|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() العلوم بين النظريات الافتراضية والتجارب المعملية مركز جنات للدراسات هناك علاقة غريبة مُحَيِّرة حقًّا بين الرياضيات والعلوم؛ فالعلومُ التجريبية كلها لها تدرُّج في النشأة من تجميع لحقائق، ثم فرض نظريات، ثم تنقيحها، ثم التحقُّق منها عمليًّا، ثم التحوُّل للدراسة النظرية، وهذا من الغرابة بمكان؛ إذ كيف يُعقل في عقل عاقل أن تتمَّ دراسة المريخ ونحن جالسون في حجرة منكبين على أوراقنا نتعامَل مع معادلات؟ أو أن تتم دراسة سلوك الجسيمات الدقيقة بمجادلات فلسفية ورياضية ومعادلات معقدة؛ مثل: معادلات أينشتين، التي جلها تفكير ورياضة بحتة؟ وهذا اتجاه عام في كل العلوم؛ وهو أنها تتَّجه للدراسة النظرية والإثبات الرياضي مع التأييد العملي لذلك دون العكس، وكثيرًا ما تكتفي بالإثبات الرياضي فقط. فمعادلات نيوتن للحركة مثلاً نستطيع منها معرفة سرعة أو موقع أو عجلة جسيم في لحظة معينة، دون أن يشك أحدٌ في صحة النتائج، حتى وإن لَم تختبر عمليًّا، وكأن الطبيعة خاضعة لنظام رياضي حازم، وكثيرًا ما كان يردِّد أحد أساتذة الرياضيات قوله: إن التقدم في أي علم يُقاس بمدى تغلغل علم الرياضيات فيه. وهناك حرب شعواء بين أصحاب الرياضة البحتة وأصحاب الرياضة التطبيقية، وكأنهما عدوَّان أو خصمان، والواقع أنه لا حقيقة لهذه القسمة إلا عمليًّا، فالرياضيات هي الرياضيات، فإذا أخذت منها قسمًا سميته: بحتًا، وأخذ غيرُك قسمًا سماه: تطبيقيًّا، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولكن من مَعينٍ واحد أخذتما، ومن منهل واحد شربتما، ولا معنى إطلاقًا للفصل بين النظرية والتطبيق، فهما وجهان لشيء واحد، والنظرية التي لا نعرف اليومَ لها تطبيقًا لا ينبغي أن يحملنا جهلُنا بذلك على أن نهملها؛ فكم من نظريات بان لها تطبيقاتٌ بعد اكتشافها بسنين طويلة! وعندما ألف الإيطالي فيبوناتشي كتابه عن معضلة الأرانب الشهيرة سنة 1202م، وعرفنا منها سلسلة أعداد فيبوناتشي، لَم يكن في حسبان أحد على الإطلاق أن يكتشفَ علماءُ الحياة في العصر الحديث بعد فيبوناتشي بقرون أن كثيرًا من الظواهر الحيوية تخضع لمتسلسلة فيبوناتشي. وهذا يدلُّ على أن النتائج العمليَّة من المحتمل كثيرًا جدًّا أن يكون لها نظريةٌ تفسِّرها وقوانينُ تضبطها، ولكنها أكبر من استيعابنا الآن، وتنتظر قدرها الذي يحين وقته عندما يبعث الله من يكشف اللثام عنها. ولا إخال أحدًا يجهل ما أحدثتْه الدالة الطبيعية الأسية (exponential) من قفزات هائلة في العلوم النظرية والعملية، يوازي ما أحدثه كشفُ التفاضل والتكامل من فتح، وهذا لا يعني أن الناس قبل كشف هذه الدالة كانوا حمقى أو مجانين أو محدودي العقول، ولكن لكل أجل كتاب، يدل على ذلك أن كثيرًا من الكشوف حصل بمحض الاتفاق من غير قصد من صاحبها، ولكن قدَّر الله له أن يتعثر في هذا الشيء أو ذاك، أو يشدَّ انتباهَه هذا الأثرُ أو ذاك، فيكون ذلك سببًا لكشف هائلٍ يدفع عجلة المدنيَّة بسيور الكُشُوف العلمية. إننا نريد هنا أن نفكر في غرابة الاتِّفاق بين الرياضيات - التي هي تفكير نظري من غير إجراء تجارِب - وبين العلوم الحيوية التي هي تجارب أو جُلها. ماذا يعني هذا؟ هل يعني أن الباحث في معْمله عليه أن يتركَ المعمل ويذهب لحلِّ المُعادلات، فيكشف ما عساه يظل في معمله سنين دون كشْفه؟ هل يعني أن إنفاق المليارات على التجارب العلميَّة عبثٌ، وأن الأجدى أن يفرغ العلماء عقولهم لبحوث الرياضيات، فيخرجوا بالنتائج المرْجُوة، أو بما هو أفضل؟ قد يظن ظانٌّ أنَّ إجراء التجارب وإنفاق المال، هو الصواب، والعكس بالعكس، والحقيقة أن الحقيقة عزيزة تحتاج لبذْل النفس والنفيس لكشف حجب الظلمات عنها، والإنسان - إلا من عمي قلبه - محبٌّ للمعرفة بطبعه، متعطِّش للمزيد من الفَهْم والإدراك، متطلب لإجابة تساؤُلاته التي تملؤها المتناقضات وما لا يقبل التفسير. فمِنْ ثَمَّ هو يفعل كل ما في وسعه لكشْف جديد؛ ولذلك فلا ينبغي أن نقللَ مِنْ شأن أي علم مهما كان؛ إذ رسخ في النفوس فائدته عاجلة أو آجلة، وقد ثبت أن الذين يُقَلِّلون من شأن العلوم النظرية ويفضلون العلوم العملية، لا يرون أبعد من أطراف أنوفهم، ولا يتَّسع إدراكهم وأفقهم فوق رؤوسهم إصبعًا. وكذلك الذين يفضلون العلوم النظرية، ويُقَلِّلون من شأن العلوم العملية، يعيشون في أبراج عاجية، وأرواحُهم في وحشة من جسومهم، وأفكارهم مريضة؛ إذ إنهم يعدُّون أنفسَهم الكمَلةَ والناس قرود، وأن اللذة العظمى عندهم هي لذة الفكر، ونرد عليهم بأن نقول لهم: لا تأكلوا، ولا تشربوا، ولا تناموا، ولا تركبوا، ولا تتزوجوا، ولا تبنوا، ولا تعملوا عملاً يجلب عليكم رزقًا، حينئذٍ نقتنع بأن ما تقولون صدق، وهيهات هيهات. يقول قدري حافظ طوقان في كتابه "العيون في العلم": "ونعود الآن إلى الرياضيات فنقول: إنها من عيون العلم الحادة، التي لا تخطئ ولا يتسرَّب إليها الغلط، وهي تتنبَّأ وتتبين الخصائص والصفات، تنفذ وتتغلغل إلى الأعماق، فتكشف الأسرار وتحل الرموز الغامضات، وهي من أهم عوامل تقدُّم العلوم الطبيعية والصناعية، ولولاها لما تقدم علمُ الفلك تقدُّمَه العجيب، ولما أمكن استغلال الطبيعة وقوانينها على النحو الواسع العريض، ولما كشف الإنسان حقائق كثيرة عن الكون وحركات أجرامه. لقد تنبَّأت المعادلات والأرقام عن بعض الكواكب - كما أسلفنا القول - وأثبت الرصد صحةَ ما ذهبتْ إليه الرياضيات، وكذلك الأمواج اللاسلكية. وجاء ماكسويل وأتى بالعجب العجاب؛ إذ لجأ إلى الرياضيات في حلِّ هذه المعضلة: هل هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسيَّة؟ وكانت محاولة، ولكنها موفَّقة، وانتصار عظيم للعلوم الطبيعية والرياضية، فلقد ابتدع معادلاتٍ أثبت بها أن في الضوء اضطراباتٍ كهربائيةً مغناطيسية تتَّصف بصفات الضوء؛ أي: إنَّ الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تحدث الضوء والحرارة وتسير جميعها بسرعة الضوء. ويرى بعضُ كبار الفلاسفة أنَّ الرياضيات ليستْ إلا مناظير لرُؤية العالم والاطِّلاع على خفاياه، وقد قال "كنت" في هذا الصدد: إن العقل يميل بصفة خاصة إلى أن ينظر إلى الطبيعة من خلال مناظير رياضية. ولن يستطيع العالم - مهما كان قوي العقل، خصيب الفكر - أن يقف على أسرار الطبيعة والكون، ولن يستطيع الغوص في بحارهما ليقف على كنوزهما وعجائبهما، إلا إذا ألمَّ بالرياضيات وكانتْ عنده خبرة بها. فالعلوم على اختلافها إذا اقتربتْ من الكمال، فإنها لا بد محلقة في سماء الرياضيات، وفي أجواء من الأرقام والمعادلات". وإلى اللقاء في جولةٍ قادمة.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |