|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() دين الكافر العمل أ. منى مصطفى خلال رحلةِ عملي، اختلطتُ بجنسيات أوروبية متعدِّدة، وكنت أراقبُ سلوكهم بدقة؛ للتعرُّف على ثقافتهم، واستنتاجِ سبب قفزهم هذه القفزةَ الحضارية الواسعة في وقتٍ قياسيٍّ من عمر الأمم، كان لديَّ أحلامٌ عريضة في دعوتهم للإسلام، وكم داعبتني أحلامٌ بأن يهتدي أحدُهم على يدي، ولكن صخرة الواقع كانت صلبةً ومدبَّبة، تدمي أحلامي أو تقتلُها، ولن يسمع أحد صوتًا خافتًا بين أبواق كثيرة! مع الاحتكاك بهم وجدت دينَهم العملَ، من لا يعمل عندهم فلا دينَ له، ومن يتقن عمله هو من يستحق أن يُطأطأ له الرأس، ومما أعجَبُ له أنهم يستمتعون بعملهم جدًّا؛ بل يستمتعون بكلِّ شيء في الدنيا، ولا أبالغ إن قلت: إنهم يستمتعون بالألم نفسِه، وكأنهم أُلهموا أن هذه هي جنتهم، فتراهم في عملهم ملائكةً، وفي فراغهم عُبادَ دنيا أو هوى. تأتي دكتورة مونيكا - وهي مديرة لمؤسسة تربوية كبيرة - مرتديةً الزيَّ المدرسي للطالبات! وتقف على البوابة الرئيسة لاستقبالهنَّ بابتسامةٍ مشرقة في أول يوم دراسي، وفي الأيام التالية تقف على البوابة الخارجية لقسم رياض الأطفال في وقت الصقيع أو الحرارة والغبار، لا يهم، المهمُّ أن تبدأ يومَها بمثالية نابعة من قلبها، فتصافح كلَّ طفل أثناء دخوله مع ابتسامة عريضة ومسحة على رأسه، وإن تفقَّدتْ طابور الصباح ووجدتْ رباط الحذاء مفكوكًا لدى أحد الأطفال، نزلَت على ركبتيها وربطته له في حنوٍّ شديد، ثم تبدأ تدريبات الصباح فتقف وسط الساحة مع معلِّمات التربية البدنية تؤدِّي التدريبات كاملةً، ويقلِّدُها الطلاب صغارًا وكبارًا، ثم لا تنسى أن تُمسك بالميكرفون لتغرس قيمةً صباحية في النفوس، أو ترسم ابتسامة من خلال طُرفة نافعة، تؤمِنُ أن هذه الأجواء تُحفر في ذاكرة الطالب، وكأنها تتحدى الموت بسلوكها؛ حيث يقول لسانُ حالها: حتمًا سأرحل يومًا من بلادكم ومن دنياكم، لكني سأتحدَّى هذا الرحيلَ الإجباري، سيموت جسدي ويبقى عقلي في عقلِكم، وسلوكي ذِكرَى تنقُلونها لأولادكم حيث امتدَّ الزمان. أستمرُّ في مراقبتهم لأفهمهم، فأجد المباشَرة والصراحة أصلَ سلوكهم، إنْ أخطأ أحدُهم أقرَّ بخطئه ببساطة، ثم يترك الأمر لا يعطيه بالًا، ما دام صادقًا، وكأنه امتلأ يقينًا بأن رزقه مكفولٌ، سواء قبِلوا عُذرَه أم لم يقبلوا، أما نحن العرب المسلمين، فالتحايلُ والتأليف، ومحاولة التلفيق: سُنَّةُ حياة لدينا، بل قد يمتدُّ الأمرُ للإطاحة بأحد الزملاء كمهرَبٍ مناسب من خطأٍ لن تُعاقَبَ لو اعترفت به! أقلِّب بصري كَرَّةً أخرى، فأرى العربيَّ المسلم يقفز بُغضُه لعمله من بين عينَيْه، ويتأفَّف من كلِّ فعل، مشكِّكًا في قيمته وفي نتيجته ما دام سيُسبِّب له مسؤولية أو انشغالًا، ونفس الفعل يمجِّدُه لو كان سببًا في إعفائه من عمله؛ فطابورُ الصباح لا فائدةَ منه إن كان سيشرف على الأطفال، أما إن امتدَّ في بعض المناسبات ليريحه من الحصة الأولى مثلًا، فهو مهم كالقرآن المنزَّل! إن رأى حذاء طفل مفكوكًا، أحدَثَ ضجيجًا يملأ به الأركان؛ بحثًا عن عاملة تربطه للطفل، أو سبًّا في والدَيْه المهمِلَين، أو إعلاء لنفسه كيف (وهو حضرة الأستاذ، المحترم، المبجَّل، صاحب العلم، الفذ) أن يربط حذاءَ طفل، تربطه مديرتُه في العمل الحاصلة على الدكتوراه بكل سعادة؛ بل كأنها وجدتْ كنزًا ثمينًا أمامها؟ هي لها أهداف تحاذي السحاب؛ كأن تغرس ذكرى خالدةً يعلو بها ذكرُها، أو كسب ثقة الآخر، فيصعب التشكيكُ في نيَّاتها، أو حتى التبشير بدينها من خلال هذا السلوك، أما نحن، فما زلنا عفويِّين لا هدف لنا من وراء سلوكنا إلا المنفعةُ الشخصية القصيرة أو التافهة، التي تحاذي الحذاءَ الذي نرتديه، لا السحابَ! ثم تأتي الكارثة لو أصبح ذلك الأستاذ العربيُّ الفذُّ مسؤولًا، فله صورتان متناقضتان: الأولى: تجده يرفع أنفه، ويراقب من وُلِّي عليهم، واضعًا يديه خلف ظهره، أو مستندًا لكرسيِّه وكأنه المُلهَم الذي لا يأتيه الباطلُ من خلفه، ما إن تقع عيني عليه حتى تتبادر لذهني صورةُ الخُولي الشرِّير الذي يُعذِّب العمالَ بالسُّخرة، كما كان يقصُّ علينا جدِّي في "حواديت زمان"! الثانية: أن يكون مهملًا حدَّ الفساد والإفساد، يتملَّق رؤساءه، ويتعالى على من دونه، يصر على مثالية جوفاء لا يستطيعها هو، مثالية يخدم بها المظهر ويهدم الجوهر، فلا تهمُّه أمةٌ ولا جيل ولا رسالة، المهم منصبُه! أراقب هذا كلَّه فتتقاطر أحزاني وتتبخَّر أحلامي في دعوة هؤلاء الناس إلى ما نحن عليه من دين، مهما كانت الروحانيات قويةً والنية خالصة، فالعمل وانعكاس القيم والروحانيات على السلوك أصلٌ في رسم الصورة الصحيحة للمسلم. لا أقصد بكلامي هذا أن أبثَّ الشعور بالدونية في الأنفس، أو أنني مفتونة بهم فأُعليهم على المسلمين، لا؛ بل أقصد أن نكون سفراء خيرٍ لديننا، أن نكون دعاة بعقلنا وسلوكنا قبل حناجرنا، أن نكون أصحابَ هدف نخدمه بإخلاص، سواء كان هذا الهدف للدنيا أو للآخرة. أقصد أيضًا أن أصرُخَ في قلب كل كائن: احرص على أن تُطعم أبناءك حلالًا، إهمالُك المتعمَّد للعمل، عدم مراعاة الضمير، التلفيق والتحايل، الخوفُ من المسؤول وكأن رزقك بيده...، كلُّ هذا ينتقص من كون دخلك حلالًا، وبالتالي ينتقص من بركة أولادك، فيخرُج للأمة جيلٌ نرجو منه الكثير وهو لا يستطيع تقديم القليل! وليس هذا هو الكارثة الوحيدة، بل إنك سفير رياء وازدواجية لدينك، الذي أُمرتَ بتبليغه، ليس فقط اعتناقه صحيحًا كما بُلغ لك، بماذا ستُدافع عن نفسك عندما يعاتبك شفيعُك صلى الله عليه وسلم: هل بلَّغتَ عني ولو آيةً؟ هذا وقت لا تلفيق فيه، ولن ينفعك أن تكون خُوليًّا أو حتى قارون، هذا وقت لا ينفع فيه إلا صدقُ الصادقين، وهم كثر في الأمة والحمد لله، لكنك أيها الكسول المرْتبكُ تشوِّش عليهم فتطفو أنت ويُغمرون هم! استقيموا؛ لعل الله يرفع البلاء عن هذه الأمَّةِ التي طالت بنا نكبتُها.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |