|
ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التلقين في التعليم المدرسي بين دعوات الرفض وحقيقة الأمر أ. حنافي جواد "خبرت أنا العبد الفقير إلى رحمة الله مجال التربية والتعليم نظريًّا وعمليًّا، ولا زلت أتعلَّم وأُمارس التربية والتعليم في الفصل الدراسي، وأنا في تواصل دائم مع فريق تربوي متكامل من خيرة الأساتذة والمربين. ولقد كنت عند بداية مسيرتي العملية والعلمية معجبًا أو قل منخدعًا، ببريق ما يسمى بالبيداغوجيات الحديثة - الفعالة والعصرية - البنائية والبنَّاءة، فخضت في دراستها طولاً وعرضًا، لأبدل أخيرًا نظرتي وتصوري، بعد أن زالت الغشاوة عن عيني، فأود مشاركة إخواني بهذه التجربة المتواضعة، عسى أن تناقش؛ حتى تعم فائدتها الوطن العربي المسلم، ولِمَ لا تعم كل العالم؛ ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]. مدخل المناقشة: النظام التعليمي المناسب والناجح: هو النظام الناشئ في رحم البيئة المحلية - الصنع المحلي - ويترعرع في أحضانها، فينمو ويتقوَّى، ويتلهف نحو البحث عن مشاكلها وحاجاتها؛ رغبةً في تقديم بلسم شاف، وعلاج مناسب، آخذًا في الاعتبار الهوية العربية المسلمة والخصائص البيئية المختلفة، التي ينشأ فيها الفرد والمجتمع المسلم. وبناءً على ذلك، فإن النظام التعليمي الصحيح مرهون بدرجة خدمته للبيئة والمجتمع الذي ترعرع فيه، وقُدرته على فض المشاكل وتحدي الصعاب. التلقين في لسان العرب: لقن: اللقن: مصدر لقن الشيء يلقنه لقنًا، وكذلك الكلام، وتلقنه: فَهِمه، ولقنه إياه: فهَّمه، وتلقَّنته: أخذته لقانية. وقد لقنني فلان كلامًا تلقينًا؛ أي: فهَّمني منه ما لم أفهم، والتلقين: كالتفهيم. وغلام لقن: سريع الفهم. وفي حديث الهجرة: "ويبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو شاب ثقِف لقِنٌ؛ أي: فَهِم، حسَنُ التلقين لما يسمعه. وفي حديث الأخدود: "انظروا لي غلامًا فطنًا لقِنًا"، وفي حديث علي - رضوان الله عليه -: "إن ها هنا علمًا، وأشار إلى صدره، لو أصبت له حملة، بلى أصيب لقنًا غير مأمون؛ أي: فهمًا غير ثقة، وفي المحكم: بلى أجد لقنًا غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلبه الدنيا، والاسم اللقانة واللقانية. اللحياني: اللقانة واللقانية، واللحانة واللحانية، والتبانة والتبانية، والطبانة والطبانية - معنى هذه الحروف واحد، واللقن: إعراب لكن، شبه طست من صقر، وملقن: موضع. الإشكالية الكبرى: هنالك كتابات تربوية معاصرة، مستوردة أصلاً وفصلاً، تعتبر التلقين عملية غير تربوية، ولا تنتج إلا الخضوع والتخلُّف بجميع أشكاله، وتدعو هذه الكتابات إلى ضرورة تبني التدريس المعاصر الفعَّال[1]! ولقد اتجهت المناهج المدرسية[2] في الوطن العربي نحو تنزيل هذه الفلسفات المعاصرة على المدارس والمقررات والطرائق التعليمية. ونحن نسجل خلاف ما توصلت إليه تلك الدراسات من فعالية وجودة، بحيث إن الجيل الذي نشأ في ظل ما يسمى بالبيداغوجيات القديمة الكلاسيكية، أكثر تحصيلاً وعلمًا وفهمًا وحرصًا على التعلم، فقد أنتج عباقرة لا زالت لأسمائهم أصداء كبيرة إلى يومنا هذا. ثم نسجل كذلك أن البيداغوجيات المسماة بالفعالة، لم تنتج إلا الكسل والتهاون والعلامات المرتفعة، التي لا تتناسب والمستوى الحقيقي للمتعلمين؛ (مدرسة النجاح!). التدريس التقليدي الكلاسيكي: قال مسعد محمد زياد في تعريف التدريس في إطاره التقليدي: (ما يقوم به المعلم من نشاط، لأجل نقْل المعارف إلى عقول التلاميذ، ويتميز دور المعلم هنا بالإيجابية، ودور التلميذ بالسلبية في معظم الأحيان، بمعنى أن التلميذ غير مطالب بتوجيه الأسئلة أو إبداء الرأي؛ لأن المعلم هو المصدر الوحيد للمعرفة بالنسبة للتلميذ. إلا أن هذا المفهوم التقليدي لعملية التدريس كان سائدًا قديمًا، أما اليوم فتغيَّرت المفاهيم وتبدلت الظروف، وغزا التطور العلمي كل مجالات الحياة؛ مما أوجد مفهومًا جديدًا للتدريس)[3]. فكلام صاحب النص لا يستقيم عمليًّا. فما السلبية التي يتحدث عنها صاحبنا؟! فقد درسنا في ظل ما يسمى الآن بالبيداغوجيا القديمة التقليدية، ولم نكن نقمع، ولم يكن أساتذتنا يحجرون علينا، بل كنا نشارك بفعالية وننتج ونُتقن، وكانت نتائجنا ما شاء الله جميلة، وعلاماتنا حقيقية تتناسب ومستوانا، من كان منا يستحق النجاح ينجح، ومن لا يستحقه لا ينجح، أما اليوم فالنجاح يطول الأغلبية من غير استحقاق. وهل كان المعلم هو المصدر الوحيد للمعرفة؟! لا وألف لا، بل كان جيلنا يعود إلى المراجع والكتب والمصادر، يلتهمها التهامًا، أما هذا الجيل جيل البيداغوجيات الفعالة والجديدة، وجيل مدرسة النجاح - فحاله لا يخفى عليكم؛ من قلة الاهتمام، والتهاون، وضَعف لغوي ومنهجي وأخلاقي، والله المستعان. وقال إبراهيم بن عنبر العلي: (دور المعلم كبير وحيوي في العملية التربوية والتعليمية، ويجب أن يبتعد عن الدور التقليدي الإلقائي، وألا يكون وعاءً للمعلومات، بل إن دوره هو توجيه الطلاب عند الحاجة دون التدخل الكبير، وعليه فإن دوره الأساسي يكمُن في التخطيط لتوجيه الطلاب ومساعدتهم على إعادة اكتشاف حقائق العلم)[4]، وهذا الكلام يشبه سابقه، ولا يختلف عنه. فينبغي على المدرس حسب السيد إبراهيم بن عنبر العلي، ألا يلقِّن متعلميه المعلومات، بل يوجههم ويرشدهم، ويشاركهم في عملية البناء المعرفية. فهذا الكلام خداع في الظاهر، غير قابل للتطبيق في بيئات تعاني من التصحر المعرفي والأُمية، وكيف نعلم أطفالنا الإسلام ومبادئه؟ وكيف نُلقنهم ونُفهمهم أخلاق الإسلام؟ فالمفترض في كلام صاحبنا أن المتعلم قد تعلَّم وتمرَّس بما فيه الكفاية، من خلال بيئته الأسرية والاجتماعية، عبر مسارات التنشئة الاجتماعية، تعلَّم فيها الأسس والمبادئ والتوجهات الكبرى، وهذا غير حاصل في البيئات العربية. صدقونا إن قلنا لكم - نحن معاشر المدرسين والمدرسات -: إننا نواجه في الصفوف الدراسية تلامذة صفحات بيضاءَ، بكل ما تحمل الكلمة من معان، لا يعرفون الكتابة ولا القراءة ولا الحساب، ولا رغبة لهم في الدراسة، ولا يعرفون أدبيات التواصل، بل لا أتجاوز إن قلت: إن مصطلح تلميذ لا ينطبق عليهم، فربما لهم قدرات غير مدرسية (لا ذكاءات)، أما أنهم أذكياء حقيقة، فلا أظن ذلك"[5]. وكان من المطلوب أن يُتقنوا كل ذلك في المستويات السابقة، فالواجب أن يلقنوا الأولويات والأساسيات في العملية التعليمية التعلمية. ويجب أن يفهموا ما يجب فهْمه، ويحفظوا ما يجب حفظه، فلكل مقام مقال، فطبيعة درس مادة التربية الإسلامية يختلف عن درس الرياضيات، وهكذا دواليك. ويتأسس هذا الكلام المسمى بالتدريس الفعَّال، على مقاربات نظرية عقلانية وتجريبية، (تتبنَّى الطرح العلماني)، بعيدة عن الثقافة الإسلامية المبنية على النصوص الشرعية الموجهة والمؤطرة، وتعتبر هذه النظريات العقل قادرًا للوصول إلى الحقيقة بفرده، وعليه فلا مكان للشرع والنصوص الشرعية؛ (فصل التعليم عن المناهج الشرعية والتعاليم الربانية) [6]. كما يتأسس على نظرية الذكاءات المتعددة، وما توصل إليه الباحثون من كون الطفل لا يولد كصفحة بيضاء. أوهام الفعالية في البيداغوجيا المعاصرة: فإذا كانت الطرائق الفعالة قد أعطت الصدارة للمتعلم كما تدعي، باعتباره المحور الذي تدور عليه العملية التعليمية التعلمية، فإن هناك مجموعة من المفكرين والباحثين يعتبرون أن ما قامت به هذه الطرائق المسماة الفعالة، هو مجرَّد وهم بيداغوجي حسب تعبير بورديو: أي مجرد طلاء نوهم به أنفسنا وتلامذتنا على أنهم يحتلون مكانة أساسية في العملية التربوية والتعليمية، في حين أن الواقع لا يختلف عما عليه الأمر في السابق. ولتوضيح ذلك قام جيلبير لورو بدراسة تحليلية لـ79 درسًا من الدروس التي اعتبرت بمثابة دروس فعالة، فيتبيَّن أن المدرس ينسج بلباقة خيوطًا يتبعها التلميذ؛ حتى يتحقق الهدف الذي يسطره الأستاذ، ويكرس الاتكالية عليه بشكل مقنع، انطلاقًا من أسئلة إيحائية؛ مما يجعل التلميذ يجيب بالشكل الذي يريده الأستاذ، طبقًا لأهدافه المسطرة سلفًا. إنها لعبة محبوكة توهم التلميذ بالمشاركة والأستاذ بالفعالية[7]. ما يقال في التلقين (أو التعلم بالملعقة): التلقين: هو تلقي المعلومات الخارجية والاحتفاظ بها في داخل الدماغ، بدون العمل على غربلتها؛ سواء بالتحقق من مدى صحتها أو تطويرها، حسب الظروف المختلفة، وإنما تبقى مخزونًا خامًا، لا مجال أبدًا لتكريره بغية الاستفادة المتنوعة منه؛ مما يعني أنها إعاقة تامة للعقل البشري، ومنْعه من أن يقوم بواجبه الطبيعي المراد له في خدمة الإنسان، وفْق مختلف الأزمنة والأمكنة! التلقين: يربي على الخضوع، ويضعف الإدراك، بل يُعطل ملكات الفَهم، وهو منهج لا يتناسب مع ما جدت به التكنولوجيات من وسائل للتخزين والاستيعاب الضخمة، التي تتطور يومًا بعد يوم. • يصنع التلقين إنسانًا مسلوب الإرادة، وذلك بحسب قوة التلقين ذاتها، وفي الحقيقة إن عملية التلقين بالرغم من انتشارها، فإنها عملية غير طبيعية، بل هي ضد التطور البشري. • ضَعف الإبداع في المجتمع العربي بصورة خاصة، وقوته في حالة المجتمع الغربي، يعود إلى اختلاف في عملية البناء المعرفي. إن عملية الخلاص من تلك الطرق الفاشلة عملية صعبة جدًّا، خاصةً إذا كانت الدعاوى راسخة في تمثُّلات القواعد الشعبية. • الحفظ: وهذا الأسلوب في التعليم والتثقيف، والذي لا يُعنى إلا بحشو الذهن بالمعلومات، ومخرجاته في أحسن الأحوال متعلمون ذوو اتجاهات تهتم بتكديس النصوص في الذاكرة، دون النظر في محتويات النصوص، وفائدتها في تحسين ظروف المتعلم وزيادة قدراته على التعلم الذاتي[8]. وهذا كله غير صحيح كما ستعرف من خلال عناصر الموالية، فالتلقين عند هؤلاء الباحثين من رواسب البيداغوجيات القديمة غير الفعالة، والتي لا تصلح للعصر الحديث. أهمية التلقين في العملية التعليمية التعلمية: لقِّنوا تلامذتكم المعلومات، علِّموهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، واعتمدوا مختلف الطرائق والأساليب لتلقين الجيل المسلم ما ينفعه في دينه ودنياه، كما نلتمس من الجهات المسؤولة عن الجوانب البيداغوجية في المؤسسات الرسمية، أن تعي خطورة هذه المناهج الدخيلة المسماة بالفعالة، وألا تغرس في تربة بيئة مسلمة مناهجَ ترعرعت في بيئات علمانية. ولا تستمعوا إلى دعوات هؤلاء الذين يدعون أن التلقين منهج غير مفيد للعملية التربوية والتعليمية التعلمية. فإما أنهم: 1- يقولون ما لا يفهمون، وهذا هو الراجح عندي. 2- أو أنهم يشتركون في مؤامرة لإفراغ التعليم من محتواه. فدعوة هؤلاء باطلة دون شك: إن تعليم الأطفال والنشء سبيل لإنقاذهم من براثن الجهل والأمية، وتعليمهم لن يتحقق من غير تلقينهم؛ لأن حصول الملكات وتشكُّلها يتوقف على تلقين مبادئ العلوم والفنون؛ قال ابن خلدون في مقدمته: "إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين، أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا". إن تعليم الأطفال وتلقينهم تحرير لهم من سلطة الآخر المستبد، الذي لا يطمئن إلا إذا كانوا جهالاً، لا يفهمون كالأنعام يقتادون ولا يحتجون. تعليم الأطفال وتلقينهم المعارف والمعلومات حاجة مُلحة، تقتضيها ظروف دينية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية، أما التكنولوجيات التي يتبجَّح بها، فلا يعوَّل عليها لتقوم مقام الذاكرة البشرية المبدعة. نظرية تلقين العلوم عند ابن خلدون: قال ابن خلدون - رحمه الله: "اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج، شيئًا فشيئًا، وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائلَ من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب، و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقَبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيَّأته لفهْم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانيةً، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود مَلكته، ثم يرجع به وقد شدا، فلا يترك عويصًا ولا مبهمًا ولا منغلقًا إلا وضَّحه، وفتح له مغلقه، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته". هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تَكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له، ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيرًا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المغلقة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم، وصوابًا فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفَهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفَهمه تنشأ تدريجيًّا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن، وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه؛ حتى تتم الملكة في الاستعداد، ثم في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن، وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له - انصرف كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه، وانحرف عن قبوله، وتمادى في هِجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم"[9]؛ ا.هـ. تلقين المفاهيم الإسلامية: ولا يعني هذا أن التلقين للمفاهيم الإسلامية لا يصلح إلا في الطفولة المتأخرة، بل إن التلقين في الطفولة المبكرة له أهميته أيضًا، فإن التعليم الديني الذي يتلقاه الطفل في السنوات المبكرة يترك بصماته على عقليته في الطفولة المتأخرة؛ حيث تتكون عنده مفاهيم تصبح أكثر وضوحًا مع تقدمه في السن، وبهذا يستطيع أن يفهم النظريات المجردة على نحو أفضل؛ لهذا كان السلف - رضوان الله عليهم - يبدؤون في تلقين أولادهم أساسيات الدين منذ الطفولة المبكرة عند ابتداء نُطقهم، فكانوا يعلمون الأولاد قول: "لا إله إلا الله" سبع مرات؛ لتكون أول شيء يقولونه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلم الغلام من بني عبدالمطلب إذا أفصح قول الله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ ﴾ [الإسراء: 111] سبع مرات. وكان علي بن الحسين - رحمه الله - يعلمهم: "قل آمنت بالله، وكفرت بالطاغوت". وهذا العمل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن السلف الصالح، فيه دليل على أن الطفل يختزن هذه المعلومات في حافظته، وتتشرب بها نفسه بالتكرار؛ لهذا أجمع أئمة السلف على أن نُطق الصبي بالشهادة قبل البلوغ كاف، فلا يحتاج إلى تجديد ذلك بعد البلوغ، ولو لم يكن هناك فائدة من وراء تلقين الصغير هذه القضايا، لكان من العبث قيام السلف الصالح بها، وإضاعة الوقت والجهد[10]. وقد حث الإمام الغزالي - رحمه الله - على الاهتمام بعقيدة الطفل، وتلقينه مبادئها منذ صغره، فيقول: "اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوئه؛ ليحفظه حفظًا، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا، فمن فضْل الله على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوئه للإيمان، من غير حاجة إلى حجة أو برهان، وليس الطريق أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره، وقراءة الحديث ومعانيه، ويشتغل بوظائف العبادات، فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخًا بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه، وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها"[11]. لقد أكَّد الكثير من العلماء قديمًا وحديثًا على أهمية سنوات الطفولة المبكرة، وأشار العديد منهم إلى أن أكثر خصائص الإنسان وملامحه الشخصية تتشكل خلال سنوات عمره الست الأولى، ولا سيما الخصائص النفسية واللغوية والخلقية، وتكتمل شخصية الإنسان فيما بعد هذه السنوات من خلال برامج التربية والتعليم، وعوامل التأثر والتأثير الأخرى، التي تتوفر للطفل في سنوات حياته اللاحقة، وخاصةً بقية سنوات الطفولة، حتى يتجاوز مرحلة المراهقة ما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة من عمر الإنسان[12]. ويلعب التلقين دورًا مهمًّا في تكوين أفكار الطفل الدينية، والتلقين مرحلة سابقة على الفهم، ويتشرب هذه الأفكار ويتمثلها، فتحدد سلوكه، والوالدان والمربون مسؤولون مسؤولية كاملة عن النمو الديني للأطفال[13]. أهمية الحفظ في طلب العلم: فإن حفظ العلم من أجلِّ القربات، ومن أنفع وسائل الثبات، وقد جعل الله من خصائص هذه الأمة أن علمها محفوظ، فضمن الله - تعالى لكتابه بالحفظ دون سائر الكتب؛ حيث قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. بخلاف غيره من الكتب، فقد وكل حفظها إلى الأحبار؛ قال تعالى: {﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 44][14]. فينبغي لطالب العلم أن يكون جلُّ همته مصروفًا إلى الحفظ والإعادة، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك، كان الأولى، وأهم شيء لطالب العلم أن يحفظ، غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع، وكان الخليل بن أحمد - رحمه الله - يقول مبينًا أهمية الحفظ لطالب العلم: (الاحتفاظ بما في صدرك أولى من حفظ ما في كتابك، واجعل كتابك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة). يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |