|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() من أسباب محبة الله تعالى عبدا الإخلاص في العبادة محمد محمود صقر [أداء الفرائض، التقرب إلى الله تعالى بالنوافل، أداء العزائم والرُّخَص كلٍّ في موضعه، ترك المعاصي] الإخلاص وإتقان العمل: عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا "إنّ اللهَ يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عمَلاً أن يُتْقِنَه"[1]. وقال المنَاوِيّ: رأيتُ في روايةٍ ما يدلُّ على أن المرادَ بالإتقان الإخلاص، ولفظُها "إنّ الله لا يَقْبَل عمل امرئٍ حتى يُتقِنه. قالوا: يا رسول الله وما إتقانه؟ قال: يخلّصه من الرياء والبدعة". وقال: "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم" أيها المؤمنون "عملا أن يتقنه"؛ أي يُحْكِمَه؛ كما جاء مصرّحًا به في رواية العسكري، فعلى الصانع الذي استعمله الله في الصور والآلات والعُدَد مثلاً أن يعمل بما علّمه الله عمَل إتقان وإحسان بقصد نفع خلْق الله الذي استعمله في ذلك، ولا يعمَل على نِيّة أنه إنْ لم يعمل ضاع، ولا على مقدار الأُجرة؛ بل على حسب إتقان ما تقتضيه الصنعة، كما ذكر أن صانعًا عمِل عملا تجاوز فيه ودفعه لصاحبه فلم ينم ليلته كراهةَ أن يُظهر من عمله عملا غير متقَنٍ، فشرع في عملٍ بدله حتى أتقن ما تعطيه الصنعةُ ثم غدا به لصاحبه فأخذ الأوّل وأعطاه الثاني فشكره، فقال: لم أعمل لأجلك بل قضاءً لحقّ الصنعة كراهةَ أن يظهرَ من عملي عملٌ غير متقن، فمتى قصّر الصانع في العمل لنقص الأجرة فقد كفَر ما علّمه الله وربما سُلِب الإتقان[2]. أ- معنى الإخلاص: هو تجريدُ قصد التقرّب إلى الله - عز وجل - عن جميع الشوائب. وقيل: هو إفراد الله - عز وجل - بالقصد في الطاعات. وقيل: نسيانُ رؤيةِ الخلْق بدوام النظر إلى الخالق[3]. وقد أمر الله - عز وجل - بالإخلاص فقال: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ [الزمر: 3]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ [الكهف: 110]، وعن أبي أمامة -رضى الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا شيءَ له"، فأعادها ثلاثَ مرارٍ ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا شيءَ له"، ثم قال: "إنّ اللهَ لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغِيَ به وجهُه"[4]، وقال - صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ لا يغلّ عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاصُ العمل لله، والمناصحةُ لأئمة المسلمين، ولزومُ جماعتهم"[5]، والمعنى أن هذه الثلاثة تستصلح بها القلوب فمن تخلق بها طهُرَ قلبُه من الخيانة والدغل والشر. ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله - عز وجل - : ﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 40]. ويُروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: أخلصي تتخلّصي. وكل حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قلَّ أم كثُر إذا تطرّق إلى العمل تكدّر به صفوُه وزال به إخلاصُه، والإنسان مرتبطٌ في حظوظه منغمسٌ في شهواته.. قلّما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظٍ وأغراض عاجلة من هذ الأجناس؛ فلذلك قيل: طُوبَى لمن صحّت له خطوة لم يُرد بها إلا وجهَ الله. فالإخلاص تنقِيةُ القلب عن الشوائب كلّها قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيها قصد التقرب فلا يكون فيه باعثٌ سواه، والشيطان قد يحاصر العبد ويُحبط له كل عمل، ولا يكاد يخلص له عمل واحد، وإذا خلُص عملٌ واحد فقد ينجو به العبد. قيل للإمام سهل: أي شيءٍ أشدّ على النفس؟ قال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيب. فالنفس تحب الظهور والمدح والرياسة، وتميل إلى البَطالة والكسل، وزُيِّنَتْ لها الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فأشدّ شيءٍ على النفس إخلاصُ النية لله - عز وجل -. قال أيّوب: تخليصُ النيّات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال. وقال بعضهم: إخلاص ساعةٍ نجاةُ الأبد ولكنّ الإخلاصَ عزيز. فينبغي لمن أراد الإخلاص أن يقطع محبّة الشهوات من قلبه، ويملأ قلبه بحبّ الرب - جل وعلا - ويستغرق الهمّ بالآخرة، فمثل هذا لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النيّة، ومن لم يكن كذلك فباب الإخلاص مسدود عليه إلا على النُّدور. فالذي يغلِب على قلبه حبّ الله - عز وجل - وحب الآخرة تكتسب حركاتُه الاعتيادية صفةَ همّه وتصير إخلاصًا، والذي يغلب على نفسه الدنيا والعُلُوّ والرياسة فيها، وبالجملة غير الله، تكتسب جميعُ حركاته تلك الصفة فلا تسلم له عبادة من صومٍ وصلاة وغير ذلك إلا نادِرًا. فإذن الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرّد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيّسر الإخلاص، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظنّ أنها خالصةٌ لوجه الله ويكون فيها من المغرورين، كما حُكِي عن بعضهم أنه كان يصلّي دائمًا في الصفّ الأول فتأخر يومًا عن الصلاة فصلى في الصف الثاني، فاعترته خجلة من الناس حيث رأوه في الصف الثاني، فعلم أن مسرّته وراحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامض قلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبهُ له إلا من وفَّقه الله تعالى. والغافلون عن الإخلاص يرون حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ﴾ [الزمر: 47-48]، وبقوله - عز وجل - : ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾ [الكهف: 104-105]. قال في "الإحياء": فقد ظهر بالأدلّة والعَيان أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة؛ فالعمل بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى -في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبًا مغمورا-: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾ [الفرقان: 23][6]. ب- النيّة.. حقيقتُها وفضلُها: النيّة ليست قولَ القائل بلسانه: "نَوَيْت"؛ بل هي انبعاثُ القلب يجري مجرى الفتوح من الله، فقد تتيَّسر في بعض الأوقات وقد تتعذَّر في بعضها، ومن كان الغالب على قلبه أمرُ الدين تيَّسر عليه في أكثر الأحوال إحضارُ النيَّة للخيرات؛ فإن قلبَه مائلٌ بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالبًا، ومن مال إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيَّسر له ذلك بل لا تتيَّسر له في الفرائض إلا بجهدٍ جهيد. عن عمرَ بنِ الخطّاب - رضى الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نَوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، ومن كانت هجرتُه إلى دنيَا يصيبُها أو امرأةٍ ينكحُها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه"[7].. رُوِي عن الشافعي - رحمه الله تعالى - قال: هذا الحديث ثلُث العلم. قوله: "إنما الأعمال بالنيات" أي أن قبول الأعمال الصالحة الموافقة للسنة منوطٌ بتوَفُّر النيات الصالحة، وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالخوَاتيم"[8] فهذه قاعدةٌ من قواعد الشرْع الحنيف، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى" ليس تكرارًا للقاعدة الأولى ولكنها قاعدةٌ جديدة يُرسِيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والأصل في الشرع التأسيس، والمعنى أن ثواب العامل [على عمله] يكون بمقدار النيات الصالحة التي يجمعُها في العمل الواحد، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: "فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسولِه فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" فهذا مثالٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للأعمال التي صُورتُها واحدة وتختلف في صلاحها وفسادها، وقيل: أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الجزء الأول من المثال تعظيمًا لهذه النيّة ولقدر هذا العمل المصحوب بهذه النية، وحتى تلتذَّ القلوبُ والألسنة بإعادة ذكر الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكرر في الجزء الثاني من المثال تحقيرًا لهذا العمل المصحوب بهذه النيّة، وحتى يدخل في ذلك بقيّة النيات الفاسدة. والنيّة الصالحة لا تغيّر المعاصي عن مواضعها؛ فلا ينبغي أن يَفهم الجاهل ذلك من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيّات"، فيَظن أن المعصية تصير طاعةً بالنية، فإذن قوله - صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات" يخص من أقسام العمل الثلاثة الطاعات والمباحات دون المعاصي؛ إذ الطاعة تنقلب إلى معصية بالقصد، ودخول النية في المعصية إذا انضاف إليها قُصُودٌ خبيثة تضاعَف وزرها وعظم وبالها، والطاعات مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها؛ فأما الأصل فهو أن ينوي بها عبادةَ الله وحدَه، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما تضاعُف الفضل فبكثرة النيات الحسنة، أما المباحات فما من شيءٍ منها إلا ويحتمل نيةً أو نياتٍ يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات. قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28]، والمراد بتلك الإرادة النية، وفي حديث أنس بن مالك لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قال: "إن بالمدينة أقوامًا ما قطعنا واديًا، ولا وطِئنا موطئًا يغيظ الكفار، ولا أنفقنا نفقةً، ولا أصابتنا مخمَصةٌ، إلا شاركونا في ذلك وهم بالمدينة" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟ قال: "حبَسهم العُذْرُ"[9] فشركوا في الأجر بحسن النية. قال بعض السلف: رُبّ عملٍ صغير تعظّمه النية ورب عمل كبير تصغِّره النية. وقال يحيى بن كثير: تعلّموا النية فإنها أبلغ من العمل. وقال بعضهم: تجارةُ النيّات تجارةُ العلماء، والمعنى أن العلماء هم الذين يعلمون كيف يعاملون ربهم - عز وجل - ويربحون عليه - عز وجل - أعظم الربح، أما في الطاعات فيَنوي أنه زائرٌ لبيت الله وقاصدٌ كذلك صلاةَ الجماعة التي تعدل صلاة الفذِّ بسبع وعشرين ضعفًا، وينوي مع ذلك سماعَ الذكر من العلماء وإفادة العلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ المسجد لا يخلو من جاهلٍ يسيء في صلاته، وينوي مع ذلك أن يستفيد أخًا في الله؛ فإن ذلك غنيمة ونصرة للدار الآخرة، وينوي كذلك تركَ الذنوب حياءً من الله تعالى، فما من طاعةٍ إلا وتحتمل نيات كثيرة. أما المباحات فما من شيء منها إلا ويحتمل نيةً أو نيات يصير بها من محاسن القربات، كما قال بعضُهم: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. ونصح بعضُهم فقال: لا تعملنّ عملاً إلا بنية. فيمكن للعبد أن يستحضر نية صالحة في مباحاته فتصبح بذلك قرباتٍ، فالتطيّب مثلاً إن قصد به التلذُّذ والتنعم فهو مباح، وإن نوى به اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فهو قُرْبة، وإن نوى به التودُّد إلى قلوب النساء الأجنبيات والتفاخر والتكاثر فهذا يجعل التطيّب معصية، فإذن المباح بالنية الصالحة يرتفع إلى قربة وبالنية الفاسدة يصبح معصية[10]. أولاً: أداء الفرائض: 1- عن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قال:... وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضْتُ عليه..."[11]. قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: قال الكرماني: هذا من الأحاديث القدسية، قلت: وقد وقع في بعض طرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- حدّث به عن جبريل عن الله - عز وجل - ، وذلك في حديث أنس. قوله "وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه" يجوز في أحبّ الرفعُ والنصب، ويدخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية، وظاهرُه الاختصاص بما ابتدأ الله فرضيَّتَه، وفي دخول ما أوجبه المكلَّف على نفسه نظرٌ؛ للتقييد بقوله "افترضتُ عليه"؛ إلا إن أُخِذ من جهة المعنى الأعمِّ. ويُستفاد منه أن أداء الفرائض أحبُّ الأعمال إلى الله. قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازِم، ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفْل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل؛ فلهذا كانت أحبَّ إلى الله تعالى وأشدَّ تقريبًا، وأيضًا فالفرض كالأصل والأُسِّ والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربُوبيّة وذل العبودية؛ فكان التقرّب بذلك أعظم العمل، والذي يؤدي الفرض قد يفعلُه خوفًا من العقوبة، ومؤدي النفل لا يفعله إلا إيثارًا للخدمة، فيجازى بالمحبة التي هي غايةُ مطلوب من يتقرّبُ بخدمته[12]. 2- وعن أبي أمامة -رضى الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين... وأثر في فريضة من فرائض الله"[13]. قال المناوي: والمراد خطوة الماشي وخطوة الساعي في فريضة من فرائض الله، أو ما بقي على المجاهد من أثر الجراحات وعلى الساعي المتعب نفسه في أداء الفرائض والقيام بها والكد فيها؛ كاحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها، وانفطار الأقدام من برد ماء الوضوء ونحو ذلك[14]. وقد مدح الله أثر العبادة كما في قوله تعالى: ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29]. ثانيًا: التقرَّب إلى الله تعالى بالنوافل: وفي نفس الحديث عن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قال: ... وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه"[15]. قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: قوله "وما زال" في رواية الكشميهني و"ما يزال" بصيغة المضارعة. قوله "يتقرّب إليَّ" التقرب طلب القُرب، قال أبو القاسم القُشَيري: قرب العبد من ربه يقع أولاً بإيمانه ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصُّه به في الدنيا من عرفانه وفي الآخرة من رضوانه وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه، ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق[16]، قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عامٌّ للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء، ووقع في حديث أبي أمامة "يتحبّب إليَّ" بدل "يتقرّب" وكذا في حديث ميمونةَ. قوله "بالنوافل حتى أَحببْتُه" في رواية الكشميهني "أُحبّه" ظاهره أن محبّة الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، وقد استشكل بما تقدم أولاً أن الفرائض أحبّ العبادات المتقرب بها إلى الله؛ فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن المراد من النوافل ما كانت حاويةً للفرائض مشتملةً عليها ومكمّلة لها، ويؤيده أن في رواية أبي أمامة "ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك"[17]، وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدّى الفرائض وداوم على إتيان النوافل من صلاةٍ وصيامٍ وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبّةِ الله تعالى، وقال ابنُ هبيرة: يؤخذ من قوله "ما تقرّب".. الخ أن النافلة لا تقدَّم على الفريضة؛ لأن النافلة إنما سمِّيَت نافلةً لأنها تأتي زائدةً على الفريضة، فما لم تُؤَدَّ الفريضةُ لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحقَّقت منه إرادة التقرب، انتهى. وأيضًا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبًا بغير ما وجب على المتقرِّب كالهديّة والتحفة، بخلاف من يؤدِّي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دَيْن، وأيضًا فإن من جملة ما شُرعت له النوافل جبر الفرائض؛ كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم "انظروا هل لعبدي من تطوُّع فتكمل به فريضته"[18] الحديث بمعناه، فتبيَّن أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخلَّ بها، كما قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور[19]. ويستفاد منه أن المراد بالنوافل جميع ما يندب من الأقوال والأفعال، وقد وقع في حديث أبي أمامة المذكور "وأحب عبادة عبدي إليَّ النصيحة"[20]. ثمار محبَّة الله عبده، كما في هذا الحديث: في حديث أبي هريرة -رضى الله عنه- هذا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قال: ... فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه..."[21]. أ- أن يكون سبحانه سمع عبده الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها[22]: قال الحافظ: قوله "فكنتُ سمعَه الذي يسمع" زاد الكشميهني "به". قوله "وبصره الذي يبصر به" في حديث عائشة في رواية عبد الواحد "عينه التي يُبصر بها" وفي رواية يعقوب بن مجاهد "عينيه التي يبصر بهما" بالتثنيّة، وكذا قال في الأذن واليد والرجل، وزاد عبد الواحد في روايته "وفؤادَه الذي يعقِل به، ولسانَه الذي يتكلَّم به" ونحوه في حديث أبي أمامة، وفي حديث ميمونةَ "وقلبَه الذي يعقِل به"، وفي حديث أنس "ومن أحببتُه كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيِّدا". وقد استشكل كيف يكون الباري -جل وعلا- سمعَ العبد وبصره.. الخ؟ والجواب من أوجه: أحدها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحبُّ طاعتي ويؤثر خدمتي، كما يحب هذه الجوارح. ثانيها: أن المعنى كلّيّته مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به. ثالثها: المعنى أجعلُ له مقاصدَه كأنه ينالها بسمعه وبصره.. الخ. رابعها: كنتُ له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله، في المعاونة على عدُوِّه. خامسها: قال الفاكهاني، وسبقَه إلى معناه ابنُ هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضافٍ، والتقدير كنت حافظَ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحلُّ استماعه، وحافظَ بصرِه كذلك.. الخ. سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنىً آخر أدقَّ من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعِه مسموعَه؛ لأنّ المصدر قد جاء بمعنى المفعول؛ مثل فلانٌ أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذّ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنسُ إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلاَّ في عجائب ملكوتي، ولا يمدّ يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك، وبمعناه قال ابن هبيرة أيضًا. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممّن يعتد بقوله أنّ هذا مجازٌ وكنايةٌ عن نصرة العبد وتأيِّيده وإعانته؛ حتى كأنه سبحانه يُنـزِل نفسَه من عبده منـزلة الآلات التي يستعين بها؛ ولهذا وقع في روايةٍ "فبي يسمع وبي يُبصر وبي يَبطِش وبي يمشي"[23]. وقال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرُها بهذه الأعضاء وتيسير المحبّة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحلّ له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي، وعبّر بقوله: أحفظُه فلا يتصرف إلا في محابِّي؛ لأنه إذا أحبّه كرِه له أن يتصرَّف فيما يكرهه منه. سابعها: قال الخطابي أيضًا: وقد يكون عبّر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنُّجْحِ في الطلب، وذلك أن مساعِيَ الإنسان كلَّها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة، وقال بعضهم -وهو منتزَعٌ مما تقدّم-: لا يتحرك له جارحة إلا في الله ولله؛ فهي كلُّها تعمل بالحق للحق، وأسند البيهقي في الزهد[24] عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال: معناه "كنت أسرعَ إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي"[25]. وقال: ومعنى هذا الكلام أنه يَشْهَد إقامةَ الله له حتى قام، ومحبته له حتى أحبه، ونظره إلى عبده حتى أقبل ناظرًا إليه بقلبه[26]. [قلت]: هذه الأقوال كلّها لا تنافيَ بينها، وهي تدور حول الحفظ والنصرة، وعند التحقيق تؤول إلى النصرة والتأييد، وهو المعنى المتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ب- أن يُعطيَه سبحانه متى سأله، وأن يعيذه متى استعاذه: قال الحافظ: قوله "وإن سألني" زاد في رواية عبد الواحد "عبدي". قوله "أعطيته"؛ أي ما سأل. قوله "ولئن استعاذَني" ضبطناه بوجهين الأشهر بالنون بعد الذال المعجمة والثاني بالموحدة[27]، والمعنى أعذته مما يخاف، وفي حديث أبي أمامة "وإذا استنصر بي نصرتُه"، وفي حديث أنس "نصحني فنصحتُ له"[28]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |