مقاصد القرآن الكريم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4938 - عددالزوار : 2027923 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4513 - عددالزوار : 1304618 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 959 - عددالزوار : 121843 )           »          الصلاة دواء الروح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          أنين مسجد (4) وجوب صلاة الجماعة وأهميتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          عاشوراء بين ظهور الحق وزوال الباطل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          يكفي إهمالا يا أبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          فتنة التكاثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          حفظ اللسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          التحذير من الغيبة والشائعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-10-2021, 08:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد القرآن الكريم

مقاصد القرآن الكريم (1) إقامة الدين وحفظه
د. محمود بن أحمد الدوسري



إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أمَّا بعد:
فالحديثُ عن "إقامة الدِّين وحِفْظه" يُجمَع في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: معنى مقاصد القرآن وأهميته.
المطلب الثاني: أهمية مقاصد القرآن وتنوعها.
المطلب الثالث: إقامةُ الدِّين وحِفْظُه.


المطلب الأول: معنى مقاصد القرآن وأهميته:
معنى "المقاصد" في اللغة:
المَقاصِدُ: جَمْعُ مَقْصَد، وقد وردت هذه اللَّفظة في اللغة بمعانٍ عدة، نأخذ منها ما له صلة بموضوعنا: فقد عَرَّفَها ابن فارس بقوله: "القاف والصاد والدال: أصولٌ ثلاثة، يدل أحدُها على إتيانِ شيءٍ وأمِّه"[1].

وجاء في (لسان العرب): "قال ابن جنِّي: أصل (قصد) ومواقعها في كلام العرب: الاعتزامُ، والتَّوجُّهُ، والنُّهودُ، والنُّهوضُ نحوَ الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جَوْر، هذا أصله في الحقيقة وإن كان يُخَصُّ في بعض المواطن بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تَقْصدُ الجَوْرَ تارة كما تَقْصِدُ العدلَ أُخرى؟ فالاعتزام والتوجُّه شامل لهما جميعًا"[2]، و"يُقال: إليه مَقْصَدي: وِجْهَتِي"[3].

مفهوم "المقاصد" من خلال تعبيرات بعض العلماء:
1- قال الغزالي رحمه الله: "مقصود الشَّرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ونفسَهم وعقلهم ونسلَهم ومالَهم"[4].

2- قال الآمدي رحمه الله: "المقصود من شرع الحُكْم: إمَّا جلب مصلحة، أو دفع مضرة، أو مجموع الأمرين"[5].

3- قال الشاطبي رحمه الله: "تكاليف الشَّريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخَلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية"[6]، وقال أيضًا: "إنَّ الشارع قصد بالتَّشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية"[7].

معنى "مقاصد القرآن":
من خلال المعاني اللُّغويَّة لكلمة مَقْصَد، وما تبعه من تعبيرات بعض العلماء لمفهوم المقاصد، يمكننا تعريف (مقاصد القرآن) بأنها: ما تَوَجَّه القرآنُ نحو تحقيقه، أو ما قَصَد القرآنُ نحو تحقيقه من أمور معنوية أو مادية؛ كتحقيقِ سعادة الإنسان في الدُّنيا والآخرة، وتأمينِ الضروريات والحاجيات والتَّحسينيات للمرء في هذه الحياة والحفاظ عليها، وتحقيق العدل وما إلى ذلك[8].

المطلب الثاني: أهمية مقاصد القرآن وتنوعها:
أهمية مقاصد القرآن: إنَّ فهم مقاصد القرآن العظيم ضرورةٌ دينية، وحاجة دعوية:
أَمَّا كونه ضرورة دينية: فلأنه بالفهم الصحيح للقرآن يستقيم سلوك المسلم في حياته، ويحرص على العمل به، ويلتزم أحكامه وهَدْيَه، ولَطَالَما أخطأ كثير من المسلمين في تطبيقهم الخاطئ والجزئي للقرآن، فشوَّهوا بذلك من جمال القرآن العظيم المتمثل في كماله وتوازنه، ووحدة تعاليمه. وقُلْ مثل ذلك في إصدار فتاوى سطحية غريبة، وأحكام ظاهرية عجيبة لا تنسجم مع مقاصد القرآن العامة والخاصة، وربَّما رُدَّت بعض النصوص الشَّرعية بدعوى الاجتهادِ المقاصِدي، والعملِ بروح الشَّريعة من جهة أخرى!

وأما كونه حاجة دعوية: فلأنه بقدر فَهْمِ مقاصِدِ القرآن، وإحسانِ عَرْضها، يُقْبِلُ الناس عليه، ويتمسَّكون بهديه، ويدخلون في دين الله أفواجًا، وبقدر غموضها في نفوسهم، يسوء عرضها، وتتشوَّه صورتها، ويضعف تمسُّكُ المسلمين بالقرآن، ويُعرض عن هديه غيرهم، ولطالما ظهرت آثار ذلك في مسيرة الدَّعوة الإسلامية المعاصرة[9].

تَنَوُّع مقاصد القرآن:
"مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم في طور الرُّشد، وتحقيق أُخُوَّتِهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم: منها ما يكفي بيانه لهم في الكتاب مرة أو مرتين أو مرارًا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلَّا بتكراره مرارًا كثيرة؛ لأجل أن يجتثَّ من أعماق الأنفس كلَّ ما كان فيها من آثار الوراثة والتَّقاليد والعادات القبيحة الضَّارة، ويغرس في مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتي أُكُلَه ويبدو صلاحه ويَيْنَعَ ثمرُه، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن كماله إلَّا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلَّا في المستقبل فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفي فيه الفحوى والكناية.

والقرآن كتاب تربية عمليَّة وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفي أن يُذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة؛ كالمعهود في متون الفنون وكتب القوانين"[10].

المطلب الثالث: إقامةُ الدِّين وحفظُه:
إن المتأمِّل في مقاصد القرآن الرئيسة يجد أنها تدور حول محاور ثلاثة: محور العقيدة، ومحور التشريع، ومحور السلوك.

وقد حصر الغزالي رحمه الله مقاصدَ القرآن ونفائسَه في ستة أنواع، فقال: "انحصرت سور القرآن وآياته في ستَّة أنواع: ثلاثة منها هي السَّوابق والأصول المُهِمَّة، وثلاثة هي الرَّوادف والتَّوابع المغنية المُتِمَّة.

أمَّا الثَّلاثة المهِمَّة، فهي: تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، وتعريف الحال عند الوصول إليه"[11].

وهذا الإجمال في كلام الإمام الغزالي رحمه الله يحتاج إلى تفصيل؛ حتى يتبين لنا مقصد رئيسٌ وعظيم من مقاصد القرآن الكريم، وهو على النحو الآتي:
أولًا: تعريف المدعو إليه: إنَّ أعظم مقاصد القرآن الكريم هو معرفة الله تعالى حَقَّ المعرفة؛ لأنها تورث الطَّاعةَ الحقَّة، فَيُخلص العبد عبوديته لله تعالى، وهذه العبودية الخالصة هي التي تُقيم منهج الله في الأرض.

ولذلك يقول البقاعي رحمه الله: "المقصود من إرسال وإنزال الكتب نصبُ الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمعُ الخلق على الحقِّ، والمقصود من جمعهم على الحقِّ تعريفهم بالمَلِك وبما يرضيه، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول"[12].

من أضرار الجهل بالخالق: بدون معرفة الله حَقَّ المعرفة، يقع الخلل في إقامة شرعه، فيتولد من ذلك أعظم مفسدة، وهي صرف العبودية لسواه، وقد سمَّاه الله تعالى ظلمًا عظيمًا، فقال: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، كما ينجم عن هذا الخلل العظيم ظلمُ الناس، بحيث يغيب شرع الله المطلوبُ إقامتُه بين الناس، فتحل محله الأهواء.

وقد وبَّخَ الله المشركين على شركهم فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73]، ثم بيَّن تعالى بعد ذلك السَّبب الرئيس في هذا الشرك، أن هؤلاء المشركين: ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 74]، "فما عظَّموه حقَّ تعظيمه؛ إذ لو فعلوا ما أشركوا معه الضُّعفاءَ العُجَّز، وهو الغالب القوي... فكيف يُشاركه الضَّعيف الذَّليل؟!"[13].

ثانيًا: تعريف الصراط المستقيم: فهذا هو المقصد الثاني؛ لأن الإنس والجنَّ خُلِقوا لعبادة الله تعالى، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

والقرآن من مقاصده أن يوضِّح المنهج ويُبيِّن الطَّريق الذي ارتضاه الله لعباده أن يسلكوه وأن يسيروا فيه في رحلة وصولهم إليه سبحانه، ومن رحمة الله تعالى أنَّه قد حدَّد هذا المنهج ووضعه قبل أن يخلُقَ الإنسان فقال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ ﴾ [الرحمن: 1-3]، وفي هذا دليل على مدى عناية الله بهذا المخلوق الإنساني، ومدى الرِّعاية التي خصَّه الله بها، حتى إنَّه ليضع له المنهج والصِّراط حتى قبل أن يخلُقَه، فجاء القرآن ليبيِّن له هذا الصِّراط المستقيم.

قال الغزالي رحمه الله: "وعمدة هذا الصِّراط المستقيم أمران: الملازمة والمخالفة"[14] أي: ملازمة صراط المُوحِّدين مِنَ الَّذين أنعم الله عليهم ومَنَّ عليهم بالهداية والتَّوفيق، ومخالفةُ صراط المشركين من الَّذين غضب الله عليهم، والضالين عن الهدى وَدِينِ الحقِّ.

ثالثًا: تهذيب الأخلاق والسلوك: وهذا هو المقصد الثالث، حيث إنَّ القرآن العظيم يحضُّ كثيرًا على مكارم الأخلاق ومحاسنها في العادات والمعاملات، ومن هذه المكارم الأخلاقية: العفو في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237].

والعدل في قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].

والإحسان في قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء: 36].

والإعراض عن اللَّغو في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55].

إلى غير ذلك من الآيات الدَّالة على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات[15]، التي بتطبيقها تتحوَّل الحياة إلى جنة، ينعم فيها الإنسانُ بالكرامة والعدل، والأمن والحرية.

[1] معجم مقاييس اللغة (2 / 404)، مادة: "قصد".

[2] (3/ 355)، مادة: "قصد".

[3] المعجم الوسيط (ص738)، مادة: "قصد".

[4] المستصفى من علم الأصول (2/ 481).

[5] الإحكام في أصول الأحكام (3/ 271).

[6] الموافقات في أصول الشريعة (2/ 8).

[7] المصدر نفسه (2/ 37).

[8] انظر: محاسن ومقاصد الإسلام، د. محمد أبو الفتح البَيانوني، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، عدد (43)، (رمضان 1421هـ)، (ص234).

[9] انظر: المصدر نفسه (ص225).

[10] الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا (ص107).

[11] جواهر القرآن (ص23).

[12] نظم الدرر في ترتيب الآيات والسور (1/ 20، 21).

[13] التحرير والتنوير (17/ 246، 247).

[14] جواهر القرآن (ص28).

[15] انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم، د. الحسن حريفي (1/ 173).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 23-10-2021, 08:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد القرآن الكريم

مقاصد القرآن الكريم (2)

تَصْحيحُ العقائد ورَفْعُ الحَرَج

د. محمود بن أحمد الدوسري
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
فالحديثُ عن "تصحيح العقائد ورفع الحرج" يُجمَع في مطلبين:
المطلب الأول: تصحيح العقائد والتصورات.
المطلب الثاني: رفع الحرج عن المكلفين.

المطلب الأول: تصحيح العقائد والتصورات:
ويتجلَّى هذا المقصد في عناصر ثلاثة:
أولًا: تصحيح عقيدة التوحيد: القرآن العظيم من أوَّله إلى آخره دعوةٌ إلى التوحيد، وإنكارٌ للشرك، وبيانٌ لحسن عاقبة الموحِّدين في الدنيا والآخرة، وسوء عاقبة المشركين في الدَّارين. وقد اعتبر القرآنُ الشركَ أعظمَ جريمة يقترفها مخلوق، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].

وإنَّ حقيقة الشرك انحطاطٌ بالإنسان من مرتبة السِّيادة على الكون ـ كما أراد الله له ـ إلى مرتبة العبودية والخضوع للمخلوقات، سواء كانت جمادًا، أو نباتًا، أو حيوانًا، أو إنسانًا، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 30، 31].

والدَّعوة إلى التَّوحيد هي المبدأ الأوَّل المشترك بين رسالات النبيين جميعًا، فكل نبيٍّ نادى قومه ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]؛ فلا مكان للوسطاء بين الله عزَّ وجل وبين خلقه، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]، وقال عزَّ ثناؤه: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].

ثانيًا: تصحيح العقيدة في النبوة والرسالة: وذلك ببيان الحاجة إلى النُّبوة والرِّسالة، قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ [البقرة: 213].

وبيان وظائف الرُّسل، قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ [النساء: 165]، فليس الرُّسل آلهة ولا أبناء آلهة، إنَّما هم بشر يوحى إليهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110].

ولا يملكون هداية القلوب، قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21].

وقد فنَّد القرآن الشبهات التي أثارها الناس قديمًا في وَجْه الرُّسل، كقولهم: ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ [إبراهيم: 10]، وقولهم: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً ﴾ [المؤمنون: 24]، فَرَدَّ القرآن عليهم بمثل قوله تعالى: ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [إبراهيم: 11]، ومثل قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 95].

وبَيَّنَ القرآنُ العظيم عاقبةَ الذين كذَّبوا المرسلين والَّذين صَدَّقُوهم، ومعظمُ قصص القرآن الكريم تدور حول هلاك المكذِّبين ونجاة المؤمنين، قال تعالى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴾ [الفرقان: 37-39]. وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 103].

ثالثًا: تصحيح عقيدة الإيمان بالآخرة: لقد اتَّخذ القرآنُ العظيم في تصحيح عقيدة الإيمان بالآخرة وتثبيتها في نفوس المؤمنين أساليبَ شتى:
فمن بذلك: إقامةُ الأدلة على إمكان البعث، ببيان قدرة الله تعالى على إعادة الخلق كما بدأهم أوَّل مرَّة، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].

وقد بيَّنَ القرآن العظيم حكمة الله تعالى في الجزاء حتى لا يستوي المحسن والمسيء، والبَرُّ والفاجر، فتستحيل الحياة إلى عبث وباطل يتنزه اللهُ تعالى عنه، قال الله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، وقال أيضًا: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 27، 28].

وقد كَثُرَ حديثُ القرآن العظيم عن القيامةِ وأهوالِها، والكتابِ الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلَّا أحصاها، والميزانِ الذي توزن به الحسنات والسيئات، والحسابِ الدقيق الذي لا يظلم نفسًا شيئًا، ولا يحمِّل وازرةً وزر أُخرى، وعن الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها.

وأبطل القرآنُ العظيم الأوهامَ التي أشاعها المشركون أنَّ آلهتهم المزعومة تشفع لهم عند الله تعالى، وما زعمه كذلك أهل الكتاب من شفاعة القدِّيسين وغيرهم. فلا شفاعة إلَّا بإذنِ الله، ولمؤمنٍ موحِّد، ورضا الله عن هذه الشفاعة، قال الله تعالى عن الكفار: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، وقال أيضًا: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [غافر: 18]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28][1].

المطلب الثاني: رفع الحرج عن المكلفين:
إنَّ شريعة القرآن العظيم تمتاز بكونها شريعةً عمليَّة تسعى إلى تحصيل مقاصدها، بالقول والعمل على مستوى الفرد والجماعة.

والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه ما في بعض التكاليف من المشاقِّ على بعض النفوس، فهو محيطٌ بضعف الإنسان المكلَّف وقلَّة حيلته، كما قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وهذه المشاقُّ من قَبيل المشاقِّ المعتادة المقدور عليها، وأنَّ المقصد من إحداقها بالأفعال تربيةُ النفوس، وقهرُها، وكبحُ جماحها؛ لئلَّا تجنح إلى ما لا يحل؛ «إذ مخالفة الهوى والشَّهوة هي من المقاصد المعتبرة شرعًا»[2].

ورغم أنَّ هذه المشاق مقدورة للمكلف، إلَّا أنَّ الشَّارع الحكيم زيَّن تكاليف الشَّرع بزينة رفع الحرج والمشقَّة؛ حتى تُحِبَّها النفوس، وتُقْبِلَ على العمل بها دون كلل أو ملل، المفضي إلى الانقطاع.

ورَفْعُ الحرج من سُنَّة الأنبياء جميعًا، قال الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأحزاب: 38]؛ «أي: هذا حُكْمُ الله في الأنبياء قَبْلَه، لم يكن ليأمرهم بشيءٍ وعليهم في ذلك حرج»[3].

ومن أهل التأويل من اعتبر قولَه تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286] دليلًا على عدم وقوع التكليف بما لا يُطاق في شرائع الله جميعًا؛ لعموم لفظ: ﴿ نَفْسًا ﴾، التي وردت في سياق النَّفي؛ لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلَّا للعمل واستقامة أحوال الخَلْق، فلا يكلِّفُهم ما لا يُطيقون فِعْله[4].

إذًا فالسَّماحة واليُسر من أبرز أوصاف شريعة القرآن العظيم، فقد قال الله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، ومن دعاء المؤمنين ما حكاه الله تعالى بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286].

والحكمة في سماحة شريعة القرآن العظيم: «أَنَّ الله جعل هذه الشريعةَ دِينَ الفطرة. وأمورُ الفطرة راجعةٌ إلى الجِبِلَّة، فهي كائنة في النفوس، سهلٌ عليها قَبولُها. ومن الفطرة النُّفورُ من الشِّدَّة والإعنات، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وقد أراد الله تعالى أن تكون الشريعةُ الإسلامية شريعةً عامةً ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذُها بين الأُمَّة سهلًا، ولا يكون ذلك إلَّا إذا انتفى عنها الإعناتُ، فكانت بسماحتها أشدَّ ملاءمةً للنفوس؛ لأن فيها إراحةَ النفوس في حاليْ خُوَيْصتها ومجتمعها. وقد ظهر للسماحة أثرٌ عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعُلِم أنَّ اليُسْرَ من الفطرة؛ لأنَّ في فطرة الناس حُبَّ الرِّفق»[5].

ومن يتتبَّعْ آيات رفع الحرج يَلحظْ أمرين مهمين، في رفع القرآن العظيم الحرجَ عن المكلَّفين:
الأول: مجيء آيات على هيئة بشارة تنبئ بمقدم شريعة، من سماتها التَّيسير والتَّخفيف، مِنْ أمثالِ قوله تعالى: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾ [الأعلى: 8]، فهذه الآية الكريمة بشَّرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأُمَّتَه بشرعٍ سَمْحٍ سهل مستقيم عدل، لا اعوجاجَ فيه، ولا حرج ولا عُسر[6].

الثاني: مجيء آيات فيها التَّنصيص على رفع الحرج، إِمَّا بالكليَّة، وإِمَّا بالتخفيف منه.

فمن الأول: قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، فأوضحت الآيةُ الكريمة الأعذارَ التي لا حرج على مَنْ قعد معها عن القتال، بشرط النُّصح لله ولرسوله.

ومن الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101]. ولقد قال الصحابيُّ الجليل يعلى بن أُميَّة رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قال الله تعالى: ﴿ إِنْ خِفْتُمْ ﴾، وقد أَمِنَ الناسُ! فقالَ: عَجِبْتُ ممَّا عَجِبْتَ منْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[7].

قال ابن عاشور رحمه الله: «ولا شكَّ أنَّ مَحْمَلَ هذا الخبر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقَرَّ عمرَ على فَهْمِه تخصيصَ هذه الآية بالقَصْرِ لأجل الخوف، فكان القَصْرُ لأجل الخوف رخصةً لدفع المشقة»[8].

وقد عبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالصَّدقة، وهو لا يريد إلَّا دفع المشقَّة، والله أعلم[9]. فرَفْعُ الحرجِ مقصدٌ عظيم من مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة، جاء شاهدًا على واقعيَّة القرآن العظيم الذي يعترف بضعف الإنسان فيشرِّع له ما لا يعجزه.

[1] انظر: الوحي المحمدي (ص108).

[2] الموافقات في أصول الشريعة (2/ 455).

[3] تفسير ابن كثير (6/ 448).

[4] انظر: التحرير والتنوير (2/ 597).

[5]مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر بن عاشور (ص271).

[6] انظر: تفسير ابن كثير (8/ 350).

[7] رواه مسلم، (1/ 478)، (ح686).

[8] التحرير والتنوير (4/ 240).

[9] انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم (1/ 186)، الوحي المحمدي (ص180).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-11-2021, 06:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد القرآن الكريم


مقاصد القرآن الكريم (3)

د. محمود بن أحمد الدوسري

تَكْوِينُ الأُسرةِ وإنصافُ المرأةِ











إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.



أمَّا بعد: فالحديثُ عن "تَكْوِين الأُسرةِ وإنصاف المرأةِ" يُجمَع فيما يلي:

أولًا: تكوين الأسرة:

من المقاصد التي هدف إليها القرآن: تكوينُ الأسرة الصالحة، التي هي الرَّكيزة الأُولى للمجتمع الصالح، ونواةُ الأُمَّة الصَّالحة.



ولا ريب أن أساس تكوين الأسرة هو الزَّواج، وقد عدَّه القرآن آيةً من آيات الله، مثل خلقِ السماوات والأرض، وغيرهما، فقال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، فقد أشارت الآية الكريمة إلى الدَّعائم الثلاث التي تقوم عليها الحياةُ الزوجية، وهي: السُّكون، والمودَّة، والرَّحمة.



وقد سمَّى القرآنُ العظيم الارتباط بين الزوجين: (مِيثَاقًا غَلِيظًا)، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 21]، والمقصود به العقدُ القويُّ المتين.



وعبَّر القرآن الكريم عن مدى القرب واللُّصوق والدِّفء والوقاية والسِّتر بين الزوجين، فأنزل كلًّا منهما من الآخر منزل اللِّباس لصاحبه، فقال تعالى: ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ [البقرة: 187].



ومِن أوَّل أهداف الزواج في القرآن: الذريةُ الصالحة، التي تقرُّ بها أعين الأبوين؛ لذا قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [النحل: 72]، ومن دعاء عباد الرحمن: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].



ولا بدَّ لهذه الأسرة أن تكون متوافقة من جهة الدِّين؛ لذا حَرَّم القرآن نكاحَ المشركات، وإنكاحَ المشركين، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 221]، فخُتمت الآية بحكمة هذا التَّحريم، فما أبعد المسافة بين المشركين الذين يدعون إلى النار، وبين المؤمنين الذين يدعون إلى الجنة والمغفرة.



وقد رخَّصَ القرآنُ في نكاح الكتابية؛ لأنَّها ذاتُ دينٍ سماويِّ الأصل، وهي تؤمن - في الجملة - بالله ورسالاته، وبالدَّارِ الآخرة، وإنْ كان إيمانًا مشوبًا! ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ [المائدة: 5]، ونظرًا لأنَّ المسلم يعترف بأصل دين الكتابية، فلن تضام عنده، ولن تضيع حقوقُها، بخلاف الكتابي الذي لا يعترف بأصل دين المسلمة، ولا بالكتابِ الذي آمنتْ به، والنبيِّ الذي اتَّبعتْه، ومِنْ هنا جاء الإجماع على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، ولو كان كتابيًّا[1].



ثانيًا: إنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية:

ومن أهمِّ ما جاء به القرآن: إنصافُ المرأة، وتحريرها من ظلم الجاهلية لها، فقد كانت النِّساء قبل الإسلام مظلومات ممتهَنات مستعبَدات عند جميع الأمم، وفي شرائعها وقوانينها، حتى عند أهل الكتاب، إلى أنْ جاء الإسلام، ونزل القرآن، فأعطى اللهُ النساءَ جميعَ الحقوق التي أعطاها للرَّجل، إلَّا ما يقتضيه اختلاف طبيعة المرأة ووظائفها النِّسْوية من الأحكام، مع مراعاة تكريمها، والرَّحمة بها، والعطف عليها [2].



فقد حرَّرها القرآن من تحكُّم الرجل في مصيرها بغير حق، وأعطاها حقوقَها لكونها إنسانًا، وكرَّمها لكونها أنثى، وبنتًا، وزوجةً، وأمًّا، وعضوًا فاعلًا في المجتمع [3].



وأوضح الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله حال النساء قبل مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عند أمم الأرض إجمالًا، فقال: "كانت المرأة تُشترى وتُباع، كالبهيمة والمتاع، وكانت تُكره على الزواج وعلى البغاء، وكانت تُورَث ولا تَرث، وكانت تُمتلك ولا تَملك، وكان أكثر الذين يملكونها يحجرون عليها التَّصرف فيما تملكه بدون إذن الرجل، وكانوا يرون للزوج الحقَّ في التَّصرف بمالها من دونها.



وقد اختلف الرِّجال في بعض البلاد في كونها إنسانًا ذا نفس وروحٍ خالدة كالرجل أم لا؟ وفي كونها تُلقَّن الدِّين وتَصِح منها العبادة أم لا؟ وفي كونها تدخل الجنة أو الملكوت في الآخرة أم لا؟ فقرَّر أحد المجامع في روميَّة أنها حيوان نَجِس لا روحَ له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يُكمَّم فمها كالبعيرِ والكلبِ العقور؛ لمنعها من الضَّحك والكلام؛ لأنها أُحبولة الشيطان! وكانت أعظم الشرائع تُبيح للوالد بيع ابنته، وكان بعض العرب يرون أن للأب الحقَّ في قتل بنته، بل في وأْدِها - دفنها حيَّة - أيضًا، وكان منهم مَنْ يرى أنه لا قصاص على الرَّجل في قتل المرأة ولا دية"[4].



ثالثًا: إنصاف القرآن للمرأة:

أعطى القرآنُ العظيم المرأةَ جميعَ حقوقها واعتنى بها وحرَّرها من ظلم الجاهلية، ومن أبرز صور تكريم المرأة في القرآن: أنَّ سورةً من السَّبْع الطِّوال تُسمَّى «سورة النساء» تضمَّنت أنواعًا من إثبات حقوق المرأة في نواحٍ مختلفة، لم تكن تحصل عليها في أيَّام الجاهلية الأُولى.



ومن مظاهر إنصاف القرآن العظيم للمرأة، وتحريرها من ظلم الجاهلية ما يأتي:

1- التَّأكيد على حقِّها في الحياة مثل الرَّجل في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59].



2- أَثْبَتَ لها حقَّ التَّملك، والتَّمتُّع بما كسبت من حلال مثل الرَّجلِ في قوله تعالى: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 32].



3- أَنْصَفَها من ظلم الجاهلية لها حتى في الطَّعام في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 139].



4- أَثْبَتَ لها الكرامةَ عند الله - حال التَّقوى - مثل الرَّجل في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].



5- صيانتها عمَّا يهدر كرامتها الإنسانيَّة، فلم يرض لها الكفر أو الشِّرك بالله، والتَّدنِّي بفطرتها إلى هذا الحدِّ الذي يُهدر كرامتها، وهي في هذا شريكُ الرَّجل، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7] وكذلك لم يرضَ لها أن تكون سلعةً رخيصة في متناول الجميع، فحرَّم عليها الزِّنا، وما يؤدِّي إليه، فأَمَرَها بغضِّ الطَّرف وعدم النَّظر إلى الرِّجال، وأمَرَها بالتَّستُّر والحجاب كي لا يطمع فيها طامع، بل مَنْ أرادها في الحلال، فعليه أن يبذل من ماله حتى ينالها بشرع الله، وفي هذا إشعار بقيمة المرأة وبمدى التكريم الذي حَظيت به في كتاب ربِّها.



6- أثبت لها ثوابَ الأعمال مثل الرَّجل في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195].



7- ضَمِنَ لها حقَّها في الإرث مثل الرَّجل في قوله تعالى: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7].



8- ضَمِنَ لها حقَّها في المهر، فقال تعالى آمرًا الرِّجال: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4].



9- حَرَّمَ على الرِّجال أَخْذَ مالها بغير حقٍّ في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾ [النساء: 19]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 20].



10- حَرَّرَها من تحكُّم الزَّوج في مصيرها بغير حقٍّ في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 231].



11- حَثَّ الأزواجَ على الإحسان إليها بعد طلاقها - مراعاةً لحالتها النَّفسية والاجتماعية - في قوله تعالى: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241]، وفي قوله تعالى: ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49].



12- أَثْبَتَ للمطلَّقة الحامل النَّفقة، فقال تعالى آمرًا الرِّجال: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 6].



13- أَثْبَتَ للمطلَّقة المُرضِع أجر إرضاعها، فقال تعالى آمرًا الرِّجال: ﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 6][5].



وجملةُ القول: إنه ما وُجِدَ دينٌ، ولا شرع، ولا قانون في أُمَّة من الأمم، أعطى النِّساء ما أعطاهن القرآنُ العظيم من الحقوق والعناية والكرامة.



أفليس هذا كلُّه من دلائل عظمته، وعلوِّ شأنه ورفعته؟





[1] انظر: الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا (ص 108)، مناهل العرفان في علوم القرآن (2 /170).





[2] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور (ص255).




[3] انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم، د، الحسن حريفي (ص168).




[4] الوحي المحمدي (ص217).




[5] انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (2 /150).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-11-2021, 06:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد القرآن الكريم

مقاصد القرآن الكريم (4)

د. محمود بن أحمد الدوسري




تقريرُ كَرامةِ الإنسانِ وإِسْعَادُه






إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.



أمَّا بعد: فالحديثُ عن "تقرير كَرامةِ الإنسانِ وإِسْعَاده" يُجمَع في مطلبين:

المطلب الأول: تقرير كرامة الإنسان وحقوقه.

المطلب الثاني: إسعاد المكلَّف في الدَّارَين.





المطلب الأول: تقرير كرامة الإنسان وحقوقه:

إن من أعظم مقاصد القرآن العظيم ما يتعلَّق بتقرير كرامة الإنسان، ورعاية حقوقه، ويتَّضح ذلك من خلال النِّقاط الآتية:

أولًا: تقرير كرامة الإنسان: طالما يؤكد القرآن العظيم - مرارًا وتكرارًا - أنَّ الإنسان مخلوقٌ كريم على الله تعالى، حيث خَلَقَ آدم بيده، ونَفَخَ فيه من روحه، وجعله خليفةً في الأرض، واستخلف أبناءه من بعده، وهي منزلة تطلَّعت إليها أنظار الملائكة الكرام، فلم تُمنح لهم، حكمةً من الله تعالى القائل: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، والقائل أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، ويقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20].



ومِنْ أجْلِ ذلك أنكر القرآن العظيم على بعض البشر انتكاسَ فطرتهم حيث جعلوا القُوَى المسخَّرة لهم آلهةً يعبدونها من دون الله، فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37].



وأنكر على صنف آخر من البشر فقدان كرامتهم، وكونهم أذنابًا لغيرهم، وهم الذين حكى الله تعالى قولهم: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 67].



وأنكر على آخرين غُلوَّهم في تقديس البشر حين أطاعوهم في معصية الله، فقال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ [التوبة: 31].



بل ردَّ القرآنُ على مَنْ نَسَبَ إلى بعض الأنبياء أنه دعا الناس إلى عبادة نفسه، فقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 79].



ثانيًا: تقرير حقوق الإنسان: إنَّ ما تتغَنَّى به الإنسانية اليوم، وتُطلِقُ عليه اسم (حقوق الإنسان)، قد اعتمده القرآن وقَرَّر ما هو أشمل منه وأعدل منذ (أكثر من أربعة عشر قرنًا).



فقرَّرَ القرآن العظيم حَقَّ كُلِّ إنسان في الحياة، ما لم يرتكب جرمًا موجبًا إباحةَ دمه شرعًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 151].



وحقَّ الإنسان في احترام مسكنه الخاص، وعدم دخوله إلَّا بإذنه، قال تعالى: ﴿ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ﴾ [النور: 27، 28].



وحقَّ الإنسان في صيانة دمه وماله، وحماية ملكه الحلال، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].



وحقَّ الإنسان في صيانة عرضه وكرامته، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات: 11].



وحقَّ الإنسان في الزَّواج وتكوين الأسرة، رجلًا كان أو امرأة، قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].



وحقَّ الإنسان - بعد الزَّواج - في الإنجاب، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [النحل: 72].



وحقَّ الذُّرية في الحياة، بنين كانوا أو بنات؛ ولهذا أنكر القرآن العظيم على أهل الجاهلية فَعْلَتَهم الشَّنيعة في وأدهم البنات، وقتلهم أولادهم لأيِّ سبب كان، وعدَّ ذلك جرمًا عظيمًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]، ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9].



وحقَّ الإنسان في كفاية العيش إن كان عاجزًا أو فقيرًا، في أموال الأغنياء، قرَّره القرآن بقولِه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: 24، 25]، وقوله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، وفي أموال الدَّولة من الغنائم والفيء، ففي كُلٍّ منها حقٌّ لليتامى والمساكين وابن السبيل.



وحقَّ الإنسان في إنكار المنكر، ورفض الفساد، ومقاومة الظُّلم البَيِّن، والكفر البواح، قرَّره القرآن بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾ [هود: 113]، وقوله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].



ولقد ارتقى القرآن العظيم بهذه الحقوق إلى مرتبة الفرائض والواجبات؛ لأنَّ ما كان من الحقوق يمكن لصاحبه أن يتنازل عنه، أمَّا الواجبات المفروضة فلا يجوز أبدًا التَّنازل عنها [1].



كما قرَّر القرآن حقًّا المساواةَ بين البشر جميعًا، فلا فرق بين جنس وجنس، ولا بين لونٍ ولون، أو عِرقٍ وعرق، وجعل هناك معيارًا واحدًا للتَّمايز هو معيار التقوى، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].



كما قرَّر القرآن حقًّا هو أعظم الحقوق على الإطلاق، وهو الحريَّة؛ فالحريَّة مكفولة للإنسان، فلا جَبْرَ ولا قَهْرَ، ولكنَّه في مقابل هذه الحريَّة أيضًا هو مسؤول عن اختياره، وأعلى من شأن حريَّة الرَّأي والفكر والاعتقاد، فلم يجبر أحدًا أو يُكرهه على اعتناق الدين، فقال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، ولن تجد حقًّا - يقبله العقل - نادت به البشريَّة إلَّا والقرآن الحكيم قد سبقها إلى إقراره وإعطائه للبشر. فما أعظمه من كتاب!



المطلب الثاني: إسعاد المكلَّف في الدَّارَين:

لا شكَّ أنَّ اتِّباع القرآن العظيم يقود الإنسانَ إلى الهداية في الدُّنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120]، وإنَّ كتابًا هذا شأنه هو وحده المتكفِّل بإسعاد الإنسان.



والمؤمنون في كُلِّ ركعة من ركعات صلاتهم - فرضًا كانت أو نفلًا - يسألون ربَّهم تعالى الهدايةَ إلى الصراط المستقيم، كما حكى الله تعالى دُعاءَهم: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، "فسؤالُ الهدايةِ متضمنٌ لحصولِ كلِّ خَير، والسَّلامةِ من كلِّ شرٍ، ولا تكون الطريقُ صراطًا حتى تتضمن خمسةَ أمور: الاستقامةَ، والإيصالَ إلى المقصودِ، والقربَ، وسعتَهُ للمارِّينَ عليه، وتعيُّنه طريقًا للمقصود. ولا يخفى تضمُّنُ الصراطِ لهذهِ الأمورِ الخمسة.



فَوَصْفُهُ بالاستقامةِ يتضمَّنُ قربَهُ؛ لأن الخطَّ المستقيمَ هو أقربُ خطٍّ فاصلٍ بين نقطتين، وكلَّما تعوَّجَ طالَ وبَعُدَ. واستقامتُهُ تتضمَّنُ إيصالَهُ إلى المقصود، ونَصْبُهُ لجميعِ مَنْ يمرُّ عليه يستلزمُ سَعَتَهُ. وإضافتهُ إلى المنعَمِ عليهِم، ووصفهُ بمخالفةِ صِراط أهلِ الغضبِ والضلالِ، يستلزم تَعَيُّنَه طريقًا"[2].



ومن اتَّبع هدى الله المتمثِّل في القرآن العظيم، لا يعتريه ضلال في هذه الدنيا، وينتفي عنه الشَّقاء في الآخرة، والشَّقاءُ ضد السعادة، قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].



وهذه الهداية إلى الصِّراط المستقيم تستلزم سعادةَ الدنيا والآخرة، فقد جمعَهُما الله تعالى في كثير من الآيات، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، فقد نصَّت الآيةُ الكريمة على السَّعادة الدنيوية نصًا أفاده قولُه تعالى: ﴿ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾، كما نصَّت على السَّعادة الأُخروية المستفادة من قوله تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.



فقد ضَمِنَ الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة "لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاءَ في الدُّنيا بالحياة الطَّيبة، وبالحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدَّارين، ومتاع الآخرة أبقى وأنقى، قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ [النحل: 30، 31]، ونظيرها قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدُّنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطَّيبة في الدَّارين، فإنَّ طِيبَ النَّفس، وسرورَ القلب وفرحَه ولذَّته وابتهاجَه وطمأنينتَه وانشراحَه ونورَه وسعتَه، وعافيته من الشَّهوات المحرَّمة والشُّبهات الباطلة - هو النَّعيم على الحقيقة، ولا نسبةَ لنعيم البدن إليه"[3].



السَّعادة في مَنْطِق البشر: كثيرًا ما يُخطئ السَّوادُ الأعظم من البشر في مفهوم السَّعادة، فظنوا أنَّ السَّعادة في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، ولذة المال والتَّفنن في أنواع الشهوات، ولا ريب أنَّ هذه متعةٌ ولذَّة؛ تُشاركهم فيها البهائم التي لا تعقل، بل قد يكون حظُّ البهائم أوفر من حظِّ هؤلاء.



وهذه الألوان والمُتع وصُنوف الشَّهوات قد جُرِّبت من ذي قبل فلم تُحقق السَّعادةَ المنشودة، وليست عنَّا ببعيدٍ تلك المجتمعات التي يَسَّرت لأفرادها مطالب الحياة الماديَّة وكمالياتها، ومع ذلك أُحيطت بسياجٍ مُحكمٍ من التَّعاسة والنَّكد، وظلَّت تشكو وتحس بالضِّيق والانقباض، وتبحث عن طريق تلتمس فيه السَّعادة!



وقد أخبرنا الله تعالى عن تعاسة هؤلاء، وعذابهم في الحياة الدنيا، بسبب بُعدهم عن هداية القرآن العظيم، ومن أجل ذلك يحذِّرنا الله تعالى من بريق متاعهم؛ لأنه زائل، فقال تعالى: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [التوبة: 55][4].



قال ابن القيم رحمه الله تأكيدًا لهذا المعنى: "ولا تظنَّ أنَّ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14] مختصٌّ بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيمٍ في دُورهم الثَّلاثة، وهؤلاء في جحيمٍ في دُورهم الثلاثة، وأيُّ لذةٍ ونعيم في الدُّنيا أطيب من بردِ القلب، وسلامةِ الصَّدر، ومعرفةِ الرَّب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته؟



وهل العيش في الحقيقة إلَّا عيش القلب السَّليم؟! وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قَلْبِه، فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83، 84]"[5].



ولا شكَّ أنَّ الحياة الطَّيبة - في منظور القرآن - تكمن في سكينة القلب واطمئنانه، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]. وقال أيضًا: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وصيغة المضارع في قوله: ﴿ تَطْمَئِنُّ ﴾ توحي بتجدد هذا الاطمئنان وديمومته، وهو في حاجة إلى مَنْ يرعاه ويحضنه، ولا سبيل إلى ذلك إلَّا بالعبادات، وعند ذلك يصبح صاحبه في أطيب حال في الدنيا، وفي نعيم دائم في الآخرة[6].



وهذا ما أكده أيضًا العزُّ بن عبدالسَّلام رحمه الله بقوله: "ومن السَّعادة أن يختار المرء لنفسه المواظبة على أفضل الأعمال فأفضلها، بحيث لا يضيع بذلك ما هو أَولى بالتَّقديم منه، والسَّعادة كلُّها في اتباع الشَّريعة في كلِّ ما ورد وصَدَرَ، ونبذ الهوى فيما يخالفها"[7].



وهذا الكلام النَّفيس من هذا العالم الجليل ليؤكد لنا مرارًا وتكرارًا أنَّ في القلب شَعَثًا لا يلمُّه إلَّا الإقبال على الله تعالى، ووحشةً لا يزيلها إلَّا الأُنس بالله، وحزنًا لا يُذهبه إلَّا السُّرور بمعرفةِ الله، وصِدْق معاملته، وقلقًا لا يسكنه إلَّا الاجتماع عليه والفرار إليه، وهو المتوافق مع فطرة الله عز وجل التي فَطَر النَّاس عليها.



نسألُ الله القدير أن يجعلنا من أهل السَّعادة في الدُّنيا والآخرة، من الذين قال فيهم: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108].



الخلاصة:

من خلال استعراضنا - بإيجاز - لأهمِّ المقاصد التي جاءت في كتاب الله العظيم، نصل إلى إقرار حقيقةٍ هامَّة، وهي: شموليَّةُ نظرةِ القرآن الكريم واتِّساعُ رؤيتِه، لما يحقِّقُ السَّعادةَ والحياة الطَّيِّبةَ للفرد والمجتمع على السَّواء، ومن هنا تبرز: عظمة المقاصد النَّبيلة التي رمى إليها القرآن العظيم، وهي على النَّحو الآتي:

1- إصلاح العقائد: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما.



2- إصلاح العبادات: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى ما يُزكِّي النفوس ويُغذِّي الأرواح ويقوِّم الإرادة.



3- إصلاح الأخلاق: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى فضائلها، وتنفيرهم من رذائلها.



4- إصلاح الاجتماع: عن طريق إرشاد الخَلْق إلى توحيد صفوفهم، ومحو العصبيات، وإزالة الفوارق التي تُباعد بينهم؛ وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد، من نفس واحدة، ومن عائلة واحدة، أبوهم آدم، وأُمُّهم حواء، وأنَّه لا فضل لشعب على شعب، ولا لأحد على أحد إلَّا بالتقوى؛ وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه، متكافئون في الأفضلية وفي الحقوق والتَّبعات، من غير استثناءات ولا امتيازات، وأنَّ الإسلام عَقَد إخاءً بينهم أقوى من إخاء النَّسَب والعَصَب، وأنَّهم أُمَّة واحدة لا تفرِّقها الحدود الإقليمية، ولا الفواصل السِّياسية والوضعية: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52].



5- إصلاح السِّياسة الدولية: عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس، ومراعاة الفضائل في الأحكام والمعاملات: من الحقِّ، والعدل، والوفاء بالعهود، والرَّحمة، والمواساة، والمحبَّة. واجتناب الرذائل: من الظُّلمِ، والغدر، ونقض العهود، والكذب، والخيانة، والغشِّ، وأكل أموال الناس بالباطل: كالرِّشوة، والربا، والتِّجارة بالدِّين والخرافات.



6- الإصلاح المالي: عن طريق الدَّعوة إلى الاقتصاد، وحماية المال من التَّلف والضَّياع، ووجوب إنفاقه في وجوه البِرِّ، وأداء الحقوق الخاصَّة والعامَّة، والسَّعْي المشروع.



7- الإصلاح النِّسائي: عن طريق حماية المرأة، واحترامها، وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية، والدِّينية، والمدنية.



8- محاربة الاسترقاق: عن طريق تحرير الرَّقيق الموجود بِطُرق شتَّى، منها التَّرغيب العظيم في تحرير الرِّقاب، وجعله كفارة للقتلِ، وللظِّهارِ، ولإفسادِ الصيام بطريقةٍ فاحشة، ولليمينِ الحانثة، ولإيذاء المَمْلوك باللَّطْم أو الضَّرب.



9- تحرير العقول والأفكار: عن طريق منع الإكراه، والاضطِهاد، والسَّيطرة الدِّينية القائمة على الاستبداد والغطرسة: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ﴾ [الغاشية: 21][8].





[1]انظر: الوحي المحمدي (ص173).




[2]مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 10، 11).




[3]الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص84).




[4]انظر: الكليات الشرعية في القرآن الكريم (1/ 192).





[5] المصدر السابق (ص85).




[6]انظر: التحرير والتنوير (12/ 182).




[7]قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 17).




[8] انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (2/ 322).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 122.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 119.00 كيلو بايت... تم توفير 3.05 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]