كيف ظهرَ الشِّرْكُ في النصارى؟ - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 859 - عددالزوار : 118680 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 40153 )           »          التكبير لسجود التلاوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          زكاة التمر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          صيام التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          كيف تترك التدخين؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          حين تربت الآيات على القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3096 - عددالزوار : 366909 )           »          تحريم الاستعانة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          فوائد ترك التنشيف بعد الغسل والوضوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 31-10-2021, 03:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,235
الدولة : Egypt
افتراضي كيف ظهرَ الشِّرْكُ في النصارى؟

كيف ظهرَ الشِّرْكُ في النصارى؟







للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة







المقدمة:


لا يختلِفُ العقلاءُ في قبحِ الشرك وفداحَتِه؛ فإنَّ البشرية مفطورةٌ على النُّفرة من الشرك بالله وإعطاءِ شيء مِن خصائصه تعالى لغَيره، تمامًا كبديهيَّة إقرار البشرية بوجودِه وخالِقِيَّته أولًا، فهذه قضايا فطريةٌ ضروريةٌ لا تحتاج إلى نظرٍ واستِدلال([1])، وقد يُعمل الإنسان فيها عقلَه ونظرَه مسانَدةً منه لهذه الفطرة؛ “لينالَ المؤمنُ بذلك زيادةَ اليقين وثلج الصدر”([2])، هذا من حيث الأصل، إلا أنه قد يَعرِضُ للإنسان ما يحتاج معه إلى النظرِ والاستدلال العقليّ؛ لإيقاظ هذا المعنى الفطري الكامن في النفس([3]).

فقُبحُ الشّرك وقذارة فِكر صاحبه أمرٌ بَدَهيّ في العقول السويةِ، سواء عند النصارى أو عند اليهود أو عند المسلمين، وهو ما جاءت به جميع الرسل من عند الله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19].

وفي هذا البحث ننقِّب عن بداية ظهور الشرك في النصارى وانتشاره مع أن عيسى عليه السلام بعث بالتوحيد ونبذ الشرك.

تمهيد:

على مرِّ الأزمان كانت دعوة رسل الله عليهم السلام هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى والنهي عن الشرك به، وما من نبيٍّ إلا وقد دعا قومه إلى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة واجتناب عبادة غيره من الطواغيت والشركاء والأنداد، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فكل الأمم السالفة بعث الله فيهم من يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالطاعة واجتناب سبل الشياطين والمشركين([4])، وهذا الأصل اجتمع الأنبياء كلهم على الدعوة إليه، ومن دعا إلى التوحيد دعا إلى سبيل الأنبياء ومن كذَّب بالتوحيد كذَّب رسل الله أجمعين([5]) كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105].

وبهذا جاء عيسى عليه السلام، جاء بالأمر بتوحيد الله سبحانه وتعالى وعدم الإشراك به، ولم يأمر قط بعبادته من دون الله تعالى، ولا برفعه فوق منزلة النبوة التي أنزله الله إياها: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116-118]، فعيسى عليه السلام إنما بعث بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك؛ ولذلك قال: “ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم: اعبدوا الله ربي وربكم”([6])، ولم يعرف منهم الشرك إلا بعد قبضه كما في هذه الآية.

فكما ترى هنا “شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس، فعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكون الله أحبَّ إلى العبد من كل ما سواه هو أعظم وصيةٍ وكلمةٍ جاء بها المرسلون كموسى والمسيح ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى”([7]).

طروء الشرك على الأمم:

لم يستمرَّ النصارى على التوحيد الذي بَعث الله به نبيَّه عيسى عليه السلام، بَل طرأ على قوم عيسى ما طَرأ على مَن قبلهم من أتباعِ الأنبياء، ودَبَّ إليهم إبليسُ بأسباب ظهور الشرك بالله بينهم؛ ومن أهمِّ تلك الأسباب الغلوُّ في تعظيم الأنبياء والصَّالحين كما أخبر عليه الصلاة والسلام([8])، فإذا نقَّبنا عن أوَّل طروءِ للشرك في البشرية وجدنا أنَّ هذا هو سببه، فإن الناسَ بعد آدم عليه السلام ظلّوا موحِّدين لله سبحانه وتعالى عشرةَ قرون([9])، وحصل فيهم الشرك بذريعة التقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى بالصالحين وصورهم وتماثيلهم، فإشكاليتهم الكبرى كانت بسبب الغلو في الصالحين؛ وأدى بهم الغلو في الصالحين إلى عبادتهم والتقرب إليهم أملًا في أن يقربوهم إلى الله سبحانه وتعالى، يقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “وبالجملة فنوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عُبِدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضَّلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض”([10])، وقال في موضع لاحق: “والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض”([11]).

وهكذا تتابعت الرسل من بعده بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى كلما انحرفت البشرية عن هذا المسار الذي خلقوا للسير عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، فعادٌ قوم هود استنكروا عليه أنه دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك وتركِ عبادة ما سواه من الطواغيت والآلهة فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، أي: “أجئتنا تتوعدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين؛ كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرأ منها؟!”([12]).

ولم يكن الحال مختلفًا مع قوم إبراهيم الذين أرسله الله إليهم، فقد كانوا يثبتون ربوبية الله سبحانه وتعالى في الجملة، وإنما كان شركهم بالكواكب والأصنام، وقصدهم من ذلك هو التقرب إلى الباري سبحانه وتعالى، فهم “كانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقربا إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقربا إلى الباري تعالى؛ لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات، وهي تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا كما نتصرف في أبداننا، ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه”([13]).

وأمَّا بنو إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى عليه السلام فقد كانوا مقِرِّين بربوبية الله سبحانه وتعالى؛ إذ هم من بيت إبراهيم وإسحاقَ عليهما السلام في الأصل، وما إن أنقَذهم الله من فرعون الذي ادَّعى الربوبية من دون الله حتى طلبوا من موسى أن يجعَلَ لهم آلهة يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ جهلًا منهم أن ذلك عين الشركُ الذي نهى الله عنه وحذر منه، فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، قال ابن جريج: “وكانوا يعبدون أصنامًا على صُوَر البقر، فلهذَا أثارَ ذلك شبهةً لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك”([14]). وأيضًا فإن العجل الذي عبدوه من دون الله لم يعتقدوا فيه أنه الربُّ الخالق المالك الرازق، وإنما عبدوه من دون الله؛ ولذلك احتج المولى عليهم بما يقرّون به حيث قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]، يقول الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “يخبر -جل ذكره- عنهم أنهم ضلوا بما لا يضلُّ بمثله أهلُ العقل؛ وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السموات والأرض، ومدبِّر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدا له خوار، وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} يقول: ألم ير الذين عكفوا على العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه أن العجل لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا؟! يقول: ولا يرشدهم إلى طريق، وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقًّا، بل صفته أنه يكلم أنبياءه ورسله، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير، وينهاهم عن سبيل المهالك والردى. يقول الله جل ثناؤه {اتَّخَذُوهُ} أي: اتخذوا العجل إلها، وكانوا باتخاذهم إياه ربًّا معبودا ظالمين لأنفسهم؛ لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة”([15]).

وفي هذا يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: “والشركُ في بني آدم أكثره عن أصلين:

أولهما: تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون…

والسبب الثاني: عبادة الكواكب، فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب”([16]).

طروء الشرك على النصارى بسبب الغلو:

لقد دخل الشرك على النصارى من نفس المدخل الذي دخل منه الشرك على غالب الأمم، وهو باب الغلوِّ، فقد كان من أمر الحواريِّين أنهم اختلفوا في أوَّل المعجزات التي حصلت لعيسى عليه السلام وآخرها، وهو ولوجه إلى الدنيا من غير أبٍ وتجسُّد الكلمة، ثم صعوده إلى السماء في آخر حياته، وغلوا في كل واحدة من هاتين، فرغم أن المسيح كان بشرًا يعيش بين ظهرانيهم يأكل ويشرب، وكانت تجري عليه كل أحكام البشر، إلا أنهم قالوا بتجسّد الكلمة وحلول الإله في المسيح عليه السلام، “أما الأول فإنهم قضوا بتجسد الكلمة، ولهم في كيفية الاتحاد والتجسّد كلام، فمنهم من قال: أشرق على الجسد إشراق النور على الجسم المشفّ، ومنهم من قال: انطبع فيهم انطباع النقش في الشمع، ومنهم من قال: ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني، ومنهم من قال: تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء والماء اللبن”([17])، وكما نرى فإن الغلو وصل بهم إلى أن أضفوا على المسيح شيئا من خصائص الإله سبحانه وتعالى؛ كدعوى حلول الله في جسده وكونه ابن الله على تفصيل طويل منهم وخلاف أطول في حقيقة هذا المعنى([18]).

والحاصل أن النصارى لم يلتزموا بما أمرهم به عيسى عليه السلام وبما أتاهم به من عند الله، بل تأثروا بالأمم المشركة وبالوثنيين كما أثبت ذلك كثير من الباحثين، يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: “النصارى ركَّبوا دينًا من دينين: من دين الأنبياء الموحِّدين ودين المشركين، فصار في دينهم قسطٌ مما جاءت به الأنبياء، وقِسطٌ مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم… النصارى لم يتَّبعوا لا التوراة ولا الإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يُبعث بها نبيٌّ من الأنبياء، كما وضعوا لقسطنطين (الأمانة)، ووضعوا له أربعين كتابًا، ويُسمُّونها القوانين، فيها بعض ما جاءت به الأنبياء، وفيها شيء كثير مخالفٌ لشرع الأنبياء، وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عَبدوا مع الله آلهة أخرى وكذَّبوا رسله، فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيَّروا به شريعة الإنجيل”([19]).

وهذا ما اعترف به الباحثون ممن تربَّوا على النصرانية نفسِها، وغدا من المسلمات عند علماء مقارنة الأديان أن النصرانية تكوَّنت من أصول وثنية؛ حتى قال قائلهم: لا ندري هل تنصَّرت الرومانية أم تروَّمت النصرانية!([20]).

يقول د. محمد الشرقاوي: “لمعت في الغرب أسماء علماء كثيرين في حقل نقد الأسفار المقدسة والديانة المسيحية نتيجةَ الاحتكاك بالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية من ناحية، وبفعل عوامل أخرى من ناحية ثانية… ثم توجَّه علماء الغرب وباحثوه في العصر الحديث إلى دراسة الديانات القديمة: الهندية، البابلية، والكاراتيه، والفارسية، والصينية، والمصرية القديمة، واليونانية، والرومانية، والإسكندنافية، والمكسيكية وغيرها. وأذهلتهم نتائج بحوثهم المؤسسة على التنقيبات والحفائر وقراءة الوثائق وتحليلها، فأيقنوا -بالوثائق والمستندات- أن العقائد التي تسربت إلى ديانة عيسى عليه السلام ورسوله مأخوذة جملة وتفصيلا من الوثنيات الشرقية المصرية والبابلية والهندية والفارسية والغربية: اليونانية، والرومانية. ونشروا ثمرات بحوثهم وتحليلاتهم وموازناتهم في كتبهم وموسوعاتهم العلمية”([21]).

وأول ظهور لمثل هذه الاعترافات حصل بعد أن قامت قائمةُ علم مقارنة الأديان في أوروبا مع جماعة من المهتمِّين من أمثال (ماكس مولر) وغيره من الباحثين، وإن كان هذا العلم قد سبق المسلمون بإبداعه وإظهاره، وتركوا لنا تراثًا ضخمًا كما رأينا من كلمة ابن تيمية (728هـ) رحمه الله وغيره من الأئمة.

ومن أوائل من صرخ ونادى بالتنقيب عن الأصول الوثنية في هاتين الديانتين (إرنست رينان) الذي أثار حين إبرازه نتيجةَ بحثه ضجةً كبيرةً في أوساط النصارى في القرن التاسع عشر([22])، وكان خلاصة بحثه الذي توصل إليه وأثار تلك الضجة: “أن الدراسات التاريخية للمسيحية وأصولها تثبت أن كل ما ليس له أصل في الإنجيل مقتبسٌ من أسرار الوثنية”([23])، ويعلق (نايتون) على ذلك قائلا: “ونحن لا نبالغ إذا قلنا: إن ما يعرف بالأسرار الدينية في المسيحية مستوحًى من الأديان الوثنية القديمة”([24]).

وفي هذا الصدد أيضا يصرح صاحب كتاب تاريخ العالم: “أن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيقٍ يخفي تحته نظرةً وثنية خالصة للحياة”([25]).

وحين ألَّف العالم البلجيكي المتخصِّص في تاريخ الأديان (فرانز كومون) أكد هذه الحقيقة التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي أن الديانة المسيحية ليست سوى مزيج محسَّن الصورة والهيئة من الأديان الوثنية القديمة، ودين ملفَّق من شتى العقائد والأديان الوثنية؛ ومن هنا سمى كتابه: (لا جديد تحت الشمس)؛ ليؤكد أن الآلهة الوثنية لم تمت بعد، وإنما هي هي بقيت تُعبَد باسم المسيحية من بعد([26]).

أما (نايتون) فقد أمضى أكثر من ثلاثين عاما في تدريس علم مقارنة الأديان في جامعات فرنسا، وهو من ألمع رجال هذا العلم، فقد نادى بصورة فجَّة بأهمية دراسة الأديان الوثنية والوضعية الشرقية: “ونحن في دراستنا لتاريخ الأديان اليوم لا نستطيع أن ننكِر ما بين المسيحية والوثنية من صلاتٍ وثيقة وأواصر متينة، بل إنه يلزمُنا ويجب علينا أن نبين كيف أن المسيحية هذه تحدَّرت من الوثنية، وصار لهما نسب واحد وأصل مشترك، وهذا أمر منطقيٌّ طبيعيّ جدًّا لدى مؤرخ الأديان… إننا لا نستطيع أن نفهم مسيحيتنا حقَّ الفهم إذا لم نعرف جذورها الوثنية، فقد كان للوثنية قسطٌ وافر في تطوّر الدين المسيحي، وهو قِسط غير مباشر ولا منظور إذا صحَّ أن لليهودية تأثيرًا على المسيحية، وكانت أساسًا جوهريّا للنظرة المسيحية؛ فإن علينا أن ننبه أن اليهودية نفسَها أصيبت بالتأثيرات الوثنية في فارس وبابل، وخضعت لنفوذهما عندما كان اليهود في المنفى، غير أن هناك تأثيرًا خاصًّا مباشرًا أصاب المسيحية -وهو جوهر موضوعنا-، لقد كان للوثنية اليونانية والفارسية هيمنة على المسيحية، وكذلك كان للوثنية في عموم الشرق. هكذا تألَّف دينٌ جديد، لَمْلَم أَشتاتَه من هنا وهناك، وكان كمَن يصبُّ خمرًا عتيقا في جِرارٍ جديدة”([27]).

إن (نايتون) يؤكِّد هنا ضرورة من الضرورات لفهم النصرانية نفسها؛ ألا وهو ضرورة تعلم الأديان الوثنية؛ لأنها ولجت النصرانية وتجذَّرت فيه تجذرًا عميقًا، وامتزجت بها حتى لا تكاد تُفهم بدون فهم أصولها، إننا لو أردنا أن نضرب مثلًا لهذه الحال فمثله كمثل الذي يتكلَّم عن ضرورة تعلُّم الأصل لفهمِ ما يتفرَّع عليه، كما يوصي المحدِّث بتعلم أصول الحديث لمعرفة ما يدور في كتب الحديث من أحكام وإطلاقات ومصطلحات، وكما أنه يجب على الأصولي تعلم المنطق ليفهم المصطلحات المنطقية التي شابت علمَ الأصول؛ إذ فهم الأصل يُعين على فهم الفرع.

ولفهم هذا التمازج أكثر وهذا التجذُّر الوثني في الديانة النصرانية دعنا نرجع إلى ما قدَّم به كتابه يُدلِّل فيه ما ذكره حيث قال: “ثلاثة قرون من الاضطهاد الوثني الشديد للمسيحية! ثلاثة قرون من الاضطهاد الروماني بخاصَّة! ثلاثة قرون كانت فيها ردَّة فعل المسيحية قويَّة عنيفةً، لكنها لم تكن تعني أبدًا أن هنالك تناقضًا كبيرًا واضحَ المعالم بين الطرفين! وعلى الرغم من أن كثيرًا من الناس يعتقِد بأن هنالك تناقضًا فإن الحقيقة مختلفة جدًّا”([28]). فهذا تفسير لتلك العقائد التي زرعت في النصرانية زراعة لتلائم البيئة التي زرعت فيها؛ حيث يشهد جملة من مؤرخي الأديان بأن النصرانية تروَّمت بدل أن تنصِّر الرومانيين الوثنيين، فهذا التجذُّر الوثني هو بسبب ما كان عليه حال النصرانية في قرونها الأولى.

يقول (ول ديورانت): “لما فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد دماء الدين الوثني القديم: لقب الحبر الأعظم، وعبادة الأم العظمى، وعدد لا يحصى من الأرباب التي تبث الراحة والطمأنينة في النفوس، وتمتاز بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس، كل هذا انتقل إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها.

وأسلمت الإمبراطورية المحتضرة أزِمَّة الفتح والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية، وشحذت الكلمة بقوة سحرها ما فقده السيف المسلول من قوته، وحلَّ مبشِّرو الكنيسة محلَّ الدولة.

إن المسيحية لم تقض على الوثنية، بل ثبَّتَتْها؛ ذلك أن العقل اليوناني عاد إلى الحياة في صورة جديدة، في لاهوت الكنيسة وطقوسها، ونقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الرهيبة، وجاءت من مصر آراء الثالوث المقدس، ويوم الحساب، وأبدية الثواب والعقاب، وخلود الإنسان في هذا أو ذاك. ومن مصر جاءت عبادة الأم الطفل، والاتصال الصوفي بالله؛ ذلك الاتصال الذي أوجد الأفلوطينية واللاأدرية، وطمس معالم العقيدة المسيحية”([29]).

نماذج من الوثنيات الدخيلة على النصرانية:

لا نحتاج إلى كبير تأمّل حتى يلاحظ الملاحظ الأصول الشركية التي دخلت على النصرانية في كثير من عقائدها، فقد سبق أن بيَّنَّا أنهم اختلفوا في طبيعة المسيح، واشتدَّ الاختلاف بين الطوائف المسيحية الأولى جدًّا، فكان جوهر الخلاف متمحورًا حول شخص المسيح أهو رسول من عند الله فقط، أم أن له منزلةً أعلى من منازل الرسل والأنبياء الذين عرفتهم البشرية جمعاء من لدن آدم عليه السلام؟! وهل هو بمنزلة الابن من الله، أو أنه ابن الله حقًّا له صفة القِدَم فله طبيعتان بشرية وإلهية؟!

ويعود السرُّ في هذا الاختلاف إلى المعجزة الأولى التي ظهرت منذ ولادته وهي خلقه من غير أب، وهكذا اشتدَّ الخلاف والنزاع بينهم، وكلّ يزعم أن نحلته هي المسيحية الصحيحة التي جاء بها المسيح عليه السلام، يقول أبو زهرة: “ويظهر أن ذلك الاختلاف وتلك النحل المتباينة المتنازعة قد ظهرت بعد أن دخلت طوائف مختلفة من الوثنيين من الرومان واليونان والمصريين، فتكوَّنَ في المسيحية مزيجٌ غير تام التكوين، غير تام الاتحاد والامتزاج، وكل قد بقي عنده عن عقائده الأولى ما أثَّر في تفكيره في دينِه الجديد، وجعله يسير على مقتضى ما اعتنق من القديم من غير أن يشعُر أو يريد”([30]).

فالتثليثُ على سبيل المثال عقيدة شركيَّة وثنيَّة معروفة في أديان الهند القديمة وغيرها، ومما يَتعجَّب منه الناظر في الدين النصراني أن التثليثَ الذي هو أصل الأصول في دينهم لا نجِد له ذكرًا في الأناجيل فضلًا عن الاستدلال والمنافحة عنه! فالأناجيل لم تتحدَّث عن هذا التثليث إلا قليلًا، وليس من باب المبالغة في التقليل، فليس في الأناجيل ذكره إلا في موضعين، أما أكثر النصوص التي نعثر فيها على عقيدة التثليث فهي رسائل بولس الذي كان له دورُه في تحريف النصرانية عن مسارها التوحيدي الذي نزلت به إلى المسار الوثني، بل نجد حوالي خمسة إصحاحات من إصحاحات رسائل بولس تتحدَّث عن التثليث صراحة!([31]).

ولا تتعجب أيضا وأنت تتتَبَّع التاريخَ النصراني أنه يجب عليك الانتظار حتى القرن الرابع الميلادي ليتمَّ الإعلان صراحةً عن عقيدة التثليث على لسان القدِّيس إثناس السكندري في مجمع نيقية التي قمع فيها الموحِّدون (الآريسون)([32]).

إذن أليس من المريب أن يكون هذا أصلًا من أصول الدين ثم لا نجد له ذكرًا في الكتب المقدسة التي عندهم؟! هذا على فرض التسليم بأنها تحتوي على إنجيل عيسى الذي نزل به عليهم من عند الله، فكيف لو عَرفنا أنَّ تلك الكتب أيضا اعتراها ما اعتراها! فإذا كان الأمر كذلك فمن أين جاءت فِكرة التثليث؟!

وممن دخل في ذلك الدين فلاسفةٌ لهم آراء فلسفية، أرادوا أن يفهموا ما اعتنقوه جديدًا على ضوئها، وعلى مقتضى منطقِها وتفكيرها.

ولقد كانت تلك الاختلافات كامِنةً لا تظهر مدَّةَ الاضطهادات الرومانية؛ لأنهم شغلوا بدفع الأذى ورد البلاء واستقبال المحن والكوارث، وكانوا يستسرّون بدينهم ولا يظهرونه، ويخفون عقائدهم ولا يعلنونها، حتى إذا رزقوا الأمان ونزلت عليهم سحائب الاطمئنان ظهرت الخلافات الكامنة، وإذا هم لم يكونوا متَّفقين إلا في التعلُّق باسم المسيح والاستمساك بالانتساب إليه، من غير أن يتَّفقوا على شيءٍ في حقيقته؛ ولذا لما منَحَهم قسطنطين عطفَه واعتزم الدخولَ في النصرانية ووجد هذا الاختلاف الشديد أمر بعقد مجمع نيقية([33]).

وإذا ما أردنا التعمُّق أكثرَ في وثنية فكرة التثليث وإقامة الأدلة على أنه عقيدة شركية وثنيَّة فإننا لا نحتاج إلى كثير عناء، ففكرةُ التثليث معروفة في أديان الهند القديمة وغيرها، فكثير من الديانات حلَّت مشكلتَها مع الكثرة الهائلة من الآلهة بفكرة الثالوث المقدَّس كخطوة أولى مِنهم للقول بأنهم موحِّدون؛ فإن التثليث يجمَع بين فكرة التعدّد والتوحيد كما يزعمون، يقول د. أحمد شلبي: “وحوالي القرن التاسع قبل الميلاد وصل فكر الكهنة الهنود إلى إبراز هذه النتيجة التي تقرب من التوحيد أو تصل إليه، فقد جمعوا الآلهة في إله واحد، وقالوا: إنه هو الذي أخرج العالم من ذاته، وهو الذي يحفظه ثم يهلكه ويرده إليه، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء، فهو برهما من حيث هو موجِد، وهو فشنو من حيث حافظ، وهو سيفا من حيث هو مهلك”([34]).

وكذلك نجد الديانة الميثراوية، فهم يقولون بالتثليث على ما يلي: أوزرد (الخالق)، أهردمان (المهلك)، ميثرا (المخلص)([35]).

ونجد مثل هذا الإله الثالوث في جملة من الأديان الأخرى غير الأديان الهندية، بل إننا نعثر على آلهة التثليث في مختلف البلدان والأديان الوثنية القديمة حول العالم، ففي الهند: (میترا، فارونا، أریامان)، وفي إيران: (أهورا مزاده، أناهيتا، میترا) وفي بابل: (سين، شمش، عشتار)، وفي اليونان: (زیوس، هيرا، دیونیزوس)، وعند الرومان: (جوبيتر، جونون، مينيرفا). وهي لائحة طويلة جدًّا من الآلهة المثلثة عند الشعوب الوثنية القديمة. وهذا يعني أن التثليث المسيحي لم يولد من عدم، وإنما له أصوله الوثنية كما قررنا في هذا البحث([36]).

يقول برتشرد: “لا تخلو كافة الأبحاث الدينية المأخوذة عن مصادر شرقية من ذكر أحد أنواع التثليث أو التولد الثلاثي”([37])، ويقول نايتون: “وخلاصة القول أننا لا نستطيع إلا أن نعترف بالأصل الوثني لعبارة (ابن الله)، كما لا بد لنا من القول: إن هذه العبارة قد كان لها تأثير كبير على استقطاب الكثير من الوثنيين في الديانة المسيحية، بل دخل بعضهم في الدين الجديد بسببها”([38]).

وما أصدق كلمة ابن تيمية (728هـ) رحمه الله حين قال: “مَن تدبّر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء -عليهم السلام- من النصارى تبيَّن له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك لم يُبعَث به أحدٌ من الأنبياء”([39]).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 120.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 118.56 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]