
20-01-2021, 03:18 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,030
الدولة :
|
|
مقاصد سورة الفرقان
مقاصد سورة الفرقان
أحمد الجوهري عبد الجواد
نور البيان في مقاصد سور القرآن
"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".
(25) سورة الفرقان
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه أن أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أن جعلنا سبحانه من المؤمنين وجعل لنا نوراً نمشي به في الناس ونفرق به بين المتقابلات فلا تلتبس علينا الأشباه، أن فعل ذلك فهو ربنا الكريم الذي لا يُعبد غيره ولا يُحمد سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، ونبيه ومصطفاه، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، فتركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، يُميَّز خيرها ويُعرف شرهان، لا يجحدها ولا ينكرها ولا يزيغ عنها إلا هالك، فاللهم صل وسلم وبارك على هذا النبي الكريم، وثبتنا على ملته وشرعته إلى يوم الدين حتى تدخلنا مُدخَله وتحشرنا معه يا رب العالمين.
أما بعد..
أيها الإخوة المسلمون عباد الله، فنحن اليوم ضيوفٌ للرحمن على مائدة سورة الفرقان، تلكم السورة العظيمة وكل القرآن عظيمٌ فهو كلام ربنا الكريم أحسن الحديث الذي تكلم الله به وأنزله على عباده.
سورة الفرقان هذا هو اسمها كما سماها ربنا سبحانه وتعالى، ويقال لها بين العلماء أيضاً من باب التسمية سورة تبارك الفرقان، في مقابل سورة تبارك المُلْك[1]، فهما سورتان اثنتان فقط في القرآن كله بُدئتا بهذه الكلمة الجليلة تبارك، واحدة في هذه السورة حيث أنزل الله الفرقان، وأخرى في سورة المُلك حيث ملك الله المُلك وتصرف فيه، ومعنى تبارك أي تعالى وتعاظم، كثر خيره وزاد وعمَّ فضله وفاض، فالبركة تعني الثبوت والكثرة والنماء، ومن ذلك سميت بركة الماء وهو المكان المنخفض الذي يأوي إليه الماء من السيل وينجرف إليه من كل مكان، فيثبت في هذه الحفرة وكلما ثبت الماء الذي وصل إلى هنا جاءه غيره فيزيد حجمه وينمو ويكبر فسميت بركة ماء، بركة هنا أي ثبت وكلما ثبت الشيء زاد وكثر[2]، فخير الله لا ينقطع، وفضل الله عظيمٌ لا ينتهي {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}.
سورة الفرقان، هذا هو اسمها ويصح أن نقول: حفظت أو قرأت سورة تبارك الفرقان أو تبارك المُلْك، وتفصل بين الكلمتين تقف على الأولى بسكون ثم تبدأ الكلمة الثانية، وهي سورةٌ أنزلها الله تبارك وتعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام قبل هجرته إلى المدينة، إذاً هي نازلةٌ في العهد المكي[3]، ومما لا يحتاج إلى تنبيهٍ ولكن أُذكِّر به حضراتكم أن سور القرآن في معظمها لم تنزل السورة كتلةً واحدة ولا دفعةً واحدة، وإنما أول ما ينزل منها أولها البسملة وأول آيات، ثم يتتابع نزولها بعد ذلك ربما تستغرق سنةً أو سنتين أو سنوات، كما استغرقت سورة البقرة قرابة تسع سنوات حتى خُتمت بآخر آيةٍ من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وتنزل الآيات من عند الله غير مرتبة، قد تكون آيات متأخرة في السورة تنزل أولاً، وآياتٌ متقدمة تنزل ثانياً، وإذا نزلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَّغه جبريل أن ضعوا هذه الآيات في سورة كذا في مكان كذا[4]، فرُتِّب القرآن في سوره هكذا بترتيبٍ من عند الله تبارك وتعالى، لكن كان ترتيب النزول غير ترتيب المصحف؛ مراعاةً لأحوال العباد وشئون الأمة.
فنزلت سورة الفرقان في العهد المكي، وبالتالي فينبغي أن نكون قد حفظنا أن القرآن المكي يركز على أمر العقيدة ويبنيها ويؤسسها أولاً، فهذا هو الأساس المتين، هذا هو المنطلق الذي سينطلق منه العباد إلى أن يقولوا لله في كل شيء ولرسوله صلى الله عليه وسلم كذلك في كل أمرٍ يُدعون إليه: سمعنا وأطعنا، ما يستطيع أحدٌ أن يقول لأمر من الشرع أو لكل أمرٍ في الشرع ولكل نهي سمعنا وأطعنا، نعم حاضر سأفعل، إلا أن يكون أولاً قد أخذ جرعةً كافيةً من العقيدة، وقدراً كافياً من العقيدة، كما نبهت السور المكية كسورة الفرقان، بدايةً تتكلم عن الله تبارك وتعالى، وهذه موضوعاتها، وترتيب موضوعاته، بدأت أولاً بتعظيم الله وتوحيده سبحانه وتعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.
ثم تكلم عن نفسه أيضاً في ثنايا السورة في مناسبةٍ أخرى، لكن بدأت بتعظيم أعظم حقيقة، والتنبيه إلى وحدانيتها وهي ذات الله عز وجل، فلا إله إلا الله من البداية، وتلك هي بداية الانطلاق، لا أحد يُنظم لي حياتي إلا الله، ولا آخذ الأمر والنهي في الحركة والوقوف في حياتي إلا من الله فهو خالقي وأنا عبده، له كل شيء وليس لي شيء إلا بإذنه سبحانه وتعالى، إذاً ذلك هو إلهك، عظِّمه وعنده البركة كلها والخير كله.
ثم من خلال ذكر الفرقان وهو القرآن {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}، الفرقان هو القرآن، فانفتح الحديث وانساق إلى الحديث عن القرآن، وكيف قال عنه الكافرون {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} كلام مُفترى {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} قصص من السابقين، قصص خيالية {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا}.
والكلام عن الرسالة يستدعي الكلام عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فانساق الحديث ليحكي ما قاله الكافرون أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ}، {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} إلا آخر كلامٍ فارغٍ باطلاٍ لا داعي له ولا يؤهل أبداً للنبوة، فليست النبوة لأكثر الناس مالاً ولا لأبعدهم وأعلاهم جاهاً ولا لأقواهم جسماً، إنما هي لشخصيةٍ معينة بمؤهلاتٍ خلقيةٍ وقيمية معينة يختارها الله ويصطفيها {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}.
ولذلك يقول الله عن كلام الكافرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطله كله: {انظُرْ} أي انظر يا نبي الله وتعجب من حالهم {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} أي الأوصاف {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} لا يهتدون إلى معرفة الحق إلا أن يتجردوا لله ويخلصوا لله ويطلبوا فعلاً الحق والنور الإلهي بصدق.
وتمضي الآيات بعد ذلك لتذكر الآخرة {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم} أي السعير {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} إلى آخر الآيات وهي تتحدث عن يوم القيامة حديثاً طويلاً، وتذكر نموذجاً أو مثالاً يتحقق في كثيرٍ من الكافرين وإن نزلت في واحدٍ منهم لكن لفظ القرآن عامٌ لا يخص واحدٌ دون الآخر {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} موقفٌ رهيب {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}، هذا الندم يكون يوم القيامة بعد فوات الأوان ولات ساعة مندم، أي الحين والساعة والوقت لا ينفع فيه الندم، ندمٌ بعد فوات الأوان، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} هكذا يعترف بالحقيقة، أصحابه من حوله، الأخلاء الذين تخللت محبتهم في قلوب بعضهم، كانوا كالشخص وكالرجل الواحد في الدنيا ولكن على الباطل للأسف، يندم على صحبته يوم القيامة وإذا رآه تبرأ منه واشتكاه إلى الله تعالى ليحمِّله وزره وذنبه، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.
يقول {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} لماذا؟ كان من وجهاء الناس، كان من أصحاب الأموال، كان من أصحاب المناصب الرفيعة، لماذا تندم على صحبته وخلته؟ لماذا؟ {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا}.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|