
13-08-2021, 03:36 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة :
|
|
نظرية ما بعد الاستعمار
نظرية ما بعد الاستعمار
د. جميل حمداوي
توطئة:
تعد نظرية ما بعد الاستعمار أو النظرية ما بعد الكولونيالية (Colonial Discoures and Post Colonial Théorie) من أهم النظريات الأدبية والنقدية ذات الطابع الثقافي والسياسي؛ لكونها تربط الخطاب بالمشاكل السياسية الحقيقية في العالم. وبالتالي، تستعرض ثنائية الشرق والغرب في إطار صراع عسكري وحضاري و قيمي و ثقافي وعلمي. كما تعمل هذه النظرية الأدبية النقدية على استكشاف مواطن الاختلاف بين الشرق والغرب، وتحديد أنماط التفكير والنظر إلى الشرق والغرب معا، وذلك من قبل كتاب ومبدعي مرحلة ما بعد البنيوية، ومثقفي ما بعد فترة الاحتلال الغربي الذين ينتمون غالبا إلى الشعوب المستعمرة، وأخص بالذكر شعوب أفريقيا وآسيا. ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمار تطرح مجموعة من القضايا الشائكة للدرس والمعالجة والتفكيك والتقويض، كجدلية الأنا والغير، وثنائية الشرق والغرب، وتجليات الخطاب الاستعماري، ودور الاستشراق في تزكية المركزية الغربية قوة وتفوقا، والإشارة إلى الصراع الفكري والثقافي المضاد للتمركز العقلي الغربي لغة وكتابة ومقصدية وقضية. إذاً، ما هي نظرية ما بعد الاستعمار؟ وما هو مفهوم هذه النظرية؟ وما هي أهم مرتكزاتها القضوية والفنية والنقدية والمنهجية؟ ومن هم أهم روادها الفعليين؟ وما قيمة هذه النظرية تصورا وتطبيقا؟ هذا ماسوف نوضحه في هذه الدراسة التي بين أيديكم.
1- مفهوم نظرية ما بعد الاستعمار:
تعد نظرية ما بعد الاستعمار من أهم النظريات الأدبية والنقدية التي رافقت مرحلة ما بعد الحداثة، ولا سيما أن هذه النظرية ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية. ومن ثم، أصبح الغرب هو المركز. وفي المقابل، تشكل الدول المستعمرة المحيط التابع على حد تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين. ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمار تعمل على فضح الإيديولوجيبات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها المتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر:" اهتمام ذي صلة في فكر ما بعد الاستعمار هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. ويتضح من منظور عالم ما بعد الاستعمار أن أعمال الفكر الكبرى في غرب أوروبا والثقافة الأمريكية قد هيمنت على الفلسفة والنظرية النقدية، وكذلك على أعمال الأدب في جزء واسع من أنحاء العالم، ولا سيما تلك المناطق التي كانت سابقا تحت الحكم الاستعماري. إن مفهوم دريدا عن الميثولوجيا البيضاء، الذي حاول أن يفرض نفسه على العالم بأسره، قد قدم الدعم لهجوم ما بعد الاستعمار على هيمنة الإيديولوجيات الغربية . وإن رفض ما بعد الحداثة للسرديات الكبرى وأنماط الفكر الغربي التي أصبحت عالمية، كان أيضا مؤثرا جدا."[1]
وتسمى هذه النظرية كذلك بالخطاب الاستعماري، وقد ظهرت هذه النظرية حديثا مرافقة لنظرية ما بعد الحداثة، وبالضبط في سنوات الستين والسبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين. وقد أعطيت لنظرية ما بعد الاستعمار تعريفات عدة، ومن أهم تعاريفها أن مصطلح " مابعد استعماري" يستخدم ليغطي :" كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحظةالاستعمار حتى يومنا الحالي؛ ذلك أن هناك خطًا متصلاً من الاهتمامات، على مدار العملية التاريخية التي بدأها العدوان الإمبريالي... ونحن نشير كذلك إلى ملاءمةالمصطلح للنقد الجديد العابر للثقافات الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطابالذي تكوّن من خلاله ذلك النقد. وبهذا المعنى، فإن كتابنا هذا – كما يقول بعض القائلين بنظرية ما بعد الاستعمار - يهتم بالعالم كماكان خلال فترة الهيمنة الإمبريالية الأوروبية وبعدها، وتأثير ذلك على الآدابالمعاصرة... وعلى هذا النحو، تكون آداب البلاد الأفريقية، واسترالياوبنجلاديش وكندا وبلاد البحر الكاريبي والهند... كلها آداب ما بعد الاستعمار... وما يجمعبين هذه الآداب - بعد سماتها الإقليمية الخاصة – أنهاظهرت بشكلها الحالي في أعقاب تجربة الاستعمار، وأكدت نفسها من خلال إبراز التوترمع القوة الإمبريالية، وبالتركيز على ما يميزها عن فرضيات المركز الإمبريالي. وهذا هو ما يجعلها آدابًا ما بعد استعمارية."[2]
وبناء على ما سبق، فالنظرية ما بعد الاستعمار هي التي تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتباره خطابا مقصديا، يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. كما يوحي المصطلح بوجود استعمار جديد يخالف الاستعمار القديم. لذا، يتطلب هذا الاستعمار التعامل معه من خلال رؤية جديدة، تكون رؤية موضوعية وعلمية مضادة. ويعرف سعد البازعي مصطلحي الخطاب الاستعماري والنظرية ما بعد الاستعمار قائلا:" يشير هذان المصطلحان اللذان يكملان بعضهما بعضا إلى حقل من التحليل ليس جديدا بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح في الغرب إلا مؤخرا مع تكثف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله. يشير المصطلح الأول إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب على أساس أن ذلك الإنتاج يشكل في مجمله خطابا متداخلا بالمعنى الذي استعمله فوكو لمصطلح خطاب.أما المصطلح الثاني، " النظرية ما بعد الاستعمارية"، فيشير إلى نوع آخر من التحليل ينطلق من فرضية أن الاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلة من الهيمنة- تسمى أحيانا المرحلة الإمبريالية أو الكولونيالية- كما عربها بعضهم- قد حلت وخلقت ظروفا مختلفة تستدعي تحليلا من نوع معين. ولذا، فإن المصطلحين ينطلقان من وجهات نظر متعارضة فيما يتصل بقراءة التاريخ، وإن كان ذلك اختلافا في التفاصيل لا في الجوهر، فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي. وبالتالي، انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، يرى بعضهم الآخر أن الخطاب الاستعماري ما يزال قائما وأن فرضية "المابعدية" لا مبرر لها."[3]
هذا، ولقد طرحت نظرية ما بعد الاستعمار مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمر بالشعوب المستعمرة الضعيفة، ومن بين هذه الاسئلة والإشكاليات نذكر الافتراضات التالية: "كيف أثرت تجربة الاستعمار على هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات ما بعد الاستعمار؟ وكيف أثرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثر التعليم الاستعماري واللغة المستعمرة على ثقافة المستعمرات وهويتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل المستعمر؟ إلى أي مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا؟ هل تركز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمار على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية؟ هل ينبغي استمرار معاداة الاستعمار عبر العودة الجادة إلى الماضي السابق على فترة الاستعمار؟ كيف تلعب مسائل الجنس والنوع والطبقة دورًا في الخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري؟ هل حلت أشكال جديدة من الإمبريالية محل الاستعمار؟ وكيف؟"[4]
وعليه، فـ"نظرية ما بعد الاستعمار" هي في الحقيقة قراءة للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر، تحلل هذه النظرية الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية تفكيكا وتركيبا وتقويضا، بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي.
2- مرتكزات نظرية ما بعد الاستعمار:
تنبني نظرية ما بعد الاستعمار في مجال الحقل الثقافي بصفة عامة وحقل النقد الأدبي بصفة خاصة على مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية، ويمكن حصرها في المكونات والعناصر التالية:
1- فهم ثنائية الشرق والغرب: تحاول نظرية ما بعد الاستعمار فهم الشرق والغرب فهما حقيقيا، وذلك برصد العلاقات التفاعلية التي توجد بينهما سواء أكانت تلك العلاقات إيجابية مبنية على التسامح والتفاهم والتعايش أم مبنية على العدوان والصراع الجدلي والصدام الحضاري، كما يذهب إلى ذلك صموئيل هنتنغتون في كتابه:"صراع الحضارات". ويتمظهر الشرق بشكل جلي في نصوص وخطابات الاستشراق . ومن ثم، تحول هذا الاستشراق من خطاب معرفي موضوعي إلى خطاب سياسي كولونيالي ذاتي ومصلحي .لذا، تسلح مثقفو نظرية ما بعد الاستعمار بآليات التفكيك والتقويض لتشتيت المقولات المركزية التي انبنت عليها حضارة الغرب.
2- مواجهة التغريب: استهدفت نظرية ما بعد الاستعمار محاربة سياسة التغريب والتدجين والاستعلاء التي كان ينهجها الغرب في التعامل مع الشرق . ومن ثم، شمر مثقفو نظرية ما بعد الاستعمار عن سواعدهم لفضح الهيمنة الغربية، وتعرية مرتكزاتها السياسية والإيديولوجية، مع تبيان نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، والتشديد على جشعها المادي لاستنزاف خيرات الشعوب المقابلة الأخرى. لذا، يتسم الخطاب الثقافي الغربي بنزعة التمركز، وتأكيد خاصيات: التفوق والتمدن والتحضر، وذلك في مقابل خطاب دوني يتصف بالبدائية، والشعوذة، والشهوانية، والسحر الطقوسي الخرافي.
3- تفكيك الخطاب الاستعماري: تهدف نظرية ما بعد الاستعمار إلى فضح الخطاب الاستعماري الغربي، وتفكيك مقولاته المركزية التي تعبر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي، وذلك باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية. لذا، فقد وجد كتاب نظرية ما بعد الاستعمار في تفكيكية جاك ديريدا آلية منهجية لإعلان لغة الاختلاف، وتقويض المسلمات الغربية، والطعن في مقولاتهم البيضاء ذات الطابع الحلمي الأسطوري. كما تأثروا في ذلك بميشيل فوكو، وكارل ماركس، وأنطونيو غرامشي، وكان إدوارد سعيد رائدهم في ذلك.
4- الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية: رفض كتاب ومثقفو النظرية الاستعمارية الاندماج في الحضارة الغربية، وانتقدوا سياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة المركزية، ورفضوا كذلك الاستلاب والتدجين، فدعوا في المقابل إلى ثقافة وطنية أصيلة، ونادوا بالهوية القومية الجامعة. ومن هؤلاء – مثلا- كتاب ومبدعو الحركة الزنجية الأفريقية الذين سخروا كل ما لديهم من آليات ثقافية وعلمية لمواجهة التغريب، فتشبثوا بهويتهم السوداء، ودافعوا عن كينونتهم الزنجية الأفريقية. وقد رأينا كذلك كتاب الفرانكفونية بالمغرب العربي يحاربون المستعمر بلغته، ويقوضون حضارته بالنقد والفضح والتعرية، مستخدمين في ذلك لغة فرنسية مختلطة باللغات الوطنية تهجينا وأسلبة وسخرية.
5- علاقة الأنا بالآخر: ترتكز نظرية ما بعد الاستعمار على مناقشة علاقة الأنا والغير في ضوء مقاربات ما بعد الحداثة كالمقاربة الثقافية، والمقاربة الماركسية، والمقاربة التاريخية الجديدة، والمقاربة السياسية، وكل ذلك من أجل فهم العلاقة التفاعلية بين الأنا والغير، هل هي علاقة جدلية سلبية قائمة على العدوان والصراع أم هي علاقة إيجابية قائمة على الأخوة والصداقة والتعايش والتسامح؟ وبتعبير آخر، هل هي علاقة قائمة على العدوان والكراهية والإقصاء والصراع الحضاري أم هي علاقة تفاهم وتعاون وتكامل؟
6- الدعوة إلى علم الاستغراب: إذا كان المفكرون الغربيون يتعاملون مع الشرق في ضوء علم الاستشراق باعتباره خطابا استعماريا وكولونياليا، وذلك من أجل إخضاعه حضاريا، والهيمنة عليه سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، فإن المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية ما بعد الاستعمار كحسن حنفي – مثلا- يدعون إلى استشراق مضاد، أو ما يسمى أيضا بعلم الاستغراب، بغية تفكيك الثقافة الغربية تشريحا وتركيبا، وتقويض خطاب التمركز تشتيتا وتأجيلا، وفضح مقصدية الهيمنة على أسس علمية موضوعية .
7- المقاومة المادية والثقافية: لم يكتف مثقفو نظرية الاستعمار بقراءة الخطاب الاستشراقي الغربي، بل حاولوا مقاومة المستعمر بكل الوسائل المتاحة إما عن طريق المقاومة السلمية أو المسلحة، وإما عن طريق الاستشراق المضاد، أو نشر الكتابات التقويضيةلتفكيك الفكرين المتمركزين: الأوروبي والأمريكي، وفضحهما بشتى السبل والطرائق، ما دام هذان التمركزان مبنيين على اللون، والعرق، والجنوسة، والطبقة، والدين.
8- النقد الذاتي: لم يكتف مثقفو نظرية ما بعد الاستعمار أيضا بتوجيه النقد إلى الغرب، بل سعوا إلى نقد ذواتهم ضمن ما يسمى بالنقد الذاتي كما عند المفكر المغربي علال الفاسي، وما قام به الناقد الكيني الأصل عبد الرحمن جان محمد خير دليل على ذلك، حينما صرح قائلا: " أعتقد أننا نحتاج إلى الإفصاح بشكل أكثر انتظامًا، عن الواجبات التي تفرضها علينا هذه الوضعية البينية، وهي واجبات أشعر أنه يمكن استشعارها من وضعية مثقف "العالم الثالث" في الأكاديميات الغربية. إننا لا نزال نكافح ضد الهيمنة المعرفية للغرب، لا نزال نحارب "الاستعمار" و" الاستعمار الجديد". ولكن بالمقارنة مع التابع في "العالم الثالث"، نحن نعيش في ظروف بالغة الرفعة. بعض النقاد يؤكدون أن نوعًا معينًا من نظرية ما بعد الاستعمار يمثل هو نفسه جزءًا من البنية القائمة على الهيمنة، أي أنه نوع مستمر ومكرر من الاستعمار. ولهذا أعتقد أنه لا بد لنا أن نستمر على خطى جاياتري سبيفاك وآخرين، فنتفحص وضعية ذواتنا في كل هذه النواحي وبشكل أكثر انتظامًا"[5]
ويعني هذا أن ثمة مفارقة بين القول والفعل، وأن هناك انفصاما وجوديا وحضاريا وطبقيا بين مفكري نظرية ما بعد الاستعمار وواقعهم المتخلف المزري.
9- غربة المنفى: يعيش أغلب المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية ما بعد الاستعمار في الغرب منفيين أو لاجئين أو محميين أو معارضين. ومن ثم، ينتقدون مرة بلدانهم الأصلية وواقعها المتخلف. ومرة أخرى، يرفضون سياسة التغريب والتهميش والتمركز الغربي. ويعني هذا أنهم يعيشون تمزقا ذاتيا وموضوعيا، وهم دائما في غربة ذاتية داخل المنفى المكاني والذاتي والعقلي والنفسي كما هو حال جوليا كريستيفا وإدوارد سعيد مثلا. وهكذا، يتحدث إدوارد سعيد مثلاً في "صور المثقف"، عن حالة المنفى اللاذعة، وهي تعبر عن فضاء العتبة، فضاء الأزمة والصراع الداخلي. ومن هنا، "فالمنفى بالنسبة للمثقف – بهذا المعنى الميتافيزيقي – هو حالة من عدم الراحة، حالة حركة، ألا يستقر أبدًا، وألا يدع الآخرين يستقرون؛ إذ ليس بإمكانك أن ترجع إلى حالة من حالات وجودك الأولى في وطنك، ربما تكون الحالة الأكثر استقرارًا، كما أنه ليس بإمكانك أبدًا – ويا للأسف – أن تصل إلى وطنك الجديد أو حالتك الجديدة". ثم يستطرد سعيد في فصول كتابه الصغير، إلى توصيف وضعية ذلك المثقف المأمول الذي يمكنه أن يقول الحقيقة للسلطة في وجهها"[6]
10- التعددية الثقافية: دافع كثير من مثقفي نظرية ما بعد الاستعمار عن التعددية الثقافية، ورفضوا التمركز الثقافي الغربي والثقافة الواحدة المهيمنة، كما رفضوا سياسية التدجين والتغريب والإقصاء، ونادوا بالتنوع الثقافي والانفتاح الثقافي، وذلك عبرآليات المثاقفة والترجمة والنقد والتفاعل الثقافي. بمعنى أن أن ثمة ثقافات جديدة إلى جانب الثقافة الغربية المركزية، كالثقافة العربية، والثقافة الآسيوية، والثقافة الأفريقية، والثقافة الأمازيغية ... بمعنى أن ليس هناك ثقافة مهيمنة وحيدة، بل هناك ثقافات هجينة متعددة ومتداخلة ومتلاقحة .
3- رواد نظرية ما بعد الاستعمار:
ثمة مجموعة من الكتاب والنقاد والمثقفين الذي يمثلون نظرية ما بعد الاستعمار، سواء أكانوا باحثين ينتمون إلى الغرب أم ينتمون إلى العالم الثالث، و نذكر من الدارسين الشرقيين : الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد الذي ألف كتابا قيما بعنوان:" الاستشراق" سنة 1978م[7]، حيث يستعرض فيه تاريخ الاستشراق الغربي ومراحله التطورية، وكتب مقالة قيمة تحت عنوان:" العالم والنص والنقاد" سنة 1983م، يدعو فيها إلى دراسة النص في علاقة بعالمه الخارجي. بمعنى أن إدوارد سعيد ينتقد :" جميع أنماط التحليل النصي التي عدت النصوص على أنها منفصلة عن العالم الموجود فيه. وفكرة أن التحليل النصي قد يكون ممكنا من أجل أن يكون هناك قراءات لانهائية وممكنة لأي نص يمكن أن تتحقق من خلال فصل النص عن العالم الحقيقي."[8]
هذا، ويعد إدوارد سعيد من محللي الخطاب الاستعماري، ومن أهم منظري نظرية ما بعد الاستعمار. لذلك، توج بكونه مؤسسا لهذا الحقل المعرفي الذي يعنى بتفكيك الخطاب الاستعماري أو الكولونيالي الجديد. كما يعد أيضا من رواد النقد الثقافي ؛ لأنه اهتم كثيرا باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة في المؤسسات المركزية الغربية، وذلك عبر تحليل الخطاب الاستشراقي تفكيكا وتشريحا وتقويضا، متأثرا في ذلك بمنهجية ديريدا، وميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي.
هذا، وينطلق إدوارد سعيد في كتابه:" الاستشراق" من تعريف الشرق بتحديد مدلولاته الجغرافية والحضارية، مع تعريف مصطلح الاستشراق في ضوء المفاهيم اللغوية والعلمية والأكاديمية والتاريخية والمادية. وبعد ذلك، ينتقل الباحث إلى استعراض تاريخ الاستشراق الغربي في مساراته العلمية والاستعمارية، مركزا بالخصوص على الاستشراق الفرنسي، والاستشراق الإنجليزي، والاستشراق الأمريكي الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم، يتعامل الباحث مع الاستشراق كخطاب للتحليل، معتمدا في ذلك على نظريات ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي. وفي هذا الصدد، يقول إدوارد سعيد:" إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق محددة تحديدا تقريبيا، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق- التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجاز، الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه. ولقد وجدت استخدام مفهوم ميشيل فوكو للخطاب، كما يصفه في كتابيه: " حفريات المعرفة" و" المراقبة والعقاب" ذا فائدة هنا لتحديد هوية الاستشراق. وما أطرحه هنا هو أننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه خطابا، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نفهم الفرع المنظم تنظيما عاليا الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق- بل حتى أن تنتجه- سياسيا، واجتماعيا، وعسكريا، وعقائديا، وتخييليا، في مرحلة ما بعد عصر التنوير. وعلاوة على ذلك، فقد احتل الاستشراق مركزا هو من السيادة بحيث أنني أومن بأنه ليس في وسع إنسان يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلا متعلقا به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب الشرق موضعا للنقاش.أما كيف يحدث ذلك، فإنه ما يحاول هذا الكتاب أن يكشفه. كذلك يحاول هذا الكتاب أن يظهر أن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتا بديلة ."[9]
ومن الناحية المنهجية، فقد اعتمد إدوارد سعيد على دراسة الخطاب الاستشراقي بمنهجية فيلولوجية تفكيكية قائمة على دراسة الأفكار، والثقافات، والتواريخ، ليبرهن على أن العلاقة بين الشرق والغرب مبنية على القوة والسيطرة والهيمنة المعقدة المتشابكة. ومن ثم، يرى إدوارد سعيد :" ينبغي على المرء ألا يفترض أبدا بأن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا كان للحقيقة المتعلقة بها أن تجلى. وأنا نفسي أؤمن بأن الاستشراق أكثر قيمة بشكل خاص كعلامة على القوة الأوروبية- الأطلسية- بإزاء الشرق منه كخطاب حقيقي عن الشرق(وهو ما يدعي الاستشراق، في شكله الجامعي أو البحثي، كونه). على أي حال، إن ماعلينا أن نحترمه ونحاول أن ندركه هو القوة المتلاحمة للخطاب الاستشراقي، وعلاقاته الوثيقة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية المعززة، وقدرته المهيبة على البقاء."[10]
وعليه، فقد تمثل إدوارد سعيد منهجية ميشيل فوكو في دراسة الخطاب، ثم استحضر أفكار أنطونيو غرامشي في التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، والحديث عن التسلط الثقافي. ومن ثم، فالاستشراق الغربي يمثل نوعا من التسلط الثقافي؛ لأنه يؤكد التفوق الأوروبي على التخلف الشرقي، ويبين أيضا أن للغرب اليد العليا على الشرق تنويرا وتعليما وتثقيفا وتمدينا.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|