
08-11-2020, 03:24 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة :
|
|
في مسألة العدل الإلهي
في مسألة العدل الإلهي
د. محمد عبدالرحمن سلامة
تتناقلُ وسائل الإعلام بالصوت والصورة والبث الحيِّ وقائعَ القتلِ والدمار الجماعيِّ لأجناس وأعراق، وبلدان وقرى، لمسلمين وغير مسلمين، على يدِ جبابرة طغاة، وبأسلحة فتَّاكة ومتنوعة، ومع أن حوادثَ مثل هذه كثيرًا ما وقعت على مرِّ التاريخ إلا أن جبروت القوة المستخدمة، وسرعةَ نقل المعلومات، وتوثيقَ هذه الحالات بالصوت والصورة حال وقوعها، مع كثرتها وتتابُعِها - أحدَثَ لدى بعض الناس ذهولًا وصدمة لما تكشف عنه هذه الصورُ المروِّعة من شر ووحشية لدى البشر، وبخاصة تجاه المسلمين والمعنيِّين منهم بنُصرة الشريعة على وجه أخص.
دفع هذا عددًا من الناس - مع ضعفِ الدين وقلة العلم - إلى التساؤل عن "العدل الإلهي"، وكيف يترك الإله العدلُ كلَّ هذا الشر يقع في كونه، وكيف لا يدفع عن أوليائه؟ وأي حكمةٍ في ترك هؤلاء المفسدين في الأرض يعيثون فيها فسادًا؟!
وهذا التساؤل قديمٌ في جوهره، وهو الذي ضلَّ فيه مَن ضلَّ مِن أتباع الغنوصية الثنوية، وما تفرَّع عنها من النِّحَل، وبنحوه انحرف المعتزلة في بحثهم عن العدل الذي جعلوه من أسس عقيدتهم.
بل إن السؤال عن الشر الذي يقع مِن ولد آدم أتى قبل خلقِهم، طرحَتْه الملائكة حين ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، فكان جواب الحكيم العليم أن ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
إن جوهر السؤال يتعلَّق بالحكمة في وجود الشر وخلقه، وقد رأت الغنوصية ثُنائيةَ الخير والشر، والرُّوح في مقابل المادة، وعالم الملكوت وأعماله الصالحة في مقابل العالم السُّفلي وشروره؛ لاستحالةِ صدورِ كلا الأمرين عن واحدٍ في نظرهم! ولذا ليس هذا العالم عندهم مِن خلق الإله المطلق، بل من خلق إلهٍ آخر دونه، خلقه ليحبس فيه أرواح البشر داخل أجسادهم، ولا خلاص لهم إلا بالاتصال العرفاني بالعالم الآخر.
والمعتزلةُ حملهم مفهومُهم للعدل من منظور بشريٍّ على إنكار خلق الله للشر، وجعلوه مخلوقًا للإنسان؛ لأنه تعالى لا يصدر عنه قبيح، وأوجَبوا عليه الصلاح والأصلح! وهكذا يذهب العقل بأهله دون هداية الوحي.
وعقيدةُ أهل السُّنة أن الربَّ عز وجل حكيم عليم، وهو خالق كلِّ شيء، ولا يقع في ملكه شيءٌ إلا بإذنِه، والشر نتيجةٌ للظلم، والظلم وضعُ الشيء في غير موضعه، وهذا لا يفعله حكيمٌ؛ ولذلك ليس في أفعاله سبحانَه شرٌّ قط، ولا يُنسَب الشر إليه من هذه الجهة، فقَدَره وأفعاله كلُّها خير وحكمة، وإنما الشر في المفعولات، وهي ليست فعله سبحانه، وإنما أذِن فيها لحكمة بالغة قد تُدرِكها الأذهان وقد لا تدركها، ومِن ثَمَّ فهو ليس شرًّا محضًا لا خير فيه، بل هو شر نسبي؛ أي يُرى مِن وجه شرًّا، لكن يترتب عليه حِكَم وعواقبُ أخرى تكون خيرًا؛ ولذلك لا يُضاف الشر إلى الله تعالى، بل يدخل في عموم الخلق ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، أو يضاف إلى السبب ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 2]، أو يحذف فاعله ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10]، ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]، ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ [الكهف: 79]، ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ [الكهف: 82].
فأفعال العباد وإن كانت مخلوقةً له سبحانه، إلا أنها لا تُضاف له ولا يوصف بها، وأفعال العباد هي التي تُوصَف بالظلم والشر، فالله خالق العباد وأفعالِهم، كما أنه خالق العباد وصفاتِهم، فكما لا تضاف صفات العباد إليه، لا تضاف أفعالهم التي يقومون بها إليه، وهذه العقيدة لا يفطنُ لها كثيرٌ من الناس، فتتحير أفكارهم وتَتِيه عقولهم فيما يرونه من الشر.
وهنا أمور تتعلق بالحكمة نودُّ التنبيه عليها؛ ليضعَها القارئ نصب عينَيْه وهو يتابع هذه المآسيَ والأهوال:
الرب سبحانه عليم حكيم، وقد قامت الأدلة والبراهين على ذلك، فمَن لم يفهم جزئيةً من آحاد الحِكَم، فليفوِّض إلى الكلية.
قد تعزُبُ الحكمةُ عن فُهوم بعض الأجلَّاء، فما بالك بمَن سواهم ممن لا رسوخ لهم في علوم الشرع؟
الموتُ بالقتل والتدمير كالموت بالأمراض والأوبئة، فكلها أسباب، والمصيبة للمؤمن قد تكون رحمةً بالمقتول أو بغيره، وقد تكون عقابًا دنيويًّا يُخفِّف أخرويًّا أو يرفعه، وقد تكون نوعَ شهادة ينالها المقتول، وقد تكون استنهاضًا لهمَّة الأمة وعاملًا لوحدتها لما ترى من تكالب الأعداء عليها، وقد تكون لتمييز الصفوف، وتأمَّلْ قول الله تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 140، 141]، وقوله: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، وقوله: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4].
ليس من ضرورةِ العدل حصولُ الانتقام في الدنيا، وليس بالضرورةِ أن يقع الانتقام على النحو الذي يريده المظلوم، وقد يقع ولا يعلم به، وقد يحصل اللطفُ بالظالم فيتوب ويهتدي، ويكون فيما سلف منه كالآلةِ لرحمةِ قوم وعذاب آخرين، كما في حديثِ مسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يضحَكُ الله إلى رجلينِ يقتُلُ أحدُهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة))، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((يقاتِل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، فيقاتِل في سبيل الله عز وجل فيستشهد))، وهذا حصل لكثيرٍ من مشركي مكة، قاتَلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقتَلوا من أصحابه، ثم أسلَموا وقاتَلوا معه، وهذا كثير.
وأما إهلاك الكفار بعضهم ببعض، فمِن جنس الأوباء والأمراض الفتَّاكة والكوارث التي تحلُّ بهم، وأما تمتُّع الظالم في الدنيا، فغرور زائل، ثم هو في شقاءٍ وعذاب بسبب ظلمه وجبروته، وإن تصنَّع للناس غير ذلك، ولا يحصل السلام وبَرد السكينة إلا لأهل الإيمان واليقين.
قد يعترض على تشبيه جرائم البشر بالكوارث والأوباء والأمراض، كونها مِن فعل البشر وهم عاقلون مكلَّفون، لكن مَن تأمل وجه الشَّبه وجده منطبقًا؛ إذ هؤلاء المجرِمون ليسوا إلا أسبابًا تجري على أيديهم معاناةُ طائفةٍ مِن البشر، كما تجري بسبب الكوارث والأمراض، إلا أن هؤلاء لما كانوا بشرًا مكلَّفين استحقوا العقوبة في الدنيا والآخرة، ويتولَّد بسبب جُرمِهم الرغبةُ في الانتقام منهم والتشفِّي؛ ولهذا شرع القصاص: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة: 179]، وشرع الجهاد: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 14]، مع أن الله تعالى قادرٌ على إهلاك العدو والانتقام لأوليائه، لكنه تعالى كما قال في الآية سابقةِ الذكر: ﴿ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4]، فإذا حصل من المسلمين التكاسل والدَّعَة عن نجدةِ إخوانهم ، وحصل التفريط منهم، فلا يلومون إلا أنفسهم، وإذا حصل من المجتمع التهاوُنُ في حدود الله التي مِن شأنها منعُ الظلم والبغي، استحق المجتمع استشراءَ الظلم والبغي، وهذا وفاقًا للسنن الكونية، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
وأما انتظار نجدة السماء مع التفريط، فعجزٌ وجبن، وركون إلى الدنيا، ورغبة عن الآخرة، فلا يزال الفساد يستحرُّ حتى يأتي على مَن قعَد عن نصرة المظلوم، وهذه سنن الله، وهذا هو العدل الإلهيُّ، ويبقى اللقاء عند المولى عز وجل ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|