|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() من سورة الأنعام: منهج القرآن في إحياء الأمة وتنشئة أجيال الرواد الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين قال الله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84 - 90]. كثيرًا ما وُصِفت المرحلة المكية بأنها تربوية، اهتمت بالبناء العقدي للمؤمن؛ ففُهِم من هذا أن يقتصر الدعاة في التنشئة الإيمانية على عقيدة التوحيد، وأن يؤجلوا الاهتمامَ بمنهج التكامل في بناء الشخصية المؤمنة تفاعلًا إيجابيًّا في ساحات نصرة الحق على الباطل؛ معرفة وفهمًا ورصدًا وخبرة، وتقديرًا سليمًا للرجال والأفكار والمواقف، وتعبئة رشيدة وسَوْقًا حكيمًا للقدرات المعنوية والمادية، وتدبيرًا دقيقًا لمستجدات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فطغت بهذا الفهمِ المحدود للمرحلة المكية على ساحة الدعوة والدعاة ظاهرةُ الانعزال عن حركة التاريخ، وظهرت به حركات رِخوة سلبية في المجتمع؛ تصوفًا أبلهَ أو تكفيرًا أرعنَ، بل نشأ عن الصحوة الإسلامية المعاصرة جيلٌ من البسطاء الأغرار، سِمتهم الانخداع بزيف الأقوال، وسقيم الآراء، وبريق المطامع، وسيماهم سلاسة الزِّمام وذلَّته، والانسياق بغير رويَّة إلى معارك لا يعرفون مبتدأها ولا منتهاها، ولا من يقودها أو يستثمرها أو يوظفها أو يتاجر بها. إننا لا نجادل في أن المرحلة المكية قد اهتمت بالعقيدة أولًا، ولكن آيات القرآن الكريم التي نزلت فيها كانت شاملة متكاملة، تغطي جميع مقومات الشخصية المؤمنة؛ عقديًّا وعقليًّا وثقافيًّا، ونضجًا فرديًّا وجماعيًّا، بما يجعلها، واعية لما ينتظرها من أمر دينها وأمتها، عصيةً عن الترويض والاستغفال والتسخير، مؤهلة لطبيعة المرحلة المدنيَّة التي تُقبل عليها، وطبيعة المعارك التي تفرض عليها فيها. إن هذه المرحلة المكية - بما نزل فيها من آيات بينات وعِبَر وعظات - هي التي أخرجت لنا الجيل القرآني الفريد الذي قال عنه تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29]، وقال عنه صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، فكيف لا يتخرج منها في عصرنا هذا خير الدعاة وفي منهج بنائها للإنسان أكثرُ من ستين حالة من حالات ضلال المشركين من قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم، مما أصبحت به نواياهم ونفسياتهم وأهدافهم ومكرهم على صفيحة مشرحة أمام أعين المؤمنين؟! وكيف لا يتخرج منها خير القرون وقد عرَّفهم القرآن المكي أخبار الأنبياء والرسل وتجاربهم، وما واجهوه من مصاعب ومِحَن وعقبات اعترضت سبيلهم فتغلبوا عليها ولم يَهِنوا فيها ولم يستكينوا لها، وأبلغوا رسالة ربهم كاملة تامة غير منقوصة أو محرفة؟! بل إن حادثة الإسراء والمعراج وما ورد عنها في سورة الإسراء وهي مكية، وفي صحيحي البخاري ومسلم؛ إذ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وصلى بإخوته الأنبياء عليهم السلام، ثم عُرِج به إلى السماء فالتقى بهم واحدًا واحدًا، وسألهم واحدًا واحدًا عن تجربتهم في الأرض، وصراعهم نصرةً للحق وإبطالًا للباطل - كل ذلك كان كفيلًا بتعميق وعي ذلك الجيل، وتوسيع أفق تفكيره وتجرِبته واطِّلاعه على آفاق دعوة الإسلام في الأرض والسماء، وعلى مناهج التفكير والتحليل والتخطيط والتجربة والصبر والمصابرة في المدارس النبوية السابقة من آدم إلى إبراهيم وبنيه عليهم جميعًا أفضل الصلوات وأزكى السلام، وكفيلًا بتحريره من الارتهان في المحدود الدنيوي؛ وطنًا وقبيلة وعِرقًا ولونًا ومصلحة آنية أو شهوة عابرة، وانعتاقِه من دائرة مغلقة في مكة وقد تحولت لديه بفساحتها الإيمانية وزخمها المعرفي منطلقًا وقِبلة ونقطة عبور والتقاء للأرض بالسماء، وكان بذلك أهلًا للانتقال إلى الفترة المدنية بتكاليفها في النفس والأهل والولد والمال، بقيادة سيد الخَلْق محمد صلى الله عليه وسلم. إن الفترة المكية، أو ما يمكن تسميته "الأكاديمية الإسلامية الأولى" والقياس مع الفارق، كانت ضرورية لبناء الجيل القرآني الفريد الذي ائْتُمِن على الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدى الأمانة ونشر الرسالة، وكان خير شاهد على تكامل منهج البناء الإسلامي للإنسان. ولئن توزَّعَتْ عناصر هذا المنهاج بين سور المرحلة المكية، حسب سياق كل سورة وأسباب نزولها وطبيعة الأدواء التي تعالجها، فإنها في سورة الأنعام قد تكاملت واتضحت تصريحًا وتلميحًا، عبارة وإشارة، نموذجًا حيًّا وقدوة حسنة؛ إذ حشد الحقُّ تعالى في أوسط آياتها، ما بين الآية الرابعة والسبعين والآية التسعين، تجارِبَ ثمانية عشر نبيًّا عليهم السلام، كانوا عماد شجرة النبوة الكريمة في الأرض. وإذ بيَّنَ عز وجل بدءًا من الآية الرابعة والسبعين تجرِبة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام في أبعادها الإيمانية والإنسانية والعلمية والحركية وصراعها ضد الباطل شركًا وجهلًا وعنادًا وعدوانية - فقد خصَّ ما تلاها لمسيرة أبنائه الأنبياء من بعده، تكريسًا لوصيته فيهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، ليكون وفاؤهم وصدق إخلاصهم وسعيهم لما تعهدوا به نبراسًا وقدوة ومعالم في الطريق، وشهادة بين يدي أجيال الدعوة ومواكب الإيمان إلى يوم القيامة. إن اللهَ تعالى إذ اختار للإنسان دين التوحيد يتعبده به، وقرر لهذه العبادة تكاليفها، وللمتعبَّد بها بلاءَه وجزاءه - أراد لهذا الدِّين أن يبقى وينتصر، فهيأ له أسباب البقاء والانتصار، وجعل رأس هذه الأسباب رسله الذين يبلغونه وأنبياءه الذين يُقتدَى بهم؛ قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [غافر: 78]، وقال سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 9]، وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [الفتح: 28]، كما حث الأمةَ في كل عصر على مواصلة طريق النبوة بعلمائها الصادقين، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلمَ من كل خلَفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبطِلين، وتأويل الجاهلين))، واشترط في حَمَلَةِ هذا العلم النبوي شروطًا من الخُلُق الكريم؛ ولاءً وصدقًا، وإخلاصًا وأمانة؛ لأنهم أئمة الخَلْق بعد الأنبياء عليهم السلام، ولا يكون إمامًا للناس عالمٌ كاذبٌ يضلهم، أو منافقٌ فاسق يغويهم، أو ظالمٌ عدو لله ورسوله والمؤمنين. هكذا استمرت مسيرة الإيمان من آدم عليه السلام وقد عرف ربَّه وأسلم له، كلما ضلت البشريةُ بعث عز وجل إليها رسولًا يأخذ بيدها إلى صراطه المستقيم، حتى إذا أطبق الشرك على الأرض في زمن طاغية متألِّه[1]، اصطفى الحق سبحانه عبدًا من عباده، واحدًا يعدِلُ أمة، هو إبراهيم عليه السلام، قام بتبليغ رسالة الإسلام صابرًا محتسبًا، فناله من البلاء ما تنوء به الجبال، ومِن أذى قومه ما لا يطيقه إلا أولو العزم، وجعله بذلك خليلًا له عز وجل؛ فضلًا منه واجتباءً ورفعَ درجة، وأبًا للمسلمين في الأرض إلى قيام الساعة؛ كما قال تعالى: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]. لذلك عندما نصر اللهُ حجة إبراهيم على قومه المشركين، بقوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]، جعَل من الدرجات التي امتن بها عليه أن أكرمه بذرية صالحة يصطفيها للنبوة من بعده، يأتمنها - بحكمته وعلمه وفضله - على حمل رسالة الإسلام وتبليغها إلى البشرية، فقال عز وجل عن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام وقد أُمِرا برفع قواعد البيت الحرام: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 127، 128]، وقال إذ ابتُليا البلاء المبين: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الصافات: 103 - 108]، وكان من جائزة الله لهما بعد هذه المشاقِّ أن أكرمهما واستجاب دعوتهما لأمتهما إذ قالا: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، فجعَل في ذرية ابنه الوحيد حينئذ من زوجته هاجر خاتَمَ النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم مبعوثًا للبشرية كلها بعد أن كان لكل قوم نبي. ثم لما تقدم بإبراهيم العمرُ، ويئست زوجته الثانية سارة من الإنجاب، جاءته الملائكة في طريقها إلى قوم لوط عليه السلام، تبشره بالابن الثاني إسحاق، والحفيد يعقوب، بقوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 71 - 73]، فكانت هذه البِشارة منه تعالى هِبَةً زكية، ودرجة عالية، وإتمامًا لِما خصه الله به من النعم؛ إذ جعل شجرة النبوة الكريمة كلها في ذريته من إسماعيل وإسحاق ويعقوب إلى يوم الدين، وقال عز وجل: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا ﴾ [الأنعام: 84]؛ أي: وهبنا لإبراهيم بعد إسماعيل ولدًا مِن صُلبه، هو إسحاق، وآخر من صُلب إسحاق، هو حفيده يعقوب، عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه، ﴿ كُلًّا هَدَيْنَا ﴾ [الأنعام: 84]؛ أي: هدينا إلى الإيمان والإسلام والنبوة كلًّا من إسحاق ويعقوب، وهو ما بينه الحق تعالى أيضًا في الآية 72 من سورة الأنبياء بقوله عز وجل: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 72]. وإسحاقُ هو أصغر ولدَيْ إبراهيم، ذُكِر في هذا السياق أولًا؛ لأنه هو الذي وهبه الله عز وجل بآية منه، بشرته به الملائكة في شيخوخته بعد ابتلائه برؤيا ذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه، وبعد محاولة قومه إحراقَه فأنجاه الله تعالى: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 68، 69]، وبعد اعتزاله المشركين ورحيله عنهم وهجرته من بلادهم، عوَّضه الله بذرية صالحة من صُلبه وعلى دينه؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 49]. أما يعقوب بن إسحاق، ويدعى إسرائيل، فهو والد الأسباط الاثني عشر المذكور أمرهم في سورة يوسف، ومنهم تفرعت القبائل اليهودية الأصلية، التي كانت مع موسى عليه السلام في هجرته، وذكرهم القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [الأعراف: 160]. وقد تميَّز إسحاق ويعقوب بالحرص على ميراث أبيهم إبراهيم من الدِّين، ووصيته لهم بالوفاء لعقيدة التوحيد والعمل بمقتضاها، وأوصوا بذلك ذريتهم مِن خلفهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132، 133]. وقبل أن يواصل الوحي الكريم عرض نِعَمِ الله على إيراهيم في نسله، أشار إلى نعمته عليه بشرف أصله إذ جعله من ذرية نوح عليه السلام[2]، فقال تعالى: ﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأنعام: 84]؛ أي: إن كان الله قد هدى إبراهيم إلى الإيمان فقد هدى جَدَّه نوحًا من قبله، وهو بذلك فرع طيب لأصل طيب، جعل الحق تعالى فيه النبوة والكتاب أيضًا بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [الحديد: 26]. ثم عاد الوحي إلى ذِكر فروع هذه الذرية الصالحة، يعرِض تجارِبها في الدعوة، ومعالجتها لقضايا الشرك والمشركين، وصبرها ومصابرتها على أذى أقوامها، فذكر أربعة عشر نبيًّا آخرين، لم يميز بينهم بمكانة أو ترتيب زمني أو فضل، وإن جعلهم في أربع مجموعات، لكل واحدة منها صفات مشتركة بارزة. أول هذه المجموعاتِ تضم داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، فقال تعالى: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ [الأنعام: 84]؛ أي: جعل من ذرية إبراهيم كلًّا من داود وسليمان، وقد ابتُليا بالحكم والملك، فكانا قدوة في العلم والفهم والحكمة والعدل والشجاعة والصبر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 15]، وقال: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 78 - 81]. ثم أضاف الوحيُ الكريم نبيين آخرين، فقال تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ﴾ [الأنعام: 84]، وقد تميز أيوب بمحنة المرض بعد العافية، والفقر بعد الغِنى، وتنكُّرِ الأهل والأقارب والعشيرة، فصبر على كل المكاره ولم تُنْسِه واجبَ التوكل عليه سبحانه، والثبات على عقيدة التوحيد، ثم أنعم الله عليه بالفرج بعد الشدة، وصلاح الأهل والذرية، فلم ينسَ شكر ربه، والدعوة إلى دينه والحكم بشريعته، وقال عنه تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، كما تميز يوسف بما ابتلاه ربه به من عدوان الأقارب وقسوة الأباعد، والغربة في بلد غير بلده وقوم غير قومه، وبما عاناه من كيد النساء ومكرهن وإغرائهن، فكان منه الصبر الجميل والعفة والطهارة وتفضيل السجن على الخيانة والفاحشة؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، ثم حين ابتُلي بالقوة بعد الاستضعاف، والسراء بعد الضراء، والحرية والحكم والسلطة بعد الاستعباد والسجن، صبر على شهوات النفس وفتنها، فلم يُنْسِه ذلك واجبَ الشكر وإقامة العدل، مما هو مفصَّل في سورة يوسف. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |