|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() سياحة نازح (مقامة أدبية) صالح بن عبدالله صالح البيضاني حدَّثَني صاحِبي: أنَّ زمانًا عامرًا بالاستقرارِ والبقاء، مفعمًا باﻷمنِ واﻷمانِ والاسترخاء، تُغرِّد فيه بلابلُ أيامِه، ويتنفَّسُ فيها عبيرَ أحلامِه، يرتَعُ مرتعًا خصيبًا، لا عزيزًا ولا صَعيبًا، جعلَهُ في دعَةٍ مِن العَيش مغطاءةٍ، ونعْمة سابِغَةٍ مِعْطاءَة، ثم حَدا بِه حادي الزَّمَن، ومرارةُ الحربِ والفِتَن، إلى مُغادرةِ موطنِه العريق، وهجرانِ الحُلوِ والبَريق، لقَد هجَمَت عليه الحرْبُ بكرْبِها، فتَبًّا ﻷبي لَهبِها! وقصدَته تعَمُّدًا ووِصايَة، بدقَّةٍ وعِنايَة. قال صاحبي: ثمَّ لمَّا رأيتُ بارِقتَها تَلوح، وتَسرَحُ وتَروح، ونَهر البلاد نَضِب، ومَليحها ذَهَب وخَرِب، أيقنتُ أنَّ اﻷمرَ تغيَّر، والماءَ الزلال تكدَّر، فعلاً: لقَدْ جَثمَتِ الحرب، ومعَها الضِّيق والكَرْب، وأبدلتِ السَّهل إلى صعب، وها هي تَقضي على الجميل، وتَفْري فرْيَ التَّضليل، وتَسلُكُ الطَّريقَ الشَّاسِع، وتطْمِس الضوءَ اللامِع. فنظرت إليها بحرارة، والعَبرة لم تحتمل العبارة، والكلام بلا كلام، والفتوَّة بلا قوة، نظرت إلى الناس يخرجون، وآخَرين يدخلون، وفي الضفَّة اﻷخرى يَقتلون، ومقابلَها يُقتلون، يتَهالكون ولا يرِقُّون، ويدمِّرون ولا يشعرون. فَوا غَوثاهُ ما ذَنْبي ![]() وما أمري وما عَتْبي ![]() وما هذا الذي يجري ![]() ويا غَازٍ، فَما خَطْبي ![]() حتى أسفرَ الصُّبحُ بالانبِلاج، وخِلْتُها ساعَة الانفِراج، أصبَحَ للشَّمسِ ضَوؤُها، وللأرضِ فيؤُها، وفي الساعةِ المبكِّرة، ولمحةٍ في الرَّصيفِ ناظرة، هُنالِك أبصَرتُ جَمعًا غَفيرًا، وبشرًا كثيرًا، ما بينَ راكبٍ سيارَة، وآخرَ امتَطَى حِمارَه، وأكثرُ الأنام، يَمشونَ على الأقدام، رِجالاً ونِساءً، حيثُ لم يَعُدِ الأمرُ حَياءً. تزاحمَت الشوارع بهم، وأنا في حَيرة من أمري وأمرِهم، أتأمَّل في خَطبِهم، حتى رأيت مِن بين هؤلاء، واحدًا من النبلاء، واﻷخلاءِ اﻷوفياء، يقودُ سيَّارَةً محمَّلةً بالرَّاكِبين، مملوءةً في المكانَين، مكتظَّةَ الجانبَين، هابطةَ الموضعين، زحمة، تجلب لمن نظرَ إليها الرَّحمة، يَحمِل فيها الشبابَ والرجال، والنساءَ والأطفال. ثم لفَت انتباهي في خلفية السيارةِ المكشوفةِ نساءٌ متحجبات، ومَدامعُ باكيات، ممزوجاتٌ بأطفالٍ يبكونَ ويَندِبون، وما أكثرَ ما يتألَّمونَ! وهناك العالمَ يشاهدونَ ويسمعونَ، وهم مندهشونَ، لم أستطِعْ إيقافه لاستخبارِه، ولم أبقَ مكاني في انتظارِه، حتى أتانيَ آت، من بين الزَّحمات، يُخْبرني أنَّ صديقي قُتِل أبوه النَّضير، والشائبُ الكبير، والعاجِزُ البَصير، التقيُّ العابِد، والمؤذِّنُ الزَّاهد، متصوِّفُ اﻷقطاب، وسعادَةُ اﻷصحاب، بسهْمٍ قاصدٍ لا غائِر، وهو في طريقِ منزلِه العامِر، بل في حوشِ منزلِه، أمانِ أهْلِه، ومستقرِّ رحْلِه، ((ومن دخل بيتَه فهو آمِن))، لكنه جهلُ أهلِ الزمانِ الراهِن. علمتُ أن الحربَ أُعلنَتْ بقذارتِها، وبدأَ طعْمُ مرارَتِها؛ ها هُمْ يَستهدفوْنَ البُرَآءَ واﻷتقياء، والمواطنينَ اﻵمنين، والخُلَّة المصطَفَيْن، فعدوُّهم كلُّ أهلِ البلاد، لا فرقَ عندَهم بين العباد، وحينما استقرَّ اﻷمْرُ على ذلكَ وظهَر، بدَا نفيرُ النازِحينَ يناديهم، وحادي الحرب يَحدو بِواديهم. في يوم النُّزوح الذي اختلفَت فيه الوجهات، ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ [البقرة: 148]، فأين البيوت ومُسديها؟ هم ما بين نازحٍ إلى قريب، أو لاجئٍ إلى غريب، وآخَر إلى مدينةٍ آمنةٍ، أو قريةٍ هانئةٍ. حينَ يُسلبُ الأمن، يَكثر الظَّعن، ونعمة الأمن لا تُقاس، ولا يجرؤ عليها مِقياس؛ فهي أعظم نعمةٍ عند الناس، بها تقام الشعائر، وتَأمن العشائر، ويَكثر النَّسل، ويتربى الوَعل، ويمرح الناس في الوادي والسَّهل، واقرأ ما أخرجه الترمذي، وشرَحَه صاحب العَرْف الشَّذي، أو عارضة الأحوَذي، من حديث عُبَيدالله بنِ مِحْصَنٍ من بني الأنصار، الخَطْمِيِّ الصحابي المغوار، أن النبيَّ المصطفى محمدًا، قال قولا ممجدًا، مِن جوامع كَلمه، وروائع حِكمه، ((مَنْ أَصبح مِنكُم آمِنًا في سِرْبِه (أي: في نفسه)، مُعافًى في جَسدِه، عِندهُ قوتُ يَومِه، فَكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بِحذافيرِها))، فيا لله لرائع تحبيرها، وحلوِ تقريرها، وماتع تَكريرها، وجميل مَصيرها! ولك أن ترى الدَّمعةَ تنْهمِر دون تفكير، أو تعمُّقٍ كثير، حينما ترى المرأةَ الطَّاعنة، أمامَك ظاعنة، إلى مكانٍ لا تعلم إلى أين، وفي زحمة آلامِ البَين، وبناتُ الدهرِ ترافقُها، وكبرُ السِّنِّ يُضايِقُها، فهي لا تريدُ إلا الفرارَ من الحروب، ولو إلى أقصى الدُّروب. تجِدُ اﻷسَرَ الغفيرةَ سائرةً هاربةً لا إلى وجهة، ولا جهة، لا إدامَ ولا فِراش، ولا ماءَ ولا هواء، ولا مسكنَ معلوم، ومنتظرٌ مكلوم. فرقٌ بين نازحٍ لا يعاني إلا فراقَ اﻷوطان، وكل ما يريد أن يأكل، وما يطلبه ينقل، ما اشتهاه اشتراه، وما أراده أتاه - وبين نازحٍ آخرَ عَزاؤه بفقد البنين، وغياب المُعيلين، فاليدُ قاصرة، والعين حاسرة، والكَرَّة خاسرة. لو أن كلبًا يتكلَّم، لرَقَّ لحاله وتألَّم، ولو أن جَوادًا يتوسَّم، لهان له وتحَمْحَم، ولكن ما يَفعلُ الله بقلوب سَلْسَلَتْها القَسْوَة، وحلَّتْ بها الشِّقْوة. يتنافس الصالحون البشر في الرِّفقِ، وإخراجِ الأُسراءِ من الرِّقِّ، بينما أناسٌ يَعشقون بكاء الثَّكالى، ويَعيثون في الأرض نَكالاَ، همُّهم التشريد، وهَدفُهم التقييد، غايتُهم إرضاءُ اﻷسياد، وتدميرُ البلاد، أفليسوا باﻷوغاد؟! يا الله! كم تجد لكلمة (نازح) حين تنادى بها مِن مرارة وألم، وغصَّة وسقَم، لكأنك تُدعى بأقذع الأسماء، وأفحشِ الدعاء. "نازحٌ!" نعم؛ هي كلمة في أيامنا هذه حديث الساعة، ومُلهِبَة الإشاعة، ورائجة البضاعة، ومذلَّة الجماعة، تَقمَّصها المُعْدمونَ وعزَفوا على وتَر الحاجة فنالوا، وأكَلوا واحتالوا، وخاف منها الكُرماء، خوف الحياء، والذلَّة والاستِدْناء. نعم "نازح" نزح من الكهَنوتِ والطغيان، بحثًا عن برِّ اﻷمان، يُعلِّلُ نفسَهُ بالعودة واﻹِياب، في زمنٍ - لعله - صار على اقتراب، بإذن الله الوهَّاب. لا تكترث يا هذا من هذه الكلمة المِطْرَقَة، والسِّلْسلة الموثَقَة؛ فلك في اﻷنبياءِ عِبرة، ومِن عنائهم فِكرة؛ فنبي الله لوطٌ نزَح، وحلَّ بعد ذلك الفرَح، واقرأ تاريخَ ابن جَرير، والكاملَ لابنِ الأثير، والبدايةَ والنهايةَ لابنِ كثير. لقد نزَح بما معه من المال الجَزيل، بأمرِ الخليل، وبما معه من اﻷنعام والعبيد، إلى مكانٍ بعيد، ومحتضَنٍ تليد - عائذًا من الحَوْر بعدَ الكَورِ - إلى بلادِ الغور، رائعةِ المكانِ المذكور، والمرتع الموفور، والبذخِ المشهور، ثم رجع مؤيَّدًا منصورًا، وجعَل الله أمرَه ميسورًا. ونزحَت أُسرةُ "مالكِ بن أنَسٍ" من اليمَن الميمون! إلى مدينة النبيِّ المأمون، فكان إمام دارِ الهجرة، ومرجع علماء الكُرة والمجرَّة. ولو تسنَّى لنا أن نسميَ الهجرتينِ، في المرتينِ، وما لاقاه النبيُّ والمسلمون من المشركين، وعانوه من البَينِ نزوحًا - لكان أسطوريًّا عجيبًا، وأمرًا مَهيبًا، وتاريخًا رهيبًا. هاجروا فهاجروا، ثم كابدوا وظاهَروا، وصبروا وصابَروا، حتى أذِن الله لرسوله اﻷعظَم، ونبيِّه الأكرم، خيرِ مَن وَطِئَ التراب، وأجلِّ بشَرٍ ذُكر في كتاب - أن يَترك أحبَّ البقاعِ إليه، وأجملَها في عينَيه، مكةَ المكرمةَ الشريفة، وكعبةَ الله الطيبةَ المنيفَة، إلى المدينةِ النيِّرة، والبلادِ الخيِّرة، أصحاب القلوبِ السليمَة، واﻷيادي البيضاءِ الكريمة؛ بحثًا عن اﻷمان، وإرساءً لمبدأِ اﻹيمان، فعاد آمِنًا فاتحًا، ومنتصرًا رابحًا. قال صاحبي: فانطلقتُ مع مَن انطَلقوا، وتفرَّقنا وتفرَّقوا، وحملَقْتُ وحملَقوا، وكان في وِجهتي صاحبٌ وَقور، لسانُه مأسور، وقلبه مَكسُور، وببالي منزلٌ لي مَهجور، قد عفا عليه الزمان، وقَصُرَت عن نظَرِه العِيان، ولم يفكِّرْ بسُكناه إنسان، ولا يَستوطنه معشرُ الجانِّ، وإن كان ما كان، وحينما رأيتُ الناس يتَضاغون، ومن حالهم يبكون ويخنعون؛ لأنهم لم يَجدوا مأوى، يَكشف هذه البلوى، والمرارة واللأوَا، فيحطُّون عنهم وعثاءَ السفر، وكآبةَ المنظَر، ويبتعدون عن مواطن الضَّرر، ومساكنِ الخطر، بين كل هذا: رأيت جارًا لي في مكاني اﻷوَّل، والزمان اﻷجمَل، لم يجد مأوى يسكنُه، ولا مقرًّا يحتضنه، فالتفتَ إليَّ وبكى، ثم رَنا إليَّ وشَكا: ومهَّد أنْ أشار إلى نفسه بثَرائِه، وأملاكِه وبلائِه، وعلاقاته ومكانتِه، وخبرته ورزانتِه، وهو مستوفزٌ على قدميه، عجِلاً إلى موطن يُؤويه، ويلمُّ بَنيه، ويأمنُ فيه، فلما لم ينفعه المال للحصول على وطن، ولا الوجاهة في الخروج من اﻹِحَن، قررت أن يتحدث عنِّي الضمير، ويُسهِب في التعبير، ويستطرد في التعبير، وإحسان التقرير، وأن السعة سَعة الصدر الكبير، حينما أردت أن أتكلم بالترحيب والتهاني، بأجمل اﻷلفاظ المشيقة المعاني، نظر إليَّ بانكسار، وفاجأني باﻷشعار، فقال لي مناجيًا، ومستشفعًا راجيًا: يا جارَ عُمْري، أمَا تبكي وتبكينِي ![]() ألستَ تُبْصِرُ ذُلِّي كيفَ يَكويني ![]() ألا ترَى ألَمي يبدو وتترُكُني ![]() هُنا، وليسَ معِي خِلٌّ سيُؤويني ![]() يا جارَ عُمري أما فكرتَ تأتينِي ![]() وهذه الأرضُ والأرجاءُ تَرْثِيني ![]() لا لم يعدْ ليَ غيرُ اللهِ أطلبه ![]() فانظرْ لحالي وهَبْ لي مَا يُسَلِّيني ![]()
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |