هو الفاعلُ، وإنَّما جِيء بالفعل له ومن أجله، وكان أشرف جزءيها وأنبههما".[16] ومن ذلك قوله: "(الفعل والفاعل) قد تنزلا باثني عشر دليلاً منزلة الجزء الواحد".[17] ومن ذلك قوله: "وكذلك القول على المفعول أنَّه إنَّما ينصب إذا أسند الفعل إلى الفاعل فجاء هو فضلة".[18] وقوله:"(زيد) من قولك: « ضربت زيدًا » إنَّه إنَّما انتصب لأنَّه فضلة ومفعول به، فالجواب قد استقل بقولك؛ لأنَّه فضلة، وقولك من بعد ومفعول به تأنيس وتأييد لا ضرورة بك إليه ". [19]

ويتحدَّث عن الفَضْلاتِ قائلاً:" ألا ترى أنَّ الفضلات كثيرةٌ؛ كالمفعول به، والظرف والمفعول له، والمفعول معه، والمصدر، والحال، والتَّمييز، والاستثناء"[20]، ويقول:" وإنَّما كلامنا على حذف ما يحذف وهو مراد، فأمَّا حذفه إذا لم يرد فسائغ لا سؤال فيه؛ وذلك كقولنا: « انطلق زيدٌ » ألا ترى هذا كلامًا تامًا؛ وإن لم تذكر معه شيئًا من الفضلات، مصدرًا ولا ظرفًا ولا حالاً ولا مفعولاً له ولا مفعولاً معه، ولا غيره، وذلك أنَّك لم ترد الزيادة في الفائدة بأكثر من الإخبار عنه بانطلاقه دون غيره".[21] وهذا الكلام لايُقلل من أهمية الفضلات في الجمل، فهي تأتي لمعنى أو زيادة في معنى، ومن ذلك قوله:" وبعد فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به".[22]

وقد اهتم البنيويون التحويليون أيضًا بدراسة مثل هذه الظواهر، ويمكننا أن نرمز إلى ذلك عند البنويين التحويليين بما يأتي: التمدد والتوسع: (أ) - (ب + ج)[23].

ثالثًا: الحَمْلُ على المعنى والحملُ على الظَّاهر: من المسائل التي أولاها ابن جني عنايةً خاصَّةً، والأمثلةُ على ذلك كثيرة في الخصائص؛ فقد أفرد ابن جني فصلاً للحمل على المعنى، يقول في مستهله:"اعلم أنَّ هذا الشَّرج غورٌ من العربية بعيدٌ، ومذهبٌ نازحٌ فسيحٌ، قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورًا ومنظومًا؛ كتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث، وتصور معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول أصلاً كان ذلك اللفظ أو فرعًا، وغير ذلك".[24] ومن ذلك قوله:" والحمل على المعنى واسعٌ في هذه اللغة جدًّا".[25] ومن ذلك قوله:" وباب الحمل على المعنى بحرٌ لا ينكش ولا يفثج ولا يؤبى، ولا يغرض ولا يغضغض، وقد أرينا وجهه، ووكلنا الحال إلى قوة النظر وملاطفة التَّأوُّل، ومنه باب من هذه اللغة واسعٌ لطيفٌ طريفٌ".[26] ومنه قوله:" فقد رأيت بما أوردناه غلبة المعنى للفظ، وكون اللفظ خادمًا له مشيدًا به، وأنَّه إنَّما جىء به له ومن أجله، وأمَّا غير هذه الطريق من الحمل على المعنى وترك اللفظ؛ كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر، وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه، وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه، وحذف الحروف والأجزاء التَّوامّ والجمل وغير ذلك؛ حملاً عليه وتصورًا له، وغير ذلك ممَّا يطول ذكره ويمل أيسره؛ فأمرٌ مستقرٌ ومذهبٌ غيرُ مستنكرٍ".[27]

ويمكننا تلمُّس وشائج بين كلام ابن جني السابق، وما يتبناه البنيويون التحويليون التوليديون من تحويلات تلحق بالمفردات والجمل، كما يتعلق الأمر بالبنية العميقة والسطحية، أمَّا علم السيمائية فما قاله ابن جني إلا محور عمله الرئيس؛ ألا وهو البحث عن المعنى وتوضيحه، والأمر نفسه بالنسبة لعلم لغة النَّصِّ وعناصر التماسك النصي، والتداولية، وغير ذلك من المناهج اللغوية البنيوية الحديثة.

وعن الحمل على الظاهر يقول ابن جني في (باب في الحمل على الظَّاهر؛ وإنْ أمكن أن يكون المُراد غيره):" اعلم أنَّ المذهب هو هذا الذي ذكرناه، والعملُ عليه والوصية به، فإذا شاهدت ظاهرًا يكون مثله أصلاً أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله، وإنْ أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه"[28]، ويقول:" فحمل أول الكلام على اللفظ، وآخره على المعنى، والحمل على اللفظ أقوى". [29]

ويُؤدِّي المعنى دورًا مهمًا بين الحمل على المعنى والحمل على اللفظ، فكما يقول ابن جني:" قدرُ المعنى عندهم أعلى وأشرفُ من قدرِ اللَّفظِ ".[30] ويقول:" واعلم أنَّ القياس اللَّفظي إذا تأملته لم تجده عاريًا من اشتمال المعنى عليه".[31] ويقول:" تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو مالا غاية وراءه، وإنْ كان تقدير الإعراب مخالفًا لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصحَّحت طريق تقدير الإعراب؛ حتى لا يشذ شئ منها عليك، وإيَّاك أن تسترسل؛ فتفسد ما تُؤثر إصلاحه ".[32]

وبعد، فقد ظهر مبكرًا احتفاء النُّحاة واللُّغويين العرب بالمعنى في تراثهم اللغوي[33]، ورأينا ذلك جليًا عند المدرسة التوليدية التحويلية [34] بعد أن أحجم قبلها (بلومفيلد) عن دراسته - كما هو معروف - ففي نهاية المطاف تصدَّرت دراسة المعنى دراسات اللغويين الغرب ومناهجهم؛ كعلم السيميائية مثلاً، والحمل على المعنى قد يُمثِّل (البنية العميقة)، والحمل على اللفظ يمثل (البنية السَّطحية)، وعليه فإنَّ ابن جني وعلماء العرب قد فطنوا لدراسة مثل هذه المسائل قبل مئات السنين!!

رابعًا: إصلاح اللفظ: من مظاهر اهتمام ابن جني بدراسة البنية السطحية والبنية العميقة دراسته لمسألة إصلاح اللفظ، فقد عقد لذلك فصلاً سمَّاه (باب في إصلاح اللفظ)، يقول في مستهله:"اعلم أنَّه لمَّا كانت الألفاظ للمعاني أزِّمةً، وعليها أدلَّةٌ، وإليها مُوصِّلةٌ، وعلى المُراد منها مُحصِّلةٌ، عُنيت العربُ بها، فأولتها صدرًا صالحًا من تثقيفها وإصلاحها ".[35] ومن ذلك قوله:" ومن إصلاح اللفظ قولهم: « كأن زيدًا عمرو» اعلم أنَّ أصل هذا الكلام «زيد كعمرو»، ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه (إنَّ) فقالوا: « إنَّ زيدًا كعمرو »، ثم إنَّهم بالغوا في توكيد التَّشبيه، فقدَّموا حرفه إلى أول الكلام؛ عنايةً به، وإعلامًا أنَّ عقد الكلام عليه، فلمَّا تقدَّمت الكاف وهي جارَّةٌ لم يجز أن تُباشر (إنَّ)؛ لأنَّها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل، فوجب لذلك فتحُها فقالوا: «كأنَّ زيدا عمرو» ".[36] ومن ذلك قوله:" وطريق إصلاح اللفظ كثيرٌ واسعٌ، فتفطَّن له، ومن ذلك أنَّهم لمَّا أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة، كما وصفوا بها النكرة، ولم يجزْ أن يجروها عليها؛ لكونها نكرة أصلحوا اللَّفظ بإدخال (الذي)؛ لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة؛ فقالوا: « مررت بزيد الذي قام أخوه »، ونحوه ".[37] ويُحدد ابن جني شروطًا لهذا الإصلاح؛ يقول عن بعضها:" فالتَّأتِّي والتَّلطُّفُ في جميع هذه الأشياء، وضمُّها وملاءمةُ ذات بينها هو خاصُّ اللُّغةِ، وسرُّها، وطلاوتها الرَّائقة، وجوهرُها، فأمَّا حفظها ساذجةً، وقمشها[38] محطوبةً[39] هرجةً[40]، فنعوذ بالله منه".[41]

ومسألة إصلاح اللفظ ليتوافق مع ما يحمله من معني، شغلت فيما بعد بال أصحاب المدرسة التوليدية التحويلية التوليدية، وكذلك أصحاب المدرسة الوظيفية، والتداولية، والسيميائية، وعلم لغة النَّصّ، وغيرهم؛ لأنَّ هذا الإصلاح يُساعد اللغة على أداء وظيفتها ودورها المنوط بها من نقل الشحنات الإعلامية وغير ذلك، وقد فطن ابن جني واللغويون العرب لذلك قبل الجميع؛ نظرًا لسبقهم التاريخي، وأمَّا البنيويون التقليديون (الوصفيون) فلم يأبهوا لمثل هذا الأمر.

خامسًا: دراسة الكلمات المنقولة والمشتقة: ومن مظاهر اهتمام النحاة بالبنية العميقة أيضًا دراستهم لِمَا يُسمَّي بالكلمات المنقولة والمُشتقَّةِ، وابن جني لم يخرج عن هذا الاهتمام. ومن أمثلة ذلك لدى ابن جني دراسته للاشتقاق أو ما يُسمِّيه (صناعة الاشتقاق)[42] أو (طريق الاشتقاق)[43]؛ حيث يقول:" الاشتقاقُ عندي على ضربين كبير وصغير، فالصغيرُ ما في أيدي الناس وكتبهم، كأنْ تأخذ أصلاً من الأصول فتتقراه، فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه، وذلك كتركيب (س ل م) فإَّنك تأخذ منه معنى السَّلامة في تصرُّفه؛ نحو (سلم، ويسلم، وسالم، وسلمان، وسلمى، والسَّلامة) والسَّليم اللَّديغ؛ أُطلق عليه تفاؤلاً بالسلامة، وعلى ذلك بقية الباب... وأمَّا الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه السِّتة معنى واحدًا تجتمع التَّراكيب الستة، وما يتصرَّف من كُلِّ واحدٍ منها عليه، وإنْ تباعد شئ من ذلك عنه رُدَّ بلُطف الصَّنعة والتَّأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التَّركيب الواحد "[44]. ومنه قوله:"الاشتقاق تجد له أصولاً ثم تجد لها فروعًا، ثم تجد لتلك الفروع فروعًا صاعدة عنها"[45]. ويقول: "وأيضًا فإنَّ كثيرًا من الأفعال مشتقٌ من الحروف؛ نحو قولهم:« سألتك حاجةً فلوليت لي »؛ أي: قلت لي: لولا "[46].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 191.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 189.88 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (0.89%)]